8803 الكل و8743. الصحيح و160. الضعيف احصاء الذهبي وابن الجوزي لاحاديث المستدرك للحاكم

تعريف المستدركات وبيان كم حال أحاديث  مستدرك الحاكم النيسابوري إذ كل الضعيف160.حديثا وقد احصاها الذهبي فقال 100 حديث وذكر ابن الجوزي في الضعفاء له 60 حديثا أُخر فيكون  كل الضعيف في كل المستدرك 160 حديثا من مجموع 8803=الباقي الصحيح =8743.فهذه قيمة رائعة لمستدرك الحاكم

الحاكم النيسابوري جبل الحفظ ومصطلح الحديث

الخميس، 18 أغسطس 2022

ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي رحمه الله الجزء الثاني

ج1.ذيل طبقات الحنابلة

لابن رجب الحنبلي رحمه الله

الجزء الأول

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى أزواجه الطيبات الطاهرات، أمهات المؤمنين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الشيخ الإمام، العالم المقرىء، العامل الزاهد، الحافظ المحدث، زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الزاهد، الإمام العالم المقرىء، شهاب الدين، أبي العباس أحمد بن حسن بن رجب- رحمهم الله تعالى برحمته-: هذا كتاب جمعته، وجعلته ذيلاً على كتاب طبقات فقهاء أصحاب الإمام أحمد للقاضي أبي الحسين محمد بن القاضي أبي يعلى. رحمهم الله تعالى.
وابتدأت فيه بأصحاب القاضي أبي يعلى. وجعلت ترتيبه على الوفيات. والله المسؤول أن ينفع به في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه.

وفيات المائة الخامسة

من سنة 460 ه إلى سنة 500 ه

علي بن أبي طالب بن زِببْيَا البَغدادي، أبو الغنائم

من قدماء أصحاب القاضي أبي يعلى، تفقه عليه.
قال القاضي أبو الحسين: كان يدرس في الحريم بالمسجد المقابل لباب بدر، له أيضًا حلقة بجامع المهدي. وقرأ عليه أبو تراب بن البقال، وأبو الحسين بن الفاعوس وغيرهما. نسخ بخطه كثيراً من تصانيف القاضي، كالخلاف الكبير، نسخه مرتين، والعدة، وأحكام القراَن، والجامع الصغير. وغير ذلك.
وهو أولى من توفي من أصحاب القاضي أبي يعلى بعده بنحو سنة. ودفن قريبًا منه. رحمه الله.
ذكره ابن النجاد قال: كان من أعيان أصحاب القاضي أبي يعلى، وله حلقة بجامع المهدي للمناظرة. روى عن أبي الحسين بن بشران، ونصر بن محمد بن علي الآمدي. روى عنه القاضي عزيزي بن عبد الملك الجيلي. ثم أرّخ وفاته يوم الخميس ثاني عشرين شهر ربيع الآخر سنة ستين وأربعمائة. وصُلي عليه من الغد بجامع القصر. وكان له جمع كثير.
و "زِبِبْيَا" قيّده ابنُ نقطة: بكسر الزاي، وكسر الباء المعجمة بواحدة بعدها باء أخرى مثلها ساكنة، وياء مفتوحة معجمة من تحتها باثنتين.
وقال ابن عقيل: كان من أصحاب القاضي أبي يَعْلَى أرباب الحلق: ابن الباز كردي، وابن زِبِبْيَا، فقيهان مفتيان، ولهما حلقتان بجامع الرصافة، يقصَّان الفقه شرحًا للمذهب على وجه ينتفع به العوام.

عليّ بن الحسن القرميسيني أبو منصور:

ذكره أبو الحسين، وقال: أحد من علق عن الوالد من الخلاف والمذهب. وسمع منه الحديث، وزوَّج ابنته لأبي علي بن البناء، وأولدها أبا نصر.
وتوفي في رجب سنة ستين وأربعمائة عن ست وثمانين سنة، ودفن بباب حرب.

عبد الله بن عبد الله بن عبيد الله بن توبة العكبري:

الخياط الأديب الكاتب، أبو محمد.
روى عن الأحنف العكبري من شعره. روى عنه الخطيب.
وتوفي يوم الثلاثاء سابع عشر محرم سنة إحدى وستين وأربعمائة.
ذكره ابن البناء في تاريخه، وقال: هو صاحب الخط والأدب.

عبد الله البرداني، أبو محمد الزَّاهد:

كان منقطعًا في بيت بجامع المنصور، يتعبد خمسين سنة.
قال ابن البناء: كان من خيار المسلمين، لا يقبل من أحد شيئًا، مع الزهادة والعبادة. روى عنه أبو بكر المَزْرَفِيّ الفرضي أنه قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا عبد الله، مَنْ تمسَّك بمذهب أحمد في الأصول سامحتُه فيما اجترح- أو فيما فرَّط- في الفروع.
وذكر ابن البناء، عمن يثق به: أنه رأى في منامه، في حياة البَرَداني- هذا- مَلَكَينِ قد نزلا من السماء، فقال أحدهما لصاحبه: فيم جئتَ? قال: جئتُ أخسف بأهل بغداد، فإنَه قد عمَّ فيها الفساد! فقال له الملك الآخر: كيف تفعل هذا، وفيها عبد الله البرداني? قال ابن البناء: توفي عبد الله البرداني الزاهد الحنبلي يوم السبت سادس ربيع الأول، سنة إحدى وستين وأربعمائة. وصلى عليه بجامع المنصور. وكان خلقًا عظيمًا. دُفن في مقبرة الإمام أحمد، وتولّى غسلَه والصلاةَ عليه الشريفُ أبو جعفر. رحمه اللّه تعالى.

علي بن محمد بن عبد الرحمن البغدادي

أبو الحسن المعروف بالآمدي ويعرف قديمًا بالبغدادي: نزل ثغر اَمد. وهو أحد أكابر أصحاب القاضي أبي يعلى.
قال ابن عقيل فيه: بلغ من النظر الغاية، وكانت له مروءة. يحضر عنده الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وأبو الحسن الدَّامَغَاني- وكانا فقيهين- فيضيفهما بالأطعمة الحسنة، وكان يتكلم معهما إلى أن يمضي من الليل أكثره.

وذكر أنه كان هو المتقدم على جميع أصحاب القاضي أبي يعلى.
قال ابن عقيل: وسمعتُ المتولي لما قَدم: يذكر أنه لم يشهد في سفره أحسن نظرًا من الشيخ أبي الحسن البغدادي بآمد.
قال القاضي أبو الحسين، وتبعه ابن السَّمعاني: أحد الفقهاء الفضلاء، والمناظرين الأذكياء. وسمع الحديث من أبي القاسم بن بشران، وأبي إسحاق البرمكي، وأبي الحسن بن الحراني، وابن المذهب وغيرهم. وسمع من القاضي أبي يعلى، وأبي الحسن بن الحراني، وابن المذهب وغيرهم. وسمع من القاضي أبي يعلى، ودرس عليه الفقه، وأجلس في حلقة النظر والفتوى بجامع المنصور في موضع ابن حامد. ولم يزل يدرّس ويفتي ويناظر إلى أن خرج من بغداد، ولم يحدّث ببغداد بشيء، لأنه خرج منها في فتنة البَسَاسِيرِي، في سنة خمسين وأربعمائة إلى اَمد، وسكنها واستوطن بها، ودرس بها الفقه إلى أن مات في سنة سبع- أو ثمان- وستين وأربعمائة. وقبره هناك مقصودٌ بالزيارة. وكان يدرس في مقصورة بجامع آمد.
وله هناك أصحاب يتفقهون عليه. وبرع منهم طائفة.
وله كتاب: "عمدة الحاضر وكفاية المسافر" في الفقه، في نحو أربع مجلدات، وهو كتاب جليل يشتمل على فوائد كثيرة نفيسة. ويقول فيه: ذكر شيخنا ابن أبي موسى في الإرشاد، فالظاهر: أنه تفقه عليه أيضًا. وسمع منه بأمد: أبو الحسن بن الغازي السُّنةَ للخلاّل عن أبي إسحاق البرمكي، وعبد العزيز الأزَجي.

محمد بن عمر بن الوليد الباجسرائي

الفقيه، أبو عبد الله: قال أبو الحسين: كانت له حلقة بجامع المنصور، تردد إلى مجلس الوالد السعيد الزمان الطويل، وسمع منه الحديث والدرس.
ومات سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان قد بلغ من السن خمسًا وتسعين سنة. رحمه الله تعالى.

محمد بن علي بن محمد بن موسى بن جعفر، أبو بكر الخيّاط، المقرىء البغدادي

ولد سنة ست وسبعين وثلاثمائة، وقرأ على أبي أحمد الفرضي، وأبي الحسين السَّوسَنْجِرْدي، وبكر بن شاذان، وأبي الحسن الحمامي، وغيرهم. وسمع الحديث من ابن الصَّلت المُجَبّر، وأبي عمر بن مهدي، وخلق مِنْ طبقتهما. ورأى أبا عبد الله بن حامد. كان يتردَّدُ إلى القاضي أبي يَعلى، ويَسمَعُ درسه، ويحضر أماليه، واشتغل بإقراء القرآن، ورواية الحديث في بيته ومسجده وجامع المنصور. وكان يحضره خلق كثير.
وقرأ عليه خلق، منهم: القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يَعلى، وأبو عبد الله البارع، وأبو بكر المزْرفي، وهبة اللّه بن الطبري.
وَحَدّث عنه جماعةٌ كثيرون، منهم: أبو بكر الخطيب في تاريخه، وأبو منصور القزاز، ويحيى بن الطراح، وغيرهم. وانتهى إليه إسناد القراءة في وقته.
قال ابن الجوزي: ما يوجد في عصره في القراءات مثله. وكان ثقة صالحًا.
وقال المؤتمن الساجي: كان شيخًا ثقةً في الحديث والقراءة، صالحًا، صبورًا على الفقر.
وقال أبو ياسر البرداني: كان من البكائين عند الذكر، أَثرت الدموع في خدّيه.
وقال ابن النجار: كان شيخ القراء في وقته، تفرد بروايات، وكان عالمًا، ورعًا متدينًا.
وذكره الذهبي في طبقات القُراء، فقال: كان كبير القدر، عديم النظير، بصيرًا بالقراءات، صالحًا عابدًا، ورعًا ناسكًا، بكاء قانتًا، خشن العيش، فقيرًا متعففاً، ثقة فقيهاً على مذهب أحمد. وآخر من روى عنه بالإجازة: أبو الكرم الشهرزوري.
قال ابن الجوزي: تُوفي ليلة الخميس ثالث جمادى الأولى سنة ثمان وستين وأربعمائة، ودفن في مقبرة جامع المدينة- يعني مدينة المنصور- قال غيره: صلَّى عليه أبو محمد التميمي في الجامع.

علي بن الحسين بن أحمد بن إبراهيم بن جَدَا، أبو الحسن العكبري:

ذكره ابن شافع في تاريخه، فقال: هو الشيخ الصالح، الزاهد، الفقيه، الأمّار بالمعروف، والنهّاء عن المنكر.
سمع: أبا علي بن شاذان، والبرقاني، وأبا القاسم الخِرَقي، وأبا القاسم بن بُشْران. وكان فاضلاً، خيرًا ثقة، مستورًا صينًا، شديدًا في السنة على مذهب أحمد. رضي الله عنه.
وقال القاضي أبو الحسين، وابن السمعاني: كان شيخًا صالحًا، دينًا كثير الصلاة، حسن التلاوة للقرآن، ذا لَسَن وفصَاحة، في المجالس والمحافل، وله في ذلك كلام منثور، وتصنيف مذكور مشهور.
وذكره أبو الحسين وابن الجوزي وقالا: سمع من أبي علي بن شهاب، وأبي علي بن شاذان، وكان فقيهًا صالحًا فصيحًا.

قال أبو الحسين: قرأ الفقه على الوالد السعيد، وله مصنف في الأصول. وتوفي فجأة في الصلاة في رمضان سنة ثمان وستين وأربعمائة، ودفن في مقبرة أحمد.
وذكر ابن شافع وغيره: أنه توفي يوم الأحد سابع عشر رمضان المذكور.
وقال ابن شافع: جَدَا- بفتح الجيم- كذا سمعتُه من أشياخنا، ورأيته مضبوطًا بخط أسلافنا.
وروى عنه القاضي أبو بكر، وأبو منصور القزاز، وسمع منه مكي الرُّميلي الحافظ وجماعة.
وقال ابن خيرون: حدث بشيء يسير، كان مستورًا صينًا ثقة.
وروى عنه الخطيب فقال: حدثني علي بن الحسين بن جَدَا العكبري قال: رأيتُ هبة اللّه الطبري في المنام، فقلت: ما فعل الله بك. قال: غفر لي. قلت: بماذا. قال: كلمة خفيفة: بالسنة.
قال الحافظ عبد القادر الرهاوي: أنبأنا أبو موسى المديني الحافظ قال: رَأيتُ بخط ابن البناء- وقرأته على ابن ناصر بإجازته من ابن البناء- قال: حكى أبو الحسن علي بن الحسين بن جَدا العكبري قال: سمعت أبا مسعود أحمد بن محمد البجلي الحافظ قال: دخل ابن فَورك على السلطان محمود، فتناظرا.
قال ابن فورك لمحمود: لا يجوز أن تصف الله بالفوقية، لأنه يلزمك أن تصفه بالتحتية. لأنه من جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت.
فقال محمود: ليس أنا وصفته بالفوقية، فتُلْزِمني أن أصفه بالتحتية، وإنما هو وَصَفَ نفسه بذلك. قال: فبهت.
أخبرنا محمد بن إسماعيل الصوفي- بالقاهرة- أخبرنا عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني أخبرنا أبو علي بن الحريف أخبرنا القاضي أبو بكر بن عبد الباقي أخبرنا أبو الحسن بن جدا أخبرنا أبو القاسمة هبة الله بن الحسن الطبري الحافظ قال: ذكر أن فتى من أصحاب الحديثأنشد في مجلس أبي زرعة الرازي هذه الأبيات، فاستُحسنت منه:

دين النبي "محمد" أخـتـارُ

 

نعم المطية للفتـى الآثـار

لا تغفلنَّ عن الحديث وأهله

 

فالرأيُ ليلٌ، والحديثُ نهارُ

ولَرُبَّما غلط الفتى إِثْرَ الهدى

 

والشمسُ بازغةٌ لها أنـوارُ

عبيد الله بن محمد بن الحسين الفراء، أبو القاسم بن القاضي أبي يعلى:

ذكره أخوه في الطبقات، وأنه ولد يوم السبت سابع شعبان سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، وقرأ بالروايات على أبي بكر الخياط، وابن البناء، وأبي الخطاب الصوفي، وأحمد بن الحسن اللحياني، وغيرهم. وسمع الحديث من والده، وجده لأمه جابر بن ياسين، وأبي محمد الجوهري، وغيرهم، وابن المهتدي وابن النَقُور، وابن الآبنوسي، وابن المسلمة، وابن المأمون، والصَرِيفيني، وغيرهم، ورحل في طلب الحديث والعلم إلى: واسط، والبصرة، والكوفة، وعكبرا، والموصل، والجزيرة، وآمد، وغير ذلك.
وقرأ بِآمد من الفقه على أبي الحسن البغدادي قطعة صالحة من الخلاف والمذهب. وكان قد علق قبل سفره على الشريف أبي جعفر، وكان قد حضر قبل ذلك عرس والده وعلق عنه.
وكان يحضر مجلس النظر في الجُمَع وغيرها، ويتكلم في المسائل مع شيوخ عصره. وكان والده يأتم به في صلاة التراويح إلى أن تُوفي. وكان أكبر ولد القاضي أبي يعلى، وهو الذي تولى الصلاة عليه بجامع المنصور. وكان ذا عفة، وديانة وصيانة، حَسَن التلاوة للقرآن، كثير الدرس له، مع معرفته بعلومه. وله معرفة بالجرح والتعديل، وأسماء الرجال والكنى، وغير ذلك من علوم الحديث، حسن القراءة، وله خط حسن.
ولما وقعت فتنة ابن القشيري: خرج إلى مكة، فتوفي في مضيه إليها بموضع يُعرف بمعدن النقِرة، أواخر ذي القعدة سنة تسع وستين وأربعمائة، وله ست وعشرون سنة وثلاثة أشهر ونيف وعشرون يومًا تقريبًا. رحمه الله وعوضه الجنة.

محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن الحسين بن هارون، أبو الحسن البَرَداني الفرضي الأمين:

والد الحافظ أبي علي، الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وُلد بالبردان سنة ثمان وثمانين- وقيل: سنة ثمان وسبعين- وثلاثمائة. ونشأ بها ثم انتقل إلى بغداد سنة ست وأربعين وأربعمائة واستوطنها. وسمع الكثير من أبي الحسن بن رزقويه، وأبي الحسين بن بشران، وأخيه أبي القاسم، وأبي الفضل التميمي، وأخيه أبي الفرج، وأبي الحسن بن مخلد، وأبي علي بن شاذان، البرقاني، وخلق.
وروى عنه ولداه: أبو علي، وأبو ياسر، والقاضي أبو بكر بن عبد الباقي وغير هم.

قال القاضي أبو الحسين بن أبي يعلى: صحب الوالد، وتردد إلى مجالسه في الفقه وسماع الحديث، وكان رجلاً صالحًا.
قال ابن النجار: وكان رجلاً صالحًا صدوقًا، حافظًا لكتاب الله تعالى، عالمًا بالفرائض وقسمة التركات. كتب بخطه الكثير، وخَرَّج تخاريج، وجمع فنونًا من الأحاديث وغيرها. وخطه رديء كثير السقم. وكان أَمين القاضي أبي الحسين بن المهتدي. ثم ذكر عن ابنه أبي ياسر عبد اللّه: أن أباه أبا الحسن سرد الصوم ثلاثين سنة.
وذكر عن السلفي: أنه جرى ذكر ابنه أبي علي، فقال الحافظ أبو محمد السمرقندي: لو رأيت أباه وصلاحه لرأيت العجب. روى لنا عن ابن رزقويه وطبقته. وكان فقيهًا، وضيئًا محدثًا، مرضيًا.
وذكر عن ابن خيرون: أن البرداني كان رجلاً صالحًا ثقة.
وقال ابن الجوزي: كان له علم بالقراءات والفرائض. وكان ثقة، عالمًا صالحًا أمينًا.
توفي يوم الخميس ثامن عشرين في القعدة سنة تسع وستين وأربعمائة. ودفن يوم الجمعة بباب حرب. كذا ذكره ابن النجار.
وذكر ابن شافع: أنه توفي ليلة الجمعة تاسع عشرين ذي القعدة ثم قال: قرأت بخط ابنه أبي علي: أن أباه توفي يوم الخميس مستهل ذي الحجة من السنة، قال: وصليتُ عليه يوم الجمعة في المقصورة. وتبعه خلق عظيم. رحمه اللّه تعالى قلتُ: له كتاب "فضيلة الذكر والدعاء" رواه عنه ابنه أبو علي.
أخبرنا محمد بن إسماعيل الأيوبي الصوفي- بالقاهرة- أخبرنا عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني أخبرنا أبو علي الحريف أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي أخبرنا أبو الحسن البرداني أخبرنا أبو الحسن بن مخلد أخبرنا إسماعيل الصفار حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا المعتمر بن سليمان: سمعتُ عاصمًا الأحول يقول: حدثني شرحبيل أنه سمعَ أبا سعيد، وأبا هريرة، وابن عمر يُحدّثون أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذَهَبُ بالذهَبِ وَزْنًا بوزنٍ، مِثلاً بمثل. مَن زاد أو ازداد فقد أربى".
وأنبأناه عاليًا أبو الفتح الميدومي أخبرنا عبد اللطيف بن عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني أخبرنا أبو الفرج بن كليب أخبرنا أبو القاسم بن بيان أخبرنا ابن مخلد- فذكره.

عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن عيسى بن أحمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن عبد اللّه بن معبد بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي العباسي:

و "أبو موسى" هو كنية جده الأعلى: عيسى بن أحمد بن موسى.
هذا هو الصحيحُ في نسبه. وهو الذي ذكره صاحباه القاضيان: أبو بكر الأنصاري، وأبو الحسين بن القاضي، وابن الجوزي، وابن السمعاني، وغيرهم. فإن الشريف أبا جعفر هو ابن أخ الشريف أبي علي محمد بن أحمد بن محمد بن عيسى بن أحمد بن موسى صاحب "الإرشاد".
ووقع في تاريخ ابن شافع وغيره: عبد الخالق بن أحمد بن عيسى بن أبي موسى عيسى بن أحمد، وهو وهَمٌ.
ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة.
قال ابن الجوزي: كان عالمًا فقيهًا، ورعًا عابدًا، زاهداً، قوالاً بالحق، لا يحابي، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
سمع أبا القاسم بن بشران، أبا محمد الخلال، وأبا إسحاق البرمكي، وأبا طالب العُشاري، وغيرهم.
وتفقه على القاضي أبي يعلى، وشهد عند أبي عبد الله الدامَغَاني، ثم ترك الشهادة قبل وفاته. ولم يزل يدرس بمسجده بسكة الخرقي من باب البصرة وبجامع المنصور. ثم انتقل إلى الجانب الشرقي، فدرس في مسجدٍ مقابل لدار الخلافة، ثم انتقل- لأجل ما لحق نهر المعلّى من الغرق- إلى باب الطاق، وسكن عرب الديوان من الرُّصَافة، ودرس بمسجد على باب الدرب، وبجامع المهدي.
وذكر القاضي أبو الحسين نحو ذلك، وقال: بَدَأَ بِدَرسِ الفقه على الوالد من سنة ثمان وعشرين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسين، يقصد إلى مجلسه ويعلق، ويعيد الدَّرس في الفروع وأصول الفقه. وبرع في المذهب، ودَرَّس، وأفتى في حياة الوالد.
وكان مختصر الكلام، مليح التَّدريس، جيد الكلام في المناظرة، عالمًا بالفرائضِ، وأحكام القراَن والأصول. وكان له مجلسٌ للنظر في كل يوم اثنين ويقصده جماعة من فقهاء المخالفين. وكان شديد القول واللسان على أهل البدع ولم تزل كلمته عالية عليهم، ولا يَردُّ يَده عنهم أحد. وانتهى إليه في وَقتهِ الرحلة لطلب مذهب الإمام أحمد. وذكره ابن السمعاني فقال: إمام الحنابلة في عصره بلا مدافعة. مليح التدريس، حسن الكلام في المناظرة، ورع زاهد، متقن عالم بأحكام القرآن والفرائض، مَرْضِي الطريقة. ثم ذكر بعضَ شيوخه، وقال: روى لنا عنه أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزار، ولم يحدثنا عنه غيره.
وقال ابن خيرون: مُقدم أهل زَمانه شرفًا، وعلمًا وزهدًا.
وقال ابن عَقيل: كان يفوق الجماعة من أهل مذهبه وغيرهم في علم الفرائض.
وكان عند الإمام- يعني الخليفة- معظمًا حتى إنه وَصَّى عند مَوته بأن يغسله، تبركًا به. وكان حول الخليفة ما لو كان غيره لأخذه. وكان ذلك كفايةَ عُمره فوالله ما التفتَ إلى شيء منه، بل خرج ونَسِيَ مئزره حتى حُمل إليه. قال: ولم يُشهد منه أنه شرب ماء في حلقة على شدة الحر، ولا غمس يده في طعام أحدٍ من أبناء الدنيا.
قلتُ: وللشريف أبي جعفر تصانيفُ عِدة، منها "رؤوس المسائل" وهي مشهورة، ومنها "شرح المذهب" وصل فيه إلى أثناء الصَّلاة، وسلك فيه مسلك القاضي في الجامع الكبير. وله جزء في أدب الفقه، وبعض فضائل أحمد، وترجيح مذهبه. قد تفقه عليه طائفةٌ من أكابر المذهَب، كالحلواني، وابن المُخَرَّمِي، والقاضي أبي الحسين.
وكان معظمًا عند الخاصة والعامة، زاهداً في الدنيا إلى الغاية، قائمًا في إنكار المنكرات بيده ولسانه، مجتهدًا في ذلك.
قال أبو الحسين، وابن الجوزي: لما احْتُضِر القاضي أبو يعلى أوصى أن يُغَسله الشريف أبو جعفر، فلما احتضر القائم بأمر اللّه قال: يغسلني عبد الخالق، ففعل، ولم يأخذ مما هُناك شيئًا. فقيل له: قد وصى لك أميرُ المؤمنين بأشياء كثيرة، فأبى أن يأخذَ. فقيل له: فقميص أمير المؤمنين تتبرك به فأخذ فوطة نفسه، فنشفه بها، وقال: قد لَحِقَ هذه الفوطَة بركةُ أميرِ المؤمنين. ثم استدعاه في مكانه المقتدي، فبايعه منفردًا. قال: وكان أولَ من بايع، وقال الشريف: لما بايعتُهُ أنشدتُهُ:

إذَا سَيّدٌ مِنا مَضَى قَام سَيِّدٌ

ثم أُرتِجَ عليَّ تمامه، فقال هو:

قَؤولٌ لما قَالَ الكِرَامُ فَعولُ

قال: وأنبأنا ابن عبد اللّه عن أبي محمد التميمي قال: ما حسدتُ أحدًا إلاَّ الشريف أبا جعفر، في ذلك اليوم، وقد نلتُ مرتبة التدريس والتذكير والسفارة بين الملوك، ورواية الأحاديث، والمنزلة اللطيفة عند الخاص والعام. فلمَّا كان ذلك اليوم خرج الشريفُ علينا، وقد غسل القائم عن وصيته بذلك. ثم لم يقبل شيئًا من الدنيا، ثم انسل طالبًا لمسجده، ونحنُ كلٌّ منا جالسٌ على الأرض متَحَفٍّ، متغيرٌ لونُه، مخرقٌ لثوبه، يهوله ما يَحدث به بعد مَوت هذا الرجل على قدر ما له تعلق بهم، فعرفت أن الرجل هو ذلك.
قال القاضي أبو الحسين- أي ابن أبي يعلى-: قلتُ له- أي قلتُ لعبد الخالق- بعد اجتماعه معه: أينَ سهمنا مما كان هناك. فقال: أحْيَيْتُ جَمَالَ شيخنا والدك الإمام أبي يعلى. يُقال: هذا غلامُهُ، تنزه عن هذا القدر الكثير، فكيف لو كان هو? وفي سنة أربع وستين وأربعمائة: اجتمع الشريف أبو جعفر ومعه الحنابلة في جامع القصر، وأدخلوا معهم أبا إسحاق الشيرازي وأصحابه. وطلبوا من الدولة قلع المواخير، وتتبع المفسدين والمفسدات، ومنْ يبيعُ النبيذ، وضربَ دراهم تقع بها المعاملة عوض القراضة. فتقدم الخلفية بذلك. فهرب المفسدات، وكُبِسَت الدور، وأريقت الأنبذة. ووعدوا بقلع المواخير، ومكاتبة عضد الدولة برفعها، والتقدم بضرب الدراهم التي يتعامل بها. فلم يقنع الشريف ولاأبو إسحاق بهذا الوعد. وبقي الشريف مدة طويلة متعتبًا مهاجرًا لهم.
وحكى أبو المعالي صالح بن شافع عمن حدَّثه: أن الشريف رأى محمدًا وكيل الخليفة حين غرقت بغداد سنة ست وستين، وجرى على دار الخلافة العجائب، وهم في غاية التخبط. فقال الشريف أبو جعفر: يا محمد، يا محمد، فقال له: لبيك يا سيدنا، فقال له: قل له: كتبنا وكتبتم، وجاء جوابنا قبل، جوابكَم، يشير إلى قول الخليفة: سنكاتب في رفع المواخير، ويريد بجوابه: الغرق وما جرى فيه.

وفي سنة ستين وأربعمائة كان أبو علي بن الوليد- شيخ المعتزلة- قد عزم على إظهار مذهبه لأجل موت الشيخ الأجل أبي منصور بن يوسف، فقام الشريف أبو جعفر، وعبر إلى جامع المنصور، هو وأهل مذهبه، وسائر الفقهاء وأعيان أهل الحديث، وبلغوا ذلك. ففرح أهل السنة بذلك، وقرأوا كتاب التوحيد لابن خزيمة. ثم حضروا الديوان، وسألوا إخراج الاعتقاد الذي جمعه الخليفة القادر. فأجيبوا إلى ذلك. وقرىء هناك بمحضر من الجميع، واتفقوا على لعن من خالفه وتكفيره. وبالغ ابن فَورك في ذلك.
ثم سأل الشريف أبو جعفر، والزاهد الصحراوي: أن يسلم إليهم الاعتقاد، فقال لهم الوزير: ليس ههنا نسخة غير هذه. ونحن نكتب لكم به نسخة لتقرأ في المجالس. فقالوا: هكذا فعلنا في أيام القادر، قرىء في المساجد والجوامع. فقال: هكذا تفعلون، فليس اعتقاد غير هذا، وانصرفوا. ثم قرىء بعد ذلك الاعتقاد بباب البصرة، وحضره الخاص والعام.
وكذلك أنكر الشريف أبو جعفر على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد وغيره، فاختفى مدة ثم تاب وأظهر توبته. وسنذكر مضمون ذلك في ترجمة ابن عقيل، إن شاء الله تعالى.
وآخر ذلك كله: فتنة ابن القشيري، قام فيها الشريف قيامًا كليًا، ومات في عقبها.
ومضمون ذلك: أن أبا نصر بن القشيري ورد بغداد، سنة تسع وستين وأربعمائة، وجلس في النظامية. وأخذ يذم الحنابلة، وينسبهم إلى التجسيم. وكان المتعصب له أبو سعد الصوفي، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة، ويسأله المعونة. فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده، والإيقاع به، فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومه إن وقعت. فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر. فوقعت الفتنة، وقتل من أولئك رجل من العامة، وجرح آخرون، وأخذت ثياب.
وأغلق أتباع بن القشيري أبواب سوق مدرسة النظام، وصاحوا: المستنصر بالله، يا منصور- يعنون العُبَيدي صاحب مصر- وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسي، وأنه ممالىء للحنابلة، لا سيما والشريف أبو جعفر ابن عمه.
وغصب أبو إسحاق، وأظهر التأهب للسفر. وكاتب فقهاءُ الشافعية نظام الملك بما جرى، فورد كتابه بالامتعاض من ذلك، والغَضَب لتسلط الحنابلة على الطائفة الأخرى. وكان الخليفة يخاف من السلطان ووزيره نظام الملك ويداريهما.
وحكى أبو المعالي صالح بن شافع، عن شيخه أبي الفتح الحلواني وغيره، ممن شاهد الحال: أن الخليفة لما خاف من تشنيع الشافعية عليه عند النظام أمر الوزير أن يجيل الفكر فيما تنحسم به الفتنة. فاستدعى الشريف أبا جعفر بجماعة من الرؤساء منهم ابن جردة، فتلطفوا به حتى حضر في الليل، وحضر أبو إسحاق، وأبو سعد الصوفي، وأبو صر بن القشيري. فلما حضر الشريف عظَّمه الوزير ورفعه، وقال: إن أمير المؤمنين ساءه ما جرى من اختلاف المسلمين في عقائدهم، وهؤلاء يصالحونك على ما تريد، وأَمَرهم بالدنوّ من الشريف. فقام إليه أبو إسحاق، وكان يتردد في أيام المناظرة إلى مسجده بدرب المطبخ، فقال: أنا ذاك الذي تعرف، وهذه كتبي في أصول الفقه، أقول فيها: خلافًا للأشعرية، ثم قبل رأسه.
فقال له الشريف: قد كان ما تقول، إلاَ أنك لما كنت فقيرَاً لم تُظهِر لنا ما في نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان خواجا بُزُرْك- يعني النظام- أبديتَ ما كان مخفيًا.
ثم قام أبو سعد الصوفي، فقبّل يد الشريف، وتَلطف به، فالتفت مغضباً وقال: أيها الشيخ، إنّ الفقهاء إذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل، وأَما أنت: فصاحبُ لهو وسَماع وتعبير ممَنْ، زاحمك على ذلك حتى داخلتَ المتكلمين والفقهاء، فأقمتَ سوق التعصب.

ثم قام ابن القشيري- وكان أقلَّهُم احترامًا للشريف- فقال الشريف: من هذا. فقيل: أبو نصر بن القشيري، فقال لو جاز: أن يشكر أحد على بدعته لكان هِذا الشاب لأنه باد هنا بما في نفسه، ولم ينافقنا كما فعل هذان. ثم التفت إلى الوزير فقال: أي صلح يكون بيننا. إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية، أو دنيا، أو تنازع في ملك. فأما هؤلاء القوم: فإنهم يزعمون أنَّا كفار، نحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافراً، فأيُّ صلح بيننا. وهذا الإمام يصدع المسلمين، وقد كان جدَاه- القائم والقادر- أَخرجا اعتقادهما للناس، وقرىء عليهم في دواوينهم، وحمله عنهم الخراسانيون والحجيج إلى أطراف الأرض، ونحن على اعتقادهما.
وأنهى الوزير إلى الخليفة ما جرى، فخرج في الجواب: عرف ما أنهيته من حضور ابن العم- كَثر اللّهُ في الأولياء مثلَه- وحضور من حضر من أهل العلم. والحمد لله الذي جمع الكلمة، وضم الألفة، فليؤذن للجماعة في الانصراف، وليقل لابن أبي موسى: إنه قد أفرد له موضع قريبٌ من الخدمة ليراجَع في كثير من الأمور المهمة، وليتبرك بمكانه.
فلما سمع الشريف هذا قال: فعلتموها.
فحُمل إلى موضع أفرد له بدار الخلافة. وكان الناس يدخلون عليه مدة مديدة. ثم قيل له: قد كثر استطراق الناس دار الخلافة، فاقتصر على من تُعين دْخوله، فقال: ما لي غرض في دخول أحد عليّ. فامتنع الناس.
ثم إن الشريف مرض مرضًا أثر في رجليه فانتفختا. فيقال: إن بعض المتفقِّهة من الأعداء ترك له في مداسه سمًا. والله تعالى أعلم.
ثم إن أبا نصر بن القشيري أُخرج من بغداد، وأُمر بملازمة بلده لقطع الفتنة وذلك نفي في الحقيقة.
قال ابن النجار: كوتب نظام الملك الوزير بأن يأمره بالرجوع إلى وطنه، وقطع هذه الثائرة، فبعث واستحضره، وأَمرَه بلزوم وطنه، فأقام به إلى حين وفاته.
قال القاضي أبو الحسين: أخذ الشريف أبو جعفر في فتنة أبي نصر بن القشيري، وحُبِس أياماً، فسَردَ الصوم ما أكل لأحد شيئاً.
قال: ودخلتُ عليه في تلك الأيام ورأيتُه يقرأ في المصحف، فقال لي: قال الله تعالى: "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَاَلصَّلاَةِ" البقرة: 45، تدري ما الصبر? قلت: لا، قال: هو الصوم. ولم يفطر إلى أن بلغ منه المرض، وضج الناس من حبسه. وأُخرج إلى الحريم الطاهري بالجانب الغربي فمات هناك.
وذكر ابن الجوزي: أنه لما اشتد مرضه، تحامل بين اثنين، ومضى إلى باب الحجرة، فقال: جاء الموت، ودنا الوقت، ما أحبُّ أن أموتَ إلا في بيتي بين أهلي فأذن له. فمضى إلى بيت أخته بالحريم.
قال: وقرأتُ بخط أبي علي بن البناء قال: جاءتْ رقعة بخط الشريف أبي جعفر، ووصيته إلى أبي عبد الله بن جردة فكتبها. وهذه نسختها: "ما لي- يشهد اللّه- سوى الحبل والدلو، وشيء يخفى عَليَ لا قدر له. والشيخ أبو عيد الله، إن راعاكم بعدي، وإلاََّ فالله لكم. قال الله عز وجل: "وَلْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَركوُا مِنْ خَلْفِهِم ذُرِّية ضِعافًا خَافُوا عَلَيهِمْ فَليتقُوا اللّه" ومذهبي: الكتابُ، والسنة، وإجماع الأمة، وما عليه أحمد، ومالك والشافعي، وغيرهم ممن يكثر ذكرهم، والصلاة: بجامع المنصور إن سهل الله تعالى ذلك عليهم. ولا يعقد لي عزاء، ولا يشق عليَّ جيب، ولا يُلطم خد. فمن فعل ذلك فالله حسيبه". وتُوفي رحمه الله تعالى ليلة الخميس سحرًا، خامس عشر صفر سنة سبعين وأربعمائة، وغسله أبو سعيد البرداني، وابن الفتى بوصية منه، وكانا قد خدماه طول مرضه.
وصُلي عليه يوم الجمعة ضحى بجامع المنصور، وأمَّ الناس أخوه الشريف أبو الفضل محمد. ولم يَسع الجامع الخلق وانضغطوا، ولم يتهيأ لكثير منهم الصلاة، ولم يبقَ رئيس ولا مرؤوس من أرباب الدولة وغيرهم إلا حضره إلا من شاء الله، وازدحم الناسُ على حَمْله. وكان يومًا مشهودًا بكثرة الخلق. وعظم البكاء الحزن. وكانت العامة تقول: ترحَّموا على الشريف الشهيد، القتيل المسموم لما ذكر من أن بعض المبتدعة: ألقى في مداسه سمًا. ودفن إلى جانب الإمام أحمد.

قال ابن السمعاني: سمعت أبا يعلى بن أبي حازم بن أبي يعلى بن الفراء الفقيه الحنبلي- يوم خرجنا إلى الصلاة على شيخنا أبي بكر بن عبد الباقي، ورأى ازدحام العوام، وتزاحمهم لحمل الجنازة- فقال أبو يعلى: العوام فيهم جهل عظيم. سمعتُ أنه في اليوم الذي مات فيه الشريف أبو جعفر حملوه ودفنوه في قبر الإمام أحمد، وما قدر أحد أن يقول لهم: لا تنبشوا قبر الإمام أحمد، وادفنوه بجنبه. فقال أبو محمد التميمي - من بين الجماعة- كيف تدفنونه في قبر الإمام أحمد بن حنبل وبنت أحمد مدفونة معه في القبر. فإن جاز دفنه مع الإمام لا يجوز دفنه مع ابنته. فقال بعض العوام: اسكتْ، فقد زوجنا بنت أحمد من الشريف، فسكت التميمي، وقال: ليس هذا يوم كلام.
ولزم الناس قبره، فكانوا يبيتون عنده كل ليلة أربعاء، ويختمون الختمات، ويخرج المتعيشون، فيبيعون الفواكه والمأكولات، فصار ذلك فرجة للناس. ولم يزالوا على ذلك مدة شهور، حتى دخل الشتاء ومنعهم البرد. فيقال إنه: قرىء على قبره في تلك المدة عشرة آلاف ختمة.
ورآه بعضهم في المنام، فقال له: ما فعل الله بك? قال: لما وضعتُ في قبري رأيتُ قبة من درة بيضاء لها ثلاثة أبواب، وقائل يقول: هذه لك، أُدخل من أي أبوابها شئت.
ورآه آخر في المنام، فقال: ما فعل الله بك. قال: التقيتُ بأحمد بن حنبل فقال لي: يا أبا جعفر، لقد جاهدتَ في اللّه حق جهاده، وقد أعطاك الله الرضى رضي الله عنه.
وقع لي جملة من حديث الشريف أبي جعفر بالسماع، فمنها: ما أخبرنا به أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن عبد العزيز الصوفي- بالقاهرة- أخبرنا أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني أخبرنا أبو علي بن أبي القاسم بن الحريف أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزار أخبرنا أستاذي أبو جعفر عبد الخالق بن عيسى الهاشمي- بقراءتي عليه- قلت له: حدثكم أبو القاسم عبد الملك بن محمد بن بشران أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن الصواف حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن هارون وأبو عبد الرحمن قالا: أخبرنا المسعودي عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يلجُ النار أحدٌ بكى مِن خشية الله، حتى يعودَ اللبنُ في الضرع، ولا يجتمع غُبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم في منخري امرىءٍ أبدًا".
وقرأت بخط ابن عقيل في الفنون قال: مما استَحسنتُه من فقه الشريف الإمام الزاهد أبي جعفر عبد الخالق بن عيسى بن أبي موسى الهاشمي رضي الله عنه وتدقيقه -وإن كان أكثر من أن يُحصى-: ما قاله في أوائل قدوم الغزالي بغداد، وجعلوا يأخذون من أموال الناس في الطرقات، وتقصر أيدي العوام عنهم، فقال: الذي نسبه من مذهب أبي حنيفة: أن تجري عليهم أحكام قطاع الطريق، وإن كان ذلك في الحضر. لأنهم عللوا بأن في الحضر يلحق الغوث، فلا يكون لهم حكم قطاع الطريق في الصحارى والبراري. وهذا التعليل موجود في الحضرة لأنه لا مغيث يغيث منهم، لقوتهم واستطالتهم على العوام.
قلت: هذا قريب من قول القاضي أبي يعلى. إن أصحابنا اختلفوا في المحاربين في الحضر: هل تجري عليهم أحكام المحاربين? فظاهر كلام الخرقي: أنها لا تجري عليهم. وقال أبو بكر: بل أحكام المحاربين جارية عليهم. وفَضَل القاضي بين أن يفعلوا ذلك في حَضَر يلحق فيه الغوث عادة أو لا. فإن كان يلحق فيه الغوث عادة: فليسوا بمحاربين، وإلا فهم محاربون. ومعلوم أن السلطان إذا امتنع من دفعهم- إمّا ضعفه وعجزه، وإما لكونه ظالمًا يسلط أعوانه على الظلم- تعذّر لحوق الغوث مع ذلك عادة. فيثبت لهم- على قوله- أحكام المحاربين والله أعلم.
ونقلت من بعض تعاليق الإمام أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه اللّه. مما نقله من الفنون لابن عقيل: حادثة رجل حلف على زوجته بالطلاق الثلاث: لا فعلتِ كذا، فمضى على ذلك مدة، ثم قالت: قد كنتُ فعلتُه. هل تصدق مع تكذيب الزوج لها. أجاب الشريف الإمام أبو جعفر بن أبي موسى: تُصَدَّق ولا ينفعه تكذيبه. وأجاب الشيخ الإمام أبو محمد: لا تصدق عليه، والنكاح بحاله.
قلتُ: أبو محمد: أظنه التميمي. ومن الفنون أيضًا: مسألة، إذا وجد على ثوبه ماء واشتبه عليه: أمَذْيٌ أم مني? إن قلتم: يجب حمله على أقل الأحوال، من كونه مَذيًا، لأن الأصل سقوط غسل البدن: أوجبتم غسل الثوب. لأن المذي نجس، والأصل سقوط غسل الثوب متقابلاً. فقال الشريف أبو جعفر بن أبي موسى رضي الله عنه: لا يجب غسل الثوب ولا البدن جميعًا، لتردد الأمر فيهما. وأوجب غسل أربعة الأعضاء. لأن الخارج- أيَّ خارج كان- يوجب غسل الأعضاء.
وقد ذكر هذه المسألة ابن تميم في كتابه، من الفنون، وعزاها إلى ابن أبي موسى، فربما توهم السامع أنه ابن أبي موسى صاحب الإرشاد، وليس كذاك.
وهذه المسألة تشبه مسألة الرجلين إذا وجدا على فراشهما منيًّا ولم يعلما مَنْ خرج منه، أو سمعا صوتًا ولم يعلما صاحبه. وفي وجوب الغسل والوضوء عليهما روايتان لكن أرجحهما لا يجب. وعلى القول بانتفاء الوجوب، فقالوا: لا يَأتَّمُ أحدهما بصاحبه، ولا يُصافُّه وحده، لأنه يظهر حكم الحدث المتيقن باجتماعهما، ويعلم أن صلاة أحدهما باطلة. فتبطل الجماعة والمصافَّة.
ونظير هذا: ما قلنا في المختلفين في جهة القبلة: إنه لا يأتْمُ أحدهما بصاحبه فإنه يتيقن باجتماعهما في الصلاة خطأ أحدهما في القبلة، فتبطل جماعتهما.
وكذلك ما ذكره أكثر الأصحاب: في رجلين علّق كل منهما عتق عبده على شرط، ووُجد أحد الشرطين يقينًا، ولا يعلم عينه أنه لا يحكم بعتق عبد واحدٍ منهما، ويستصحب أصل ملكه. فإن اشترى أحدهما عبد الآخر: أخرج المعتق منهما بالقرعة على الصحيح أيضًا.
فكذلك يقال ههنا: يستصحب أصل طهارهّ الثوب والبدن من النجاسة والجنابة، ولكن ليس له أن يصلي بحاله في الثوب كأنَّا نتيقن بذلك حصول المفسد لصلاحيته، وهو إما الجنابة وإما النجاسة.
ومن غرائب الشريف: ما نقله عنه ابن تميم في كتابه: أن المتوضىء إذا نوى غسل النجاسة مع الحدث: لم يجزه، وأن طهارة المستحاضة لا ترفع الحدث.
وذكر الشريف في رؤوس مسائله: أن القدر المجزِىء مسحه من الخفين: ثلاثة أصابع، وأن أحمد رجع إلى ذلك في مسح الخف ومسح الرأس. قال: كان شيخنا ينصر أولاً مسح الأكثر، ثم رأيته ماثلاً إلى هذا. وهذا غريب جداً.

عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن إبراهيم بن الوليد بن مَنْدَه بن بطة بن أسْتَنْدَار- واسمه الفيرزان- بن جهَارْبَخت، العبدي الأصبهاني الإمام الحافظ، أبو القاسم ابن الحافظ الكبير أبي عبد الله بن مَنْده

ومنْدَه لقب إبراهيم جده الأعلى: ذكره أبو الحسين، وابن الجوزي في طبقات الأصحاب في آخر المناقب.
وترجمه بن الجوزي في تاريخه، فقال: وُلد سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة.
وسمع أباه وأبا بكر بن مَردويه، وخلقًا كثيرًا. وكان كثير السماع، كبير الشأن، سافر في البلاد، وصنف التصانيف، وخرٌج التخاريج. وكان ذا وقار وسَمت وأتباع فيهم كثرة. وكان متمسكاً بالسنة، مُعرضًا عن أهل البدع، اَمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم.
وكان سعيد بن محمد الزنجاني يقول: حفظ الله الإسلام برَجُلين، أحدهما بأصبهان، والآخر بهرَاة: عبد الرحمن بن منده، وعبد الله الأنصاري.
وقال ابن السمعاني: كان كبير الشأن، جليل القدر، كثير السماع، واسع الرواية.
سافر إلى الحجاز وبغداد وهمَذان، وخراسان، وصنف التصانيف.
وقال القاضي أبو الحسين: لم يكن في عصره وبلده مثله في ورعه وزهده وصيانته، حاله أظهر من ذلك. وكانت بينه وبين الوالد السعيد مكاتبات.
وقال غيره: سمع أبو القاسم من أبيه، وإبراهيم بن خرشيد قوله، وإبراهيم بن محمد الجلاب، وأبي جعفر بن المرزبان، وأبي ذر بن الطبراني، وخلق بأصبهان، ومن أبي عمر بن مهدي، هلال الحفار، وغيرهما ببغداد، من ابن خزيمة الواسطي بها، ومن ابن جهضم بمكة، ومن أبي بكر الحيري، وأبي سعيد الصَيرفي بنيسابور، لكنه لم يروِ عن الحيري كما فعل الأنصاري، أجاز له زاهر السَّرخسي، وتفرد بذلك، ومحمد بن عبد الله الجوزقي، وعبد الرحمن بن أبي شريح.
وقال أبو عبد الله الدقاقّ الحافظ: فضائل ابن منده ومناقبه كثر من أن تعد- إلى أن قال: ومَنْ أنا لنشر فضله? كان صاحب خُلق وفتوة، وسخاء وبهاء، والإجازة كانت عنده قوية، وله تصانيف كثيِرة، ورُدُودٌ جَمَّة على المبتدعين والمنحرفِين في الصفات وغيرها.

قال: وكان جذعًا في أعين المخالفين، لا يخاف في الله لومة لائم- إلى أن قال: ووصفه أكثر من أن يُحصى.
وقال يحيى بن منده كان عمي سيفًا على أهل البدع، وهو أكبر من أن يثني عليه مثلي، كان والله آمرًا بالمعروف، ناهياً عن المنكر، وفي الغدوّ والآصال ذاكرًا، ولنفسه في المصالح قاهرًا، أعقب اللهُ مَن ذكره بالشرِّ الندامة. وكان عظيم الحلم كثير العلم، قرأتُ عليه قول شُعبة: "من كتبتُ عنه حديثاً فأنا له عبد" فقال: "من كتب عني حديثًا فأنا له عبدٌ".
قلتُ: قد ذكر عن شيخ الإسلام الأنصاري أنه قال: كانت مضرته في الإسلام أكثر من منفعته. وعن إسماعيل التيمي أنه قال: خالفَ أباه في مسائل، وأعرض عنه مشايخ الوقت، وَما تركني أبي أسمع منه. وكان أخوه خيرًا منه.
وهذا ليس بقادح- إن صح- فإن الأنصاري والتيمي وأَمثالهما يقدحون بأدنى شيء ينكرونه من مواضع النزاع، كما هجر التيميُّ عبدَ الجليل الحافظَ كُوباه على قوله: "ينزل بالذات" وهو في الحقيقة يُوافقه على اعتقاده، لكن أنكر إطلاقَ اللفظ لعدم الأثر به.
قال ابن السمعاني: سمعتُ الحسين بن عبد الملك يقول: سمعتُ عبد الرحمن بن منده يقول: قد تعجبتٌ من حالي مع الأقربين والأبعدين، فإني وَجَدتُ بالآَفاق التي قصدتها أكثر من لقيتُه بها- موافقًا كان أو مخالفًا- دعاني إلى مساعدته على ما يقوله، وتصديق قولي، والشهادة له في فعله على قبولٍ ورضى. فإن كنت صَدَّقته: سماني مُوافقًا، وإن وقفت في حَرْفي من قوله، أو في شيء من فعله: سماني مخالفاً- وإن ذكرتُ في واحدٍ منهما أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك: سماني خارجياً. وإن روَيتُ حديثًا في التوحيد: سماني مشبهًا. وإن كان في الرؤية: سماني سالميًا. وأنا متمسك بالكتاب والسنة، مُتَبرىء إلى الله من التشبيه، والمثل والضد والند، والجسم والأعضاء والآلات، ومن كل ما ينسب إليَّ ويُدَّعى عليّ، من أن أقول في اللّه تعالى شيئًا من ذلك أو قلتُه، أو أراه، أو أتوهمه، أو أتخذه، أو أنتحله.
قال ابن السمعاني: وسمعتُ الحسن بن محمد بن الرضى العلوي يقول: سمعتُ خالي أبا طالب بن طَباطبا يقول: كنتُ أَشتم أبدًا عبد الرحمن بن منده، فرأيتُ عمر رضي الله عنه في المنام، ويده في يد رجل عليه جبة صوف زرقاء، وفي عينيه نكتة، فسلمتُ عليه، فلم يردّ علي، وقال لي: لَم تشتم هذا إذا سمعتَ اسمه? فقيل لي: هذا أَمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وهذا عبد الرحمن بن منده. فانتبهتُ، فأتيتُ أصبهان، وقصدتُ الشيخ عبد الرحمن، فلما دخلتُ عليه صادفتُه على النعت الذي رأيتُ في المنام، وعليه جبة زرقاء. فلما سلمتُ عليه قال: وعليك السلام يا أبا طالب، وقبلها ما رآني ولا رأيتهُ، فقال قبل أن أنطق: شيء حرمه الله ورسوله يجوز لنا أن نُحِلّه? فقلت: اجعلني في حلّ، وناشدتُه الله وَقَبّلتُ بين عينيه. فقال: جعلتك في حل مما يرجع إلي.
حدَّث عن الحافظ أبي القاسم خلق كثير من الحفاظ، الأئمة، وغيرهم، مثل: ابن أخيه يحيى بن عبد الوهاب، وأبي نصر الغازي، وأبي سعد البغدادي، والحسين الخلال، وأبي عبد الله الدقاق، وأبي بكر الباغبان، وروى عنه بالإجازة مسعود الثقفي.
وله تصانيف كثيرة، منها: كتاب "حُزمَة الدين" وكتاب "الرد على الجهمية" بين فيه بطلان ما روي عن الإمام أحمد في تفسير حديث "خَلَقَ اللّهُ آدَمَ عَلَى صُورَته" بكلام حسن. وله كتاب "صيام يوم الشك".
وبأصبهان طائفة من أهل البدع ينتسبون إلى ابن منده هذا، وينسبون إليه أقوالاً في الأصول والفروع، هو منها بريء.
منها: أن التيمم بالتراب يجوز مع القدرة على الماء.
ومنها: أن صلاة التراويح بدعة، وقد ردّ عليهم علماء أصبهان من أهل الفقه والحديث، وبيّنوا أن ابن منده بريء مما نسبوه إليه من ذلك.
تُوفي في شوال سنة سبعين وأربعمائة بأصبهان، وشيَّعه خلق كثيرٌ لا يحصيهم إلاَّ الله تعالى.

أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم بمصر، أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الحافظ أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد البغدادي، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن منده، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن المرزبان حدثنا محمد بن إبراهيم الحراني، حدثنا محمد بن سليمان لُوَين، حدثنا عبد الحميد بن سليمان عن محمد بن عجلان عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرىء يتصدق بصدقة من كسب طيّب- ولا يقبل الله إلاَّ طيبًا- حتى ولو بتمرة، إلاّ أخذها الله بيمينه، ثم رَبَّاها له كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله، حتى يوافيه يوم القيامة مثل الجبل العظيم.
قرأتُ بخط الإمام أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله: أن أبا القاسم بن منده كان من الأصحاب، وكان يذهب إلى الجهر بالبسملة في الصلاة.
وذكر أيضًا في مسائله الماردانيات: أن طائفة من الأصحاب لم يذهبوا إلى صيام يوم الغيم، منهم أبو القاسم بن منده.
وذكر أبر زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن منده قال: قال عمي الإمام- يعني أبا القاسم رحمه الله- علامة الرضا: إجابة الله تبارك وتعالى من حيث دعا بالكتاب والسنة. وعلامة الورع: الخروج من الشبهات بالأخبار والآيات. وعلامة القناعة السكوت على الكتاب والسنة في الوقوف عند الشبهة. وعلامة الإخلاص: زيادة السرّ على الإعلان في إيثار قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم على الأقاويل كلها بالإيمان والاحتساب. وعلامة الصبر: حبس النفس في استحكام الدرس بالكتاب والسنة. وعلامة التسليم: الثقة باللّه الحكيم في قوله، والسكن إلى الله العليم بقول رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع الأشياء.
وقال أبو القاسم بن منده في كتاب "الرد على الجهمية": التأويلُ عند أصحاب الحديث: نوع من التكذيب.

أحمد بن محمد بن أحمد بن يعقوب الرزاز، المقرىء الزاهد، أبو بكر المعروف بابن حُمّدوه:

ذكره ابن الجوزي في الطبقات والتاريخ.


وُلد يوم الأربعاء لثماني عشرة خلت من صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
وحدّث عن خلق كثير. منهم: أبو الحسين بن بشران، وابن الفوارس، وهو آخر من حدّث عن أبي الحسين بن سَمْعُون. وتفقه على القاضي أبي يعلى، وكان ثقة، زاهدًا، متعبدًا، حسن الطريقة.
وقال القاضي أبو الحسين: تفقه على الوالد مع الشريف أبي جعفر، وكانا يصطحبان إلى المجلس. وكان كثير القراءة للقرآن والإقراء له، ختَّم خلقًا كثيرًا. وحدّث عنه الخطيب في تاريخه. قال: وكان صدوقًا. وأبو الحسن بن مرزوق في مشيخته، وأبو القاسم بن السمرقندي، والقاضي أبو الحسين في طبقات الأصحاب، وغيرهم.


تُوفي ليلة السبت رابع عشرين في الحجة سنة سبعين وأربعمائة. ودفن من الغد بباب حرب.
قال السلفي: سألتُ أبا علي البرداني عن ابن حُمُّدُويه صاحب ابن سمعون فقال: هو بضم الحاء وتشديد الميم وضمه أيضًا، يعني وبالياء.


ذكره ابن نقطة. قال: وغيره يقول بخلاف قوله. منهم من يقول: حُمَّدُوَه بضم الحاء، وتشديد الميم وفتحها، بغير ياء بعد الواو.


أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم- بمصر- أخبرنا عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا عبد الوهاب بن علي الأمين، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن حمدويه الرزاز، حدثنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن سمعون، حدثنا أحمد بن سليمان بن ريان، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين الأوزاعي، حدثنا الزهري، حدثني سالم عن ابن عمر أنه حدَّثه "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدَّق على رجل بفرس له، ثم وَجَدها تباع في السُوق، فأراد عمر أن يشتريها، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا ترتد في صدقتك".
قال الزهري: فكان ابن عمر يصنع في صدقته إن رَدَّها عليه الميراث يومًا لا يَحبسُها عنده.

?الحسن بن أحمد بن عبد اللّه بن البناء البغدادي، الإمام، أبو علي المقرىء

المحدِّث الفقيه الواعظ، صاحب التصانيف: ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة.

وقرأ القراءات السبع على أبي الحسن الحمامي وغيره. وسمع الحديث من هلال الحفار، وأبي محمد السكري، وأبي الحسن بن رزقويه، وأبي الفتح بن أبي الفوارس، وابن رزقويه، وأبي الحسين بن بشران، وأخيه أبي القاسم، وأبي علي بن شهاب، وأبي الفضل التميمي، وخلق كثير.
وتفقه أولاً على أبي طاهر بن الغباري، ثم على القاضي أبي يعلى، وهو من قدماء أصحابه. وحضر عند أبي علي بن أبي موسى وناظر في مجلسه. وتفقه أيضًا على أبي الفضل التميمي، وأخيه أبي الفرج.
وقرأ عليه القرآن جماعة، مثل أبي عبد اللّه البارع، وأبي العزّ القلانسي، وأبي بكر المزْرَفِيّ.
وسمع منه الحديث خلق كثيرٌ. وقرأ عليه الحافظ الحميدي كثيراً.
حدَّث عنه ولداه أبو غالب أحمد ويحيى، وأبو الحسين بن الفراء، وأبو بكر بن عبد الباقي، وابن الحَصين، وأبو القاسم بن السمرقندي وغيرهم.
ودرس الفقه كثيرًا وأفتى زمانًا طويلاً.
قال القاضي أبو الحسين: تفقه على الوالد، وعلق عنه المذهب والخلاف، ودَرس بدار الخلافة في حياة الوالد وبعد وفاته. وصنف كتبًا في الفقه والحديث والفرائض، وأصول الدين، وفي علوم مختلفات. وكان متفننًا في العلوم. وكان أديبًا شديدًا على أهل الأهواء.
وقال ابن عقيل: هو شيخ إمام في علوم شتى: في الحديث، والقراءات، والعربية، وطبقة في الأدب والشعر والرسائل، حسن الهيئة، حسن العبادة. كان يؤدب بني جردة.
وقال ابن شافع: كان له حلقتان، إحداهما: بجامع المنصور، وسط الرواق. والأخرى: بجامع القصر، حيال المقصورة، للفتوى والوعظ وقراءة الحديث. وكان يفتي الفتوى الواسعة، ويفيد المسلمين بالأحاديث والمجموعات وما يقرئه من السنن.
وكان نقي الذهن، جيد القريحة، تدل مجموعاته على تحصيله لفنون من العلوم، وقد صنف قديمًا في زمن شيخه الإمام أبي يعلى في المعتقدات وغيرها، وكتب له خطه عليها بالإصابة والاستحسان.
ولقد رأيتُ له في مجموعاته من المعتقدات ما يوافق بين المذهبين: الشافعي، وأحمد. ويقصد به تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، مما قد استقر له وجود في استنباطه، مما أرجو له به عند الله الزلفى في العقبى. فلقد كان من شيوخ الإسلام النصحاء، الفقهاء الألباء. ويبعد غالبًا أن يجتمع في شخص من التفنن في العلم ما اجتمع فيه.
وقد جمع من المصنفات في فنون العلم فقهًا وحديثًا، وفي علم القراءات والسير، والتواريخ والسنن، والشروح للفقه، والكتب النحوية إلى غير ذلك جموعًا حسنة، تزيد على ثلاثمائة مجموع. كذا قرأته محققًا بخط بعض العلماء.
وقال ابن الجوزي: ذكر عنه أنه قال: صنفتُ خمسمائة مصنف.
وقال أبو نصر بن المُجْلي، مما ذكره ابن شافع عنه: له مجموعات ومؤلفات في المذهب، وفيما سواه من المذاهب، وفي الحديث وغيره. وتراجم كتبه مسجوعة على طريقة أبي الحسين بن المنادي.
قال: وكتبت الحديث عن نحو من ثلاثمائة شيخ لم أرَ فيهم من كتب بخطه أكثر من ابن البناء.
قاد: وقال لي هو رحمه الله: ما رأيت بعيني من كتب أكثر مني.
قال: وكان طاهر الأخلاق، حسن الوجه والشيبة، محبًا لأهل العلم مكرمًا لهم.
توفي رحمه الله ليلة السبت خامس رجب سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. وصلى عليه في الجامعين: جامع القصر، وجامع المنصور. وكان الجمع فيهما متوفرًا جدًا. أمَّ الناس في الصلاة عليه: أبو محمد التميمي، وتبعه خلق كثير، وعالم عظيم. ودفن بباب حرب.
وقد غمزه ابن السمعاني، فقال: سمعت أبا القاسم بن السمرقندي يقول: كان واحد من أصحاب الحديث اسمه الحسن بن أحمد بن عبد الله النيسابوري. وكان قد سمع الكثير. وكان ابن البناء يكشط من التسميع بِوَرْيٍ، ويَمُدّ السِّين، وقد صار الحسن بن أحمد بن عبد الله البناء، كذا قيل إنه يفعل هذا.
قال أبو الفرج بن الجوزي: وهذا القول بعيد الصحة لثلاثة أوجه. أحدها: أنه قال: "كذا قيل" ولم يحك عن علمه بذلك. فلا يثبت هذا. والثاني: أن الرجل مكثر، لا يحتاج إلى استزادة لما يسمع. والثالث: أنه قد اشتهرت كثرة رواية أبي علي بن البناء. فأين ذكر هذا الرجل، الذي يقال له: الحسن بن أحمد بن عبد اللّه النيسابوري? ومن ذكره? ومن يعرفه? ومعلوم أن من اشتهر سماعه لا يخفى، فمن هذا الرجل? فنعوذ بالله من القدح بغير حجة. 1ه.

وذكر السلفي عن شجاع الذهلي، والمؤتمن الساجي: أنهما غمزاه أيضًا. ولم يفسرا. وفسره السلفي بأنه كان يتصرف في أصوله بالتغيير والحكِّ.
وذكر ابن النجار: أن تصانيفه تدل على قلة علمه، وسوء تصرفه، وقلة معرفته بالنحو واللغة. كذا قال. وابن النجار أجنبي من هذه العلوم فما باله يتكلم فيها? وقد وقع لنا الكثير من حديثه عاليًا.
فمن ذلك: ما أخبرنا به أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم- بفسطاط مصر- قال: أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، أخبرنا أبو المعالي أحمد بن محمد بن الحسين المداري، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن البناء، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا أبو علي بن صفوان، حدثنا عبد الله بن محمد القرشي حدثني الوليد بن سفيان، حدثنا ابن أبي عَديٍّ عن شُعبة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا سجنُ المؤمن وجنةُ الكافر".
ذكر ما وقفت عليه من أسماء مصنفات ابن البناء: شرح الخرقي في الفقه، الكامل في الفقه، الكافي المحدد في شرح المجرد. الخصال والأقسام، نزهة الطالب في تجريد المذاهب، آداب العالم والمتعلم، شرح كتاب الكرماني في التعبير، شرح قصيدة ابن أبي داود في السنة، المنامات المرئية للإمام أحمد: جزء، أخبار الأولياء، والعُبَّاد بمكة: جزء، صفة العباد في التهجد والأوراد: جزء، المعاملات والصبر على المنازلات: أجزاء كثيرة. الرسالة في السكوت ولزوم البيوت: جزء، سلوة الحزين عند شدة الأنين: جزء، طبقات الفقهاء، أصحاب الأئمة الخمسة، التاريخ، مشيخة شيوخه، فضائل شعبان، كتاب اللباس، مناقب الإمام أحمد، أخبار القاضي أبي يعلى: جزء، شرف أصحاب الحديث، ثناء أحمد على الشافعي، وثناء الشافعي على أحمد، وفضائل الشافعي، كتاب الزكاة وعقاب من فرط فيها: جزء، المفصول في كتاب اللّه: جزء، شرح الإيضاح في النحو الفارسي، مختصر غريب الحديث لأبي عبيد، مرتب على حروف المعجم.
ومن فوائد ابن البناء الغريبة: أنه حكى في شرح الخرقي عن بعض الأصحاب أنه يعفى عن يسير يغيّر رائحة الماء بالنجاسه، كقول الخرقي في التغير بالطاهرات.
وذكر في شرح المجرد: أن من أخر الصلاة عمدًا في السفر وقضاها في الحضر له القصر كالناسي.
قال: ولم يفرق الأصحاب بينهما. وإنما يختلفان في المأثم وعدمه. وهذا النقل غريب جدًا.
وقد ذكر نحوه القاضي أبو يعلى الصغير في شرح المذهب، ولا يعرف في هذه المسألة كلام صريح للأصحاب، إلا أن بعض الأئمة المتأخرين ذكر: أنه لا يجوز القصر للعامد، واستشهد على ذلك بكلام جماعة من الأصحاب في مسائل، وليس له فيما ذكره حجة. واللّه تعالى أعلم.
وذكر في هذا الكتاب: أن حكم اقتداء بعض المسبوقين ببعض فيما يقضونه من صلاتهم: لا فرق فيه بين الجمعة وغيرها. وأن الخلاف جارٍ في الجميع. وهذا خلاف ما ذكره القاضي وأصحابه موافقة للشافعية: أن الجمعة لا يجوز ذلك فيها وجهًا واحداً لأنها لا تقام في موضع واحد في جماعتين.
قال ابن البناء: وفي هذا عندنا نظر لأنه يجوز إقامتها مرتين، يعني للحاجة.
ومما أنشده السلفي عن ابن أبي الحسين الطيوري: أن ابن البناء أنشده لنفسه على البديهة:

إذا غُيِّبْتْ أشباحنا كـان بـينـنـا

 

رسائل صدقٍ في الضمير تراسلُ

وأرواحنا في كل شرق ومغـرب

 

تلاقَى بإخلاص الوداد تواصـلُ

وثَمَّ أمور لو تحققتَ بعـضَـهـا

 

لكنتَ لنا بالعذر فيها تُـقـابـل

وكم غائب والقلب منه مسـالـم

 

وكم زائرٍ في القلب منه بلابـلُ

فلا تجزعن يومًا إذا غاب صاحب

 

أمين، فما غاب الصديق المجاملُ

حمزة بن الكيالي البغدادي، أبو يعلى الفقيه الزاهد:

ذكره أبو الحسين فيمن تفقه على أبيه وعلق عنه، وسمع منه.
وقال في ترجمته: كان رجلاً صالحًا، تردد إلى الوالد زمانًا مواصلاً، وسمع منه علمًا واسعًا، وكان عبدًا صالحًا. وقيل: إنه كان يحفظ الاسم الأعظم.
وقال ابن خيرون: كان صالحًا زاهدًا، ملازمًا لبيته ومسجده، معتزل الخصومات والمراء.
وقال ابن شافع في تاريخه: كان رجلاً صالحًا، ملازمًا لبيته ومسجده، حافظًا للسانه، معتزلاً عن الفتن.

توفي يوم الأربعاء سابع عشر من شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ودفن بمقبرة باب الدير.

أبو بكر بن عمر الطحان:

قال أبو الحسين: حضر درس الوالد، وعلق عنه. ومات في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.

عبد الباقي بن جعفر بن شَهْلَى

الفقيه الحنبلي، أبو البركات: قال ابن السمعاني: أحد المقلِّين. حدَّث بشيء يسير عن أبي إسحاق البرمكي، وروى عنه هبة الله السَقَطي في معجمه. وذكر القاضي أبو الحسين، في أسماء من تفقه على أبيه وعلق وسمع الحديث: أبا البركات بن شهلى، وهو هذا. رأيت ذلك في طبقة سماعه.
قال القاضي أبو يعلى: وهو ابن شَهلِي بالياء.

علي بن محمد بن الفرج بن إبراهيم البزاز، المعروف بابن أخي نصر العكبري

ذكره ابن الجوزي في الطبقات، وقال: سمع من أبي علي بن شاذان والحسن بن شهاب العكبري. وكان له تقدم في القرآن والحديث، والفقه والفرائض، وجمع إلى ذلك النسك والورع.
وذكر ابن السمعاني نحو ذلك، وقال: كان فقيه الحنابلة بعكبرا، والمفتي بها. وكان خيرًا، ورعًا متزهدًا، ناسكاً كثير العبادة. وكان له ذكر شائع في الخير، ومحلّ رفيع عند أهل بلدته


وتوفي في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.


وذكر ابن شافع وغيره: أنه حدث بشيء يسير، وأن وفاته كانت يوم الإثنين ثالث عشر شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة بعكبرا.


روى عنه إسماعيل بن السمرقندي، وأخوه عبد الله وغيرهُما. وسمع منه مكي الرُّميلي وجماعة. ومما أنشده لنفسه:

اعجبْ لمحتكر الدنـيا وبـانـيهـا

 

وعن قليل على كرهٍ يُخـلِّـيهـا

دارٌ عواقب مفروحاتـهـا حَـزنٌ

 

إذا أعارت أساءت في تقاضيهـا

يا من يُسـرُّ بـأيامٍ تـسـيرُ بِـه

 

إلى الفـنـاء وأيام يُقَّـضـيهـا

قف في منازل أهل العز معتبـراً

 

وانظرْ إلى أي شيءٍ صار أهلوها

صاروا إلى جدث قَفرٍ، محاسنهـم

 

على الثرى ودَوِيُّ الدُودِ يَعلوهـا

طاهر بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن القواس البغدادي

الفقيه الزاهدُ الوَرعُ، أبو الوفاء: وُلد سنة تسعين وثلاثمائة. وقرأ القران على أبي الحسن الحمامي، وسمع الحديث من هلال الحفار، وأبي الحسين بن بشران، وأبي نصر بن الزينبي، وأبي الحسين بن الفضل القطان، وأبي سهل العكبري وغيرهم.
وتفقه أولاً على القاضي أبي الطيب الطبري الشافعي، ثم تركه وتفقه على القاضي أبي يعلى، ولازمه حتى برع في الفقه، وأفتى ودرس. وكانت له حلقة بجامع المنصور للفتوى والمناظرة. وكان يلقي المختصرات من تصانيف شيخه القاضي أبي يعلى درسًا، ويلقي مسائل الخلاف درسًا. وكان إليه المنتهى في العبادة والزهد والورع.
ذكر ابن ناصر: أنه كان زاهد وقته في الطبقة الثانية عشرة.
وذكره ابن السمعاني في تاريخه، فقال: من أعيان فقهاء الحنابلة وزهادهم. كان قد أجهد نفسه في الطاعة والعبادة، واعتكف في بيت الله خمسين سنة، وكان يواصل الطاعة ليله بنهاره، وكان قارئاً للقرآن، فقيهًا ورعًا، خشن العيش انتهى كلامه.
وكانت له كرامات ظاهرة.
ذكر ابن شافع في ترجمة صاحبه أبي الفضل بن العالمة الإسكافي المقرىء: أنه كان يحكي من كرامات الشيخ أبي الوفاء أشياء عجيبة.
منها: أنه قال: كنت أحمل معي رغيفين كل يوم، فأعبر- يعني في السفينة- برغيف، وأمشي إلى مسجد الشيخ فأقرأ، ثم أعود ماشيًا إلى ذلك الموضع، فأنزل بالرغيف الآخر. فلما كان يوم من الأيام، أعطيتُ الملاح الرغيف، فرمى به واستقله، فألقيتُ إليه الرغيف الآخر، وَتشوش قلبي لما جرى، وجئت الشيخ، فقرأت عليه عادتي، وقمتُ على العادة، فقال لي:- قف- ولم تجر عادته قط بذلك- ثم أخرج من تحت وطائِه قرصًا، فقال: اعبُر بهذا. فلحقني من ذلك أمرٌ بانَ عليَّ، ومضيتُ فعبرتُ به. وكان ابن العالمة- هذا- قد قرأ على الشيخ أبي الوفاء القرآن بالروايات.
وقال أبو الحسين، وابن الجوزي في الطبقات: كانت له حلقة بجامع المنصور يفتي ويعظ، وكان يدرس الفقه، ويقرىء القرآن. وكان زاهدًا أمارًا بالمعروف، نهاءً عن المنكر، أقام في مسجده نحوًا من خمسين سنة، وأجهد نفسه في العبادة وخشونة العيش.

قال ابن السمعاني: سمعتُ عبد الوهاب بن المبارك الحافظ يقول: سأل واحدٌ أبا الوفَاء بن القواس عن مسألة في حلقته بجامع المنصور، وكان الشيخ ممن قد رأى السائل في الحمام بلا مئزر، مكشوف العورة، فقال له: لا أجيبك عن مسألتك حتى تقوم ههنا في وسط الحلقة، وتخلع قميصك وسراويلك، وتقف عريانًا، فقال السائل: يا سيدنا، أنا أستحي، وهذا مما لا يمكن، فقال له: يا فلان، فهؤلاء الحضور، أو جماعة منهم الذين كانوا في الحمام، ودخلتَ مكشفًا بلا مئزر، إيش الفرق بين جامع المنصور والحمام? فاستحيى الرجل من ذلك. ثم ذكر فصلاً طويلاً في النهي عن كشف العورة، وأجاب عن سؤاله.
وقال ابن عقيل: كان حسن الفتوى، متوسطًا في المناظرة في مسائل الخلاف إمامًا في الإقراء، زاهدًا شجاعًا مقدامًا، ملازمًا لمسجده، يهابه المخالفون، حتى إنه لما توفي ابن الزوزني، وحضره أصحاب الشافعي- على طبقاتهم وجموعهم- في فورة أيام القشيري وقوتهم بنظام الملك حضر، فلما بلغ الأمر إلى تلقين الحفار قال له: تنحّ حتى ألقنه أنا، فهذا كان على مذهبنا، ثم قال: يا عبد الله وابن أمته، إذا نزل عليك ملكان فظّان غليظان، فلا تجزع ولا تُرَعْ، فإذا سألاك فقل: رضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً لا أشعري ولا معتزلي بل حَنبلي سُنِّي. فلم يتجاسر أحد أن يتكلم بكلمة ولو تكلم أحد لفَضَخ رأسَه أهلُ باب البصرة، فإنهم كانوا حوله قد لَقّن أولادهم القراَن والفقه، وكان في شوكة ومنعَة، غير معتمد عليهم، لأنه أمة في نفسه.
حدّث عن الشيخ أبي الوفاء جماعة، منهم: عبد الوهاب الأنماطي، وأبو القاسم ابن السمرقندي، وعليّ بن طِراد الزينبي، والقاضي أبو بكر الأنصاري، وغيرهم.
وتوفي يوم الجمعة سابع عشر شعبان سنة ست وسبعين وأربعمائة. ودفن إلى جانب الشريف أبي جعفر بدكة الإمام أحمد رضي اللّه عنه، ليس بينه وبينه غير قبر الشريف رحمه الله تعالى.
قرأ على أبي عبد اللّه محمد بن إسماعيل الأيوبي- بالقاهرة وأنا أسمع-: أخبرنا أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا أبو علي بن أبي القاسم بن الحريف، أخبرنا القاضي أبو بكر بن محمد بن عبد الباقي، أخبرنا أبو الوفاء بن القواس، أخبرنا أبو سهل العكبري، حدثنا إبراهيم بن أحمد الخرقي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سابور، حدثنا إسحاق بن إسرائيل، حدثنا الفضل بن حرب البجلي، حدثنا عبد الرحمن بن بديل عن أبيه عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لكل شيء حلية، وإنَّ حليةَ القرآن: الصوتُ الحسن".
ذكر أبو الحسن بن البناء في كتاب "أدب العالم والمتعلم": أنه حدث في زمانه مسألة، وهي: هل يجوز أن يقرأ على المحدّث الثقة كتاب، ذكر أنه سماعه، وليس هناك خط يشهد به من شيخ ولا غيره? وأن فقهاء عصرهم اتفقوا على جواز ذلك وكتبوا به خطوطهم، وذكر خلقًا ممن أفتى بذلك. أولهم: أبو محمد التميمي من أصحابنا. وقال: الخط عادة محدثة، استظهرها المحدثون من غير إيجاب لها.
وكتب أبو إسحاق الشيرازي تحت خطه: جوابي مثله.
قال ابن البناء: وكتبتُ أنا: المحدث الثقة: القول قوله في ذلك، ولو رأوا سماعه في كتاب، حتى يقول المحدّث: "ما سمعته " لم يجز أن يقرأ عليه والسلف رضي الله عنهم، على هذا كانوا يحدثون بالأحاديث، وأكثرهم يذكرها من حفظه، ويسمعونها منهم، وإن لم يظهروا خط من حدّثهم به.
قاد: وبلغني أن الشريف الأجل أبا جعفر بن أبي موسى كذلك أفتى.
وذكر أجوبة كثيرة، منها: جواب ابن القواس. ولفظه: الظاهر العدالة، يقنع بمجرد قوله، ولا يطالب بخط من أسند عنه من شيوخه، وكتبه ابن القواس الحنبلي.
وذكر مثل ذلك عن قاضي القضاة أبي عبد اللّه بن الدامغاني وأبي نصر بن الصباغ، وأبي بكر الشامي وغيرهم.
وذكر أن مثل هذه المسألة وقع مرتين فيما تقدم، وأن الفقهاء والمحدثين اتفقوا على السماع بذلك، منهم: الحافظ أبو عبد الله الصوري قال: وامتنع من السماع بذلك نفر، لا يعتد بخلافهم. قال: ولا أعلم أحدًا يخالف في هذه المسألة من فقهاء العصر والمتقدمين قبلهم، من أئمة أصحاب الحديث: المتقدمين العلماء، والمتأخرين البلغاء

قلتُ: وقد وقع في المائة السابعة مثل هذه المسألة في صحيح مسلم لما قال القاسم الإربلي: سمعتُه من المؤيد الطوسي، فقُبل ذلك منه. وسُمع عليه الكتاب غير مرة، وسمعه منه الحفاظ والفقهاء. وأفتى بالسماع عليه جماعة، منهم: قاضي القضاة شمس الدين بن أبي عمر المقدسي.
 
عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الوهاب بن جلبة

البغدادي ثم الحراني الجزار، أبو الفتح قاضي حَرّان: اشتغل ببغداد، وتفقه بها على القاضي أبي يعلى، وسمع الحديث من البرقاني، وأبي طالب العشاري، وأبي علي بن شاذان، وأبي علي بن شهاب العكبري، والقاضي أبي يعلى، وغيرهم. ثم استوطن حران، وصحب بها الشريف أبا القاسم الزيدي، وأخذ عنه، وتولى بها القضاء.
قال ابن السمعاني: بغدادي سكن حران، وولي بها القضاء، وعمل المظالم، وكان فقيهًا واعظًا فصيحًا.
وذكره أبو الحسين في الطبقات، ونسبه إلى حران.
ورأيت بخط نفسه في نسبه "الحراني".
قال أبو الحسين: وقدم بغداد من ثغر حران قاصدًا لمجلس الوالد، وطالبًا لدرس الفقه عليه، فتفقه عليه، وكتب كثيرًا من مصنفاته. وكان يلي قضاء حرّان من قبل الوالد، كتب له عهدًا بولاية القضاء بحران، وكان ناشرًا للمذهب، داعيًا إليه. وكان مفتي حران، وواعظها وخطيبها ومُدَرسها.
قلتُ: وله تصانيف كثيرة، قال أبو عبد الله بن حمدان: اختصر المجرد، وله: "رؤوس مسائل" و "أصول فقه" و "أصول دين". وله أيضاً -مما لم يذكره ابن حمدان-: "كتاب النظام بخصال الأقسام".
وسمع منه الحديث جماعة، منهم: هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي، ومكي الرُّمَيْلي، وغيرهما. وفي زمانه كانت حران لمسلم بن قريش صاحب الموصل، وكان رافضيًا، فعزم القاضي أبو الفتح على تسليم حرّان إلى "جبق" أمير التركمان لكونه سُنيًا، فأسرع ابن قريش إلى حران وحصرها، ورماها بالمنجنيق، وهدم سورها وأخذها، ثم قتل القاضي أبا الفتح وولديه، وجماعة من أصحابه، وصلبهم على السور سنة ست وسبعين وأربعمائة- وقبورهم ظاهرة بحران تُزار رحمة الله عليهم.
أنبأتني زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم المقدسي عن عبد الرحمن بن مكي الحاسب، أخبرنا جدي أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي قال: أخبرنا أبو الفتح أحمد بن محمد بن حامد الأسدي الحراني- بماكِسينَ، وقد ولي قضاءها- قال: كتب إليَّ أبو طالب محمد بن علي بن الفتح الشعاري من بغداد. وحدثنا عنه أبو الفتح عبد الوهاب بن أحمد بن جلبة القاضي- بحران إملاء- حدثنا أبو الحسين محمد بن عبد الله الدقاق، حدثنا الحسين بن صفوان البرذعي حدثنا عبد الله بن محمد بن عبيد القرشي، حدثنا محمد بن بشير، حدثنا عبد الرحمن بن جرير حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتقى الله تعالى كَلَّ لسانُه ولم يشف غيظه".
ذكر أبو العباس أحمد بن تيمية في أول "شرح العمدة": أن أبا الفتح بن جَلَبة كان يختار استحباب مسح الأذنين بماء جديد، بعد مسحهما بماء الرأس. وهو غريب جدًا.
وذكر ابن حمدان عنه أنه قال: الحق أن الحروف كلها قديمة، وتركيبها في غير القرآن محدث، إن قلنا: اللُغة اصطلاح، وإن قلنا: توقيف، فقديمة.
قال يحيى بن منده في مناقب الإمام: وَجَدْتُ بخط المؤتمن البغدادي الشيخ الصالح الثقة المتدين رحمه الله، قال: قال أبو يعلى الحنبلي البغدادي: أخرج إليّ أبو الفتح عبد الوهاب بن أحمد الحراني صاحبنا هذه الأبيات، قال: وجدتها في كتاب المصباح، قال: أنشدني أبو منصور الفقيه لأحمد بن محمد بن حنبل رحمه اللّه:

يا طـالـبَ الـعـلـم، صـارمْ كـلَّ بـطـــال

 

وكـل غـــادٍ إلـــى الأهـــواء مَـــيَّالِ

واعـمـل بـعـلـمـك سـرًا أو عــلانـــية

 

ينـفـعـك يومًـا عـلـى حـال مـن الـحـالِ

ولا تميلنَّ يا هذا إلى بدعتضل أصحابها بالقيل والقالِ

 

 

خذ ما أتاك به ما جاء من أثر

 

شِبـهًـا بـشـبـهٍ وأمـثـالاً بـأمـــثـــالِ

ألا فـكـنْ أثـريّاً خـالـصًـا فــهـــمًـــا

 

تعـــشْ حـــمـــيدًا ودَعْ آراء ضـــلالِ

"جَلَبَة" بفتح الجيم واللاَّم والباء الموحدة- قيده ابن نقطة وغيره.
وقد روى هذه الحكاية ابن النجار من طريق أبي منصور الخياط، عن القاضي أبي يعلى، قال: أخرج إليّ أبو الفتح عبد الوهاب بن أحمد هذه الأبيات قال: وجدتها في كتاب المصباح.

قال: أنشدني علي بن منصور، ولم يذكر أحمد. وهذا هو الصحيح.

عبد الله بن عطاء بن عبد الله بن أبي منصور بن الحسن بن إبراهيم الإبراهيمي

الهروي، المحدث الحافظ، أبو محمد: أحد الحفاظ المشهورين الرحالين، سمع بهراة من عبد الواحد المليحي وشيخ الإسلام الأنصاري، وببوشنج من أبي الحسن الداودي، وبنيسابور من أبي القاسم القشيري، وأبي عثمان النميري وجماعة، وببغداد من أبي الحسين بن النقور وطبقته، وبأصبهان من عبد الرحمن وعبد الوهاب ابني منده، وجماعة.


وكتب بخطه الكثير، وخرج التخاريج للشيوخ، وَحَدث.


وروى عنه أبو محمد سبط الخياط، وأبو بكر بن الزعفراني. وآخر من روى عنه: أبو المعالي بن النحاس، ووثقه طائفة من حفاظ وقته في الحديث، منهم: المؤتمن الساجي.


وقال شهردار الديلمي عنه: كان صدوقًا حافظًا، متقنًا واعظاً، حسن التذكير.


وقال يحيى بن منده: كان أحد من يفهم الحديث ويحفظ، صحيح النقل، كثير الكتابة، حسن الفهم، وكان واعظًا حسن التذكير.


وقال خميس الجوزي: رأيته ببغداد ملتحقًا بأصحابنا، ومتخصصًا بالحنابلة، يُخرّج لهم الأحاديث المتعلقة بالصفات، ويرويها لهم. وأضداده من الأشعرية يقولون: هُو يضعها. وما علمتُ فيه ذلك.

وكان يعرفه. انتهى.


وقد تكلم فيه هبة الله السقطي، والسقطي مجروح، لا يقبل قوله فيه مقابلة هؤلاء الحفاظ. وقد رد كلامه فيه ابن السمعاني وابن الجوزي وغيرهما.


وخرّج الإبراهيمي شيوخ الإمام أحمد وتراجمهم.


وتوفي في طريق مكة بعد عوده منها، على يومين من البصرة، سنة ست وسبعين وأربعمائة. رحمه الله تعالى.

أحمد بن علي بن عبد الله المقرىء

الصوفي المؤدب، أبو الخطاب البغدادي: وُلد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. قرأ على أبي الحسن الحمامي وغيره. تلا على الحمامي المذكور بالسبع. وقرأ عليه خلق كثير، منهم: أبو الفضل بن المهتدي، وهبة اللّه بن المُجْلي، وغيرهما.


وروى عنه الحديث أبو بكر بن عبد الباقي وغيره. وله مصنف في السبعة، وقصيدة في السنة، رواها عنه عبد الوهاب الأنماطي وغيره، وقصيدة في عدد الآي. وكان من شيوخ الإقراء ببغداد المشهورين بتجويد القراءة وتحسينها.


توفي يوم الثلاثاء سادس عشرين رمضان سنة ست وسبعين وأربعمائة. ودفن بباب حرب.
أُنبِئْتُ عن القاضي أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي، أنبأنا عمر بن محمد بن طَبَرْزَد، أبنأنا أبو عبد اللّه الحسين بن علي المقرىء قال: أنبأنا أبو الخطاب الصوفي قال: كنت على مذهب الإمام الشافعي، وكان عادتي: أن لا أرجّعَ في الأذان، ولا أقنت في صلاة الفجر، غير أنني أجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. وكان عادتي أيضًا ليلة الغيم: أنوي من رمضان كما جرت عادة أصحاب أحمد، فلما كان في بعض الليالي: رأيت كأنني في دار حسنة جميلة، وفيها من الغلمان والخدم والجند خلق كثير، وهم صغار وكبار، والدخل والخرج، والأمر والنهي. فإذا رجل بهي شيخ على سرير، والنور على وجهه ظاهر، وعلى رأسه تاج من ذهب مرصع بالجوهر، وثياب خضر تلمع. وكان إلى جنبي رجل ممنطق يشبه الجند، فقلت له: بالله هذا المنزل لمَن?. قال لمن ضرب بالسوط حتى يقول: القرآن مخلوق. قلت أنا في الحال: أحمد بن حنبل? قال هو ذا. فقلت: واللّه إن في نفسي أشياء كثيرة، أشتهي أن أسأله عنها، وكان على سرير، وحول السرير خلق قيام. فأومأ إليّ أن اجلسْ، وسَلْ عما تريد. فمنعني الحياء من الجلوس. فقلت: يا سيدي، عادتي لا أرجِّع في الأذان، ولا أقنت في صلاة الفجر، غير أنني أجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، وأخشع. فقال بصوت رفيع عال: أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتقى منك وأخشع، وأكثرهم لم يجهروا بقراءتها. فقلت: عادتي ليلة الغيم أصوم، كما قال الإمام أحمد بن حنبل. فقال اعتقد ما شئت من أي مذهب تدين الله به، ولا تكن مَعْمَعِيًّا. وأنا أرعدُ. فلما أصبحتُ أعلمتُ من يُصَلي ورائي بما رأيتُ، ولم أجهر بعدُ، ودعاني ذلك إلى أن قلتُ هذه القصيدة وهي:

حقيقة إيماني: أقول لتَسـمـعـوا

 

لعلَي به يوماً إلى اللّـه أرجـع

بأن لا إله غير ذي الطول وحـده

 

تعالى، بلا مثل، له الخلق خضع

وليس بمولـود، ولـيس بـوالـد

 

يرى ما عليه الخلق طرا، ويسمع

وذكر أبياتًا إلى أن قال:

وإن كتاب اللـه لـيس بـمـحـدثٍ

 

على ألسن تتلو، وفي الصدر يجمعُ

وما كتب الحفاظ في كل مصحـفٍ

 

كذلك إن أبصرتَ، أو كنت تسمـعُ

وللجبل الرحمـن لـمـا بـدا لـه

 

تدكدك خوفاً كالشظى يتـقـطـعُ

وكلّمَ موسى ربه فـوق عـرشـه

 

على الطور تكليماً، فما زال يخضعُ

وذكر بقية الاعتقاد إلى أن قال:

عن مذهبي إن تسألوا فابنُ حنبلٍبه أقتدي ما دمتُ حياً أمتَّعُ

وذكر باقي القصيدة.

أحمد بن مرزوق بن عبد الله بن عبد الرزاق الزعفراني

المحدث أبو المعالي: سمع الكثير، وطلب بنفسه. وكتب بخطه.
قال أبو علي البرداني: كان همه جمع الحديث وطلبه. حدّث باليسير عن أحمد بن محمد بن عمر بن الأخضر، وأبي الحسين أحمد بن محمد بن الحسن العكبري، وأبي الفضل هبة الله بن محمد الأزدي.

روى عنه أبو علي البرداني، وقال: إنه مات ليلة الثلاثاء مستهل المحرم سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. ودفن من الغد بباب حرب. وكان شابًا. انتهى.
وهو أخو أبي الحسن محمد الشافعي الذي هو من أصحاب الخطيب أبي بكر.

شافع بن صالح بن حاتم بن أبي عبد الله الجيلي، أبو محمد:

قدم بغداد بعد الثلاثين وأربعمائة. وسمع من أبي علي بن المذهب، والعشاري، وابن غيلان، والقاضي أبي يعلى، وعليه تفقه.


وكتب معظم تصانيفه في الأصول والفروع. ودرس الفقه بمسجد الشريف أبي جعفر بدرب المطبخ شرقي بغداد، وكان يَؤُم به أيضًا. وخَلَفَه أولاده من بعده في ذلك، حتى عرف المسجد بهم.
قال أبو الحسين، وابن الجوزي: كان متعففًا متقَشفًا ذا صلاح.


قال ابن السمعاني: كان ذا دين وصلاح، وتعفف وتقشف، حسن الطريقة، صحيح الأصول. كتب التصانيف في مذهب الإمام أحمد كلها. ودرس الفقه، وروى لنا عنه عبد الوهاب الأنماطي.


وتوفي يوم الثلاثاء سادس عشرين صفر سنة ثمانين وأربعمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب رحمه الله تعالى.

عبد الله بن نصر الحجازي، أبو محمد الزاهد:

قال ابن الجوزي: سمع الحديث، وصحب الزهاد، وتفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل.

وكان خشن العيش متعبدًا. وحج على قدميه بضع عشر حجة.


وتوفي في ربيع الأول سنة ثمانين وأربعمائة. ودفن بباب حرب.

 

محمد بن علي بن الحسين بن القيم الخزاز الخريمي أبو بكر الحنبلي:

طلب الحديث. وسمع من أبي الغنائم بن المأمون، والجوهري، والعشاري، وغيرهم. وكتب بخطه الحديث والفقه. وأظنه جالس القاضي أبا يعلى.
وحدّث باليسير. سمع منه أبو طاهر بن الرحبي القطان، وأبو المكارم الظاهري.
توفي يوم الأحد سلخ ذي الحجة آخر يوم من سنة ثمانين وأربعمائة. ودفن بباب حرب. رحمه الله تعالى.

عبد اللّه بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن جعفر بن منصور بن مَتَّ الأنصاري

الهروي، الفقيه المفسر الحافظ، الصوفي الواعظ، شيخ الإسلام أبو إسماعيل: وهو من ولد أبي أيوب زيد بن خالد الأنصاري، صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ولد في شعبان سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
ذكره عبد القادر الرهاوي في كتاب "المادح والممدوح" وهو مجلد ضخم يتضمن مناقب شيخ الإسلام الأنصاري وما يتعلق بها، قال: رأيته في تاريخ أبي عبد اللّه الحسين بن محمد الهروي الكتبي، الذي ذيل به على تاريخ إسحاق القَرَّاب الحافظ، وذكر: أنه سأل أبا إسماعيل عن سنه. فأخبره بذلك. وكذا ذكر ابن نقطة.
وهذا أصح مما ذكره ابن الجوزي: أنه وُلد في ذي الحجة سنة خمس وتسعين.
وذكر عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في ذيل تاريخ نيسابور: أنه ولد سنة ست وتسعين.
وسمع الحديث بهراة من يحيى بن عمار السجزي، وأخذ منه علم التفسير، وأبي منصور الأزدي، وأبي الفضل الجارودي الحافظ، وأخذ منه علم الحديث، وشعيب البوشنجي وغيرهم. وبنيسابور من أبي سعيد الصيرفي، وأبي نصر المفسر المقرىء، وأبي الحسن الطرازي، وجماعة من أصحاب الأصم. ورأى القاضي أبا بكر الحيري، وحضر مجلسه، ولم يسمع منه. وكان يقول: تركتُه للّه. وكان قد سمع منه في مجلسه ما ينكره عليه من مخالفة السنة. ذكره الرهاوي عن السلفي، عن المؤتمن الساجي، عنه.
وسمع بطوس وبسطام، من خلق يطول ذكرهم. وصحب الشيوخ، وتأدّب بهم. وخرج الأمالي والفوائد الكثيرة لنفسه ولغيره من شيوخ الرواة. وأملى الحديث سنين.
وصنف التصانيف الكثيرة، منها: كتاب "ذم الكلام" وكتاب "الفاروق" وكتاب "مناقب الإمام أحمد" وكتاب "منازل السائرين" وكتاب "علل المقامات" وله كتاب في "تفسير القرآن" بالفارسية جامع، و "مجالس التذكير" بالفارسية حسنة، وغير ذلك.
وكان سيدًا عظيمًا، وإمامًا عالمًا عارفًا، وعابدًا زاهدًا، ذا أحوال ومقامات وكرامات ومجاهدات، كثير السهر بالليل، شديد القيام في نصر السنة والذب عنها والقمع لمن خالفها. وجرى له بسبب ذلك محن عظيمةْ. وكان شديد الانتصار والتعظيم لمذهب الإمام أحمد.
قال ابن السمعاني: سمعت أبا طاهر أحمد بن أبي غانم الثقفي، سمعت صاعد ابن سيار الحافظ، سمعت أبا إسماعيل عبد اللّه بن محمد الأنصاري الإمام يقول: "مذهبُ أحمد. أحمدُ مَذْهَب".

وقال محمد بن طاهر الحافظ في كتابه "المنثور من الحكايات والسؤالات": سمعت عبد الله بن محمد الأنصاري يقول: لما قصدت الشيخ أبا الحسن الجركاني الصوفي وعزمت على الرجوع وقع في نفسي أن أقصد أبا حاتم بن خاموش الحافظ بالري، وألتقي به. وكان مقدم أهل السنة بالري.
وذلك أن السلطان محمود بن سَبكْتَكِين لما دخل الرّيَّ قتل بها الباطنية ومنع سائر الفرق الكلام على المنابر غير أبي حاتم. وكان من دخل الري من سائر الفرق يعرض اعتقاده عليه، فإن رضيه أذن له في الكلام على الناس وإلا منعه، فلما قربت من الري كان معي في الطريق رجل من أهلها، فسألني عن مذهبي. فقلت: أنا حنبلي، فقال: مذهبٌ ما سمعتُ به، وهذه بدعة. وأخذ بثوبي، وقال: لا أفارقك حتى أذهب بك إلى الشيخ أبي حاتم. فقلت: خيرة فإني كنت أتعب إلى أن ألتقي به، فذهب بي إلى داره.
وكان له ذلك اليوم مجلس عظيم، فقال: أيها الشيخ، هذا الرجل الغريب سألتُه عن مذهبه، فذكر مذهبًا لم أسمع به قط. قال: ما قال. قال: أنا حنبلي. فقال: دعْهُ، فكل من لم يكن حنبليًا فليس بمسلم، فقلت: الرجل كما وُصفَ لي. ولزمته أيامًا، وانصرفت.
وإنما عُني أبو حاتم في الأصول.
وذكر عبد القادر الرهاوي: أخبرنا أبو سعد الصايغ: سمعت عبد الجبار بن أبي الفضل الصيرفي، سمعت جماعة من أصحاب شيخ الإسلام الأنصاري يقولون: سمعنا شيخنا شيخ الإسلام أبا إسماعيل يقول: فذكر أبياتًا بالفارسية تفسيرها بالعربية:

إلهنا مَرْئِيٌ على العرش مُستوٍ

كلامُه أزلي رَسُوله عَربيّ

كل من قال غير هذا أشْعَرِيّ

مَذهبُنا مَذهَبٌ حنبلي

قال عبد القادر: سمعت أبا عروبة عبد الهادي بن محمد الزاهد بسجستان يقول: سمعت شيخ الإسلام أبا نصر هبة الله بن عبد الجبار بن فاخر يقول: قال لي شيخ الإسلام- يعني الأنصاري- كيف تفعلون في القنوت? قلت: أوصاني أبي أن أقنت في الوتر. قال: وما قال لك: لا تقنت في الصبح. قلت: لا. قال: فما أنصفك.
وذكر ابن طاهر الحافظ في كتابه المذكور قال: سمعت الإمام عبد اللّه بن محمد الأنصاري يُنشد على المنبر في يوم مجلسه بهراة:

أنا حنبليٌٌّّ ما حييت وإن أمت

 

فَوَصِيتي للناس أن يَتَحَنْبَلُوا

وَلشيخ الإسلام قصيدة نونية طويلة مشهورة ذكر فيها أصول السنة ومدح أحمد وأصحابه. وقد أنبأتني بها زينب بنت أحمد، عن عجيبة بنت أبي بكر، عن أبي جعفر محمد بن الحسين بن الحسن الصيدلاني. قال: أنشدنا شيخ الإسلام فذكر القصيدة إلى أن قال:

وإماميَ الـقَـوّام لـلـه الّـذِي

 

دفنوا حَميدَ الشأن في بـغـدانِ

جمع التقى والزهد في دُنـياهـم

 

والعلم بعـد طـهـارة الأردانِ

خطمُ النبي، وصيرفيُّ حـديثـه

 

ومُفلِّقٌ أعرافَـهـا بـمـعـانِ

حبْرُ العراق، ومحنةٌ لذوي الهوى

 

يدري ببغضته ذَوُو الأضغـانِ

عرفَ الهدى فاختار ثوبي نُصرَة

 

وشجى بمُهجتِه عُرَى عِرفـانِ

عُرِضَتْ له الدنيا فأعرض سالماً

 

عنها كفعل الراهب الخمصـانِ

هانت عليه نفـسُـه فـي دِينـهِ

 

ففدى الإمامٌ الدينَ بالجـثـمـانِ

لله ما لقي ابن حنبـلَ صـابـرًا

 

عزماً وينصـره بـلا أعـوانِ

أنا حنبلي ما حـييت وإن أمُـت

 

فوصيّتي ذاكم إلـى إخـوانـي

إذْ دِينـه دينـي ودينـي دينُــه

 

ما كـنـت إمّـعَةً لـه دينـانِ

وقال ابن طاهر: سمعت الإمام أبا إسماعيل الأنصاري بهراة يقول: عرضت على السيف خمس مرات، لا يقال لي: ارجع عن مذهبك، لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك، فأقول: لا أسكت.

قال: وحكى لنا أصحابنا أن السلطان "ألب أرسلان" حضر هراة، وحضر معه وزيره أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق، فاجتمع أئمة الفريقين من أصحاب الشافعي، وأصحاب أبي حنيفة، للشكاية من الأنصاري، ومطالبته بالمناظرة. فاستدعاه الوزير. فلما حضر قال: إن هؤلاء القوم اجتمعوا لمناظرتك: فإن يكن الحق معك رجعوا إلى مذهبك، وإن يكن الحق معهم: إما أن ترجع، وإما أن تسكت عنهم. فقام الأنصاري وقال: أنا أناظر على ما في كمَّيَّ. فقال له: وما في كميك? فقال: كتاب الله، وأشار إلى كمه اليمين، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشار إلى كمه اليسار، وكان فيه الصحيحان. فنظر إلى القوم كالمستفهم لهم، فلم يكن فيهم من يمكنه أن يناظره من هذه الطريق.
قال: وسمعت أحمد بن أميرجه القلانسي خادم الأنصاري يقول: حفرت مع الشيخ للسلام على الوزير أبي علي الطوسي، وكان أصحابه كلفوه بالخروج إله، وذلك بعد المحنة، ورجوعه من بلخ، فلما دخل عليه أكرمه وبَجَّلَه، وكان في العسكر أئمة من الفريقين في ذلك اليوم، وقد علموا أنه يحضر، فاتفقوا جميعًا على أن يسألوه عن مسألة بين يدي الوزير: فإن أجاب بما يجيب به بهراة سقط من عين الوزير وإن لم يجب سقط من عيون أصحابه وأهل مذهبه. فلما دخل واستقر به المجلس انتدب له رجل من أصحاب الشافعي، يعرف بالعلوي الدبوسي، فقال: يأذن الشيخ الإمام في أن أسأل مسألة? فقال: سل، فقال: لمَ تَلعَنُ أبا الحسن الأشعري? فسكت، وأطرق الوزير لِمَا عَلِمَ من جوابه. فلما كان بعد ساعة، قال له الوزير: أجبه، فقال: لا أعرف الأشعري. وإنما ألعنُ من لم يعتقد أن اللّه عز وجل في السماء، وأن القرآن في المصحف، وأن النبي اليوم نبي. ثم قام وانصرف، فلم يمكن أحد أن يتكلم بكلمة من هيبته وصلابته وصولته. فقال الوزير للسائل ومن معه: هذا أردتم? كنا نسمع أنه يذكر هذا بهراة فاجتهدتم حتى سمعناه بآذاننا: ما عسى أن أفعل به. ثم بعث خلفه خلعًا وصله فلم يقبلها. وخرج من فوره إلى هراة ولم يلبث.
قال ابن طاهر: وسمعت أصحابنا بهراة يقولون: لما قدم السلطان "ألب أرسلان" هراة في بعض قدماته اجتمع مشايخ البلد ورؤساؤه، ودخلوا على الشيخ أبي إسماعيل الأنصاري، وسلموا عليه، وقالوا: قد ورد السلطان، ونحن على عزم أن نخرج ونسلم عليه، فأحببنا أن نبدأ بالسلام على الشيخ الإمام، ثم نخرج إلى هناك. وكانوا قد تواطأوا على أن حملوا معهم صنمًا من الصُّفْر صغيرًا، وجعلوه في المحراب تحت سجادة الشيخ. وخرجوا وخرج الشيخ من ذلك الموضع إلى خلوته.
ودخلوا على السلطان واستغاثوا من الأنصاري، وقالوا له: إنه مجسم. فإنه يترك في محرابه صنمًا، ويقول: إن اللّه عز وجل على صورته. وإن يبعث السلطان الآن يجد الصنم في قبلة مسجده. فعظم ذلك على السلطان، وبعث غلامًا ومعه جماعة. ودخلوا الدار، وقصدوا المحراب، وأخذوا الصنم من تحت السجادة، ورجع الغلام بالصنم، فوضعه بين يدي السلطان. فبعث السلطان بغلمان، وأحضر الأَنصاري: فلما دخل رأى مشايخ البلد جلوسًا، ورأى ذلك الصنم بين يدي السلطان مطروحًا، والسلطان قد اشتد غضْبه. فقال له: ما هذا? قال: هذا صنم يعمل من الصفر شِبه اللُّعبة. فقال: لستُ عن هذا أسألك، فقال. فعن ماذا يسأل السلطان. قال: إنَّ هؤلاء يزعمون أنك تعبد هذا الصنم، وأنت تقول: إن اللّه عز وجل على صورته، فقال الأنصاري: سجانك هذا بهتان عظيم. بصوتٍ جَهوري وصولة. فوقع في قلب السلطان أنهم كذبوا عليه، فأمِر به فأخرجَ إلى داره مُكرَمًا. وقال لهم: اصدقوني القصة، أو أفعل بكم وأفعل، وذكر تهديدًا عظيماً، فقالوا: نحنُ في يد هذا الرجل في بليةِ من استيلائه علينا بالعامة، وأردنا أن نقطع شرَّه عنا. فأمر بهم، ووكل بكل واحدٍ منهم، ولم يرجع إلى منزله حتى كتب خطه بمبلغ عظيم من المال يؤديه إلى خزانة السلطان جنَايَة، وسلموا بأرواحهم بعد الهوان العظيم.
وقد جرى لشيخ الإسلام محن في عمره، وشرد عن وطنه مدّة.

فمن ذلك: أن قومًا من المتصوفة بهراة عَاثوا وأفسدوا بأيديهم على وجه الإنكار، فنسب ذلك إلى الشيخ، لم يكن بأمره ولا رضاه. فاتفق أكابر أهل البلد على إخراج الشيخ وأولاده وخدمه، فأخرجوه يوم الجمعة عشرين رمضان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة قبل الصلاة، لم يمهل للصلاة. فأقام بقرب البلد، فلم يرضوا منه بذلك فخرج إلى بوشنج، وكتب أهلُ هراة محضراً بما جرى وأرسلوه إلى السلطان، فجاء جَواب السلطان ووزيره "نظام الملك" بإبعاد الشيخ وأهله وخدمه إلى ما وراء النهر. وقرىء الكتاب الوارد بذلك في الجامع على منبر يحيى بن عمار، وفيه حَطٌ على الشيخ، فأُخرج الشيخ ومن كان يعقد المجلس من أقاربه خَاصَّة إلى مَرْوَ، ثم ورد الأمرُ بردِّه إلى بلخ، ثم إلى مرو الرُّوذ. ثم أذن له في الرجوع إلى هراة، فَدَخَلها يوم الأربعاء رابع عشر المحرم سنة ثمانين وأربعمائة. وكان يومًا مشهودًا.
قال الرهاوي: سمعت شيخنا أبا طاهر السلفي بالإسكندرية يقول: لما خر شيخ الإسلام قال أصحابه وأهل البلد: لا يحمل على الدواب إلا على رقاب الناس. فجعل في محفة. وكان يتناوب حملها أربعة رجال، حتى وصل بلخ. فخرج أهلها وهمُّوا برجمه. فردَّهم ابن نظام الملك، وقال: تريدون أن تكونوا مسبة الدهر ترجمون رجلاَ من أهل العلم. ثم سألوه أن يَعِظ، فقرأ: "اللّهُ نزَلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كتابًا مُتَشابِهًا" الزمر: 23، ثم قال: كلّ المسلمين يقولون هذا، إلاَّ أهل غُورجَه وغرجِسْتان وفلانة وطالقان. لعنهم الله لعنةَ عاد وثمود، والنصارى واليهود. قُولوا: آمين، فقالوا: آمين.
قال الرهاوي: وإنما همَّ أهل بلخ بما همُّوا به لأنهم معتزلة شديدة الاعتزال.
وكان شيخ الإسلام مشهوراً في الآفاق بالحنبلة والشدة في السنَّة.
قال: وسمعتُ السلفي يقول: لما أمر نظام الملك بإخراج الشيخ من هراة سمع بذلك الشيخ مَعْمَر اللُّنباني، فمضى إلى نظام الملك في أمره، فقال له نظام الملك: قد صار لذلك الشيخ عليَّ منة عظيمة حيث بِسَبَبِهِ دخلتَ عليَّ. ثم كتب في الحال بردّه إلى بلده.
وذكر الرّهاويّ: أن الحسين بن محمد الكتبي ذكر في تاريخه: أن مسعود بن محمود بن سبكتكين قدم هراة سنة ثلاثين وأربعمائة، فاستحضر شيخ الإسلام، وقال له: أتقول: إن الله عزَّ وجل يضع قَدَمَه في النار? فقال- أطال اللهُ بقاء السلطان المعظم- إن الله عز جل لا يتضرر بالنار والنار لا تضره والرسول لا يكذب عليه وعلماء هذه الأمة لا يتزيدون فيما يَرْوُون عنه ويسندون إليه. فاستحسن جوابه، وردَّه مُكرَّماً.
قال: وعقد أهل هراة للشيخ مجلسًا آخر، سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، وعملوا فيه محضراً، وأخرجوه من البلد إلى بعض نواحي بوشنج، فحبس بها وقيَّد ثم أعيد إلى هراة سنة تسع وثلاثين، وجلس في مجلسه للتذكير. ثم سعوا في منعه من مجلس التذكير عند السلطان "ألب أرسلان" سنة خمسين.
قال. وفي شهور سنة اثنتين وستين، خلع على الشيخ من جهة الإمام القائم بأمر الله خلعة شريفة، وفي شهور سنة أربع وسبعين خلعة أخرى فاخرة من جهة الإمام المقتدي مع الخطاب واللقّب بشيخ الإسلام، شيخ الشيوخ زين العلماء أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري، وخلعة أخرى لابنه عبد الهادي.
قال. وكان السبب في هذه الخلع الوزير "نظام الملك" شفقةَ منه على أصحاب الحديث، وصِيَانةً عن لحوق شين بهم.
وكان الشيخ رحمه اللّه آيةٌ في التفسير، وحفظ الحديث. ومعرفته، ومعرفة اللغة والأدب. وكان يُفَسِّر القراَن في مجلس التذكير.
فذكر الكتبي في تاريخه: أن الشيخ لما رجع من محنته الأولى ابتدأ في تفسير القراَن، ففسره في مجالس التذكير، سنة ست وثلاثين. وفي سنة سبع وثلاثين افتتح القرآن يفسره ثانيًا في مجالس التذكير.

قال: وكان الغالب على مجلسه القول في الشرع، إلى أن بلغ إلى قوله عزَّ وَجَل: "والَذِينَ آمَنُوا أَشَذ حُبًّا للّه" آل عمران: 165. فافتتح تجريد المجالس في الحقيقة، وأنقق على هذه الآية من عمره مدة مديدة، وبنى عليها مجالس كثيرة. وكذلك قوله تعالى: "إنَّ الَذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى" الأنبياء: 101، بنى عليها ثلاثمائة وستين مجلساً. فلما بلغ قوله تعالى: "يَكَادُ سَنَا بَرْقه يَذْهَبُ بِالأَبْصَارٍ" النور: 43، كُفَ بَصَرُه سنة ثلاث وسبعين، ولما بلغ إلى قوله عز وجل: "فَلاَ تَعْلمُ نَفْسٌ مَا أُخْفيَ لَهُمْ مِنْ قرَةِ أَعْينٍ". السجدة: 117 قال: في كل اسم من أسماء اللّه تعالى سر خفي. وَأخَذَ يُفسِّر خفايا الأسماء حتى بلغ المميت، فأُخرج من البلد في الفتنة الأخيرة. فلما عاد سنة ثمانين، عقد المجلس على أمر جديد، ولم يكمل الكلام على الأسماء الحسنى. وأخذ يستعجل في التفسير، ويفسر في مجلس واحد مقدار عشر آيات أو نحوها، يريد أن يختم في حياته، فلم يقدر له على ذلك وتوفي، وقد انتهى إلى قوله عزَ وجل: "قل: هُوَ نَبَأّ عَظِيمٌ. أنتمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ" ص: 67، 68،.
وقال ابن طاهر الحافظ. سمعت شيخنا الأنصارِيَّ يقول: إذا ذكرتُ التفسيرَ فإنما أذكرهُ من مائة وسبعة تفاسير. قال: وجرى يومًا- وأنا بين يديه- كلامٌ ، فقال: أنا أحفظ اثني عشر ألف حديث أسردها سرداً، قال: وقطّ ما ذكر في مجلسه حديثاً إلا بإسناده. وكان يشير إلى صحته وسقمه.
وقال الرهاوي: سمعت أبا بشر محمد بن محمد بن هبة الله الهمذاني بهمذان يقول: سمعتُ بعض الأدباء يقول: سئل شيخ الإسلام الأنصاري عن تفسير آية. فأنشد أربعمائة بيت من شعر الجاهلية في كل بيت منها لغة تلك الآية.
قال ابن الجوزي: أخبرنا ابن ناصر عن المؤتمن بن أحمد الحافظ، قال: كان عبد الله الأنصاري لا يشذ على المذهب شيئًا، ويتركه كما يكون، ويذهب إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُوكِ فَيُوكَأ عليك" وكان لا يصوم شهر رجب، وينهى عن ذلك، ويقول: ما صح في فضل رجب وفي صيامه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يملي في شعبان وفي رمضان، ولا يملي في رجب.
وقال بن طاهر الحافظ: سمدت أبا إسماعيل الأنصاري يقول: كتابُ أبي عيسى الترمذْي عندي أفيدُ من كتاب البخاري ومسلم، فقلتُ: لِمَ. قال: لأن كتاب البخاري ومسلم لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من يكون من أهل المعرفة التامة. وهذا كتاب قد شرح أحاديثه وبينها، فَيَصِل إلى فائدته كل أحد من الناس من الفقهَاء والمحدثين وغيرهم. قال: وسمعتُه يقول: المحدّث يجب أن يكون سريعَ المشي، سريع الكتابة، سريعَ القراءة.
قال الرُّهاوي: سمعتُ السلفي يقول: سمعتُ أبا الخير عبد الله بن مرزوق الهَرويَ يقول: سمعتُ أبا إسماعيل الأنصاري الحافظ بهراة يقول: ينبغي لمن يكون من أهل الفقه أن يكون له أبدًا ثلاثة أشياء جديدة: سراويلُه، ومداسُه، وخرقةٌ يُصلي عليها.
قال الرُّهاوي: وسمعتُ بعض الناس بهراة يحكي: أن شيخ الإسلام دخل يومًا على القاضي أبي العلاء صاعد بن سيار، وعلى يمينه رجل من البُوسَعْدِية، فجلس شيخ الإسلام على يسار القاضي، فغضب البوسعدي، وقال: أجلسُ عن يمينك ويجلسُ عن يسارك. فوثب شيخ الإسلام، وجلس ناحيةً، وقال: الحِدّةُ ينبغي أن تكون في، أكل البصل، والشدّة في تشقيق الحطب. وأما الجلوس في المجالس فإنما يكون بالعلم. وغضب القاضي من كلام الرجل، وقال: إيش تنكر من حاله? حيث لم يكن له مركوب ولا ثياب، وأمر له بثياب ومركوب، وجعل له في الجامع موضعًا يعظُ فيه.
قال الرُّهاوي: وقد رأيتُ كرسي شيخ الإسلام قليل المراقي في زاوية من جامع هراة، والناس يتبركون به.
وقاد ابن طاهر: سألت الأنصاري عن الحاكم أبي عبد اللّه? فقال: ثقة في الحديث، رافضي خبيث.

وذكر ابن السمعاني عن يحيى بن منده عن عبد الله بن عطاء الإبراهيمي قال: سمعت شيخ الإسلام الأنصاريّ قال: سألتُ أبا يعقوب الحافظ عن قول البخاري في الصحيح: قال لي فلان? قال: هو راوية بالإجازة، ثم قال شيخ الإسلام: عندي أن ذاك الرجل ذاكر البخاري في المذاكرة: أنه سمع من فلاَن حديث كذا، وكتاب كذا، أو مسند كذا، أو حديث فلان، فيرويه بين المسموعات وهو طريق حسن، طريق مليح. ولا أحد أفضل من البخاري.
وقال المؤتمن الساجي: كان يدخل عليه الجبابرة والأمراء، فما كان يبالي بهم. ويرى بعض أصحاب الحديث من الغرباء فيكرمه إكراماً يعجب منه الخاصُ والعامّ رحمة الله.
قال صاعد بن سيار الهرّوي في أماليه: سمعتُ شيخ الإسلام الأنصاري يقول: إلهي عصمة أو مغفرة، فقد ضاقت بنا طريق المعذرة.
وقد أثنى على الشيخ الإمام أبي إسماعيل شيوخُهُ وأقرانه. ومن دونه من الفقهاء، والمحدثين والصوفية، والأدباء وغيرهم. وقد سبق في ترجمة عبد الرحمن بن منده قول سعد الزنجاني فيه: إنّ الله حفظ به الإسلامَ، وبابن منده.
وقال الرُّهاوي: سمعتُ بهراة: أن شيخ الإسلام لما أخرج من هراة، ووصل إلى مرو، وأذن له في الرجوع إلى هراة، رجع ووصل إلى مرو الروذ، قصده الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الفْرَّاء صاحب التصانيف. فلما حضر عنده قال لشيخ الإسلام: إن اللّه قد جمع لك الفضائل، وكانت قد بقيت فضيلة واحدة، فأراد أن يكملها لك، وهي الإخراج من الوطن، أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الرَّهاوي: وسمعتُ أبا عبد اللّه سفيان بن أبي الفضل الخرقي السفياني وكان من أهل الحديث والفضل والدّين، وكان سفياني المذهب يقول: سمعتُ الحافظ أبا مسعود كوتاه يقول: سمعتُ أبا الوقت عبد الأول بن عيسى يقول: دخلتُ على الجويني يعني أبا محمد عبد اللّه بن يوسف الفقيه- فسألني عن شيخ الإسلام? فقلت. أنا خادمُه. فقال: رضي اللّه عنه.
قال الرُّهاوي: وذكر الحسين بن محمد الكتبي الهرويّ في تاريخه: أنَ شيخ الإسلام الأنصاري سافر إلى نيسابور سنة سبع عشرة وأربعمائة، طالبًا للحديث والفقه، ورؤية المشايخ، والاستفادة منهم، والتبرك بصحبتهم ورجع في تلك السنة. ثم سافر ثانيًا للحج مع الفقيه الإمام أبي الفضل بن أبي سعد الزاهد الواعظ، ومعهما خلقٌ كثير سنة ثلاث وعشرين. فلما وردوا نيسابور أخرج الإمام أبو عثمان الصابوني لخاله الإمام أبي الفضل بن أبي سعد الزاهد مجلسًا في الحديث ليمليه بنيسابور، فنظر فيه الأنصاري ونبَّه على خلل في رجال الحديث وقع فيه. فقبل الصابوني قوله، وعاد إلى ما قال، وأحسن الثناء عليه، وأظهر السرور به، وهنأ أهل العصر بمكانه، وقال: لنا جمال، ولأهل السنة مكانة، وانتفاع المسلمين بعلمه ووعظه. وكان ذلك بمشهد من مشايخ فيهم كثرة، وشهرة وبصيرة.
قال صاحب التاريخ: وكنتُ حاضرًا يومئذٍ. قال: وسمعتُ الإمام عبد اللّه الأنصاري بنيسابور يقول: دخلتُ على الإمام ناصر المروزي بنيسابور، وكان مجلسه غاصًا بتلامذته، واحتفَّ به الفقهاء، وكان يدرّس ويقول: رُوي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه كان يقرأ في الركعة الثالثة من صلاة المغرب: "ربِّ زِدْنِي عِلْمًا" طه: 114. فقلت- أيد الله الشيخ الإمام-: أحديثُ عهد أنت بهذا الحديث وهو على ذكرك? فقال: لا، فقلتُ: كان يقرأ في الركعة الثالثة من صلاة المغرب: "ربَّنا لاَ تُزغْْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا" آل عمران: 8، فقال: صدقتَ ورجع إلى قولي، وحثَّ القوم على إثباته وتعليقه. ثم بكرتُ إليه من غد هذا اليوم، فرحب بي، وأعلى محَلِّي، وأجلسني فوق جماعة زهاء سبعين، كنتُ بالأمس جالسًا دونهم، ومدحتُه بقصيدةٍ، ووَاظبْتُ على الاختلاف إليه وأخذ الفقه عنه مدة.
قال صاحب التاريخ: ورجع الشيخ من حرقات، والريّ عن زيارة الشيخ أبي الحسن الحرقاني، وكان الحرقاني أحسن الثناء عليه، ولاَطَفه في المخاطبة سنة أربع وعشرين.
قال: ولقي الشيخ بنيسابور الشيخ أبا عبد اللّه بن باكويه الشيرازي، وتكلم بين يديه. فرضي ابن باكويه قوله، واستحسن في الحقيقة كلامه، وبشر بأيامه، فلما عزم على الخروج من عنده قال: إلى أين. قال: نَويتُ سفرًا. قال: لست من بابة السفر، بل بابَتُكَ أن تعقد حلقة تكلمهم على الحق.

قال صاحب التاريخ: وكان إسحاق القَرَّاب الحافظ يَتأمل ما كان يخرجه الأنصاري، وكذلك إسماعيل الصابوني. قال: وكلهم تعجبوا من تخريجه، وأعجبوا به، وأثنوا على الشيخ عبد الله الأنصاري، واغتبطوا بمكانه، ودعوا له بالخير. وكان من عادة إسحاق القراب الحافظ الحَث على الاختلاف إلى الأنصاري، والبَعث على القراءة عليه، واستماع الأحاديث بقراءته، والاستفادة منه، والمواظبة على مجلسه، والاختيار له على غيره. وكادْ يقول: لا يمكن أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كاذب من الناس، وهذا الرجل في الإحياء.
قال: وكلٌّ من لقيت من أهل هراة وفي سائر البلدان، حين خرجت مسافرًا، ومن سمعت يخبر منهم في الآفاق من القضاة والأئمة والأفاضل، والمذكورين، كانوا يحسنون الثناء عليه، ولا ينكرون فضله.
وقال الرُّهاوي: سمعتُ أبا بشر محمد بن محمد الهمذاني يقول: سمعتُ شيخي عبد الهادي الذي أخذت عنه العلم يقول: عبدُ الله الأنصاري يُعدُّ في العبادلة. قال الرُّهاوي: عبد الهادي هذا من أئمة همذان.
وقد ذكر أبو النصر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامي في تاريخ هراة شيخ الإسلام الأنصاري، فقال: كان بكر الزمان، وزناد الفلك، وواسطة عقد المعاني والمعالي، وصورة الإقبال في فنون الفضائل، وأنواع المحاسن.
منها: نصرة الدين والسنة، والصلابة في قهر أعداء المِلّة، والمتحلين بالبدعة. حيي على ذلك عمره، من غير مداهنة ومراقبة لسلطانٍ ولا وزيرٍ، ولا ملاينةِ مع كبير ولا صغير. وقد قاسى بذلك السبب قصد الحساد في كل وقت وزمان، ومُنى بكيد الأعداء في كل حين وأوان، وسعوا في روحه مِرارًا، وعمدُوا إلى هلاكه أطوارًا، مقدرين بذلك الخلاص من يده ولسانه، وإظهار ما أضمروا في زمانه. فوقاه الله شرهم، وأحاط بهم مكرهم، وجعل قصدهم لارتفاع أمره، وعلو شأنه، أقوى سبب. وليس ذلك من فضل الله تعالى ببدع ولا عجب "إن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثّبتْ أَقدَامَكُمْ" محمد: 17.
وأما قبوله عند الخاص والعام، واستحسان كلامه، وانتشاره في جميع بلاد الإسلام، فأظهر من أن يقام عليه حجة وبرهان، أو يختلف في سَبقه وتَقَدمه فيها من الأئمة اثنان. ولقد هذَب أحوال هذه الناحية عن البدع بأسرها، ونقح أمورهم عما اعتادوه منها في أمرها، وحَمَلهُم على الاعتقاد الذي لا مطعن لمسلمٍ بشيء عليه، ولا سبيل لمبتدع إلى القَدح إليه.
ومنها: تصانيفه التي حاز فيها قصب السبق بين الأضراب، وذكرها في باب المصنفين من الكتاب.
وذكره أيضا الإمام أبو الحسين عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي، خطيب نيسابور في تاريخ نيسابور، فذكر اسمه ونسبه، وقال: أبو إسماعيل الإمام شيخ الإسلام بهراة، صاحب القبول في عصره، والمشهور بالفضل وحُسن الوَعظ والتذكير في دهره. لم يرَ أحد من الأئمة في فنه حلمًا ما رآه عيانًا من الْحِشمَة الوافرة القاهرة، والرونق الدائم، والاستيلاء على الخاص والعام، في تلك الناحية واتْساق أمور المريدين والأتباع، والغالين في حقه، والتئام المدارس والأصحاب والخانقاه، ونواب المجالس، إلى غير ذلك مما هو أشهر من أن يحتاج إلى الشرح.
وكان على حظ تام من العربية ومعرفة الأحاديث والأنساب والتواريخ، إمامًا كاملاً في التفسير والتذكير، حَسَن السيرة والطريقة في التصوف ومباشرة التصوف ومعاشرة الأصحاب الصوفية. مظهر السنة، داعيًا إليها محرضًا عليها. غير مشتغل بكسب الأسباب والضياع العقار، والتوغل في الدنيا. مكتفيًا بما يباسط به المريدين والأتباع من أهل مجلسه في السنة مرة أو مرتين. حاكمًا عليها حكمًا نافذًا بما كان يحتاج إليه هو وأصحابه من السنة إلى السنة على رأس الملأ. فيحصل على ألوف من الدنانير بها، وأعداد جمة من الثياب والحلى وغير ذلك. فيجمعها ويفرقها على الخبَّاز، والبقّال، والقصَّاب، وينفق منها موسعًا فيها من السنة إلى السنة، ولا يأخذ من السلاطين والظلمة والأعوادْ وأركان الدولة شيئًا. وقلَّما يراعيهم. ولا يدخل عليهم ولا يبالي بهم. فبقي عزْيزًا مقبولاً، قبولاً أتم من الملك على الحقيقةْ، مطاع الأمر قريبًا من ستين سنة، من غير مزاحمة ولا فتور في الحال.

ومن خصائصه: أنه كان إذا حضر المجلس لبس الثياب الفاخرة، وركب الدواب الثمينة، والمراكب المعروفة، وتكلَّف غاية التكلف، ويقول: إنما أفعلُ هذا إعزازًا للدَّين، ورغمًا لأعدائه، حتى ينظروا إلى عزِّي وتجملي، فيرغبوا في الإسلام إذا رأوا عزه. ثم إذا انصرف إلى بيته عاد إلى المرقّعة والقعود مع الصوفية في الخانقاه، يأكل معهم ما يأكلون، ويلبسُ ما يلبسون، ولا يتميز في المطعوم والملبوس عن اَحادهم. على هذا كان يزجي أيامه. وكل ما نقل عنه من سيرته محمود.
ومن جملة ما أخذه أهل هراة عنه من محاسن سيرته: التبكيرُ بصلاة الصبح، وأداءُ الفرائض في أوائل أوقاتها، واستعمالُ السّنن والأدب فيها.
ومن ذلك: تسميةُ الأولاد في الأغلب بالعبد، المضاف إلى اسم من أسماء اللّه تعالى: كعبد الخالق، وعبد الخلاق، وعبد الهادي، وعبد الرشيد، وعبد المجيد، وعبد المعز وعبد السلام. إلى غير ذلك مما كان يحثّهم ويدعوهم إلى ذلك، فتعوَّدوا الجريَ على تلك السنة، وغير ذلك من اَثاره.
ثم ذكر بعضَ شيوخه، ثم قال: أنشدَني أبو القاسم أسعد بن علي البارع الزوزني لنفسه في الإمام، وقد حضر مجلسه:

وقالوا: رأيتَ كعبـد الإلـهِ

 

إماماً إذا عَقَد المجلـسـا?

فقلتُ: أما إننـي مـا رأيْ

 

تُ ولم يلق قبلي ممن عسى

فقالوا: يجيءُ نـظـيرٌ لـه

 

فقلت: كمستقبلٍ مِنْ عَسـى

قال عبد الغافر: وقرأتُ في "دمية القصر لأبي الحسن الباخرزي" فصلاً في الإمام عبد اللّه الأنصاري، وذلك أنه قال: هو في التذكير في الدرجة العليا، وفي علم التفسير أوحد الدنيا. يعظ فيصطاد القلوب بحسن لفظه، ويمحص الذنوب بيمن وعظه. ولو سمع قسُّ بن ساعدة تلك الألفاظ، لما خطب بسوق عُكاظ.
ثم ذكر بيتين للإمام عبد الله في نظام الملك، وهما:

بِجاهك أدْرَكَ المظلومُ ثارَهْ

 

ومَنِّك شَادَ بَانِي العدلِ دارَهْ

وقبلَك هُنّىءَ الوُزراءُ حتَّى

 

نهضتَ بها فهُنِّئتِ الوزارَهْ

ثم قال: وحضرتُ يومًا مجلسه، بهراة، مع أبي عاصم الحسين بن محمد بن الفضيلي الهرويّ شيخ الأفاضل بهراة. فلما طاب فؤادُه، وعرق جوادُه وطنَّت نَقراتُ العازفين في جو السماء، ودنت الملائكة فتدَلَّت للإصغاء.
قال أبو العاصم:

عيونُ النَّاسِ لم تـل

 

ق ولا تلقى كعبد الله

ولا يُنكر هـذَا غَـي

 

ر من مالَ عن اللـه

قال الباخرزي: فقلتُ أنا:

مجلسُ الأستاذِ عبد الله

 

روضُ العارفـينـا

ألحق الفَخـر بـنـا

 

بعد حكم العارِفينـا

قال عبد الغافر: وفي المنقولات من أخباره وآثاره، وما قيل فيه من الأشعار، وما نقل عنه من العبارات كثير. وفي هذا القدر دليل على أمثالها.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية في كتاب "الأجوبة المصرية": شيخ الإسلام مشهورٌ معظم عند الناس. هو إمام في الحديث والتصوف والتفسير. وهو في الفقه على مذهب أهل الحديث، يعظّم الشافعي، وأحمد. ويقرن بينهما في أجوبته في الفقه ما يوافق قول الشافعي تارة وقول أحمد أخرى. والغالبُ عليه اتباعُ الحديث على طريقة ابن المبارك ونحوه.
قال: وقال الشيخ أبو الحسن الكرخي، شيخ الشافعية في بلاده، في كتابه "الفصول في الأصول": أنشدني غير واحدٍ من الفضلاء للإمام عبد اللّه بن محمد الأنصاري، أنه أنشد في معرض النصيحة لأهل السنة:

كُنْ إذا ما حَادَ عَن حدِّ الهُدى

 

أشْعرِيّ الرأي شيطان البَشَرْ

شافعيّ الشَرع، سنّي الحُلـى

 

حنبلي العقد، صوفيَّ السِّيَرْ

ومن شعر شيخ الإسلام مما أنشده الرهاوي بأسناده عنه:

سُبحان من أجْملَ الحُسنى لطالبها

 

حتى إذا ظهرتْ في عبده مُدِحَا

ليس الكريمُ الذي يُعطى لتمدَحه

 

إنَّ الكريمَ الَذي يُثنى بما منحـا

وأنشد له:

نهواك نحن ونحن منك نـهـابُ

 

أهَوّى وخوفاً إنَ ذاك عُجـابُ!

شخص العقول إليك ثم استحسرتْ

 

وتحيرتْ في كنهـك الألـبـابُ

قلتُ: ولشيخ الإسلام شعر كثير حَسَنٌ جدًّا. ولأجل هذا ذكره الباخرزي الأديب في كتابه "دمية القصر في شعراء العصر" وله كلام في التصوف والسلوك دقيق.

وقد اعتنى بشرح كتابه "منازل السائرين" جماعةٌ. وهو كثير الإشارة إلى مقام الفناء في توحيد الربوبية، واضمحلال ما سوى الله تعالى في الشهود لا في الوجود. فيتوهم فيه أنه يشير إلى الاتحاد حتى انتحله قوم من الاتحادية، وعظموه لذلك. وذمَّه قومٌ من أهل السنة، وقدحوا فيه بذلك. وقد برأه اللّه من الاتحاد. وقد انتصر له شيخُنا أبو عبد الله بن القيم في كتابه الذي شرح فيه "المنازل" وبيّن أن حمل كلامه على قواعد الاتحاد زور وباطل.
تُوفي رحمه اللّه تعالى يوم الجمعة بعد العصر ثاني عشرين في الحجة سنة إحدى وثمانين وأربعمائة. ودُفن يوم السبت بِكَازِيَارِكَاه- مقبرة بقرب هَراة-.
وكان يومًا كثير المطر، شديد الوحل. وقد كان الشيخ يقول في حياته: إن استأثر الله بي في الصيف فلا بد من نطع مخافة المطر، فصدق اللّهُ ظنه في ذلك.
حدَّث عنه جماعة من الحفاظ وغيرهم كالمؤتمن الساجي ومحمد بن طاهر وأبي نصر الغازي، وأبي الوقت السجزي، وأبي الفتح الكروخي.
قرأتُ على أبي حفص عمر بن علي القزويني ببغداد: أخبركم أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم المقرىء وأخبرنا الربيع عليّ بن عبد الصمد بن أحمد البغدادي بها قراءة عليه، وأنا في الخامسة، أخبرنا والدي أبو أحمد عبد الصمد قالا: أخبرنا أبو الحسن علي بن أبي بكر بن رُوزَبَة، أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى السجزي، أخبرنا شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن العالي البوشنجي، أخبرنا أبو أحمد الغطريفي، ومنصور بن العباس الفقيه قالا: أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا أبو صالح الحكم بن موسى، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان- وليس بالنهدي- عن معقل بن يسار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقرأوها عَلَى مَوْتَاكُمْ" يعني: يَس.
وبالإسناد الأول إلى شيخ الإسلام، أنشدنا يحيى بن عمار أنشدني أبو المنذر محمد بن أحمد بن جعفر الأديب، أنشدني الصولي لأبي العباس ثعلب:

رُبَ ريحٍ لا ناسٍ عَصَفَتْ

 

ثمَ ما إنْ لبثت أن رَكَدتْ

وكذاك الدَّهرُ في أفعالـه

 

قَدمٌ زلَتْ وأُخرى ثبتـتْ

بالغٌ ما كان يرجو دونـه

 

ويَدٌ عما استقلت قَصُرَتْ

وكذا الأيامُ من عاداتـهـا

 

أنَها مُفسِدةٌ ما أصلحـتْ

ثمَّ تأتيكَ مقـاديرُ لـهـا

 

فترى مُصلِحة ما أفْسدتْ

?عبد الواحد بن محمد بن علي بن أحمد الشيرازي

ثم المقدسي، ثم الدمشقي، الفقيه الزاهد، أبو الفرج الأنصاري، السعدي العُبادي الخزرجي، شيخ الشام في وقته: قرأتُ بخط بعض طلبة الحديث في زماننا قال: أخرج إليَّ شيخُنا يوسف بن يحيى بن عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب ابن الشيخ أبي الفرج نسب جده: وهو أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي بن أحمد بن إبراهيم بن يعيش بن عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة. كذا رأيته. ويوسف هذا أدركته. وسمعتُ منه جزءًا عن أبيه عن الخشوعي.
ولكن قرأتُ بخط جده ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم قال: كتبتُ إلى الشريف النسَّابة ابن الجواني كتابًا إلى مصر أسأله: هل نحن من ولد قيس بن سعد أو من أخيه? فجاءني خطه في جزء يقول: قيسُ بن سعد انقرض عقبه. وحكاه عن جماعة من النسابين، مثل ابن شجرة وابن طباطبا وغيرهما. وقال: إنما أنتم من ولد أخيه عبد العزيز بن سعد بن عبادة. ورفع نسب سعد بن عبادة إلى اَدم عليه السلام.
وهذا يدل على أن "الناصح" لم يكن يعرف نسبهم إلى سعد، ولا ذكر أن النسابة كتب له ذلك، وإنما كتب له نسب سعد إلى آدم، وأيضًا فقد قال له: أنتم من ولد عبد العزيز بن سعد بن عبادة. وفي هذا النسب المذكور: عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة. وهذا مخالف لما قال ابن الجواني.
لكن ذكر "الناصح" أن أباه وجماعة من العلماء اجتمعوا ليلةً عند السلطان صلاح الدين في خيمة، مع الشريف الجواني هذا، فقال السلطان: هذا الفقيه- يشير إلى والد "الناصح"- ليس في آبائه وأجداده صاحب صنعة إلا أمير أو عالم إلى سعد بن عبادة. وهذا يدل على أنه كان يعرف نسبهم إلى سعد بن عبادة. والله أعلم.

ثم رأيت الشريفَ عز الدين أحمد بن محمد الحسيني الحافظ صاحب "صلة التكملة في وفيات النقلة" ذكر نسب الشيخ أبي الفرج إلى سعد مثل ما أخرجه شيخنا يوسف سواء، إلا أنه قال عبد العزيز بن سعد بن عبادة، بلا واسطة بينهما ولقّب أباه محمدًا بالصافي.
تفقه الشيخ أبو الفرج ببغداد على القاضي أبي يعلى مدة، وقدم الشام فسكنِ ببيت المقدس، فنشر مذهب الإمام أحمد فيما حوله. ثم أقام بدمشق فنشر المذهب وتَخرج به الأصحاب، وسمع بها من أبي الحسن السمسار، وأبي عثمان الصابوني ووعظ، واشتهر أمره، وحصل له القبول التام.
وكان إمامًا عارفًا بالفقه والأصول، شديدًا في السنة، زاهدًا عارفًا، عابدًا متألهًا، ذا أحوال وكرامات. وكان "تتش" صاحب دمشق يعظِّمه.
قال أبو الحسين في الطبقات: صحب الوالد من سنة نيف وأربعين وأربعمائة وتردد إلى مجلسه سنين عدة، وعلق عنه أشياء في الأصول والفروع، ونسخ واستنسخ من مصنفاته. وسافر إلى الرحبة والشام وحصل له الأصحاب والأتباع والتلامذة والغلمان. وكانت له كرامات ظاهرة، ووقعات مع الأشاعرة، وظهر عليهم بالحجة في مجالس السلاطين ببلاد الشام. ويقال: إنه اجتمع مع الخضر عليه السلام دفعتين.
وكان يتكلم في عدة أوقات على الخاطر كما كان يتكلم ابن القزويني الزاهد. فبلغني: أن "تتشا" لما عزم على المجيء إلى بغداد في الدفعة الأولى لما وصلها السلطان سأله الدعاء? فدعا له بالسلامة، فعاد سالمًا. فلما كان في الدفعة الثانية استدعى السلطان وهو ببغداد لأخيه "تتش" فَرُعِب وسأل أبا الفرج الدعاء له فقال له: لا تراه ولا تجتمع به. فقال له "تتش": وهو مقيم ببغداد، وقد برزت إلى عنده، ولا بد من المصير إليه. فقال له: لا تراه، فعجب من ذلك، وبلغ "هِيتَ" فجاءه الخبر بوفاة السلطان ببغداد، فعاد إلى دمشق وزادت حشمة أبي الفرج عنده ومنزلته لديه.
وبلغني أن بعض السلاطين من المخالفين كان أبو الفرج يدعو عليه، ويقول: كم أرميه ولا تقع الرمية به. فلما كان في الليلة التي هلك ذلك المخالف فيها، قال أبو الفرج لبعض أصحابه: قد أصبت فلانًا وقد هلك، فورِّخَت الليلة، فلما كان بعد بضعة عشر يومًا ورد الخبر بوفاة ذلك الرجل في تلك الليلة التي أخبر أبو الفرج بهلاكه فيها.
قال: وكان أبو الفرج ناصرًا لاعتقادنا، متجردًا في نشره، مبطلاً لتأويل أخبار الصفات. وله تصنيف في الفقه والوعظ والأصول.
وقرأت بخط الناصح عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب بن الشيخ أبي الفرج قال: حدثنا الشريف الجواني النسَّابة عن أبيه قال: تكلم الشيخ أبو الفرج- أي الشيرازي الخزرجي- في مجلس وعظه، فصاح رجلَ متواجدًا، فمات في المجلس. وكان يومًا مشهودًا. فقال المخالفون في المذهب: كيف نعمل إن لم يمت في مجلسنا أحدٌ، وإلا كان وهنًا. فعمدوا إلى رجل غريب، دفعوا له عشرة دنانير، فقالوا: احضر مجلسنا، فإذا طاب المجلس فصح صيحة عظيمة، ثم لا تتكلم حتى نحملك ونقول: مات. ونجعلك في بيت، فاذهب في الليل، وسافر عن البلد. ففعل، وصاح صيحة عظيمة، فقالوا: مات، وحُمل. فجاء رجل من الحنابلة، وزاحم حتى حصل تحتَه، وعَصَرَ على خُصاه، فصاح الرجل فقالوا: عاش، عاش. وأخذ الناس في الضحك، وقالوا المحال ينكشف.
قال الناصح: وكان الشيخ موفق الدين المقدسي يقول: كلُّنا في بركات الشيخ أبي الفرج. قال: وحدثني ونحن ببغداد قال: لما قدم الشيخ أبو الفرج إلى بلادهمِ من أرض بيت المقدس تسامح الناس به فزاروه من أقطار تلك البلاد قال: فقال جدِّي قدامة لأخيه: تعال نمشي إلى زيارة هذا الشيخ لعله يدعو لنا. قال: فزاروه، فتقدم إليه قدامة فقال له: يا سيدي، ادع لي أن يرزقني الله حفظَ القراَن. قال: فدعا له بذلك، وأخوه لم يسأله شيئًا، فبقي على حاله. وحَفِظَ قدامة القراَن. وانتشر الخبر منهم ببركات دعوة الشيخ أبي الفرج.
للشيخ أبي الفرج تصانيف عدة في الفقه والأصول.
منها: "المبهج" و "الإيضاح" و "التبصرة في أصول الدين" و "مختصر في الحدود، وفي أصول الفقه، ومسائل الامتحان"

وقرأت بخط الناصح عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب بن الشيخ قال: سمعت والدي يقول: للشيخ أبي الفرج "كتاب الجواهر" وهو ثلاثون مجلدة يعني: في التفسير. قال: وكانت بنت الشيخ تحفظه، وهي أم زين الدين علي بن نجا الواعظ، الآتي ذكره إن شاء اللّه تعالى.
قال أبو يعلى بن القلانسي في تاريخه في حق الشيخ أبي الفرج: كان وافر العلم، متين الدين، حسن الوعظ، محمود السمت.
توفي يوم الأحد ثامن عشرين في الحجة، سنة ست وثمانين وأربعمائة بدمشق.
ودفن بمقبرة الباب الصغير، وقبره مشهور يزار.
وللشيخ رحمه الله ذرية. فيهم كثير من العلماء، نذكرهم إن شاء اللّه تعالى في مواضعهم من هذا الكتاب، يعرفون ببيت ابن الحنبلي.
وقد ذكر الشيخ موفق الدين في المغني، والشيخ مجد الدين بن تيمية في شرح الهداية، عن أبي الفرج المقدسي: أن الوضوء في أواني النحاس مكروه وهو هذا.
وذكرا عنه أيضًا: أن التسمية على الوضوء يصح الإتيان بها بعد غسل بعض الأعضاء، ولا يشترط تقدمها على غسلها. وقد نسب أبو المعالي بن المنجا هذا في كتابه "النهاية" إلى أبي الفرج بن الجوزي. وهو وَهمٌ.
وله غرائب كثيرة.
فمنها: أنه نقل في الإيضاح رواية عن أحمد: أن مس الأمرد لشهوةٍ ينقض.
ومنها: أن المسافر إذا مسح في السفر أكثر من يوم وليلة، ثم أقام، أو قدم: أتم مسح مسافر.
ومنها: أن الجنب يكره له أن يأخذ من شعره وأظفاره. ذكره في الإيضاح وهو غريب. مخالف لمنصوص أحمد في رواية جماعة.
ومنها: حكى في وجوب الزكاة في الغزلان روايتين.
ومنها: أنه خرّج وجهًا: أنه يعتبر لوجوب الزكاة في جميع الأموال: إمكان الأداء، من رواية اعتبار إمكان الأداء لوجوب الحج.
ومنها: ما قاله في الإيضاح: إذا وقف أرضًا على الفقراء والمساكين: لم يجب في الخارج منها العشر، وإن كان على غيرهم: وجب فيها العشر. وللإمام أحمد نصوص تدل على مثل ذلك. وهو خلاف المعروف عند الأصحاب.
ومنها: ما قاله في الإيضاح أيضًا، قال: والصداق يجب بالعقد ويستقر جميعه بالدخول، ولو أسقطت حقها من الصداق قبل الدخول: لم يسقط لأنه إسقاط حق قبل استقراره، فلم يسقط كالشفيع إذا أسقط حقه قبل الشراء. هذا لفظه. وهو غريب جدًا.
ومنها: أنه ذكر في المبهج في آخر الوصايا: إذا قال لعبده: إن أدّيتَ إليَّ ألْفًا فأنت حرٌ، ثم أبرأه السَّيِّد من الألف. عتق فجعل التعليق كالمعاوضة ولأحمد في رواية أبي الصقر ما يَدُلّ عليه.
وذكر في كتاب الزكاة من المبهج أيضًا: أنه يجوز دفع كالزكاة إلى من علّق عتقه بأداء مال، وهو يرجع إلى هذا الأصل، وأن التعليق معارضة تثبت في الذمة.
وذكر أيضًا في المبهج: إذا باع أرضًا فيها زرع قائم قد بدا صلاحه: لم يتبع قولاً واحدًا، وإن لم يبد صلاحُه: فهل يتبع أم لا?. على وجهين، فإن قلنا: لا يتبع: أخذ البائع بقطعه، إلا أن يستأجر الأرض من المشتري إلى حين إدراكه وأما إذا بدا صلاحه: فإنه يبقى في الأرض من غير أجرة إلى حين حصاده.
وذكر فيه أيضًا: أنه إذا اشترى شيئًا فبان معيبًا ونما عنده نماءً متصلاً، ثم رَدَّه: أخذ قيمة الزيادة من البائع، وقد وافقه على ذلك ابن عقيل في كسْاب الصداق من فصوله.
وقد نقل ابن منصور عن أحمد، فيمن اشترى سلعةً فنمت عنده، وبان بها داء: فإن شاء المشتري حبسها ورجع بقدر الداء، وإن شاء رَدّها ورجع عليه بقدر النماء. وهذا ظاهر في الرجوع بقيمة النماء المتصل، لأن النماء المنفصل مع بقائه إما أن يستحقه المشتري أو البائع. وأما قيمته فلا يستحقها أحد منهما مع بقائه ولا تلفه.

?يعقوب بن إبراهيم بن أحمد بن سطور

العكبري البَرْزَبيني، القاضي أبو علي، قاضي باب الأزج: قدم بغداد بعد الثلاثين والأربعمائة. وسمع الحديث من أبي إسحاق البرمكي.
وتفقه على القاضي أبي يعلى، حتى برع في الفقه، ودرس في حياته، وشهد عند ابن الدامغاني، هو والشريف أبو جعفر في يوم واحد، سنة ثلاث وخمسين. وزكَّاهما شيخُهما القاضي.
وتولى يعقوب القضاء بباب الأزج مدة، ورأيت في تاريخ القضاة لابن المنذري: أن القاضي يعقوب عزل نفسه عن قضاء باب الأزج والشهادة، سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة.

وقال أبو الحسين: ولي القضاء بباب الأزج من جهة الوالد، ثم عزل نفسه عن القضاء والشهادة سنة اثنتين وسبعين، ثم عاد إليهما سنة ثمان وسبعين، واستمر إلى موته. قال: وكان ذا معرفة تامة بأحكام القضاء، وإنفاذ السجلات متعففًا في القضاء، متشددًا في السنة.
وقال ابن عقيل: كان أعرف قضاة الوقت بأحكام القضاء والشروط. سمعتُ ذلك من غير واحدٍ ولم يكن أحد من الوكلاء يهاب قاضيًا مثل هيبته له. وله المقامات المشهورة "بالديوان" حتى يُقال: إنه كعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة من الصحابة، في قوة الرأي.
وذكره ابن السمعاني، فقال: كانتْ له يدٌ قوية في القرآن والحديث، والفقه والمحاضرة. وقرأ عليه عامة الحنابلة ببغداد، وانتفعوا به. وكان حسن السيرة، جميل الطريقة، جرت أموره في أحكامه على سدادٍ واستقامة.
وحدّث بشيء يسير عن أحمد عمر بن ميخائيل العكبري، وغيره.
قال: وذكر لي شيخُنا الجنيد بن يعقوب الجيلي الفقيه بباب الأزج: أنه سمع الحديث من القاضي أبي علي يعقوب، ولم يكن له أصل حاضر بما سمع منه. وقال: عَلّقتُ عنه الفقه، وكان لجماعة من شيوخنا الأصبهانيين منه إجازة، مثل أبي عبد اللّه الخلال، وغانم بن خالد، وأبي نصر الغازي، ومحمد بن عبد الواحد الدقاق الحافظ، وغيرهم.
وقال ابن الجوزي: حدَّث وروى عنه أشياخنا.
قلتُ. قال أبو الحسين: صنف كتبًا في الأصول والفروع. وكان له غلمان كثيرون - يعني تلامذة- قال: وكان مبارك التعليم، لم يَدْرسْ عليه أحد إلا أفلح وصار فقيهًا. وكانت حلقته بجامع القصر.
وعليه تفقه القاضي أبو حازم، وأبو الحسين بن الزاغوني، وأبو سعد المخرّمي، وطلحة العاقولي، وغيرهم.
وله تصانيف في المذهب. منها: "التعليقة في الفقه" في عدّة مجلدات، وهي مُلخصة من تعليقة شيخه القاضي.
وممن روى عنه القاضي أبو طاهر بن الكرخي، وأخوه أبو الحسن.
وتوفي يوم الثلاثاء ثاني عشرين شوال سنة ست وثمانين وأربعمائة. كذا نقله ابن السمعاني من خط شجاع الذهلي. وذكره أيضًا ابن المندائي- وذكر الشهر والسنة- وأبو الحسين، وابن الجوزي في تاريخه.
وقال ابن الجوزي في الطبقات: تُوفي في شوال سنة ثمان- وقيل: سنة ست وثمانين- وكان عمره سبعًا وسبعين سنة. ودفن من الغد بباب الأزج، بمقبرة الفيل إلى جانب أبي بكر عبد العزيز غلام الخلال. رحمهم الله تعالى.
قال أبو الحسين: وصلَّى عليه كابر أولاده بجامع القصر، وحضر جنازته خلق كثير من أرباب الدين والدنيا، وأصحاب المناصب: نقيب العباسيين. ونقيب العلويَّين، وحجاب السلطان، وجماعة الشهود. وغيرهم.
و "بَرْزَبِين" بفتح الباء وسكون الراء وفتح الزاي وكسر الباء الثانية، ثم بياء ساكنة ونون- قرية كبيرة على خمسة فراسخ من بغداد. بينها وبين أَوَانَا.
وذكر القاضي يعقوب في تعليقته، قال: إذا نذر عتق عبده ولا مال له غيره: يحتمل أن يعود فيه، كما لو نَذَر الصدقة بماله كله فعتق ثلثه. وإن سلَّمنا فالعتاق آكد. ولهذا يفترقان في نذر اللجاج والغضب. وهذا الاحتمال الأول مخالفٌ لما ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما من أهل المذهب.
لكن منهم من يعلل بأن العتق لا يتبعَّض، في، ملك واحد، كالقاضي في خلافه.
وهذا مُوافقة على أن الواجب بالنذر عتق ثلثه لا غير. وإنما الباقي يعتق بالسراية.
ومنهم من يعلل بقوة العتق وتأكيده، كما ذكره القاضي يعقوب هنا. وعلى هذا فالواجب عتق العبد كله بالنذر.
وذكر القاضي يعقوب أيضًا: فيما إذا حلف ليقضينَّه دراهمه التي عنده فأحاله بها، وقال: يحتمل أن يبرأ لأن ذمته قد برئت بالحوالة. وهذا مخالف لقول القاضي والأصحاب، فإن الحوالة نقلت الحق من ذمة إلى ذمة، ولم يحصل بها الاستيفاء.
ورأيت بخط أبي زكريا بن الصيرفي الفقيه: أن القاضي أبا علي يعقوب اختار جواز أخذ الزكاة لبني هاشم، إذا مُنعوا حقهم من الخُمس.

وقرأت بخط الجنيد بن يعقوب الجيلي الفقيه "فرع: تملك الأم الرجوع في الهبة" وهو اختيار القاضي يعقوب بن إبراهيم. وفيه رواية أخرى: لا تملك. اختارها بقية الأصحاب. وذكر القاضي يعقوب الخلاف بين أصحابنا في أن الحروف: هل هي حرف واحد قديم، أو حرفان: قديم ومحدث? وقال: كلامُ أحمد يحتمل القولين. ولكنه اختار أنها حرف واحد. وحكاه عن شيخه القاضي وذكر أنه سمع ابن جَلبة الحراني يحكيه عن الشريف الزبدي، وجماعة من أهل حران.
والتزم القاضي يعقوب: أن كل ما كان موافقًا لكتاب الله من الكلام في لفظه ونظمه وحروفه، فهو من كتاب الله، وإن قصد به خطاب آدمي، حتى إنه لا يبطل الصلاة.
قال أبو العباس بن تيمية: وهذا مخالف للإجماع. وهو كما قال. فإنه إذا جَرّدَ قصده للخطاب، فهو يتكلم بكلام الآدميين. وأما إن قصد التنبيه بالقرآن، فمن الأصحاب من قال: لا يحنث، ومنهم من بناه على الخلاف في بطلان الصلاة بذلك.

عبد الوهاب بن طالب بن أحمد بن يوسف بن عبد الله بن عنبسة بن عبد الله بن كعب بن زيد بن بهم، أبو القاسم التميمي الأزجي البغدادي

المقرىء الفقيه: نزيل دمشق. أقام بها مدة يؤم بمسجد درب الريحان. حدّث بها بالإجازة من الطناجيري. سمع منه ابن صابر الدمشقي المحدث وأخوه.


وتوفي ليلة الثلاثاء ثامن عشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وأربعمائة. ودفن من الغد بمقبرة الباب الصغير. رحمه اللّه تعالى.

رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أكينة بن الهيثم بن عبد الله التميمي

البغدادي المقرىء، المحدث الفقيه الواعظ، شيخ أهل العراق في زمانه، أبو محمد بن أبي الفرج بن أبي الحسن: ولد سنة أربعمائة- وقيل: سنة إحدى وأربعمائة- وفي الطبقات لابن الجوزي: سنة أربع.
وقال السلفي: سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن سلامة الروحاني بمصر يقول: سمعت رزق اللّه التميمي ببغداد يقول: مولدي سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
وقرأ القران بالروايات على أبي الحسن الحمامي. وسمع الحديث من أبي الحسين بن التميم، وأبي عمر بن مهدي، وابني بشران، وأبي علي بن شاذان، وغيرهم.
وأجاز له أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي، وتفقه على أبيه أبي الفرج، وعمه أبي الفضل عبد الواحد، وأبي عليّ بن أبي موسى صاحب الإرشاد.
قال أبو الحسين: وقرأ على الوالد السعيد قطعة من المذهب.
وأدرك من أصحاب ابن مجاهد رجلاً يقال له: أبو القاسم عبد اللّه بن محمد الخفاف، وقرأ عليه سورة البقرة. وقرأها على ابن مجاهد، وأدرك من أصحاب أبي بكر الشبلي رجلاً، وهو عمر بن تعويذ. وحكى عنه حكاية عن الشبلي.
قال ابن الجوزي: وشهد عند أبى الحسين بن ماكولا قاضي القضاة. فلما توفي وولى ابن الدامغاني ترك الشهادة ة ترفعّاَ عن أن يشهد عنده. فجاء قاضي القضاة إليه مستدعيًا لمودَّته وشهادته عنده فلم يخرج له عن موضعه، ولم يصحبه مقصوده.
قال: وكان قد اجتمع للتميمي القراَن، والفقه والحديث، والأدب والوعظ. وكان جميل الصورة، فوقع له القبول من الخواص والعوام. وأخرجه الخليفة رسولاً إلى السلطان في مهام الدولة. وكان له الحلقة في الفقه، والفتوى والوعظ بجامع المنصور. فلما انتقل إلى باب المراتب كانت له حلقة بجامع القصر يروي فيها الحديث، ويفتي. وكان يمضي في السنة أربع دفعات: في رجب، وشعبان، ويوم عرفة، وعاشوراء، إلى مقبرة أحمد، ويعقد هناك مجلسًا للوعظ.
وقال في الطبقات: كانت له المعرفة الحسنة بالقرآن والحديث، والفقه، والأصول، والتفسير، واللغة والعربية، والفرائض. وكان حسن الأخلاق.
وحكي عن ابن عقيل قال: كان سيد الجماعة من أصحاب أحمد بيتًا ورئاسة وحشمة أبا محمد التميمي. وكان أحلى الناس عبارة في النظر، وأجراهم قلمًا في الفتيا، وأحسنهم وعظًا.
وقال ابن عقيل في فنونه- والكلام أظنه في تاريخ بغداد-: ومن كبار مشايخي: أبو محمد التميمي شيخ زمانه. كان حسنة العالم، وماشطة بغداد.
وذكر عن التميمي أنه كان يقول: كلُّ الطوائف تدَّعيني.
وقال شجاع الذهلي- فيما حكاه عن السلفي- كان له لسان وعارضة، وحلاوة منطق. وهو أحد الوعاظ المذكورين، والشيوخ المتقدمين. وقد سمعت منه.

وقال السلفي: سألت المؤتمن الساجي عن أبي محمد التميمي. فقال: هو الإمام علمًا ونفسًا وأبوة، وما يذكر عنه فتحامُلٌ من أعدائه.
وقال شيرويه الديلمي الحافظ: هو شيخ الحنابلة، ومقدمهم. سمعتُ منه. وكان ثقةً صدوقًا، فاضلاً ذا حشمة.
وقال أبو عامرِ العبدري: رزق الله التميمي كان شيخًا بهيًا، ظريفًا لطيفًا-، كثير الحكايات والملح، ما أعلمُ منه إلاَّ خيرًا.
وقال أبو علي بن سكرة في مشيخته: ما لقيتُ في بغداد مثله- يعني التميمي- قرأتُ عليه كثيرًا. وإنما لم أُطل ذكره لعجزي عن وصفه لكماله وفَضلِه.
وقال ابن ناصر ما رأيتُ شيخًا ابن سبع وثمانين سنة أحسن سمتًا وهديًا، واستقامة منه، ولا أحسن كلامًا، وأظرف وعظًا، وأسرع جوابًا منه فلقد كان جمالاً للإسلام كما لقب، وفخرًا لأهل العراق خاصة، ولجميع بلاد الإسلام عامة، وما رأينا مثله. كان مقدمًا على الشيوخ الفقهاء وشهود الحضرة، وهو شاب ابن عشرين سنة، فكيف به وقد ناهز التسعين سنة. وكان مكرمًا وذا قدر رفيع عند الخلفاء، منذ زمن القادر ومَنْ بعده من الخلفاء إلى خلافة المستظهر.
وله تصانيف. منها "شرحُ الإرشاد" لشيخه ابن أبي موسى في الفقه والخصال والأقسام.
قرأ عليه بالروايات جماعة، منهم: أبو الكرم الشهرزوري، وغيره. وأملى الحديث. وسمع منه خلقٌ، كثير ببغداد وأصبهان، لما قدمها رسولاً من جهة المقتدي.
وممن سمع منه الحفاظ: إسماعيل التميميّ، وأبو سعد بن البغدادي، وأبو عبد اللّه الحميدي، وابن الخاضبة، وأبو مسعود سليمان بن إبراهيم، وأبو نعيم بن الحداد، وأبو علي البرداني، وأبو نصر الغازي، وإسماعيل بن السمرقندي، وابن ناصر، ومحمد بن طاهر، وعبد الوهاب الأنماطي.
وسمع منه أيضًا: نصر اللّه المصيصي، وهبة اللّه بن طاوس، وعليّ بن طراد، والقاضي أبو بكر، والقاضي أبو الحسين، وأخوه أبو حازم، وابن البطّي، وخلق كثير.
وقد روى ابن السمعاني: حديث "مَنْ عَادَى لِي وَليًّا" عن أربعة وسبعين، سماعًا له، سمعوه من التميمي.
وروى عنه من أهل أصبهان أزيد من مائة راوٍ. وآخر من روى عنه: السلفي بالإجازة.
وذكر ابن النجار في أول تاريخه بإسناده عن خميس الجوزي الحافظ: سمعتُ طلحة بن علي الرازي، قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ببغداد، كأنه في مسجد عتاب، جالس في القبلة، وعليه برد كَحِل، وهو متقلد بسيف، والمسجد غاص بأهله. وفي الجماعة أبو محمد التميمي وهو يقول له: يا رسول الله، ادعُ اللّه لنا فرفع يديه، فقال - وأنا أقول معه-: اللهم إنَّا نسألُك حسن الاختيار في جميع الأقدار، ونعوذُ بك من سوء الاختيار في جميع الأقدار.
قال أحمد بن طارق الكركي: سمعتُ أبا الكرم الشهرزوري يقول: سمعتُ التميمي يقول: لما دخلتُ سمرقند برسالة المقتدي إلى "ملكشاه" رأيتهم يروون الناسخ والمنسوخ لهبة اللّه عن خمسة رجال إليه، فقلت لهم: الكتابُ معي، والمصنِّفُ جدي لأمي، ومنه سمعتُه، ولكنْ ما أُسمع كل واحد منكم إلا بمائة دينار. فما كان الظهر حتى جاءني كيس فيه خمسمائة دينار والجماعة فسمعوا عليَّ، وسلموا إليَّ الذهب. قال: ولما عدنا من سمرقند ودخلنا أصبهان، وأمليتُ الحديث يوم جمعة، فقام الجماعة ومدحوني، وقالوا: ما سمعنا أحسن من هذا.
ولأبي محمد التميمي شعرٌ حسن. قال ابن السمعاني: أنشدنا هبةُ اللّه بن طاوس بدمشق، أنشدنا التميمي لنفسه:

وما شنآَنُ الشيب من أجل لـونـه

 

ولكنه حادٍ إلى الـبـين مـسـرعُ

إذا ما بدتْ منه الطـلـيعةُ اَذنـتْ

 

بأنَ المنايا خلفـهـا تـتـطـلـعُ

فإن قصَّها المقراضُ صاحت بأختها

 

فتظهر تتلـوهـا ثـلاثٌ وأربـعُ

وإن خضبتْ حالَ الخضـابُ لأنَـهُ

 

يغالبُ صُنع اللّه، واللـه أصـنـعُ

فيُضحِي كريش الديك فيه تلـمُّـعٌ

 

وأقطع ما يُكساه ثوبٌ مـلـمَّـعُ

إذا ما بلغت الأربعين فقل لـمـن

 

يودك فيما تشتـهـيه وتـسـرعُ

هَلموا لنبكي قبل فـرقة بـينـنـا

 

فما بعدها عيش لذيذ ومـجـمـعُ

وخَلِّ التصابي، والخلاعة، والهوى

 

وأمَّ طريق الحق، فالحق أنـفـعُ

وخُذ جُنَّة تُنجي وزادًا من التـقـى

 

وصحبة مأمون، فقصدك مفـزع

قال: وأنشدنا إسماعيل بن السمرقندي، أنشدنا التميمي لنفسه:

مررْنا على رسم الديار فسلّمنـا

 

وقلنا له: يا ربعُ أين نأَوْا عَنَّـا?

وجُدنا بدمع كالرذاذ على الثّرى

 

فَصُمَّ المنادَى، فانصرفنا كما كنّا

وما ذاك إلاَّ أنَ رسـم ديارهـم

 

به كالذي نلقى فقد زادنا حزنـا

فلما أيسنا من جواب رُسُومِهـم

 

نزلنا فقبلنا الثرى قبل أن رُحنا

ومن شعره:

يا ويح هذا القلب ما حَالُه

 

مشتغلاً في الحي بلبالُه

سكران لو يصحو لعاتبه

 

وكيف بالعتب لمن حالُه

دمع غزير، وجوى كامنٌ

 

يرحمه من ذاك عُذَّالُـه

ما ينثني باللوم عن حُبِّـه

 

تغيّرتْ في الحب أحوالُه

قال: وأنشدنا لنفسه:

ولم أستَطع يومَ الـفـراقِ وداعَـه

 

بلفظي فنابَ الدَمعُ مِنِّي عن القول

وَشيعَهُ صبري ونومي كلاهـمـا

 

فعَدتُ بلا أنسٍ نهاري ولا لـيلـي

فلما مضى أقبلتُ أسعى مُوَلَـهـا

 

يدَيّ على رأسي وناديتُ: يا ويلـي

تبَدَّلتُ يوم البين بـالأنـس وحـشة

 

وجرَّرتُ بالخسران يوم النوى ذَيْلي

وله أيضًا:

لا تسألاني عن الحيّ الـذي بـانـا

 

فإنني كنتُ يوم البين سـكـرانـا

يَا صاحِبيّ على وجدي بنُعـمـانـا

 

هل راجعٌ وصلُ ليلى كالذي كانا?

أم ذاك آخر عهدٍ لـلّـقـاء بـهـا

 

فنجعل الدهر ما عشناه أحـزانـا

مَا ضَرَّهم لو أقامُوا يَوم بـينـهـم

 

بقَدر ما يلبسِ المحزون أكفـانـا

ليت الجِمال التي للبين ما خُلـقـت

 

وَلَيتَ حـادٍ لـلـبـين حـيرانـا

تُوفي أبو محمد التميمي رحمه الله تعالى ليلة الثلاثاء خامس عشر جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وصلى عليه ابنه أبو الفضل من الغد. ودُفن بداره بباب المراتب بِإذن الخليفة المستظهر. ولم يُدفن بها أحد قبله.
ثم لما توفي ابنه أبو الفضل سنة إحدى وتسعين، نقل معه إلى مقبرة باب حرب، فدُفِن إلى جانب أبيه وجده وعمه، بدكة الإمام أحمد عن يمينه.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الصالحي، أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق الهمداني، أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن سابور، أنبأنا عبد العزيز بن محمد بن منصور الشيرازي وأنبأتنا زينب بنت أحمد عن عبد الرحمن بن مكي عن جده أبي الطاهر بن أحمد بن محمد الأصبهاني، قالا: أنبأنا أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أكينة بن الهيثم بن عبد الله التميمي- قال الأول: سماعًا، وقال الثاني: إجازة- قال: سمعتُ أبي أبا الفرج عبد الوهاب يقول: سمعت أبي أبا الحسن عبد العزيز يقول: سمعتُ أبي أبا بكر الحارث يقول: سمعتُ أبي أسدًا يقول: سمعتُ أبي الليثَ يقولُ: سمعتُ أبي سليمانَ يقولُ: سمعت أبي الأسودَ يقول: سمعتُ أبي سفيانَ يقول: سمعت أبي يزيد يقولُ: سمعت أبي أكيْنَةَ يقول: سمعت أبي الهيثَم يقول: سمعتُ أبي عبدَ الله يقول: سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما اجتمعَ قَوْمٌ عَلَى ذِكْرِ الله إلا حفّتْهمُ المَلاَئِكَةُ وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ".
"أُكيْنَةُ" بضم الهمزة وفتح الكاف وبالياء والنون المفتوحة قيَّده ابنُ ماكولا وغيرُه.
وعبد الله هذا هو ابن الحارث بن سيدان بن مُرَّة بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي. كذا نسبه ابن ماكولا.
وقال ابن الجوزي: كان عبدُ اللّه هذا اسمه عبد اللات، فسماه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: عبد الله، وعلمه. وأرسله إلى اليمامة والبحرين ليعلمهم أمر دينهم، وقال: "نْزع اللّه من صدرك وصدر ولدك الغل والغش إلى يوم القيامة".
قرأتُ بخط الإمام أبي العباس بن تيمية: أن أبا محمد التميمي وافق جده أبا الحسن على كراهة الماء المسخن بالشمس.
ونقل بعضُ الأصحاب عن أبي محمد التميمي: أنه اختار أن خروج المني بغير شهوة يوجب الغسل.

وذكر ابن الصيرفي في نوادره قال: نقل أبو داود عن أحمد: المرأة تعدم الماء، ويكون عنده مجتمع الفساق، فتخاف أن تخرج: أتتيمم? قال: لا أدري.
قال أبو محمد التميمي في شرح الإرشاد: يتوجه أن تتيمم لأنه ضرورة. وهل تعيد الوضوء إذا قدرت على الماء. على وجهين. أصحهما: لا إعادة عليها.
قال: وكان عبدُ العزيز يقول: تُعيد الوضوء والصلاة إذا قَدرتْ، فإن لم تُعد فلا جناح.
وقال غيره من أصحابنا: لا إعادة. قال: وهو الصحيح. وبه يقول شيخنا- يعني: ابن أبي موسى.
قلتُ: فحقْيقة الوجهين في الإعادة إنما هي في الاستحباب وعَدمِه فإن أبا بكر قد قال: فإن لم تُعد فلا حرج.
وقد ذكر الأصحاب: إن أحمد نصَّ في رواية أخرى على أنها لا تمضي وتتيمم بل قالوا: لا يجوز لها المضي إذا خافتْ على نفسها منهم.
وفي النوادر أيضًا: إن أبا محمد التميمي حكى رواية عن أحمد: بصحة الصلاة عن يسار الإمام مع الكراهة.
وفي المنثور لابن عقيل: ذكر شيخنا في الجامع الكبير: إذا فصد، وشد العصابة: مسح عليها وتيمم. فاعترض عليه أبو محمد التميمي بأنه لا يخلو: إما أن يكون جرحًا فيتيمم له، أو مثل الجبيرة فيمسحه فقط. فقال القاضي: وجدتُه عن أحمد كذلك- يعني: جواب التميمي.
وذكر ابن الجوزي في تاريخه: أن جلال الدولة أمره أن يكتب شاهنشاه الأعظم ملك الملوك، وخطب له بذلك. فنفر العامة، ورجموا الخطباء، ووقعت فتنة. وذلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة. فاستفتى الفقهاء فكَتبَ الصَّيْمري: أن هذه الأسماء يُعتبر فيها القصد والنية. وكتب أبو الطيب الطبري: أن إطلاق ملك الملوك جائز، ويكون معناه ملك ملوك الأرض. وإذا جاز أن يُقال: قاضي القضاة، وكافي الكفاة، جاز أن يُقال: ملك الملوك. وكتب التميمي نحو ذلك وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني: أن القاضي الماوردي مَنع من جواز ذلك.
قال ابن الجوزي: والذي ذكره الأكثرون هو القياس إذا قصد به ملوك الدنيا، إلا أني لا أرى إلا ما رآه الماوردي لأنه قد صحَّ في الحديث ما يدل على المنع لكنهم عن النقل بمعزل. ثم ساق حديثَ أبي هريرة الذي في الصحيحين. وابن الجوزي وافق على جواز التسمية بقاضي القضاة ونحوه. وقد ذكر شيخنا أبو عبد اللّه بن القيم قال: وقال بعض العلماء: وفي معنى ذلك- يعني: ملك الملوك- كراهية التسمية بقاضي القضاة، وحاكم الحكام فإنَّ حاكم الحكام في الحقيقة هو الله تعالى. وقد كان جماعةٌ من أهل الدين والفضل يتورعون عن إطلاق لفظ قاضي القضاة، وحاكم الحكام، قياسًا على ما يبغضه اللّهُ ورسولُه من التسمية بملك الأملاك. وهذا محض القياس.
قلتُ. وكان شيخنا أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني الشافعي- قاضي الديار المصرية، وابن قاضيها- يمنع الناس أن يخاطبوه بقاضي القضاة، أو يكتبوا له ذلك، وأمرهم أن يبدلوا ذلك بقاضي المسلمين. وقال: إنَّ هذا اللفظَ مأثورٌ عن علي رضي الله عنه.
يوضح ذلك: أن التلقيب بملك الملوك إنما كان من شعائر ملوك الفرس من الأعاجم المجوس ونحوهم. وكذلك كان المجوس يسمون قاضيهم "موبَذ مُوبَذان" يَعنُون بذلك: قاضي القضاة. فالكلمتان من شعائرهم، ولا ينبغي التسمية بهما. واللّه أعلم.

عبد الوهاب بن رزق اللّه بن عبد الوهاب التميمي، أبو الفضل بن أبي محمد

المذكور قبله: ذكره ابن السمعاني، فقال: كان فاضلاً، متقنًا، واعظًا، جميل المحيا.


سمع أبا طالب بن غيلان. وحدثنا عنه عبد الوهاب الأنماطي. ثم ساق له حديثًا، ثم قال: سمعتُ أبا الفضل بن ناصر يقول: مات أبو الفضل عبد الوهاب بن أبي محمد التميمي يوم الإثنين لليلتين بقيتا من جُمادى الآخرة، سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. ودُفن من الغد لمقبرة باب حرب.
وقد قدمنا أن أباه نُقل معه إلى باب حرب في هذا اليوم.


وذكر أبو الحسين في الطبقات: أنه كان يحضر بين يدي أبيه في مجالس وعظه بمقبرة الإمام أحمد، وينهضُ بعد كلامه قائمًا على قدميه، ويورد فصولاُ مسجوعة.

عبد الواحد بن رزق اللّه بن عبد الوهاب التميمي، أبو القاسم، أخو المذكور قبله: ذكره ابن السمعاني أيضًا، فقال: من أولاد الأئمة والمحدثين، قرأ القرآن والحديث والفقه. وكان من محاسن البغداديين في الوعظ. ختم به بيته، ولم يعقب.

سمع أبا طالب بن غيلان، وحدث بشيء يسير.

قلت: وسمع هو وأخوه عبد الوهاب من القاضي أبي يعلى. ثمَّ قال: سألتُ عبد الوهاب الأنماطي عنه. فقال: كان صَدعًا. وكان يلبس الحرير.
وذكر ابن النجار: أنه كان يُراسل به إلى الملوك في أيام المستظهر، وأنه كان شديد القوة في بدنه، وأنه حدَّث بأصبهان.
وسمع منه محمد بن عبد الواحد الدقاق الحافظ.
وتُوفي يوم الأحد سابع عشر جُمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. ودُفِن من الغد بمقبرة باب حرب عند أخيه أبي الفضل. رحمهم الله تعالى.

علي بن عمرو بن علي بن الحسن بن عمرو الحراني، أبو الحسن بن الضرير

الفقيه، الزاهد: صحب الشريف أبا القاسم الزيدي الحرّاني وأخذ عنه، وسمع منه. وتفقه ببغداد على القاضي. وكان من أكابر شيوخ حَرَّان.


ذكره أبو الفتح بن عبدوس، وغيره وحدَّث بالإبانة الصغرى لابن بطّة، سنة أربع وثمانين وأربعمائة بحران، بسماعه من الشريف الزيدي، بسماعه من ابن بطّة.


قرأتُ بخط بعض أصحابه أنه أنشدهم لغيره:

ولا تمشِ فوق الأرض إلاَّ تواضعًا

 

فكم تحتها قومٌ هُمُ منـك أرفـعُ

فإنْ كنتَ في عزٍّ، وحرزٍ، وَمَنعةٍ

 

فكم مات مِن قومٍ هُمُ منك أمنـعُ

وذكره أبو الحسين، فقال: الصالح التقي، صاحب الوالد السعيد.


توفي بسروج، في شعبان سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.


وحكى لي ابنه خليفة، قال: حكى لي رجل من أهل سُروج من الصالحين: أنه رأى في تلك الليلة قائلاً يقول له: يا فلان، إلى متى تنام. قم، قد انهدم ربع الإسلام. قال: فانتبهتُ، وانزعجتُ، ثم عدت نمتُ، فرأيت القائلَ يقولُ: كم تنامُ، قد انهدم ربع الإسلام. قال: فقعدتُ واستغفرتُ الله تعالى.

وقلتُ: إيش هذا? قال: ثمَّ نمتُ، فقال لي يا فلانُ، قد انهدم ربع الإسلام. قد مَات علي بن عَمرو.

قال: فأصبحتُ وقد مات رحمه الله تعالى.

علي بن المبارك الكرخي النهري

الفقيه أبو الحسن: وقال ابن نقطة: هو عليُ بن محمد الفقيه، من أقران ابن عقيل.


قال أبو الحسين: تفقه على الوالد، ودرس في حياته وبعد مماته. كان كثير الذكاء، قيمًا بالفرائض.
سمع من الوالد الحديث الكثير.


وتوفي في ذي القعدة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وصليتُ عليه إمامًا. ودُفن بمقبرة جامع المنصور.
قال: وسمعت أبا الحسن النهري قال: كنتُ في بعض الأيام أمشي مع القاضي الإمام والدك، فالتفت، فقال لي: لا تلتفتْ إذا مشيتَ فإنه يُنسب فاعل ذلك إلى الحمق.


قال: وقال لي يومًا آخر- وأنا أمشي معه-: إذا مشيتَ مع من تعظمه، أين تمشي منه. قلت: لا أدري، قال: عن يمينه، تقيمه مقام الإمام في الصلاة، وتخلى له الجانب الأيسر، فإذا أراد أن يستنثر أو يزيل أذى جعله في الجانب الأيسر.

?عبد الله بن جابر بن ياسين بن الحسن بن محمد بن أحمد بن مَحْمُويَهْ بن خالد العسكريّ

الحنائي، العطار، الفقيه، المحدث، أبو محمد بن أبي الحسن: ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة. وسمع الحديث من أبي علي بن شاذان، وأبي القاسم بن بشران، وغيرهما وتفقه على القاضي أبي يعلى، واستملى عليه الحديث.
قال ابن السمعاني: تفقه على القاضي أبي يعلى. وكان خال أولاده. وكان صدوقًا، مليح المحاضرة، حسن الخط، بهيّ المنظر. وكان يستملي للقاضي أبي يعلى بجامع المنصور.
وقال القاضي أبو الحسين: علق عن الوالد قطعة من المذهب والخلاف. وكتب أشياء من تصانيفه. وكان صادق اللهجة، حسن الوجه، مليح المحاضرة، كثير القراءة للقرآن، مليح الخط، حسن الحساب.
وذكر القاضي عياض: أنه سأل أبا علي بن سكرة عنه? فقال: كان شيخًا مستورًا، فاضلاً.
روى عنه القاضي أبو الحسين، وأبو القاسم بن السمرقندي، وعبد الوهاب الأنماطي، وعمر بن ظفر، وجماعة.
قال القاضي أبو الحسين: مات خالي يوم الأربعاء عشرين شوال سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، وصليتُ عليه إمامًا. ودُفن بمقبرة باب حرب. قريباً من قبر الإمام أحمد.
قال شجاع الذهلي: مات يوم الخميس حادي عشرين شوال.
قال ابن السمعاني: والأول هو الصواب وإنما دُفن يوم الخميس. وكان أبوه أبو الحسن جابر بن ياسين ثقة، من أهل السنة.
سمع من أبي حفص الكناني، والمخلص، وجماعة. وحدِّث.
روى عنه القاضي أبو بكر الأنصاري.
وتوفي سنة أربع وستين وأربعمائة في شوال.

و"مَحْمُويَهْ" في نسبه:- بميم مفتوحة، ثم حاء مهملة، ثم ميم مضمومة. هدا هو الصحيح. وذكره ابن السمرقندي: "حمويه" بلا ميم في أوله. والحنائي أظنه منسوبٌ إلى بيع الحناء.

زياد بن علي بن هارون أبو القاسم

الحنبلي الفقيه: نزيل بغداد. سمع بها من أبي مسلم عمر بن علي اللّيثي البُخاري. وحدّث عنه بكتاب الوَجيز لابن خزيمة. سمعه منه أبو الحسن بن الزاغوني، وأبو الحسين بن الأبنوسي، ورواه عنه.
وذكر هبة اللّه السقطي: أن زيادًا الفقيه الحنبلي توفي في طاعون، سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. رحمه اللّه تعالى.

إسماعيل بن أحمد بن محمد بن خيران البزَّار الهمذاني، أبو محمد الحافظ:

مكثر. سمع بنيسابور عبد الغافر الفارسي، وأبا عثمان الصابوني، وأخاه أبا يعلى، وأبا حفص بن مسرور. وبأصبهان أبا عمر بن منده، وغيره. سمع ببلدان شتى. وحدّث ببغداد.
سمع منه أبو عامر العبدري. وروى عنه ابن السقطي في معجمه. وقال شيرويه الديلمي عنه. وهو الذي وصفه بالحنبلي.
سمع عليه مشايخ الوقت بخراسان والجبل، وكان حافظًا مكثرًا، قديم الحديث.
وذكر ابن النجار: أنه تُوفي ببغداد يوم الأربعاء رابع عشرين المحرم سنة تسع وثمانين وأربعمائة، بالمارستان. ودُفن بباب حرب. رحمه اللّه تعالى.

محمد بن علي بن الحسين بن جدا العكبري، أبو بكر بن أبي الحسين المتقدم:

ذكره ابن الجوزي في التاريخ، وقال: كان من العُلماء. نزل يتوضأ في دجلة فغرق، في ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة.
وقال شُجاع الذهلي: يوم الخميس خامس ربيع الأول.
قال ابن النجار: سمع مع والده من أبي الحسين بن المهتدي حضورًا سنة ست وستين وأربعمائة. ومات شابًا. وما أظنه روى شيئًا.

عبد الباقي بن حمزة بن الحسين الحداد، الفرضي، أبو الفضل:

وُلد سنة خمس وعشرين وأربعمائة.
وذكره ابن السمعاني، فقال: شيخٌ صالح، خيّر. كان قد قرأ الفقه. وكانت له يد في الفرائض والحساب.
سمع أبا محمد الجوهري وغيره.
وروى لنا عنه أبو الغنائم سرايا بن هبة اللّه الحراني، وأبو الفضل بن ناصر الحافظ. سألته عنه? فأحسن الثناء عليه ووثقه، وقال: ثقة خَيّر.
وذكر ابن النجار: أنه سمع أيضًا من أبوي الحسين بن المهتدي، وابن حسنون، وأبي عليّ المبارك، وهناد النسفي، وغيرهم. وأنه حدّث باليسير.
وروى عنه سعيد بن الرزاز الفقيه، وأبو محمد المقرىء المعروف بسبط الخياط، وأبو بكر محمد بن خذاذاد الحداد.
توفي يوم السبت رابع عشر شعبان سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. ودفن في مقبرة باب أبرز.
قلتُ: له كتاب "الإيضاح في الفرائض". رأيتُ منه المجلد الأول. وهو حسن جدًا. صنفه على مذهب الإمام أحمد. وحرّر فيه نقل المذهب تحريرًا جيدًا.
ومما ذَكَر فيه، في باب توريث ذوي الأرحام، في عمة لأبوين وعمة لأب وعمة لأم: المال بينهن على خمسة: للعمة من الأبوين ثلاثة أسهم، وللعمة من الأب سهم، وللعمة من الأم سهم. هذا إذا نزلناهن أبًا، فأما إذا نزلناهن عمًّا، ففي ذلك خلاف بين أصحابنا. فمنهم من قال: الأشبهُ بمذهبنا: أن يكون المال للعمة مع الأيوين، بمنزلة الأعمام المفرقين. منهم من قال: الأشبه أن يجعل المال بينهن على خمسة، كأن العمَّ مات وترك ثلاث أخوات مفترقات، كما قلنا في الأب.
قال: وهذا هو المنصوص عن أحمد. وجدتُه في كتاب الشافي لأبي بكر عبد العزيز، من رواية حرب بن إسماعيل.
سمعتُ أحمد قيل له في ثلاث عمَّات مفترقات. قال: على النصف والسدس.
قيل له: أليس المال للعمة من الأب والأم? قال: لا. وهذا نص.
قلتُ: لم يبين أحمد الأصلَ الذي تفرع عنه هذا الجواب، وهل هو تنزيل العمات أبًا أو عمًّا? وعنه في ذلك روايات معروفة. لكنه لما أنكر أن يكون المال تختص به العمة للأبوين، ولم يفصل بين أن يقال: بتنزيلهن أبًا أو عمًّا، ظهر منه: أنه لا فرق في ذلك بين تنزيلهن أبًا أو عمًّا. وهذا هو الصواب الذي عليه جمهور الأصحاب. والأول الذي ذكره ابن الحداد عن بعض الأصحاب، قد قاله الشيرازي في المبهج غيره، وجعلوا العمات بمنزلة الأعمام المفرقين.

وهذا مع مخالفته لنص أحمد، فهو ضعيف في القياس أيضًا فإنّا لا ننزل العمات أعمامًا متفرقين بمنزلة إخوتهن حتى ننزل العمة لأم عمًّا لأم. فإنه يلزم من ذلك سقوطها البتة لأنه غير وارثٍ وإنما ننزلهن كلهن أعمامًا لأبوين بمنزلة أخيهن العم من الأبوين.
ولا يقال: فيلزم من ذلك أن يقتسموا المال بينهن بالسَّوِيَّة كالأعمام المتفقين لأنا نجعل المدلى به وهو العم كمَيِّتٍ ورثه أخواته، وهن العمات الثلاث، فيقتسمون المال على خمسة، كما قلنا مثل ذلك في تنزيلهن أبًا. ولا فرق بينهما. فإن القاعدة: أنه إذا أدلى جماعة بوارثٍ واحدٍ ولم يتفاضلوا بالسبق إليه فنصيبه بينهم على حسب ميراثهم منه لو ورثوه، سواء اختلفت منازلهم منه كالإخوة والأخوات المفترقين، أو تساوت كأولاده وإخوته المتفقين.

محمد بن الحسن بن جعفر الراذاني، المقرىء الفقيه الزاهد، نزيل أوانا أبو عبد اللّه:

ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة.


قاد القاضي أبو الحسين: صحب الوالد. وكان زاهدًا، ورعًا، عالمًا بالقراءات وغيرها. وعدّه أيضًا ممن تفقه على أبيه، وعلق عنه.


وذكر ابن النجار: أنه سمع من القاضي أبي يعلى، ومن أبي الغنائم بن المأمون، وأبي بكر بن حمدويه، وخلق. وأنه حدّث باليسير.


وروى عنه الحافظ أبو نصر اليُنارتي في معجمه، وقال: أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد أبو عبد الله الراذاني.
وقال ابن السمعاني: كان فقيهًا، مقرئاً، من الزهاد المنقطعين، والعباد الورعين، مجاب الدعوة، صاحب كرامات. سمع من القاضي أبي يعلى وغيره. سمعتُ الحسن بن حريفا الشيخ صالح باللجمة يقول: دخلتُ على أبي عبد الله الراذاني، واعتذرتُ عن تأخري عنه، فقال: لا تعذرْ فإن الاجتماع مقدّر.


وسمعت ظافر بن معاوية المقرىء بالخريبة يقول: سمعتُ أن أبا عبد الله الراذاني أراد أن يخرج إلى الصلاة، فجاء ابنه إليه، وكان صغيرًا، وقال: يا أبي أريد غزالاً ألعبُ به. فسكت الشيخ، فلحَّ الصبي، وقال: لا بدَّ لي من غزال، فقال له الشيخ: اسكت يا بني، غدًا يجيئك غزال. فمن الغد كان الشيخ قاعدًا في بيته، فجاء غزال ووقف على باب الشيخ، وكان يضرب بقرنيه الباب إلى أن فتحوا له الباب ودخل، فقال الشيخ لابنه: يا بني، جاءك الغزال.
وذكر ابن النجار بإسناده: أن رجلاً حلف بالطلاق أنه رآه بعرفة، ولم يكن الشيخ حج تلك السنة، فأخبر الشيخ بذلك فأطرق، ثم رفع رأسه، وقال: أجمعت الأمة قاطبة على أن إبليس عدو اللّه يسير من المشرق إلى المغرب، في إفتان مسلم أو مسلمة، في لحظة واحدة، فلا ينكر لعبد من عبيد الله أن يمضي في طاعة الله بإذن الله في ليلة إلى مكة ويعود. ثم التفت إلى الحالف، وقال: طبْ نفسًا فإن زوجتك معك حلال.


قال ابن الجوزي: كان الراذاني كثير التهجد، ملازمًا للصيام.


تُوفي رحمه الله يوم الأحد رابع عشر جمادى الأولى، سنة أربع وتسعين وأربعمائة. ودفن بأَوَانا.

أبو الحسن بن زفر العكبري:

ذكره القاضي أبو الحسين فيمن تفقه على أبيه، وعلق عنه، وسمع منه.


وقال في ترجمته: صحب الوالد، وسمع درسه. وكان صالحًا، كثير التلاوة والتلقين للقرآن.

وبلغني أنه سرد الصوم خمسًا وسبعين سنة.


ومات قبل أبي عبد الله بن الراذاني بأيام يسيرة وله تسعون سنة رحمه الله تعالى.

محمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن البرداني

الفقيه الزاهد، أبو سعد: أحد الفقهاء من أصحاب القاضي أبي يعلى. سمع منه.


قال ابن النجار: وما أظنه روى شيئًا.


قال ابن الخشاب: أنشدني أبو بكر هبة الله بن أحمد الحفار، أنشدني أبو سعد البرداني عند موته:

إنَ من يأمُر بـالـص

 

بر من الصبر نـفـرْ

إنَّ في الصَّدْر من الصَّ

 

بْر كأَيْنـاتٍ تـصـرّ

قال: أنشدنيهما، ثم فاضتْ نفسُه رحمه الله.
توفي يوم الأحد ثامن عشر المحرم سنة ست وتسعين وأربعمائة. ودُفن في مقبرة باب حرب.
ذكر ابن عقيل في فنونه قال: وجدتُ رواية عن أحمد بخط أبي سعد البرداني: أن عبدة الأوثان يقرون بالجزية.

قال: وذكر ابن السمعاني: أنه مذهب أبي حنيفة. وهذا النقل عام في العرب وغيرهم. وليست هذه الرواية المشهورة: أن الجزية تؤخذ من كل الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب فإن هذه الرواية مشهورة عن أحمد، وهي معروفة في كتب القاضي وغيرها، فلا يحتاج مَنْ دون ابن عقيل- فضلاً عن ابن عقيل- في نقلها إلى أن يجدها في تعليق أبي سعد البرداني.

محمد بن عبيد الله بن محمد بن أحمد بن كادش العكبريّ، المحدث، المستملي، أبو ياسر:

مفيد أهل بغداد. وُلد سنة سبع وعشرين وأربعمائة: وسمع، وكتب الكثير وأفاد الناس. وسمع الطلبة والغرباء بقراءته وإفادته الكثير.
سمع قديمًا من الجوهري، والقاضي الماوردي، والقاضي أبي يعلى، وأبي الحسن بن حسنون. وقرأ بنفسه الكثير على طراد، وابن البطي، وطبقتهما. وحدَّث باليسير.
روى عنة السمرقندي، والسلفي وقال عنه: كان قارىء بغداد، والمستملي بها على الشيوخ، ثقة، كثير السماع، ولم يكن له أنس بالعربية. وكان حنبلي المذهب، جهوري الصوت عند قراءة الحديث والاستملاء.
توفي في يوم الاثنين رابع صفر سنة ست وتسعين وأربعمائة. ودفن بمقبرة باب حرب.

أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن البرداني، المستملي، أبو علي الحافظ

وقد سبق ذكر والده أبي الحسن: ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة. وسمع من العُشَارى سنة ثلاثٍ وثلاثين. وهو أول سماعه. من أبي القاسم الأزجي، أبي الحسن القزويني، وابن غيلان، والبرمكي، والخطيب، وغيرهم. وكتب الكثير وخرّج، وانتقى، واستملى. وتفقه على القاضي أبي يعلى.
قال أبو الحسين في الطبقات: سمع درس الوالد سنين، وسمع منه الحديث الكثير. وكان أحد المستملين عليه بجامع المنصور.
قال ابن السمعاني: كان أحد المتميزين في صنعة الحديث.
وقال ابن الجوزي: كان ثقة، ثبتًا، صالحًا، له معرفة تامة بالحديث.
وقال غيره: كان بصيرًا بالحديث، محققًا حجة. سمع منه جماعة، وحدَّث عنه علي بن طرَّاد، وإسماعيل التميمي، والسلفي، وسأله عن أحوال جماعة? فأجاب وأجاد.
قال السلفي: كان أبو عليّ أحفظ وأعرف من شجاع الذهلي. وكان ثقة، نبيلاً، له تصانيف.
قال الذهبي: جمع مجلدًا في المنامات النبوية.
قلتُ: وله جزء في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر الصديق.
ونقل السلفي عن خميس الجوزي الحافظ قال: كان أبو علي بن البرداني أحد الحفاظ الأئمة الذين يعلمون ما يقولون.
توفي ليلة الخميس حادي عشرين شوال، سنة ثمان وتسعين وأربعمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب.
وفي الطبقات لأبي الحسين: أنه توفي عشية الأربعاء عاشر شوال.

محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرزاق، الشيرازي الأصل، البغدادي، الصَّفَار، المقرىء، الزاهد، المعروف بأبي منصور الخياط.

وُلد سنة إحدى وأربعمائة، في شوال- أو ذي القعدة- وقرأ القرآن على أبي نصر أحمد بن عبد الوهاب بن مسرور، وغيره. وسمع الحديث في كبره من أبي القاسم بن بشران، وأبي منصور بن السواق، وأبي طاهر عبد الغفار بن محمد المؤدب، والحُسين بن محمد الخلال، وأبي الحسن القزويني وغيرهم.
وتفقه على القاضي أبي يعلى. وصنف كتاب "المهذب في القراءات" وروى الحديث الكثير.
وروى عنه سبطه أبو محمد عبد اللّه بن علي المقرىء وأخوه أبو عبد الله الحسين، وعبد الوهاب بن الأنماطي، وابن ناصر، والسلفي، وسعد الله بن الدجاجي، وأبو الفضل خطيب الموصل وغيرهم.
وكان إمامًا بمسجد بن جرده ببغداد، بحريم دار الخلافة. اعتكف فيه مدة طويلة، يعلم العميان القراَن، لوجه الله تعالى، ويسأل لهم، وينفق عليهم. فختم عليه القراَن خلق كثير، حتى بلغ عدد من أقرأهم القرآن من العميان سبعين ألفاً.
قال ابن النجار: هكذا رأيتُه بخطأبي نصر اليونارتي الحافظ. وقد زعم بعض الناس أن هذا مستحيل، وأنه من سبق القلم. وإنما أراد: سبعين نفسًا. وهذا كلام ساقط فإن أبا منصور قد تواتر عنه إقراء الخلق الكثير في السنين الطويلة.
قال ابن الجوزي: أقرأ السنين الطويلة. وختم عليه القرآن ألوف من الناس.

وقال القاضي أبو الحسين: أقرأ بضعًا وستين سنة، ولقن أممًا. وهذا موافق لما قاله أبو نصر. وهذا أمر مشهور عن أبي منصور، فيكون جميع من ختم عليه القرآن سبعين نفسًا. وهذا باطل قطعًا. ونحن نرى آحاد المقرئين يختم عليه أكثر من سبعين نفسّا. وإنما كان الشيخ أبو منصور يُقرىء هو بنفسه وبأصحابه هذه المدد الطويلة، فاجتمع فيها إقراء هذا العدد الكثير.
قال ابن الجوزي: كان أبو منصور من كبار الصالحين الزاهدين المتعبدين. كان له ورد بين العشاءين، يقرأ فيه سبعًا من القرآن قائمًا وقاعدًا، حتى طعن في السن.
وقال ابن ناصر عنه: كان شيخًا صالحًا، زاهدًا، صائمًا أكثر وقته، ذا كراماتِ ظهرتْ له بعد موته.
قال أبو الحسين: كان الوالد السعيد إذا جلس للحكم بنهر المعلى يقصد الجلوس للحكم بمسجده ويصلي خلفه.
قال عبد الوهاب الأنماطي: تُوفي الشيخ الزاهد أبو منصور، في يوم الأربعاء، وقت الظهر، السادس عشر من المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة. وصلى عليه يوم الخميس في جامع القصر ابن ابنته أبو محمد عبد الله. كان الجمع كثيراً جدًا. وعُبر به إلى جامع المنصور، فَصُلي عليه أيضًا، وحضرتُ ذلك. وكان الجمع وافراً عظيمًا. وكانت الصلاة عليه في داخل المقصورة عند القبلة. ومضيتُ معه إلى باب حرب. ودفن- في الدكة بجنب الشيخ أبي الوفاء بن قواس.
وقال ابن الجوزي: مات وسنه سبع وتسعون سنة، ممتعًا بسمعه وبصره وعقله. وحضر جنازته ما لا يحد من الناس، حتى إن الأشياخ ببغداد كانوا يقولون: ما رأينا جمعًا قط هكذا، لا جمع ابن القزويني، ولا جمع ابن الفراء، ولا جمع الشريف أبي جعفر. وهذه الجموع التي تناهت إليها الكثرة وشغل الناس ذلك اليوم وفيما بعده عن المعاش، فلم يقدر أحد من نقاد الباعة في ذلك الأسبوع على تحصيل نقده.
وقال أبو منصور بن خيرون: ما رأيتُ مثل يوم صُلي على أبي منصور الخياط، من كثرة الخلق والتبرك بالجنازة.
وقال السلفي: ذكر لي المؤتمن في ثاني جمعة من وفاة الشيخ أبي منصور: أن اليوم ختموا على رأس قبره مائتي وإحدى وعشرين ختمة.
قال السلفي: وقال لي علي بن محمد بن الأيسر العكبري- وكان رجلاً صالحًا-: حضرت جنازة الشيخ الأجل أبي منصور بن يوسف، وأبي تمام بن أبي موسى القاضي، فلم أرَ قط خلقًا أكثر ممن حضر جنازة الشيخ أبي منصور. قال: واستقبلنا يهوديّ فرأى كثرة الزحام والخلق، فقال: أشهدُ أن هذا الدين هو الحق، وأسلَمَ.
وذكر ابن السمعاني: سمعتُ أبا حفص عمر بن المبارك بن سهلان، سمعت الحسين بن خسرو البلخي، قال: رُئي الشيخ أبو منصور الخياط في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك? قال: غفر لي بتعليمي الصبيان فاتحة الكتاب.
قرأتُ على أبى حفص عمر بن حسن المزي: أخبركم إسماعيل بن عبد الرحمن الفراء أنبأنا الإمام أبو محمد عبد اللّه بن أحمد المقدسي قال: قرأت على أبي عبد اللّه مظفر بن أبي نصر البواب، وابنه أبي محمد عبد الله بن مظفر ببغداد، قلت لهما: حدثكما الإمام الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر قال: كنتُ أسمع الفقهاء في النظامية يقولون: في القرآن معنى قائم بالذات، والحروف والأصوات عبارات ودلالات على الكلامٍ القديم القائم بالذات، فحصل في قلبي شيءٌ من ذلك حتى صرت أقول بقولهم موافقة. وكنتُ إذا صليتُ أدعو اللّه تعالى أن يوفقني لأَحَبِّ المذاهب والاعتقادات إليه، وبقيت على ذلك مدة طويلة أقول: اللهم وفقْني لأحب المذاهب إليك وأقربها عندك.

فلما كان في أول ليلة من رجب سنة أربع وتسعين وأربعمائة رأيت في المنام كأني قد جئت إلى مسجد الشيخ أبي منصور الخياط، والناس على الباب مجتمعون، وهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم عند الشيخ أبي منصور، فدخلتُ المسجد، وقصدت إلى الزاوية التي كان يجلس فيها الشيخ أبو منصور، فرأيتهُ قد خرج من زاويته، وجلس بين يدي شخص، فما رأيت شخصًا أحسن منه على نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي وُصِف لنا. وعليه ثيابٌ ما رأيت أشد بياضًا منها، وعلى رأسه عمامةٌ بيضاء. والشيخ أبو منصور مقبل عليه بوجهه، فدخلتُ فسلمتُ، فردَّ عليّ السلام، ولم أتحقق مَنِ الرادِّ عليَّ لدهشتي برؤية النبي صلى الله عليه وسلم وجلستُ بين أيديهما فالتفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن أسأله عن شيء أو أستفتحه بكَلام أصلاً، وقال لي: عليك بمذهب هذا الشيخ. عليك بمذهب هذا الشيخ. عليك بمذهب هذا الشيخ.
قال الحافظ أبو الفضل: وأنا أُقسم بالله ثلاثًا، وأشهد بالله لقد قال لي ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَا. ويشير في كل مرةٍ بيده اليمنى إلى الشيخ أبي منصور.
قال: فانتبهتُ وأعضائي ترعد، فناديتُ والدتي رابعة بنت الشيخ أبي حكيم الحبري، وحكيتُ لها ما رأيت، فقالت: يا بني، هذا منامُ وحي، فاعتمد عليه.
فلما أصبحت بكرت إلى الصلاة خلف الشيخ أبي منصور. فلما صلينا الصبح قصصتُ عليه المنام، فدمعت عيناه، وخشع قلبُه، وقال لي: يا بُني، مذهبُ الشافعي حسن، فتكون على مذهب الشافعي في الفروع، وعلى مذهب أحمد وأصحاب الحديث في الأصول، فقلت له: أي سيدي، ما أريد أكون لونين. وأنا أشهد اللّه وملائكته وأنبيائه، وأشهدُك على أني مُنذ اليوم لا أعتقد ولا أدين اللّه ولا أعتمدُ إلا على مذهب أحمد في الأصول والفروع. فقبَّل الشيخ أبو منصور رأسي، وقال: وفقك اللّه، فقبَّلتُ يدَه.
وقال لي الشيخ أبو منصور: أنا كنتُ في ابتدائي شافعيًا. وكنت أتفقه على القاضي الإمام أبي الطيب الطبري، وأسمع الخلاف عليه. فحضرت يومًا عند الشيخ أبي الحسن علي بن عمر القزويني الزاهد الصالح لأقرأ عليه القرآن، فابتدأت أقرأ عليه القرآن، فقطع علي القراءة مرة أو مرتين، ثم قال: قالوا وقلنا، وقلنا وقالوا. فلا نحن نرجع إليهم، ولا هم يرجعون إلى قولنا، ورجعنا إلى عادتنا. فأيّ فائدة من هذا? ثم كرر عليّ هذا الكلام، فقلت في نفسي: واللّهِ ما عنى الشيخ بهذا أحدًا غيري، فتركتُ الاشتغال بالخلاف. وقرأتُ مختصر أبي القاسم الخرقي على رجل كان يُقرىء القرآن.
قال الحافظ: ورأيتُ بعد ذلك ما زادني يقينًا، وعلمتُ أن ذلك تثبيتٌ مِن الله، وتعليمٌ لأعرف حق لْعمة اللّه عليَّ وأشكره، والله المسؤولُ الخاتمة بالموت على الإسلام والسنة آمين.

جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن جعفر السراج، المقرىء، المحدث، الأديب أبو محمد:

وُلد سنة سبع عشرة وأربعمائة في آخرها- أو في أول سنة ثمان عشرة- ذكره السلفي عنه.
وقال شجاع الذهلي: سنة ست عشرة.
وقرأ القرآن بالروايات. وأقرأ سنين.
وسمع أبا علي بن شاذان، وأبا محمد الخلال، وأبا القاسم بن شاهين، والبرمكي والقزويني، وخلقًا كثيرًا.
وسافر إلى مكة، وسمع بها ودخل الشام، وسمع بدمشق من عبد العزيز الكناني والخطيب وغيرهما. وسمع بطرابلس، وتوجه إلى الديار المصرية، فسمع بها من أبي إسحاق الحبال وأبي محمد بن الضراب. وخرّج له الخطيب خمسة أجزاء معروفة، تسمى السراجيات.
وكان أديبًا شاعراً، لطيفًا صدوقًا، ثقة. وصنف كتبًا حسانًا، منها: كتاب "مصارع العشاق" وكتاب "حكم الصبيان" وكتاب "مناقب السودان". وشعره مطبوع. وقد نظم كتبًا كثيرة شعرًا، فنظم كتاب "المبتدأ" وكتاب "مناسك الحج" وكتاب "الخرقي"، وكتاب "التنبيه" وغيرها.
ذكر ذلك ابن الجوزي، وقال: حدثنا عنه أشياخنا. وآخر من حدثنا عنه شهدة بنت الإبَري، قال: وقرأتُ عليها كتابه المسمى ب "مصارع العشاق" بسماعها منه.
قال: ومن أشعاره:

بان الخليط فـأدمـعـي

 

وجدًا عليهم تسـتـهـلُّ

وحدا بهم حادي الـفـرا

 

ق عن المنازل فاستقلوا

قل للـذين تـرحّـلـوا

 

عن ناظري والقلب حلوا

ودمي بـلا جـرم أتـي

 

ت غداة بينهم استحلُـوا

ما ضرَّهم لو أنهـلـو

 

من ماء وصلهم وَعلوا

قال: وأنبأنا أبو المعمر الأنصاري، أنشدنا جعفر السراج لنفسه:

قل لـلـذين بـجـهـلـهــم

 

أضحوا يَعِيبُون الـمـحـابـر

والحـامـلـين لـهـا مـن الأ

 

يدي بمـجـتـمـع الأسـاوِرْ

لولا الـمـحـابـر والـمـقـا

 

لم والصحـائف والـدفـاتـر

والحـافـظـون شـريعة الـم

 

بعوث من خـير الـعـشـائر

والـنـاقـلـون حـديثـــه

 

عن كابـرٍ ثَـبْـت وكـابِـر

لرأيت مـن شـيع الـضــلا

 

ل عساكراً تتلـو عـسـاكـر

كل يقـول بـجـهــلـــه

 

والله للـمـظـلـوم نـاصـر

سمـيتُـم أهـل الــحـــد

 

يث: أولى النهي وأولى البصائر

حشـوية فـعـلـــيكـــم

 

لعـن يزيركـم الـمـقـابـر

هم حَـشُـو جـنـات الـنـع

 

يم على الأسرة والـمـنـابـر

رفـقـاء أحـمـد كـلـهــم

 

عن حـضـه ريان صــادر

أنبأنا أحمد بن علي الجزري، عن محمد بن عبد الهادي، عن أبي طاهر السلفي أنشدنا أبو

محمد جعفر بن محمد السراج لنفسه:

سقى الله قبراً حل فيه ابنُ حنـبـلٍ

 

من الغيث وَسْمِيًّا على إثـرِه وَلـي

على أن دمعي فيه روَّى عظـامـه

 

إذا فاض ما لم يبل منها وما بلـي

فللَّه رب الناس مَـذْهَـبُ أحـمـد

 

فإنَّ عليه مـا حـييتُ مُـعـوَّلـي

دَعَوْة إلى خلق القرآن كمـا دعـوا

 

سواه فلـم يسـمـع ولـم يتـأوَّلِ

ولا ردَّه ضربُ السياط وسـجـنـه

 

عن السُّنَّة الغراء والمذهب الجلـي

ولما يزدهم، والسـياق تـنـوشـه

 

فشلَّتْ يمينُ الضارب المتـبـتـل

على قوله: القرآنُ، وليشهد الـورى

 

كلامك يا ربَّ الورى، كيفما ما تُلي

فمن مبلغ أصحـابـه أنـنـي بـه

 

أفاخرُ أهلَ العلم في كل محـفـلِ

وألقى به الزهاد كـلَّ مـطـلِّـقٍ

 

من الخوف دنياه طلاق التـبـتـلِ

مناقبه إن لم تحن عـالـمـاً بـهـا

 

فكشفاً طروس القوم عنهن واسـألِ

لقد عاش في الدنيا حميدًا مـوفـقـاً

 

وصار إلى الأخرى إلى خير منزلِ

وإني لراج أن يكون شـفـيعَ مـن

 

تولاَّه من شيخ ومن مـتـكـهـلِ

ومِن حَدثِ قد نوَّر اللّـهُ قـلـبَـه

 

إذا سألوا عن أصله. قال: حنبلـي

وقد روى هذه الأبيات عن جعفرٍ الحافظان: محمد بن ناصر، ويحيى بن منده

وساقها في كتابه "مناقب أحمد".


وقد أثنى عليه شجاع الذهلي، وعبد الوهاب الأنماطي، وابن ناصر، وقال: كان ثقة، مأمونًا عالمًا، فهمًا صالحًا.


كتبَ الكثيرَ. وصنف عدَّة مصنفات وكان قديمًا يستملي على أبي الحسن القزويني، وأبي محمد الخلال، وغيرهما.


قال القاضي عياض: سألتُ أبا علي بن سكرةعن جعفر السراج. فقال: شيخٌ فاضل جميل وسيم مشهور يفهم. عنده لغة وقراءات. وكان الغالب عليه الشعر.


وذكره القاضي أبو بكر بن العربي، فقال: ثقة، عالم، مقرىء. له أدبٌ ظاهر، واختصاص بالخطب.
وقال السلفي: كان ممن يفتخر برويته وروايته لديانته ودرايته. وله تواليف مفيدة.


وفي شيوخه كثرة. وأعلاهم إسنادًا ابن، شاذان.


وقال ابن النجار: كتبَ بخطه الكثير، وكانت له معرفة بالحديث والأدب وحدَّث بالكثير على استقامة وسداد، ببغداد، والشام، ومصر.


وسمع منه الأئمةُ الكبار والحفاظ. وكان متدينًا حسن الطريقة، مع ظرفه ولطف أخلاقه.


رَوى عنه أبو القاسم بن السمرقندي، وعبد الوهاب الأنماطي، وابن ناصر، والسلفي، وغيرهم.
ومن شعر جعفر السراج:

للـه دَرُ عـصـــابة

 

يسعَوْنَ في طلب الفوائدْ

يدعون أصحاب الحـدي

 

ث بهم تجلت المشاهـدْ

طوراً تراهم بالصعـي

 

د وتارةً في ثغرِ آمـدْ

يتَتَبعون مـن الـعـلـو

 

م بكل أرضٍ كلَّ شاردْ

فهُمُ النجومُ المُهتَـدى

 

بهمُ إلى سُبُل المقاصِدْ

وله:

إذا كنتمُ تكتـبـونَ الـحـدي

 

ثَ ليلاً وفي صبحكم تسمعون

وأفنيتُـم فـيه أعـمـاركـم

 

فأيّ زمانٍ به تـعـمـلـون

قال ابن الجوزي: كان جعفر السراج صحيح البدن، لم يعتوره في عمره مرض يُذكر، فمرض أيامًا.

وتوفي ليلة الأحد العشرين من صفر سنة خمسمائة. ودُفن بالمقبرة المعروفة بالأجمة من باب أبرز.
وقيل: مات ليلة الأحد، حادي عشرين صفر. كذا قال ابن ناصر والذهلي.

وفيات المائة السادسة

من سنة 501 ه إلى سنة 540 صلى الله عليه وسلم

رجب بن قحطان بن الحسن بن قحطان الأنصاري، الضرير أبو المعالي المقرىء الأديب:

سمع من أبي الحسين بن النقور. وحدّث باليسير. سمع منه هزارسب بن عوض وغيره.
وقال أبو الفضل بن عطَّاف: كان من مجودي القراء، والمحسنين في الآداء ذا فضل وعقل وأدبٍ.
توفي سنة اثنتين وخمسمائة.


ومن شعره أنشده عنه أبو بكر المزْرَفي:

إنما المرء خلاص جائز

 

فإذا جربته فهو شبـه

وتراه راقدًا في غفـلة

 

فهو حيّ فإذا مات انتبه

أحمد بن علي بن أحمد العلثي، أبو بكر الزاهد:

ذكره أبو الحسين، وابن الجوزي في الطبقات فقال: أحد المشهورين بالزهد والصلاح. سمع الحديث على القاضي أبي يعلى، وقرأ عليه شيئًا من المذهب.


وقال أبو الحسين: صحب الوالد سنين. سمع درسه والحديث منه. وكان يعمل بيده يُجصص الحيطان، ثم ترك ذلك، ولازم المسجد يقرىء القرآن ويؤم الناس وكان عفيفًا لا يقبل من أحدٍ شيئاً، ولا يسأل أحدًا حاجةً لنفسه من أمر الدنيا، مقبلاٌ على شأنه ونفسه، مشتغلاً بعبادة ربه، كثير الصوم والصلاة، مُسَارعًا إلى قضاء حوائج المسلمين، مكرمًا عند الناس أجمعين.


وكان يذهب بنفسه كل ليلة إلى دجلة، فيأخذ في كوز له ماء يفطر عليه، وكان يمشي بنفسه في حوائجه ولا يستعين بأحدٍ . وكان إذا حج يزور القبور بمكة، ويجيء إلى قبر الفُضيْل بن عياض، ويخط بعصاه، ويقول. يا رب ههنا، يا رب ههنا. فاتفق أنه خرج في سنة ثلاث وخمسمائة إلى الحج. وكان قد وقع من الجمل في الطريق دفعتين، فشهد عرفة محرمًا، وبه بقية من ألم الوقوع، وتوفي عشية ذلك اليوم- يوم الأربعاء، يوم عرفة- في أرض عرفات. فحمل إلى مكة، فطيفَ به البيت. ودفن يوم النحر إلى جنب قبر الفضيل بن عياض رضي الله عنه.


وذكره في التاريخ أيضًا، فذكره نحوًا من ذلك. وقال: كان يتنزه عن عمل النقوش والصور. وكان له عقار قد ورثه عن أبيه، فكان يبيع منه شيئًا فشيئًا، فيتقوّت به.


وذكر أبو الحسين: أن سَبَب تركه لصناعته: أنه دخل مرة مع الصُناع إلى بعض دور السلاطين مُكرهًا. وكان فيها صور من الاسفيداج مجسمة، فلما خلا كسرها كلها، فاستعظموا ذلك. فقال: هذا منكرُ، والله أمر بكسره فانتهى أمرُه إلى السلطان، وقيل له: هذا رجلٌ صالح مشهور بالديانة، وهو من أصحاب ابن الفراء، فقال: يخرج، ولا يكلم، ولا يقال له شيء يضيق به صدره، ولا يُرجع يُجاء به إلى عندنا.


قال: وظهر له من الكرامات غير قليل.


أخبرني من أثق به: أنه كان لبعض أهله صبي صغير، فظهر به وَجَعٌ في حلقه ورقبته، وخافوا منه على الصبيَّ، فحمله إلى الشيخ فقرأ عليه، ونفث من ريقه، فزال ما كأن به بعد يوم أو يومين، ولم يحتج إلى علاج.


قال ابن الجوزي: وصحب القاضي أبا يعلى. وقرأ عليه طرفًا من الفقه، وسمع منه الحديث، وحدَّث عنه بشيء يسير.


قلتُ: روى عنه ابن ناصر، والسلفي. ولما بلغ خبر موته إلى بغداد نودي في البلد بالصلاة عليه صلاة الغائب، فحضر الناس في جامعي بغداد من الجانبين. وحضر أصحاب دولة المستظهر بالله أمير المؤمنين. وتقدم للصلاة عليه في الجانب الشرقي بعض أصحاب القاضي.


قال أبو الحسين: وصليتُ عليه أنا في مسجدي بباب المراتب، لعذر، وصلَّى معي جماعة.

محمد بن علي بن محمد بن عثمان بن المراق الحلواني، أبو الفتح الفقيه الزاهد:

وُلد سنة تسع وثلاثين وأربعمائة. وسمع الحديث من أبي الحسين بن المهتدي وأبي الغائم بن المأمون، والقاضي أبي علي، وأبي جعفر بن المسلمة، والصريفيني، والنهرواني، وغيرهم. ورأى القاضي أبا يعلى وصحبه مدة يسيرة، ثم تفقه على صاحبيه الفقيهين: أبي علي يعقوب، وأبي جعفر الشريف. ودرس عليهما الفقه أصولاً وفروعًا، حتى برع فيهما. وأفتى، ودرس بمسجد الشريف أبي جعفر بالحريم بعد شافع. وحدَّث بشيء يسير.
قال ابن شافع: كان ذا زهادة وعبادة. وروى عنه السلفي في مشيخته، وقال: كان من فقهاء الحنابلة ببغداد. وكان مشهورًا بالورع الثخين، والدين المتين.
توفي يوم الجمعة- يوم عيد النحر- سنة خمس وخمسمائة، وصُلِّي عليه من الغد يوم السبت بالجامع. وكان الجمع متوفرًا جدًا، لا يعلم عددهم إلا الله تعالى. ودفن بمقبرة باب حرب.
وقال المبارك بن كامل: تُوفي يوم الجمعة حادي عشر ذي الحجة.
قلتُ: له كتاب "كفاية المبتدي" في الفقه مجلدة، ومصنف آخر في الفقه أكبر منه، ومصنف في أصول الفقه في مجلدين، وله "مختصر العبادات". قاله ابن النجار.

المعمر بن علي بن المعمر بن أبي عمامة البقال البغداديّ، أبو سعد

الفقيه الواعظ. ريحانة البغداديين: وُلد سنة تسع وعشرين وأربعمائة. وسمع من ابن غيلان، وأبي محمد الخلال والجوهريّ، وأبي القاسم الأزجي، وغيرهم.
وكان فقيهًا مفتيًا، وواعظًا بليغًا فصيحًا، له قبول تام، وجواب سريع، وخاطر حاد، وذهن بغداديّ. وكان يضرب به المثل في حدِّة الخاطر، وسرعة الجواب بالمجون، وطيب الخلق، وله كلمات في الوعظ حسنة، ورسائل مستحسنة. وجمهور وعظه حكايات السلف. وكان يحصل بوعظه نفع كثير. وكان في زمن أبي علي بن الوليد شيخ المعتزلة، يجلس في مجلسه، ويلعن المعتزلة.
وخرج مرة فلقي مغنية قد خرجت من عند تركي فقبض على عودها، وقطع أوتارها، فعادت إلى التركيّ فأخبرته، فبعثَ من كبَسَ دَارَ أبي سعد وأُفلتَ، واجتمع بسبب ذلك الحنابلة، وطلبوا من الخليفة إزالة المنكرات كلها، كما سبق ذكر ذلك في ترجمة الشريف أبي جعفر.
وكان أبو سعد يعظ بحضرة الخليفة المستظهر والملوك. وقال يومًا للمستظهر في وعظه: أهونُ ما عنده أن يجعل لك أبواب العراص توابيت.
ووعظ "نظام الملك" الوزير مرة بجامع المهدي، فقال: الحمدُ للّه ولي الإنعام، وصلى الله على من هو للأنبياء ختام، وعلى آله سُرج الظلام، وعلى أصحابه الغرّ الكرام. والسلام على صدر الإسلام. ورَضِيّ الإمام. زَينه اللّهُ بالتقوى، وختم له بالحسنى، وجمع له بين خير الآخرة والدنيا.
معلوم يا صدر الإسلام، أن آحاد الرعية من الأعيان مخيَّرون في القاصد والوافد: إن شاءوا وصَلُوا، وإن شاءوا فَصلُوا، وَأَما من توشح بولاية فليس مخيرًا في القاصد والوافدة لأن من هو على الخليفة أَمير، فهو في الحقيقة أجير، قد باع زمنه وأخذ ثمنه. فلم يبق له من نهاره ما يتصرف فيه على اختياره، ولا له أن يصلي نفلاً، ولا يدخل معتكفًا، دون الصدد لتدبيرهم، والنظر في أمورهم، لأن ذلك فضل، وهذا فرض لازم.
وأنتَ يا صدر الإسلام، وإن كنت وزير الدولة، فأنت أجير الأمة، استأجرك جلال الدولة بالأجرة الوافرة لتنوب عنه في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا: ففي مصالح المسلمين. وأمَّا في الآخرة: فلتجيب عنه ربّ العالمين. فإنه سيقفه بين يديه، فيقول له: ملَّكتُكَ البلاد، وقلدتك أزمّة العباد. فما صنعتَ في إفاضة البذل، وإقامة العدل? فلعله يقول: يا ربّ اخترتُ من دولتي شجاعًا عاقلاً، حازمًا فاضلاً، وسمَّيتُه قوام الدين ونظام الملك، وها هو قائم في جملة الولاة وبسطت بيده في الشرط والسيف والقلم، ومكنته في الدينار والدرِهم، فاسأله يا ربّ: ماذا صنع في عبادك وبلادك? أفتحسن أن تقولَ في الجواب: نعم تقلدتُ أمور البلاد وملكت أزمة العباد وبثثت النوال، وأعطيت الإفضال، حتى إذا قربت من لقائك، ودنوت من تلقائك، اتخذت الأبواب والبواب، والحِجاب والحجاب ليصُدُّوا عني القاصد، ويردُّوا عني الوافد?.
فاعمر قبرك كما عمرت قصرك، وانتهز الفرصة ما دام الدهر يقبل أمرك، فلا تعتذر، فما ثمَّ من يقبل عذرك.
وهذا ملك الهند. وهو عابد صنم ذهبَ سمعُه، فدخل عليه أهل مملكته يعزونه في سمعه، فقال: ما حسرتي لذهاب هذه الجارحة من بدني، ولكن تأسفي لصوت المظلوم لا أسمعه فإغيثه، ثم قال: إن كان قد ذهب سمعي فما ذهب بصري فليؤمر كل ذي ظلامة أن يلبس الأحمر، حتى إذا رأيتُه عرفتُه فأنصفته.

وهذا "أنوشروان" قال له رسول ملك الروم: لقد أقدرتَ عدوَّك عليك بتسهيل الوصول إليك. فقال: إنما أجلس هذا المجلس لأكشف ظُلاَمَةً وأقضي حاجةً.
وأنتَ يا صدر الإسلام، أحق بهذه المأثرة، وأولى بهذه وأحرى من أعدَّ جوابًا لتلك المسألة، فإنَه "اللّهُ الّذي تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَرْنَ مِنْه" مريم: 90. في موقفٍ ما فيه إلا خاشع، أو خاضع أو مقنع، لينخلع فيه القلب، ويحكم فيه الرب، ويعظم فيه الكرب، ويشيب فيه الصغير، ويعزل فيه الملك والوزير، يوم "يتَذكَّرُ الإنْسَانُ، وَأنَّى لَهُ الذِّكْرَى" الفجر: 23، "يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا" آل عمران: 30.
وقد استجلبت لك الدعاء، وخلدت لك الثناء، مع براءتي من التهمة. فليس لي - بحمدالله تعالى- في أرض الله ضيعة ولا قرية، ولا بيني وبين أحد خصُومة، ولا بي - بحمد اللّه تعالى- فقر ولا فاقة.
فلما سمع "نظام الملك" هذه الموعظة بكى بكاءً شديدًا، وأمر له بمائة دينار.
فأبى أن يأخذها، وقال: أنا في ضيافة أمير المؤمنين. ومن يكن في ضيافة أمير المؤمنين يقبح عليه أن يأخذ عطاءَ غيره. فقال له: فُضَّها على الفقراء، فقال: الفقراء على بابك أكثر مِنْهُمْ على بابي، ولم يأخذ شيئًا.
توفي أبو سعد يوم الإثنين ثامن عشرين ربيع الأول، سنة ست وخمسمائة، ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه اللّه تعالى.
قال ابن الجوزي: حكى أبو المكارم بن رميضاء السقلاطوني قال: رأيتُ أبا سعدٍ ابن أبي عمامة في المنام حين اختصم المسترشد والسلطان محمود وعليه ثياب بياض فسلمتُ عليه، وقلتُ: من أينَ أقبلتَ? قال: من عند الإمام أحمد بن حنبل، وها هو ورائي فالتفتُ فرأيتُ أحمد بن حنبل، ومعه جماعة من أصحابه، فقلت: إلى أين تقصدون? قال: إلى أمير المؤمنين المسترشد بالله لندعو له، فصَحبتهم، فانتهينا إلى الحربية إلى مسجد ابن القزويني. فقال أحمد بن حنبل: ندخلُ، فأخذ الشيخ معنا، فدخل باب المسجد. فقال: السلام عليكم ورَحمةُ الله وبركاته. فإذا الصوتُ من صَدرِ المسجد: وعليك السلام، ثم قال: يا أبا عبد اللّه، الإمام قد نصر. قال: فانتبهتُ مَرْعُوبًا. وكان كما قال الشيخ.

جعفر بن الحسن الدَّرْزيجاني، المقرىء، الفقيه، الزاهد:

ذكره القاضي أبو الحسين فيمن تفقه على أبيه، وعلق وسَمع الحديث. ثم ذكر ترجمته كما ذكرها ابن شافع في تاريخه، فقال: هو الأمار بالمعروف، والنهَاء عن المنكر، ذو المقامات المشهودة في ذلك، والمهيب بنور الإيمان واليقين لدى الملوك والمتصرفين.
صحب القاضي أبا يعلى، وتفقه عليه، ثم تمم على صاحبه الشريف أبو جعفر.
وختم عليه القراَن خلق لا يحصون كثرة.
وكان من عباد الله الصالحين، أمَّارًا بالمعروف، قَوالاً بالحق، ناهيًا عن المنكر، لا تأخذه في اللّه تعالى لومة لائم، مهيبًا وقورًا، له حرمةٌ عند الملوك والسلاطين، ولا يتجاسر أحد أن يقدم عليه إذا أنكر منكرًا. وله المقامات المشهودة في ذلك. مداومًا للصيام والتهجُد والقيام. له ختمات كثيرة جدًا، كل ختمة منها في ركعة واحدة. وسمع الحديث من أبي علي بن البناء.
توفي في الصلاة ساجدًا، في شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسمائة، بِدَرزِيْجان.
رحمه الله تعالى.
قال المبارك بن كامل: سمعتُ عبد الوهاب بن قاسم بن علي الشعراني قال: رأيتُ جعفر الدرزيجاني جاء إلى بغداد، فالتقى به أبو الحسين الدرزيجاني، فقال له: كيف تركت الصبيان? فقال له: "ولْيَخْشَ الذين لو تركُوا من خَلْفِهِمْ ذُرّية ضِعَافًا خَافوا عَلَيْهم فَلْيَتقُوا اللهَ ولْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا" آل عمران: 9، تقوى اللّه لنا ولهم.

علي بن محمد بن علي بن أحمد بن إسماعيل الأنباري، القاضي أبو منصور

الفقيه الواعظ. وُلد يوم الخميس خامس عشرين ذي الحجة، سنة خمس وعشرين وأربعمائة. وقرأ القرآن على ابن الشرمقاني.
وسمع الحديث من أبي طالب بن غيلان، والجوهري، أبي إسحاق البرمكي، وأبي بكر بن بشران، وأبي محمد الصريفيني، وأبي الحسين بن المهتدي، وأبي الغنائم بن المأمون، وأبي جعفر بن المسلمة، وأبي بكر الخطيب، وغيرهم.

وسمع من القاضي أبي يعلى. وتفقه عليه حتى برع في الفقه. وأفتى ووعظ بجامع القصر وجامع المنصور وجامع المهدي. وكان مظهرًا للسنة في مجالسه.
وشهد عند أبي عبد الله بن الدامغاني، وأبي بكر السامي، وغيرهما. وولي القضاء بباب الطَاق وحَدث وانتَشرت الرِواية عنه. فروى عَنهُ عبد الوهاب الأنماطي، وعبد الخالق بن أحمد بن يُوسُف، وأبو المعمر الأنصاري، والمبارك بن خضير، والسلفي.
تُوفي يوم السبت رابع عشرين جمادى الآخرة، سنة سبع وخمسمائة. ودُفِنَ من الغَد بمقبرة باب حرب. وتبعَه من الخلق ما لا يُحصى كثرةً، ولا يَعدُّهم إلا أسرع الحاسبين. كذا ذكره ابن شافع.
وفي تاريخ ابن السمعاني عن أبي الفضل بن عطَّاف: أنه توفي ليلة السبت المذكورة.
قال أبو الحسين: صليتُ عليه إمامًا بجامع المنصور في المقصورة. قال: وحَدّث عن الوالد بكثيرٍ من سماعاته ومصنَّفاته.

إسماعيل بن محمد بن الحسن بن داود الأصبهاني، الخياط أبو علي:

سمع الكثير، وكتب بخطه. وكان خطه دقيقًا مطبوعًا.
دخل بغداد سنة سبع وخمسمائة. وحَدّث بها عن والده، وعن أبي بكر محمد بن أحمد بن الحسن بن ماجة، وأبي مطيع المضري، وغيرهم.
سمع منه أبو منصور محمد بن ناصر البردي. وقال: كان من الأئمة الكبار، وهو أخو أبي سعد محمد بن داود.
قال ابن النجار: قرأتُ بخط أخيه أبي سعد: تُوفي أخي أبو علي إسماعيل في العشر الأواخر من جُمادى الآخرة سنة ثمان وخمسمائة. رحمه اللّه تعالى.

إسماعيل بن المبارك بن محمد بن أحمد بن وصيف البغدادي

الفقيه أبو حازم: وُلد سنة خمس ثلاثين وأربعمائة.
وقرأ الفقه على القاضي أبي يعلى، وسمع منه، ومن ابن العشاري، والجوهري.
روى عنه أبو المعمر الأنصاري، وبالإجازة ابن كليب.
وتوفي في رجب سنة ثمان وخمسمائة.

أحمد بن الحسن بن أحمد المخَلَّطِيّ، البغدادي الفقيه، أبو العباس الدباس:

صحب القاضي أبا يعلى. وتفقه عليه، ولازمه، وسمع منه الحديث. وكتب الخلاف وغيره من تصانيفه.
وسمع أيضًا من أبي الحسن بن المهتدي، وأبي جعفر بن المسلمة، وأبي الحسين بن الأبنوسي، وأبي علي بن وشاح، وأبي علي المباركي وغيرهم. وحَدّث عنهم.
قال ابن ناصر الحافظ: وسمعتُ منه. قال: وكان رجلاً صالحًا من أهل القران، والسّتْرِ والصيانة، ثقة مأمونًا.
توفي ليلة الأربعاء ثاني عشر جُمادى الأولى سنة ثمان وخمسمائة. ودُفن مِنَ الغَدِ بمقبرة باب حربٍ . رحمه الله.
و "المخلَّطِي" بفتح اللام المشددة- نسبة إلى المخلَّط، وهو النُّقْلُ، ولعله كان يَبِيعُه.
نقلتُ من بعض تعاليق الإمام أبي العباس بن تيمية، قال: نقلتُ من خط أحمد بن الحسن بن أحمد المخلّطي على ظهر الجزء الثاني والأربعين من تعليق القاضي، ثم رأيتُه أنا بخط المخلّطي، قال: رأيتُ بخط شيخنا- يعني القاضي أبا يعلى- قال: إذا وقفَ داره على مسجد وعلى إمام يصلي فيه: كان للإمام نصف الارتفاع، كما لو وقفها على زيدٍ وعمرو، إنه بينهما. فإن وقفه على مساجد القرية وعلى إمام يُصلي في واحد منها: قسم الارتفاع على عدد المساجد، وعلى الإمام. فإن وقفها على المسجد خاصة: لم يجز أن يدفع إلى إمام يصلي فيه. ولا يصرف في بواري المسجد لأن ذلك من مصلحة المصلين، لا من مصلحة المسجد.

محمد بن سعد بن سعيد العسَّال، المقرىء، أبو البركات بن الحنبلي

يلقب التاريخ: ولد في ربيع الآخر سنة سبعين وأربعمائة.
وقرأ بالروايات على رزق اللّه التميمي، ويحيى بن البستي، وغيرهما.
سمع من أبي نصر الزينبي، وأبي الغنائم بن أبي عثمان، والقاضي ابن البطر والنعالي وغيرهم. وعلق الفقه عن ابن عقيل.
وكان من القراء المجودين، الموصوفين بحُسن الأداء، وطيب النغمة. يُقصد في رمضان، لسماع قراءته في صلاة التراويح، من الأماكن البعيدة. وكان دينًا صالحًا، صَدُوقًا، حَدَّث.
سمع منه ابن ناصر، والسلفي. قال: وكان من أحسن الناس تلاوةً للقرآن، وكتب الحديث الكثير معنا وقبلنا. وهو حنبلي المذهب. علق الفقه عن ابن عقيل.
توفي يوم الثلاثاء سابع رمضان سنة تسع وخمسمائة. وصُلي عليه بجامع القصر. وكان الجمع متوفرًا. ودفن بباب حرب رحمه اللّه تعالى.

هبة الله بن المبارك بن موسى بن علي بن يوسف السَّقَطي، أبو البركات

المحدّث، الرَّحَّال: ذكر أنه وُلد سنة خمس وأربعين وأربعمائة.
وسمع الحديث ببلدِه بغداد، من جماعةٍ، منهم: القاضي أبُو يَعلى. وتفقه عليه.
ورحل إلى واسط، والبصرة، والكوفة، والموصل، وأصبهان، والجبال، وغيرها. وبالغ في الطلب. وتعب في جمع الحديث وكتابته.
وكان له فضل ومعرفة بالحديث واللغة. وجمع الشيوخ وخرج التخاريج.
جمع لنفسه مُعجَمًا لشيوخه في نحو ثمانية أجزاء ضخمة. وجمع تاريخًا لبغداد ذيل به على تاريخ الخطيب. وكان مجدًّا في الطلب والسماع، والبحث عن الشيوخ، وإظهار مسموعاتهم، والقراءة عليهم.
كتب عن أصحاب الدارقطني، وابن شاهين، والمخلص، وابن حبابة، والحربي، وطبقتهم ومن دونهم، حتى كتب عن أقرانه، ومن دونه. وزاد به الشَره في هذا الأمر، حتى ادَّعى السماعَ من شيوخٍ لم يَسْمَع منهم. ولا يحتمل سِنُّه السماع منهم، كأبي محمد الجوهري وغيره.
وسئل شجاع الذهلي عن روايته عن الجوهري. فقال: ما سمعنا بهذا قط وضعَّفه فيه جدًا.
قال ابَن الَسَمَعانيٍ: سألتُ ابن ناصر عن السقطي، فقلت له: أكان ثقة. فقال: لا والله. حدَّث بواسط عن شَيوِخ لم يرهم، وظهر كذبه عندهم.
قال: وسمعتُ ابن ناصر غَيَرَ مِرَّة يقول: السقطيّ لا شيء، وهو مثل نسبه من سقط المتاع. وقد أثنى عليه السلفي، وعدّه من أكابر الحفاظ الَذين أدركهم. وكان له نظم حسن، ومعرفة بالأدب.
قال أبو القاسم بن السمرقندي: كنَّا في مجلس أبي محَمد- رزق اللّه التميمي، فأنشدنا:-

فما تَنفعُ الآداب والعلم والحِجى

 

وصَاحِبُها عند الكمال يمُـوت

كما مات لقمان الحكيم وغيره

 

كلُّهم تحتَ التراب صُمُـوت

وكان هبة الله السقطي في المجلس حاضرًا، فأجابه ببيتين، وأنشدناهما من لفظه لنفسه.

بلى أثرٌ يبقـى لـه بَـعـدَ مـوتـه

 

وذخرٌ له في الحشر لـيس يفـوت

وَمَا يستوي المنطيق ذو العلم والحجى

 

وأخرس بين الناطقـين صـمُـوت

توفي يوم الإثنين ثالث عشرين ربيع الأول سنة تسع وخمسمائة وصَلَّى عليه من الغد بالجامع أبو الخطاب الكلوذاني الفقيه إمامًا، ثم حُمِلْ إلى باب حرب فدُفن قريبًا من قبر منصور بن عمَّار.
وقيل: توفي يوم الثلاثاء المذكور. وقيل: في جُمادى الآخرة. والصحيح الأول.


قال ابن الجَوزي: حكى هبة الله السقطي، قال: قال محمد بن الخليل البوشنجي: حدثني محمد بن علي الهرِوي- وكان تلميذ أبي المعالي الجويني- قال: دخلتُ عليه في مرضه الذي مات فيه وأسنانه تتناثر من فيه ويسقط منها الدود لا يستطاع شم فيه. فقال: هذا عقوبةُ تَعَرُّضي بالكلام، فاحذروا.

??محمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء البغدادي، الواعظ، أبو نصر بن الإمام أبي علي

المتقدم ذكره: ولد حادي عشرين صفر، سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.


وسمع من الجوهري، وأبي بكر بن بشران، والعشاري، وأبي على المباركي ووالده أبي علي بن البناء وطبقتهم. وتفقه على أبيه، وحدَّث.


روى عنه أبو المعمر الأنصاري، وأبو سعد بن البغدادي، وابن ناصر، وأثنى عليه ووثقه.

وكان من أهل الدين والصدق، والعلم والمعرفة. وخلف أباه في حلقته بجامع القصر وجامع المنصور.
توفي ليلة الأربعاء خامس عشر ربيع الأول سنة عشر وخمسمائة- وفي تاريخ ابن النجار: سادس ربيع الأول- وصلى عليه من الغد أبو الحسن الفاعوسي الزاهد، بجامع القصر. ودُفن بباب حَرب.


وقيل: تُوفي في صفر. والأول أصح.

محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذَاني، أبو الخطاب البغدادي

الفقيه. أحد أئمة المذهب وأعيانه: وُلد في ثاني شوال سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة.
وسمع الحديث من الجوهري والعُشَاري، وأبي على الجازري، والمباركي، وأبي الفضل بن الكوفي، والقاضي أبي يعلى، وأبي جعفر بن المسلمة، وأبي الحسين بن المهتدي، وغيرهم.
وكتب بخطه كثيرًا من مسموعاته. ودرس الفقه على القاضي أبي يعلى، ولزمَهُ حتى برع في المذهب والخلاف. وقرأ عليه بعض مصنفاته. وقرأ الفرائض على أبي عبد الله الوني، وبرع فيها أيضًا. وصار إمام وقته، وفريد عصره في الفقه. ودرَّس وأفتى، وقَصَده الطلبة.
وصنف كتبًا حسانًا في المذهب والأصول والخلاف. وانتُفع بها بحسن قصده.

فمن تصانيفه: "الهداية" في الفقه، "والخلاف الكبير" المسمى "بالانتصار في المسائل الكبار"، و "الخلاف الصغير" المسمى ب "رؤوس المسائل".
ونقل عن صاحب المحرر أبي البركات بن تيمية: أنه كان يشير إلى أن ما ذكره أبو الخطَّاب في رؤوس المسائل هو ظاهر المذهب.
وله أيضًا كتاب "التهذيب" في الفرائض، و "التمهيد" في أصول الفقه، وكتاب "العبادات الخمس"، و "مناسك الحج".
وكانت له يَدُ حسنة في الأدب. ويَقُول الشعر اللطيف. وله قصيدة دالية في السنة معروفة، ومقطعات عديدة من الشعر.
وكان حسن الأخلاق، ظريفًا، مليح النادرة، سريع الجواب، حادّ الخاطر. وكان مع ذلك كامل الدين، غزير العقل، جميل السيرة، مرضي الفعال، محمود الطريقة. شهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله بن الدامغاني. وَحَدَّث بالكثير من مسموعاته على صدق واستقامة.
روى عنه ابن ناصر وأبو النعم الأنصاري، وأبو طالب بن خضير، وسعد الله بن الدجاجي، ووفاء بن الأسعد التركي، وأبو الفتح بن شاتيل، وغيرهم.
وروى عند ابن كليب بالإجازة. وقرأ عليه الفقه جماعة من أئمة المذهب منهم عبد الوهاب بن حمزة، وأبو بكر الدينوري، والشيخ عبد القادر الجيلي الزاهد، وغيرهم.
قال أبو بكر بن النقور: كان الكيا الهراسي إذا رأى الشيخ أبا الخطاب مقبلاً قال: قد جاء الفقْه.
قال السلفي: أبو الخطاب من أئمة أصحاب أحمد، يُفتي على مذهبه ويناظر.
وكان عدلاً رضيًا ثقة. عنده كتاب "الجليس والأنيس" للقاضي أبي الفرج الجريري عن الجازري عنه. وكان ينفرد به ولم يتفق لي سماعه. وندمت بعد خروجي من بغداد على فواته. وكذلك أثنى ابن ناصر على أبي الخطاب ثناءً كثيرًا.
وذكر ابن السمعاني: أن أبا الخطاب جاءته فتوى في بيتين من شعر، وهما:

قُلْ للإمام أبي الخطَّاب مـسـألةً

 

جاءتْ إليكَ، ومَا يُرجى سِوَاك لَهَا

ماذا على رَجُلٍ رَام الصلاة فمُـذْ

 

لاَحَتْ لِناظرِه ذاتُ الجمَال لَهَـا.

فكتب عليها أبو الخطاب:

قُل للأديب الذي وافى بمـسـألةٍ

 

سَرَّتْ فؤاديَ لمَّا أن أصَخْتُ لَهـا

إنَّ الذي فَتنتـهُ عَـنْ عـبـادتـه

 

خَرِيدةٌ ذاتُ حُسْن فانثنى ولـهـا

إنْ تابَ ثمَّ قضَى عنه عـبـادتَـه

 

فرَحمَةُ الله تغشى من عَصَى ولها

توفي رحمه اللّه في آخر يوم الأربعاء ثالث عشرين جُمادى الآخرة سنة عشر وخمسمائة، وتُرك يوم الخميس، وصُلي عليه يوم الجمعة في جامع القصر. ودُفن إلى جانب قبر الإمام أحمد رضي اللّه عنه. كذلك حرَّر وفاتَه القاضي أبو بكر بن عبد الباقي.


وكذا ذكره ابن شافع.


وذكر ابن الجوزي: أنه توفي سحر يوم الخميس. ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة.


وذكر ابن شافع: أن أبا الحسن بن الفاعوس الزاهد صلَّى عليه إمامًا. وحضر الجمعُ العظيم والجندُ الكثير. ودُفن بين يدي صف الإمام أحمد، بجنب أبي محمد التميمي. رحمه الله تعالى.


قرأتُ بخط أبي العباس بن تيمية في تعاليقِه القديمة: رئي الإمام أبو الخطاب في المنام، فقيل له: مَا فَعل اللّه بك. فأنشد:

أتيتُ ربي بـمـثـل هـذا

 

فقال: ذا المذْهبُ الرشـيدُ

محفوظُ نَمْ في الجنان، حتى

 

ينقلكَ السائقُ الـشـهـيدُ

قرأتُ على أبي الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم المصري بها: أخبركم أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرَّاني، أخبرنا عبد المنعم بن عبد الوهاب بن علي الحراني، أخبرنا أبو الخطاب محفوظ بن أحمد في كتابه، أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، أخبرنا أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني، أخبرنا أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي، حدثنا فضل- يعني: ابن سهل- حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رجل: "يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك. فقال: طُوبى لمَنْ رآني وآمَنِ بِي، وطوبَى ثمَّ طُوبى ثمَّ طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَني. فقال الرجل: يا رسول الله، ما طوبى. قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة عام. ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها". وبه إلى أبي الخطاب.


وأنشد من قوله:

بأبي من إذا شكوتُ إليه

 

حبَّه قال: ذا محالٌ ولَهْوُ

وإذا ما حلفتُ بالـلـه أنـي

 

صادقٌ، قال لي: يمينُك لغوُ

لا ومن خَصّه بحسـنٍ بـديعٍ

 

وجمالٍ جسمي به اليومَ نِضْوُ

لا تبَدَّلْتُ في هواه ولا خُنْـتُ

 

وَلاَ حَل لي عليه الـسُـلُـوُ

وقوله أيضًا:

يَقُولُ لِيَ الأحِبَّةُ: لا تـزُرنـا

 

على حالٍ، ونحن فلا نزورُ

فْقلت: متى أطعت? فقال هذا

 

وقلت أحبكم فالـقـولُ زورُ

وقوله أيضًا:

كيف أخفي هواكُـم وعـلـيه

 

شاهدُ الحزن والنُّـحـول يَنِـمُ

وإذا اللائمون لاموا فَطـرفـي

 

في هواكم أعمى وسمعي أصَمُّ

أنتمُ لِلفـؤادِ هَـمٌّ ولـلـعَـيْ

 

نِ سُهَادٌ للـجـوانـح سُـقْـمُ

كل يوم تُجَدِّدون عـلـى قـلْ

 

بي عَذاباً وليسَ للقلـب جُـرْمُ

ولئن دَام ذا، وَلا دام مـنـكـم

 

تَلِفَتْ مُهجتي وفـي ذاك إثـمُ

وقوله أيضًا:

علام أُجازَى بالوصال قـطـيعة

 

وبالحب بغضاً. إن ذا لعـجـيبُ

وكم ذا التجني منك في كل ساعة

 

أما لفؤادي من رضاك نـصـيبُ

لئن لان جنبي عندكم فهو والهوى

 

منيعٌ ولكنَّ الحـبـيبُ حـبـيبُ

وإن كان ذنبي عندكم كلفي بـكـم

 

فما أنا منـه مـا حَـييتُ أتـوبُ

غرامي بكم حتى المماتِ مضاعفٌ

 

وقلبي لكُمْ عندي علـيَّ رقـيبُ

ومن شعر أبي الخطَاب، أورده ابن النجار من طريق أبي المعمر الأنصاري رضي الله عنه:

إنْ كنتَ يا صاحِ بوجدي عالمـاً

 

فلا تكنْ لي في هـواه لائمـا

وإن جَهِلت مـا ألاقـي بـهـم

 

فانظر تَرَ دُموعيَ السواجِـمـا

هُمْ قتلوني بالصُدود والـقـلـى

 

وما رعَوْا في قتليَ المحارَمـا

يا من يخاف الإثم في وصلي أَما

 

تخاف في سفك دمي المآثمـا?

هبْني رضيتُ أن تكون قاتلـي

 

فهل رضيتَ أن تكون ظالما?

سلوا النجوم بَعدكم عن مضجعي

 

هل قَرَّ جَنْبي أو رأتْني نائمـاً?

واستقبلوا الشمال كيما تنظـروا

 

من حرّ أنفاسي بها سمـائمـا

وهذه الأيكُ سلـوا الأيكَ: أَلـمْ

 

أُعلّم النوحَ بها الـحـمـائمـا

لقد أقمتُ بعد أن فارقـتـكـم

 

على فؤادي بينهـا مـآثـمـا

كان أبو الخطاب رضي اللّه عنه فقيهًا عظيمًا كثير التحقيق، وله من التحقيق والتدقيق الحسن في مسائل الفقه وأصوله شيء كثير جدًا. وله مسائل ينفرد بها عن الأصحاب.
فما تفرد به قوله: إن للعصر سنة راتبة قبلها أربع ركعات.
وقوله: إن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر، وإنها ترد إلى من أخذت منه من المسلمين على كل حال، ولو قسمت في المغنم أو أسلم الكافر وهي في يده.
ومن ذلك قوله: إن الأضحية يزول الملك فيها بمجرد الإيجاب، فلا يملك صاحبها إبدالها بحال.
ومن ذلك ما ذكره في الهداية: أن الزرافة حَرَام. وقال السامري: هو سهو منه.
ومن ذلك: قوله بطهارة الأدهان المنجسة، التي يمكن غَسلها بالغسل.
ومن ذلك قوله: إنّ من ملك أختين: لم يجز له الإقدام على وطء واحدة منهما حتى تحرم الأخرى عليه، بإزالة ملكه عنها أو عن بعضها، كما لو كان قد وطىء إحداهما، ثم أراد وطء الأخرى. وقد رأيتُ في كلام الإمام أحمد في رواية إسحاق بن هانىء ما يدل على مثل ذلك. ونصه مذكور في مسائل ابن هانىء في كتاب الجهاد.
ومن ذلك قوله: إنّ النكاح لا ينفسخ بسبي واحدٍ من الزوجين بحال، سواء سُييَا معاً أو سُبِيَ أحدهما وحده. وقد حكى بن المنذر الإجماع على انفساخ نكاح المسيبة وحدها إذا كان زوجها في دار الحرب. وحكاه غير واحدٍ من أصحابنا أيضًا كابن عقيل. وهو ظاهر القران. وحديثُ أبي سعيد في صحيح مسلم صريحٌ في ذلك. والعجب أنه ذكر في الانتصار: أن حديث أبي سعيد لا يصح. قال: والدليل على ضعفه أن سبايا أوطَاسٍ كُنَّ مجُوسيات. وهذا مما يعلم بطلانه قطعًا فإن العرب لم يكونوا مجوسًا.

وقد نسب إلى أبي الخطَّاب التفرّد بتخريج رواية: بأن الترتيب لا يشترط في الوضوء، وليس كذلك فقد وافقه على هذا التخريج ابن عقيل، واتفقا على تخريجها من رواية سقوط الترتيب بين المضمضة والاستنشاق، وسائر أعضاء الوضوء.
وذكر أبو الخطاب في كتاب الصيام من الهداية، رواية عن أحمد: أنّ من دخل في حجّ تطوع، ثم أفسده: لم يلزمه قضاؤه. ولم يذكر ذلك في كتاب الحج، ولا في غير الهداية.
قال أبو البركات بن تيمية: ولعله سها في ذلك، وانتقل ذهنه من مسألة الفوات إلى مسألة الإفساد.
وذكر في الانتصار رواية عن أحمد: أن صلاة الفرض تقضى عن الميت كالنذر.
وذكر في الانتصار في مسألة ما إذا قتل واحد جماعةً عمدًا: أن أولياءهم بالخيار، إن شاءوا قُتل للجميع لا يكون لهم غير ذلك، ويسقط باقي حقوقهم. وإن اختار بعضُهم القود وبعضُهم الدية: قُتِل لمختار القَوَد، وأخذ من ماله الدية لطالبها، وأن أحمد نصَّ على ذلك في رواية الميموني.
وذكره الخرقي في مختصره، قال: ويتخرج لنا كقول أبي حنيفة ومالك: يُقتل للجميع، وليس لهم غير ذلك، على الرواية التي تقول: لا يثبت بقتل العمد غير القود.
ثم قال في آخر المسألة: هذا الفصلُ مشكل على قول أحمد رحمه اللّه لأنه إن قال: حقوقُ الجميع تساوتْ، فإذا طلبوا القتلَ ليس لهم غيره. وعلّل بأنهم أخذوا بعض حقوقهم، وسقط بعضها. فقد قال: بأن القصاص يتَبعّضُ في الاستيفاء والإسقاط. وهذا بعيد. فإنه لو قتل رجلٌ رجلين، فقال وليّ كل واحدٍ منهما: قد عَفَوْتُ لك عن نصف القصاص، ولكن قد بقي لكل واحدٍ منَّا النصف فيستحق قتلك به: لم يجُز لهم ذلك، وسقط حقهم من القصاص. ولو كان يتبعض لثبت ذلك. وإن لم يقل بالتبعيض لم يصح قوله: أخذ بعض الحق وأسقط بعضه. واقتضى أن يقول كقول أبي حنيفة، وأنه يُقتل للجميع، لأن دمه يساوي دَم الجميع، أو لأنه لم يبقَ محل يستوفي منه، أو يَقُول كما قال الشافعي: يُقتَل بالأول أو بمن تخرجُه القرعة وتؤخذ الديات للباقين.
والذي يتحقق عندي: أنه يقتل للجميع وتؤخذ من ماله ديات الجميع تقسمُ بينهم، كما قال أبو حنيفة: إذا قطع يميني رجلين فيقطع لهما، وتؤخذ دية يَدٍ فتقسمُ بينهما، وكما قال أبو حامد وشيخنا وأصحابنا: إذا قطع مَنْ يده ناقصة الأصابع يدًا تامة يجوز للمقطوعة يده أن يقطع اليد الناقصة، ويأخذ دية الأصابع فيجتمع القصاصُ والديةُ ليكمل حَقه، كذلك في مسألتنا. واللّهُ أعلم.
وذكر في الانتصار في مسألة ضمان العارية: أن المبيع إذا فُسِخ لعيبٍ أو غيره، فتلفت السلعة في يد المشتري: أنه لا ضمان عليه لأن يده يد أمانةٍ. وهذا غريبٌ مخالفٌ لما ذكره غير واحد من الأصحاب، كالقاضي في خلافه، وابن عقيل، والأزجي في النهاية.
واختار فيه: أنه يصح أن يضمن بعض ما على فلان من الدين، وإن لم يعين به البعض، وقال: لا أعلم فيه نصًا عن أحمد.
وفي المْنون لابن عقيل قال: إن الشريف أبا جعفر قال: إن الصحة قياس المذهب، وأنه اختاره.
واختار فيه: أن عامل الزكاة شريك لبقية الأصناف لا أجير، فلا يجوز أن يكون هاشميًا ولا عبدًا.
وحكى فيه رواية: أن السيد إذا أذن لعبده في نوع من التجارة. مَلَك التصرف في سائر الأنواع.
وحكى فيه وجهًا: أن كل صلاة تفتقر إلى تيمم، وإن كانت نوافل.
واختار في الهداية: ردّ اليمين على المدَّعي، فيقضى له بيمينه. وقد أشار إليه أحمد في رواية أبي طالب.
ووقفتُ على فتاوى أرسلت إلى أبي الخطَّاب رحمه الله من الرحبة، فأفتى فيها في الشهر الذي تُوفي فيه في جمادى الآخرة سنة عشر وخمسمائة.
وأفتى فيها ابن عقيل وابن الزاغوني أيضًا.
فمنها: إذا غاب الزوج قبل الدُخول فطلبت المرأة المهر، فإن الحاكم يُراسل الزوجَ، ويعلمه بالمطالبة بالمهر، وأنه إنْ لم يبعثْ به إلى الزوجة باع عليه ملكه. فإنْ لم يبعثْ باعَ عليه. وإن لم يعلم موضِعَه باعَ بمقدار نصف الصداق، وَدَفعه إليها لجواز أن يكون قد طلقها قبل الدخول ويبقي بقية الصداق موقوفاً.
ووافَقَهُ ابن عقيل على ذلك.
وظاهر هذا: أنه إن أمكن مُرَاسلته وامتنع باع عليه، ودفع إليها كل الصداق للعلم بأنه لم يُطلق.

وأما ابن الزاغوني: فإنه أفتى بأنه لا يدفع الحاكم إليها أكثر من نصف الصداق بكل حال لأنه الثابت لها باليقين، والنصف الباقي يحتمل أن يسقط بطلاق مُتَجدّدٍ.
ويرد على هذا التعليل: أن هذا النصف أيضًا يحتمل سقوطه بفسخٍ لعيب أو غيره من المسقطات.
ومنها، في وقف السُتور على المسجد: أفتى أنه يَصِح وقفها وتباع، وتنفق أثمانها على عمارته، ولا تستر حيطانه بخلاف الكعبة، فإنها خُصَّتْ بذلك كما خُصَّتْ بالطواف حولها.
وخالفه ابن عقيل، وابن الزاغوني، قالا: الوقفُ باطلٌ من أصله، والمال على ملك الواقف.
ومنها: إذا وجد شاة بمضيعة في البرية فإنه يجوز له أخذها، وذبحها. ويلزمه ضمانها إذا جاء مالكها. وإذا وجدها بمصر وجب تعريفها. ووافَقَه ابن الزاغوني.
وخالفهما ابن عقيل، وقال: لا يجوزُ له ذبحها بحالٍ، وإن ذبحها أثِمَ ولزمه ضمانها.
ومنها: أن الشاهد لا يجوزُ له أن يشهد على آخر في كتاب مكتوب عليه حتى يقرأه عليه، أو يقرَّ عنده المكتوب عليه: أنه قرىء عليه أو أنه فَهِمَ جميع ما فيه ولا يجوز الشهادة عليه بمجرد قوله: اشهد عليَّ بما في هذا الكتاب.
ووافقه ابن الزاغوني على ذلك.
ومنها: كَمْ قدر التراب الذي يستعمل في غسل الإناء من ولوغ الكلب?.
أفتى: أنه ليس له حَدّ. وإنما يكون بحيث تمر أجزاء التراب مع نداوة الماء على جميع الإناء.
وأفتى ابن عقيل: أنه تكون بحيث تظهر صفته ويغير الماء.
وقال ابن الزاغوني: إن كان المحك لا يضره التراب، فلا بد أن يُؤثر في الماء، وإن كان يتضرر بالتراب: فهل يجب ذلك، أم يكفي ما يقع عليه اسم التراب وإن لم يظهر أثره? على وجهين.
ومنها: إشارة الأخرس في الصلاة? أفتى: إذا كثر ذلك منه بطلتْ صلاتهُ.
وأفتى ابن الزاغوني: أن الإشارة بردّ السلام لا تبطل من الأخرس ولا من المتكلم. وما عداها يجري مجرى العمل في الصلاة، فيفرقُ بين كثيرها ويسيرها.
وأفتى ابن عَقيل: أن إشارة الأخرس المفهومة تجري مجرى الكلام، فإن كانت برَدّ سلامٍ خاصة لم تبطل، وما سوى ذلك تبطل.
ومنها: إذا كتب القرآن بالذهب تجبُ فيه الزكاة إذا كان نصابًا. ويجز له حكه وأخذه.
ووافقهُ ابن الزاغوني، وزاد: إن كتابته بالذهب حرام، ويُؤمَر بحكه. ولا يجوز للرجل اتخاذه.
ومنها: إذا أجرت نفسها للإرضاع في رمضان: هل لها أن تفطر، إذا تغير لبنها بالصوم بحيث يتأذى بذلك المرتضع? أجاب: يَجُوزُ لها ذلك. وإذا امتنعت لزمها ذلك. فإن لم تفعل كان لأهل الصبي الخيار في الفسخ.
ووافقه ابن الزاغوني، وزاد: متى قصدت بصومها تضرر الصَبي عصتْ وأثمت وكان للحاكم إلزامها بالفطر، إذا طلبه المستأجر.
ومنها: إذا رأى إنسانًا يغرق، يجوز له الإفطار إذا تيقن تخليصَهُ مِن الغَرق، ولم يمكنه الصوم مع التخليص.
ووافقه ابن الزاغوني.
ومنها: هلْ يجوز التفريق بين الأم وولدها بالسفر، إذا قصد أن يجعل وطنها دُون وطنه? أجاب: إنه لا يجوز ذلك.
وأجاب ابن عقيل: إذا كان الولد مستقلاً، غير محتاج إلى تربية الأم، كان الأبُ أحق به سفرًا، لتخريجه في عمل أو تجارةٍ. وانقطع آخر جوابه.
وأجاب ابن الزاغوني: إذا افترقت بالأبوين الدار، ولم يقصد الأب ضَرر الأم بمنعها من كفالةِ الولد، فالأب أحق به.

فصل

صَنَّف بعضُ أصحابنا -وهو الوزير ابن يونس- مصنفاً في أوهام أبي الخطاب في الفرائض ومتعلقاتها من الوصايا والمسائل الحسابية. ولم أقف عليه كله، بل على بعضه. لكن لأبي الخطاب في هذه المواضع مسائل متفرقة، يقال: إنها وهمٌ وغلط.
فمنها: مسألة في البيع بتخيير الثمن، والوضيعة منه.
ومسألة في وقف المريض داره التي لا يملك سواها على ابنه وابنته بالسوية، وحكم إجازتهما وردّهما، وإجازة أحدهما وردّ الآخر. ولتصحيح كلامه فيها وجهٌ فيه تعسيفٌ شديد.
ومسألة في الوصايا، فيما إذا تَركَ ابنين ووَصى لرجل بجميع ماله، ولآخر بثلثه، وحكم إجازتهما وردّهما، وإجازة أحدهما ورد الآخر، وإجازتهما لأحدهما وردهما على الآخر. قد تأملتُ هذه المسألة، فوجدت الخلل فيها وقع من جهة النَسخ. فإن في الأصل فيها إلحاقًا اشتبه على النُسَّاخ موضعه، فألحقوه في غير موضعه، فنشأ الخلل في الكلام، ولزم بسبب ذلك لوازم فاسدة. وقد نسب السامري الوهم فيها إلى أبي الخطاب، وليس كذلك.

ومنها: مسألة، في باب الإقرار بمشاركٍ في الميراث. وقد ذكرها أبو البركات في المحرر، وذكر أنها سهو.
ومنها: مسألة في الوصية بسهمِ من سهام الورثة. وقد بين خَللها السامري في مستوعبه.
ومنها: عده الجهات في ذوي الأرحام، وأنها خمسة. وقد اعترف بأنه لم يُسبق إلى ذلك. وقد ألزمَه صاحب المغني وصاحب المحرر وغيرهما لوازم فاسدة، بسبب ذلك. وطائفة محققي المتأخرين صَححُوا كلامه في الجهات، وأجابوا عما أورد عليه، وبينوا أنه غير لازم له. ولولا خشية الإطالة، وأن نخرج عما نحن بصدده من التراجم لذكرنا هذه المسائل مسألة مسألة، وبينا ما وقع فيه الوهم من غيره، ولكن نذكر ذلك في موضع آخر إن شاء اللّه تعالى.

يحيى بن عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصبهاني، الحافظ، الإمام أبو زكريا بن أبي عمرو بن الإمام الحافظ أبي عبد الله بن أبي محمد بن أبي يعقوب

المحدث ابن المحدث، ابن المحدث ابن المحدث، ابن المحدث، ابن المحدث: وُلد يوم الثلاثاء تاسع عشر شوال، سنة أربع وثلاثين وأربعمائة بأصبهان.
وسمع من أبيه أبي عمرو، وعميه: أبي القاسم عبد الرحمن، وأبي الحسن عُبيد الله، وأبي بكر بن ريذة، وسمع منه المعجم الكبير للطبراني عنه، وأبي طاهر الكاتب، وأبي منصور محمد بن عبد الله بن فضلويه، وأبي طاهر أحمد بن محمود الثقفي، وغيرهم.
ورحل إلى نيسابور، وسمع بها من أبي بكر أحمد بن منصور بن خلف المقرىء، وأبي بكر البيهقي الحافظ بهمذان، وأبي بكر محمد بن عبد الرحمن النَّهاوندي.
وسمع بالبصرة من أبي القاسم إبراهيم بن محمد بن أحمد الشاهد، وعبد اللّه بن الحسين السعيداني، وخلق كثير سواهم.
وصنف التصانيف، وأملى، وخَرَّج التخاريج لنفسه، ولجماعة من شيوخ أصبهان.
وحَدّث بالكثير، وسَمِعَ منه الكبارُ والحفاظ من أهل بلده وغيرهم. منهم: الحافظ أبو القاسم إسماعيل التيمي، ومحمد بن عبد الواحد الدقاق، وأبو الفضل محمد بن هبة الله بن العلاء.
وقدم بغداد حاجاً، وحَدَّث بها، وأملى بجامع المنصور.
سَمِعَ منه بها: أبو منصور الخياط، وأبو الحسين بن الطيُوري، وهما أسن منه، وأقدم إسنادًا.
وسَمِع منه بها أيضاً: ابن ناصر، وعبد الوهاب الأنماطي، والسلفي، والشيخ عبد القادر الجيلي، وأبو محمد بن الخشاب، وعبد الحق اليوسفي، وآخر أصحابه موتًا أبو جعفر الطرسوسي، وروى عنه بالإجازة أبو سعد بن السمعاني الحافظ.
قال ابن السمعاني: سألتُ إسماعيل التيمي الحافظ عنه. فأثنى عليه وَوَصَفه بالحفظ والمعرفة والدراية. قال: وسمعتُ أبا بكر اللفتواني الحافظ يقول: بيتُ ابن منده بُدِىء بيحيى وخُتم بيحيى.
قال ابن السمعاني: يريدُ في معرفة الحديث والفضل والعلم.
وذكر شيرويه بن شهردار الحافظ فقال: قدم علينا سمع منه عامة مشايخ الجبل وخراسان. وكان حافطاً، فاضلاً مكثرًا، صدوقًا، ثقةً، يحسن هذا الشأن جيدًا، كثير التصانيف، شيخ الحنابلة ومقدمهم، حَسنَ السيرة، بعيدًا من التكلف، متمسكاً بالأثر.
وذكره محمد بن عبد الواحد الدقاق الحافظ، فقال: الشيخ الإمام الأوحَدُ، عنده الحديث الكثير، والكتب الكثيرة الوافرة، جمع وصنف تصانيف كثيرة. منها: كتاب الصحيح على كتاب مسلم بن الحجاج.
وذكره إسماعيل بن عبد الغافر، في تاريخ نيسابور، فقال: رجل فاضل، من بيت العلم والحديث، المشهور في الدنيا، سَمِع من مشايخ أصبهان، وسافر ودخل نيسابور، وأدرك المشايخ، وسمع منهم، وجمع، وصنف على الصحيحين. وعاد إلى بلده.
وقال ابن السمعاني في حقه: جليل القدر، وافر الفضل، واسع الرواية، ثقة حافظ، فاضل، مكثر، صدوق، كثير التصانيف، حسن السيرة، بعيد التكلف، أوحد بيته في عصره. صنف تاريخ أصبهان، وغيره من الجموع.
قلتُ: وصنف مناقب العباس رضي الله عنه في أجزاء كثيرة.
وللحافظ السلفي فيه يمدحه:

إنَ يحيى فديتُه مـن إمـامٍ

 

حافظٍ ، متقنٍ، تقيّ، حلـيمِ

جَمَع النبل والأصالة والفض

 

لِ وفي العلم فوق كل عليمِ

وصنف مناقب الإمام أحمد رضي الله عنه في مجلدٍ كبير، وفيه فوائد حسنة.

 

وقال في أوله: ومن أعظم جهالاتهم- يعني المبتدعة- وغلوهم في مقالاتهم: وقوعهم في الإمام المرضي، إمام الأئمة، وكهف الأمة، ناصر الإسلام والسنة، ومن لم تر عين مثله علمًا وزهدًا، وديانة وأمانة. إمام أهل الحديث أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني قدَّس الله روحه، وبرد عليه ضريحه. الإمام الذي لا يجارى، والفحلُ الذي لا يبَارَى. ومن أجمع أئمة الدين رحمة الله ورضوانه عليهم في زمانه على تقدمه في شأنه، ونبله وعلو مكانه. والذي له من المناقب ما لا يُعَدُّ ولا يحصى. قام للّه تعالى مقامًا لولاه لتجهم الناس، ولمشوا على أعقابهم القهقرى، ولضعف الإسلام، واندرس العلم.
ولقد صدق الإمام أبو رجاء قتيبة بن سعيد البغلاني حيث قال: إن أحمد بن حنبل في زمانه بمنزلة أبي بكر وعمر في زمانهما. وأحسن من قال: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان آية أعاشنا الله تعالى على عقيدته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته.
وحين وقفتُ على سرائر هؤلاء، وخبث اعتقادهم في هذا الإمام، قَصَدت لمجموع نبهتُ فيه على بعض فضائله، ونبذة من مناقبه. وذكرتُ طرفًا مما منحهُ الله تعالى من المنزلة الرفيعة، والرتبة العلية في الإسلام والسنة. مع أني لستُ أرى لنفسي أهلية لذلك، وأن المشايخ الماضين رحمهم الله تعالى قد عنوا بجمعه فشفوا لكني أردتُ أن يبقى له بجمع مناقبه ذكر، وأن كون مشرفًا فيما بين أهل العلم من أهل السنة بانتسابي إليه، ونحلي مذهبه وطريقته.
وذكر في أثناء هذا الكتاب: أخبرنا أحمد بن محمد بن جعفر الفقيه إجازة: أخبرنا أبو مسعود أحمد بن محمد البجلي الطبري قال: قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين الأسدي، في فضائل الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل: لما فرغتُ من سماع كتاب المسند من أبي بكر القطيعي ببغداد، عن عبد الله عن أبيه رحمهم الله. وتحصيل نسخة من مائة ونيف وعشرين جزءًا، وجملة ما وعاه الكتاب أربعون ألف حديث غير ثلاثين- أو أربعين- حديثًا. سمعتُ ذلك من ابن مالك، يقول: وسمعتُهُ أيضًا يقول: سمعتُ عبد الله يقول: أخرج والدي هذا المسند من جملة سبعمائة ألف حديث. وقد أفردتُ لذلك كتابَا في جزء واحد، سميته: كتاب "المدخل في المسند" أشبعتُ فيه ذكر ذلك أجمع. وأنا أسأل الله تعالى انتفاعنا بالعلم، وتوفيقًا لما يقربنا إليه، فإنه قريب مجيب.
ومنه قال: أخبرنا عمي الإمام، أخبرنا عبد اللّه بن محمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو الحسن العبدي، حدثني أبو الحسين، حدثنا رزين بن أبي هارون قال: قال فوران: ماتتْ امرأة لبعض أهل العلم، قال: فجاء يحيى بن معين والدورقي. قال: فلم يجدوا امرأة تغسلها إلا امرأة حائض. قال: فجَاء أحمد بن حنبل، وهم جلوس، فقال: ما شأنكم? فقال أهل المرأة: ليس نجد غاسلة إلا امرأة حَائض، قال: فقال أحمد بن حنبل: أليس تروون عن النبي صلى الله عليه وسلم "يا عائشة، ناوِليني الْخُمْرَةَ. قَالَتْ: إني حَائِضٌ، فَقَال: إن حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ في يَدَكِ" يجوزُ أن تغسلها. قال: فخجلوا وبقوا.
سمعتُ أبا العباس البيهقي يقول: سمعتُ أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعتُ أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد يقول: سمعتُ العباس بن حمزة يقول: سمعتُ أِحمد بن حنبل رحمه الله يقول: الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فمن لم يعمل هنا نَدِمَ هُناك.
وروي من طريق النقاش: سمعتُ الدارقطني: سمعتُ أبا سهل بن زياد: سمعتُ عبد اللّه بن أحمد بن حنبل يقول: سُئل أحمد رحمه الله عن الفتوة. فقال: تَرْكُ ما تهوى لما تخشى.
ومن طريق أحمد بن مروان المالكي، حدثنا إدريس الحداد قال: كان أحمد بن حنبل إذا ضاق به الأمر اَجر نفسه من الحاكة فسوَّى لهم. قال إدريس: فلما كان أيام المحنة، وصُرِف إلى بيته حُمِلَ إليه مال جليل، وهو محتاجٌ إلى رغيف يأكله، فردَّ جميع ذلك، لم يقبل منه قليلاً ولا كثيرًا، قال: فجعل عمه إسحاق يحسب ما رد، فإذا هو خمسمائة ألف- أو نحوها- فقال له: يا عم، أراك مشغولاً بحساب ما ليس يُحسب، فقال: قد رددت اليوم كذا وكذا، وأنت محتاج إلى حبة. فقال: يا عم، لو طلبنا لم يأتنا. وإنما أتانا لَمَّا تركناه.

أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد الرحيم، أخبرنا أبو محمد بن حبان: سمعتُ أبا جعفر البردي: سمعتُ إسماعيل بن قتيبة سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: إن الْقَلَنْسُوَه لتقع من السماء على رأس من لا يحبُّها.
أخبرنا أبي رحمه الله، أخبرنا أبو عمر بن عبد الوهاب إجازة، حدثنا أحمد بن محمد بن عمر، حدثنا أبو عبد الرحمن- يعني: عبد الله بن أحمد- قال: قلتُ لأبي رحمه الله: يقولون: إنك تتوضأ مما مسَّت النار. قال: ما فعلته قط، ولم يثبت عندي في ذا خبرٌ.
أخبرنا عمّي الإمام، أخبرنا عليّ بن عبد الله بن جَهضم بمكة، حدثنا محمد بن أبي زكريا الفقيه، حدثنا عبدوس بن أحمد، حدثنا أبو حامد الخُلْقاني قال: قلتُ لأحمد بن حنبل: ما تقول في القصائد. فقال: في مثل ماذا. قلت: مثل ما تقول:

إذا ما قال لـي ربِّـي:

 

أما استحييت تعصينـي

وتُخفي الذنب من غيري

 

وبالعصيان تأتـينـي?

قال: فرد الباب، وجعل يقول:

إذا ما قال لـي ربِّـي:

 

أما استحييتَ تعصينـي

وتُخفي الذنبَ مِنْ غَيْري

 

وبالعصيان تأتـينـي?

فخَرَجتُ وتركته.
أخبرنا عمي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن قاذويه، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا أبو حاتم محمد بن إدريس قال: ولقد ذكر لأبي عبد الله أحمد بن حنبل رجل من أهل العلم، كانت له زلة، وأنه تاب من زلته، فقال: لا يقبل الله ذلك منه حتى يظهر التوبة والرجوع عن مقالته، وليعلمن أنه قال مقالته كيت وكيت، وأنه تاب إلى الله تعالى من مقالته، ورجع عنه، فإذا ظهر ذلك منه حينئذ تقبل، ثم تلا أبو عبد اللّه "إلاَّ ا الَذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا" البقرة:160.
ومن طريق أبي أحمد بن علي، حدثنا عبد المؤمن بن أحمد بن جوثرة الجرجاني: سمعتُ عمار بن رجاء يقول: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: طلب إسناد العلو من السنة.
أخبرنا عمي الإمام، أخبرنا يحيى بن عمار بن يحيى كتابة: أن أبا جعفر محمد بن أحمد بن محمد الصفار أخبره: حدثنا محمد بن إبراهيم الصرام، حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي، قال: قال أحمد بن حنبل رحمه الله: كنا نرى السكوت عن هذا قبل أن يخوض فيه هؤلاء. فلما أظهروه لم نجد بدًا من مخالفتهم.
ووجدتُ في كتب الإمام عمِّي بخطَه: قال القاسم بن محمد أبو الحارث: حدثنا يعقوب بن إسحاق البغدادي، سمعتُ هارون الحمال يقول: سمعت أحمد بن حنبل، وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد اللّه: إن ههنا رجل يُفضِّلُ عمر بن عبد العزيز على معاوية بن أبي سفيان، فقال أحمد: لا تجالسه، ولا تؤاكله ولا تشاربه، وإذا مرض فلا تعُده.
أخبرنا أبي وعماي رحمهم اللّه، أخبرنا والدنا رحمه الله، أخبرنا محمد بن عبد الله بن يوسف العماني، حدثني جَدِّي العباس بن حمزة قال: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: سبحانك، ما أغفل هذا الخلق عما أمامهم! الخائف منهم مقصر، والراجي منهم متوانٍ .
أخبرنا عمي الإمام، أخبرنا عبد الله بن عمر الكرخي، أخبرنا سليمان بن أحمد بن أيوب، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سُئِلَ أبي عن رجل وجب عليه تحرير رقبة مُؤمنة، فكان عنده مملوك سوء، لقنه أن يقول بخلق القرآن? فقال: لا يجزي عنه عتقه لأن الله تبارك وتعالى أمره بتحرير رقبة مؤمنة، وليس هذا بمؤمن. هذا كافر.
أخبرنا الإمام عمي، أخبرنا أبي، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألتُ أبي عن قوم يقولون: لما كلم اللّه موسى عليه السلام لم يتكلم الله بصوت، فقال أبي رحمه الله: بل تكلم عزَّ وجل بصوت. هذه الأحاديث نمرها كما جاءت.
قال أبي رحمه الله: حديث بن مسعود "إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كمرِّ السلسلة على الصفوان". قال أبي: وهذه الجَهميَّة تنكره. قال أبي: وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس. من زعمّ أن اللّه عز وجل لم يتكلم فهو كافر. إلا أنا نروي هذه الأحاديث كما جاءت.
أخبرنا عمي الإمام، أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد الرحمن، أخبرنا عبد اللّه بن جعفر بن فارس، حدثنا إسماعيل بن أحمد، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألتُ أبي عن رجل يمتحن بالقرآن: مخلوق، فيحدث. فقالا: كان ابن عيينة يتحَدَّث به، ولم أسمعه أنا منه.

عن إسماعيل عن قيس قال: اجتمع الأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله على جنازة، فقدم الأشعثُ جريرًا عليها، وقال للناس: إني ارتددت، ولم يرتد. قال: أنا أقول بهذا الحديث في هذه المسألة. فقلت: إن اجتمع رجلان، أحدهما قد امتحن، والآخر لم يمتحن? فقال: لا يتقدم، وليُصَل بهم الذي لم يمتحن. رأى ذلك فضيلة له على من امتحن، وأعجبه حديث قيس عن جرير، قال: هذا أصلٌ من الأصول، وأعجبه جدًا. وقال: أنا آخذ به.
ومن طريق ابن عبد الرحمن السلمي، أخبرنا أبو محمد، حدثنا الأزهري، حدثنا إسماعيل بن عمر: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: أحاديث حماد بن سلمة تأخذ بحلوق المبتدعة.
ومن طريق عبد الله بن محمد بن مندويه، سمعتُ أحمد بن محمد بن مصقلة يقول: سمعتُ المثنى الأنباري يقول: سألتُ- أو سئل- عبد الله أحمد بن حنبل عن بيع الماء? فقال: هو ما لا يملكه الرجل. وأما بيع الماء السايح فهو جائز. وكل ما يملكه الرجل فهو جائز.
أخبرنا أبو القاسم عمي، أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله بن إسحاق الويذاباذي، أخبرنا أبو القاسم الطبراني، حدثنا معاذ بن المثنى العنبري قال: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: أصول الإيمان ثلاثة: دالّ، ودليل، ومستدل. فالدال: اللّه تبارك وتعالى، والدليل: القرآن، والمستدل: المؤمن. فمن طعن على حرف من القرآن فقد طعن على الله تعالى وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا عمي أخبرنا أبو القاسم بن قاذويه، أخبرنا عبد الله بن محمد الشروطي سمعت أبا زكريا القسام يحيى بن عبد اللّه يقول: سمعت أبا عمران الصوفي موسى بن محمد، وأبا الشيخ الأبهري، يذكران عن أبي بكر الأثرم: أنه سأل أحمد بن حنبل عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتعوذه من الفقر? فقال: إنما أراد به فقر القلب.
ومن طريق ابن عدي: سمعت محمد بن سعيد الحراني، سمعت الميموني يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير.
ومن طريق أحمد بن ياسين: سمعت أبا أحمد بن عَبدوس يقول: قال أحمد بن حنبل: من لم يجمع علم الحديث. وكثرة طرقها واختلافها، لا يحل له الحكم على الحديث، ولا الفتيا به.
أخبرنا عمي، أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ كتابة: أن يحيى بن محمد العنبري حدثهم: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد السجزي، سمعت النَّوفلي، سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشدَّدنا في الأسانيد. وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال، وما لا يضع حكمًا ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد.
ومن طريق محمد بن الحسين- أظنه النقاش- أخبرنا عبد الله بن محمد بن علي بن زياد، حدثنا محمد بن إبراهيم الماستوي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كتبت في كتاب الحيض تسع سنين حتى فهمته.
أخبرنا عمي، أخبرنا محمد بن عبد الرزاق، أخبرنا جدي حدثنا محمد بن محمد بن فورك: سمعت عبد اللّه بن- عبد الوهاب يقول: سُئل أحمد بن حنبل رحمه اللّه: هذه الكتابة إلى متى العمل به? قال: أخذه العمل به.
أخبرنا أحمد بن الفضل المقرىء إجازة، أخبرنا أبو العباس النسوي شيخ الحرم، حدثنا عمر بن المقرىء، حدثنا إبراهيم بن المولد، حدثنا أحمد بن مروان الخزاعي، حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل قال: سمعتُ أبي يقول: ما الناس إلا من يقول: حدثنا، وأخبرنا، وسائر الناس لا خير فيهم.
أخبرنا أبو بكر البيهقي، أنبأني أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا مهنا بن يحيى: سألتُ أحمد بن حنبل عن الإقعاء في الصلاة? قال: أليس يُروى عن العبادلة: أنهم كانوا يفعلون ذلك. قلت: وَمَن العبادلة? قال: عبد اللّه بن عباس، وعبد الله بن الزيير، وعبد اللّه بن عمر، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم. قلت لأحمد: فابن مسعود? قال: ليس ابن مسعود من العبادلة.
ومن طريق محمد بن مخلد: حدثنا حاتم بن محمد، سمعتُ أبا رجاء قتيبة بن سعيد يقول: أحمد بن حنبل إمام ومن لا يرضى بإمامته فهو مبتدع ضال.
قال يحيى بن منده: نقول- وباللّه التوفيق-: إن أحمد بن حنبل إمام المسلمين، وسيِّد المؤمنين، وبه نحيا وبه نموت، وبه نبعث، إن شاء الله تعالى. فمن قال غير هذا، فهو عندنا من الجاهلين.

ومن طريق محمد بن مخلد: حدثنا محمد بن الحسين بن عبد الرحمن الأنماطي عن أحمد بن عمر بن يونس، حدثنا شيخ رأيته بمكة، يكنى أبا عبد الله من أهل سجستان ذكر عنه فضل ودين، قال: رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسولَ الله، مَنْ تركتَ لنا في عصرنا هذا من أمتك نقتدي به في ديننا. قال: أحمد بن حنبل.
قال يحيى بن منده: فما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه ويقظته فهو حق. وفد ندب صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء به، فلزمنا جميعًا امتثال مَرسُومه، واقتفاء مأموره.
توفي يحيى بن منده رحمه الله في يوم الجمعة حادي عشر ذي الحجة، سنة إحدى عشرة وخمسمائة كذا نقله ابن النجار عن أبي موسى الحافظ.
وذكر ابن السمعاني عن بعض الأصبهانيين: أنه توفي في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وخمسمائة بأصبهان. قال: ثم كتب إلى معمر بن الفاخر من أصبهان: أن ابن منده توفي يوم عيد الأضحى من السنة.
وذكر غيره: أنه دُفن بباب درية عند قبر والده وجده رحمة الله عليهم أجمعين.
وذكره ابن الجوزي ممن تُوفي سنة اثنتي عشرة، ثم قال: وقيل: تُوفي سنة إحدى عشرة.
أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم المصري بها، بقراءتي عليه، أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا أبو جعفر محمد بن إسماعيل الطرسوسي، أخبرنا يحيى بن منده الحافظ، أخبرنا محمد بن عبد الله، حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدَبَري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري عن عاصم بن عبيد الله عن عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاكُ وهو صائم ما لا أحصي".

محمد بن علي بن طالب بن محمد بن زبيبا الخرقي البزار، الفقيه، أبو الفضل بن أبي الغنائم

وقد سبق ذكر والده: وُلد في العشر الأخير من المحرم سنة ست وثلاثين وأربعمائة.
وقيل عنه: إنه قال: سنة خمس وثلاثين.
وسمع من القاضي أبي يعلى، والجوهري، وابن المُذْهب، وأبي بكر بن بشران، وعمر بن أبي طالب المكي، وحدث وروى عنه السلفي، وأبو المعمر الأنصاري، وابن ناصر، والمبارك بن كامل، وعمر بن ظفر، وبالإجازة ذاكر بن كامل، وابن كليب. وكان فقيهًا فاضلاً. أظنه تفقه على القاضي أو على أبيه المذكور.
وقال ابن الجوزي: قال شيخنا ابن ناصر: لم يكن بحجة. كان على غير السمت المستقيم.
وذكر ابن النجار: أنه قرأ بخط ابن ناصر عنه: أنه كان يعتقد عقيدة الفلاسفة، تقليدًا عن غير معرفةٍ. نسأل اللّه العافية.
توفي ليلة السبت تاسع شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة. ودفن بمقابر باب أبرز في العالية. رحمه اللّه وسامحه.
أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم- بفسطاط مصر- أخبرنا عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا أبو الفرج عبد المنعم بن علي، أخبرنا محمد بن علي بن زبيبا إذنًا، أخبرنا القاضي أبو يعلى بن الفراء، أخبرنا أبو الفضل عبد اللّه بن عبد الرحمن الزهري، فيما أذن لنا: أن حمزة بن الحسين بن عمر البزار حدَّثه: حدثني أحمد بن جعفر عن عاصم الحربي قال: رأيتُ في المنام كأني قد دخلت درب هشام، فلقيني بشر بن الحارث رحمه اللّه، فقلت: من أين يا أبا نصر. فقال: من عليين. قلت: ما فعل أحمد بن حنبل? قال: تركتُ الساعة أحمد بن حنبل وعبد الوهاب الوراق بين يدي اللّه عز وجل، يأكلان ويشربان ويتنعمان. قلتُ: فأنتَ? قال: علم اللّه قلة رغبتي في الطعام فأبَاحَني النظر إليه.

طلحة بن أحمد بن طلحة بن أحمد بن الحسين بن سليمان بن بادي بن الحارث بن قيس بن الأشعث بن قيس الكندي العاقولي، الفقيه، القاضي أبو البركات:

وُلد يوم الجمعة بعد صلاتها ثالث عشرين شعبان سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة بدير العاقول، وهي على خمسة عشر فرسخًا من بغداد. ودخل بغداد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، واشتغل بالعلم سنة اثنتين وخمسين.
وسمع من أبي محمد الجوهري سنة ثلاث وخمسين، ومن القاضي أبي يعلى، أبي الحسين بن حسنون، وأبي الغنائم بن المأمون، وأبي جعفر بن المسلمة، وأبي الحسين بن المهتدي، وأبي الغنائم بن الدجاجي، وهناد النسفي، وجابر بن ياسين، وابن هزار مرد، وأبي الفتح أحمد بن محمد بن أحمد الحداد الحنفي، وأبي القاسم بن البُسري، وغيرهم.

قال القاضي أبو الحسين: قرأ على الوالد الخصال، وحضر درسه الفقه.
قلتُ: وروى عنه الجامع الصغير أيضًا. قال: وقال لي: اقرأ في كل أسبوع ختمتين.
وقال ابن الجوزي: قرأ الفقه على القاضي يعقوب، وهو من متقدمي أصحابه.
وكان عارفًا بالمذهب، حسن المناظرة. وكانت له حلقة بجامع القصر للمناظرة.
وقال ابن شافع: سماعُه صحيح. كان ثقةً، أمينًا. ومضى على السلامة والستر، سمع منه ابن كاملي وغيره.
وقال ابن السمعاني: كان صالحًا، دينًا خيرًا. روى لنا عنه هبة الله بن الحسن الأمين بدمشق، والمبارك بن أحمد الأنصاري، وغيرهما.
قلتُ: وروى عنه ابن ناصر، والشيخ عبد القادر. وبالإجازة ابن كليب وذاكر بن كامل.
قال ابن ناصر: حدثني أبو البركات طلحة بن أحمد بن طلحة القاضي، قال: كان لي صديق اسمه ثابت. وكان رجلاً صالحًا، يقرأ القرآن، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. فتوفي فلم أصلِّ عليه لعذر منعني، فرأيته في المنام، فسلمت عليه، فلم يردَّ علي السلام، وأعرض عني، فقلت: يا ثابتُ، ما تكلمني وأنت صديقي وبيني وبينك مَودّة? فقال: أنت صديقي، ولم تُصَل عليَّ، فاعتذرتُ إليه، ثم قلتُ له: حدثني كيف أنت بقبر أحمد بن حنبل? لأنه دفن هناك، فقال: ليس في قبر أحمد أحد يعذب بالنار.
تُوفي طلحة العاقولي ليلة الثلاثاء ثاني شعبان- وقال ابن نقطة: ثالث شعبان سنة اثنتي عشرة وخمسمائة- ودُفن بمقبرة الفيل من باب الأزج، قريبًا من قبر أبي بكر عبد العزيز.
أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم الميدَومي- بمصر- أخبرنا أبو الفرج الحرّاني، أخبرنا ابن كليب، أخبرنا طلحة بن أحمد العاقولي، أخبرنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان حدثنا الحسين بن بحر، حدثنا عبد اللّه بن رجاء، قال ابن المرزبان: وحدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا أحمد بن عون القواس قالا: حدثنا مسلم بن خالد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كَرَمُ المَرْء دينُهُ، ومُرُوءَتُهُ عَقْلهُ، وَحَسَبُهُ خُلُقُهُ".
ذكر الشيخ موفق الدين، في المغنى في باب الإيمان، عن طلحة العاقولي: أن العبد إذا ملّكه سيده مالاً، وقلنا: يملكه، وأعتق منه بإذن سيده، فإن الولاء يكون موقوفًا. فإن عتق فهو له، وإن مات فهو لسيده. وهذا خلاف ما ذكره الأكثرون: أن العبد لا يرث بالولاء ولا غيره.
وحكوا في المكاتب: إذا عتق له عبد في حال كتابته: هل يكون ولاؤه للسيد، أو يكون موقوفًا، فإن عتق المكاتب كان له? على وجهين.
واختار أبو بكر، والقاضي في خلافه: أنه للسيد بكل حال.
وحكى الشيخ أيضَا في المغني والكافي عن طلحة العاقولي: أن الحالف إذا قال: والخالقِ، والرزاقِ، والربِّ: كان يمينًا بكل حال، وإن نوى بذلك غير اللّه تعالى سُبحانه لأنها لا تستعمل مع التصريف إلا في اسم الله تعالى، فهي كاسم اللّه، والرحمان.
قلتُ: وقد وافقه على ذلك ابن الزاغوني في الإقناع: في الخالق، والرزاق وسائر أسماء الأفعال. قال: وهذا مبنيٌّ عندنا على أصل فإنَ صفات الأفعال قديمة، استحقها الله تعالى في القدم كصفات الذات.

يحيى بن عثمان بن الحسين بن عثمان بن عبد الرحمن البيع، الأزجي، الفقيه أبو القاسم بن الشواء:

وُلدَ في شوال سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة.
وقرأ القران بالروايات. وسمع من ابن المهتدي، وابن المسلم، والجوهري، والقاضي أبي يعلى، وأبي الغنائم بن المأمون، وأبوي الحسين بن حسنون، وابن النقور. وتفقه على القاضي أبي يعلى، ثم على القاضي يعقوب. وكان فقيهًا حسناً، صحيح السماع. وحدّث بشيء يسير.
روى عنه أبو المعمر الأنصاري في معجمه. وقال أبو الحسين: سمع من الوالد، وحضر درسه، ونسخ معظم كتبه.
توفي ليلة الثلاثاء، تاسع عشر جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة وخمسمائة. ودفن بمقبرة باب حَرب. رحمه اللّه تعالى.

حمد بن نصر بن أحمد بن محمد بن معروف الهمذاني الحافظ الفقيه، الأديب أبو العَلاء، المعروف بالأعمش:

وُلد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة.
وسمع بهمذان من عبيد الله بن الحافظ بن منده، وأبي مسلم بن عوف النهاوندي، وأبي محمد بن ماهلة وطبقتهم.
روى عنه السلفي وأبو العلاء القطان، وأبو الفتوح الطائي، وغيرهم.

ذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ، فقال: شيخ، حافظ ثقة، مكثر. وكان- مع بصره بهذا الشأن- عارفًا بفقه أحمد بن حنبل، ناصِرًا للسنة، عالمًا بالعربية، وافر الجلالة بهمذان، وأملى عدة مجالس من حفظه.
قال أبو سعد السمعاني: أجاز لي مروياته. وكان عارفًا بالحديث، حافظًا، ثقة.
سمع الكثير بنفسه، وأملى، وحَدَّث.
توفي عاشر شوال سنة اثنتي عشرة وخمسمائة. رحمه الله تعالى.

علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد البغدادي

الظفري، المقرىء الفقيه، الأصولي، الواعظ المتكلم، أبو الوفاء، أحد الأئمة الأعلام، وشيحْ الإسلام: وُلد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة في جمادى الآخرة. كذا نقله عنه ابن ناصر السلفي.
قال ابن الجوزي. ورأيتُه بخطّه.
ونقل عنه عَلي بن مسعود بن هبة الله البزار أنه قال: ولدت في جُمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين، وتفقهت في سنة سبع وأربعين.
وذكر أبو محمد بن السمرقندي عنه: أنه وُلد سنة ثلاثين. والأول أصح. وحفظ القرآن. وقرأ بالروايات القرآن على أبي الفتح بن شيطا، وغيره.
وكان يقول: شيخي في القراءة: ابن شيطا. وفي النحو والأدب: أبو القاسم بن برهان. وفي الزهد: أبو بكر الدينوري، وأبو بكر بن زيدان، وأبو الحسين القزويني، ذكر جماعة غيرهم من الرجال والنساء. وفي آداب التصوف: أبو منصور صاحب الزيادة العطار، وأثنى عليه بالزهد والتخلق بأخلاق متقدمي الصوفية. وفي الحديث: ابن النوري، وأبو بكر بن بشران، والعشاري، والجوهري وغيرهم. وفي الشعر والترسل: ابن شبل، وابن الفضل. وفي الفرائض: أبو الفضل الهمذاني. وفي الوعظ: أبو طاهر بن العلاف صاحب ابن سمعون. وفي الأصول: أبو الوليد وأبو القاسم بن التبان. وفي الفقه: القاضي أبو يعلى المملوء عقلاً وزهدًا وورعًا. قرأت عليه سنة سبع وأربعين، ولم أخل بمجالسه وخلوته التي تتسع لحضوري، والمشي معه ماشيًا وفي ركابه إلى أن توفي. وحظيت من قربه بما لم يحْظ به أحد من أصحابه مع حداثة سني. والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، إمام الدنيا وزاهِدُها، وفارسُ المناظرة وواحدها. كان يُعَلمني المناظرة، وانتفعتُ بمصنَّفاته. وأبو نصر بن الصباغ، وأبو عبد الله الدامغاني، حضرت مجالس درسه ونظره. وقاضي القضاة الشامي انتفعت به غاية النفع، وأبو الفضل الهمذاني. وأكبرهم سنًا وأكثرهم فضلاً: أبو الطيب الطبريّ حظيتُ برؤيته، ومشيت في ركابه. وكانت صحبتي له حين انقطاعه عن التدريس والمناظرة، فحظيت بالجمال والبركة.
ومن مشايخي: أبو محمد التميمي. كان حسنة العالم، وماشطة بغداد.
ومنهم: أبو بكر الخطيب. كان حافظ وقته. وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء. وكان ذلك يحرمني علمًا نافعًا. وأقبل علي أبو منصور بن يوسف، فحظيتُ منه بأكبر حظوة. وقدمني على الفتاوى، مع حضور من هو أسن مني، وأجلسني في حلقة البرامكة، بجامع المنصور، لما مات شيخي سنة ثمان وخمسين. وقام بكل مؤونتي وتحملي، فقمتُ من الحلقة أتتبع حلق العلماء لتلقط الفوائد.
وأما أهل بيتي: فإن بيت أبي كلهم أرباب أقلام، وكتابة، وشعر، وآداب. وكان جدّي محمد بن عقيل كاتب حضرة بهاء الدولة. وهو المنشىء لرسالة عزل الطايع وتولية القادر ووالدي أنظر الناس وأحسنهم جزلاً وعلمًا. وبيت أبي بيت الزهري صاحب الكلام والدرس على مذهب أبي حنيفة.
وعانيتُ من الفقر والنسخ بالأجرة، مع عفة وتقى. ولا أزاحم فقيهًا في حلقة، ولا تطلب نفسي رتبة من رتب أهل العلم القاطعة لي عن الفائدة. وتقلبت عليَّ الدول فما أخذتني دولة سلطان ولا عامة عما أعتقده أنه الحق، فأوذيت من أصحابي حتى طلب الدم وأوذيت في دولة النظام بالطلب والحبس- فيا من خفت الكل لأجله، لا تخيب ظني فيك- وعصمني الله تعالى في عنفوان شبابي بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله، فما خالطتُ لعَّابًا قط، ولا عاشرتُ إلا أمثالي من طلبة العلم.
قال: والغالب على أحداث طائفة أصحاب أحمد العفة، وعلى مشايخهم الزهادة والنظافة. آخر كلامه.
والأذية التي ذكرها من أصحابه له، وطلبهم منه هجران جماعة من العلماء، نذكر بعض شرحها. وذلك: أن أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد، وابن التبان شيخي المعتزلة. وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحراف عن السنة، وتأول لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله.
ففي سنة إحدى وستين اطلعوا له على كتب فيها شيء من تعظيم المعتزلة، والترحُّم على الحلاَّج وغير ذلك. ووقف على ذلك الشريف أبو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم، وطلبوا أذاه، فاختفى. ثم التجأ إلى دار السلطان، ولم يزل أمره في تخبيط إلى سنة خمس وستين، فحضر في أولها إلى الديوان، ومعه جماعة من الأصحاب، فاصطلحوا ولم يحضر الشريف أبو جعفر لأنه كان عاتبًا على ولاة الأمر بسبب إنكار منكر قد سبق ذكره في ترجمته.
فمضى ابن عقيل إلى بيت الشريف وصالحه وكتب خَطّه: يقول علي بن عقيل بن محمد: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحم على أسلافهم، والتكثر بأخلاقهم. وما كنت علّقته، ووُجد بخَطّي من مذاهبهم وضلالتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته. ولا تَحل كتابته، ولا قراءته، ولا اعتقاده.
وإنني علقت مسألة في جملة ذلك. وإن قوماً قالوا: هو أجساد سود.
وقلت: الصحيح: ما سمعته من الشيخ أبي عليّ، وأنه قال: هو عَدمٌ ولا يسمى جسماً، ولا شيئًا أصلاً. واعتقدتُ أنا ذلك. وأنا تائب إلى الله تعالى منهم.
واعتقدتُ في الحلاج أنه من أهل الذَين والزُّهد والكرامات. ونصرتُ ذلك في جزء عملته. وأنا تَائب إلى الله تعالى منه، وأنه قتل بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك، وأخطأ هو. ومع ذلك فإني أستغفر اللّه تعالى، وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة، والمبتدعة، وغير ذلك، والترحم عليهم، والتعظيم لهم فإن ذلك كله حرام. ولا يحل لمسلم فعله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عظَّم صاحب بدعة فقد أعان على هَدْمِ الإسلام".
وقد كان الشريف أبو جعفر، ومن كان مَعه من الشيوخ، والأتباع، سادتي وإخواني- حرسهم الله تعالى- مصيبين في الإنكار عليَّ لما شاهدوه بخالي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها، وأتحققُ أني كنتُ مخطئًا غير مصيب.
ومتى حفظ عليَّ ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار: فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك. وأشهدت الله وملائكته وأولي العلم، على ذلك غير مجبر، ولا مكرَه وباطني وظاهري- يعلم الله تعالى- في ذلك سواء. قال تعالى: "وَمنْ عَادَ فَيَنتقِمُ اللّهُ مِنْهُ، وَاللّهُ عَزِيز ذُو انْتِقَام" المائدة: 199.
وكتب يوم الأربعاء عاشر محرم سنة خمس وستين وأربعمائة.
وكانت كتابته قبل حضوره الديوان بيوم، فلما حضَر شَهِدَ عليه جماعة كثيرة من الشهود والعلماء.
قال ابن الجوزي: وأفتى ابن عقيل، ودرَسَ وناظر الفحول، واستفتى في الديوان في زمن القائم، في زمرة الكبار. وجمع علم الفروع والأصول وصنَّف فيها الكتب الكبار. وكان دائم التشاغل بالعلم، حتى أني رأيتُ بخطه: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عُمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعةٍ، أعملتُ فكري في حال راحتي، وأنا مستطرح، فلا أنهض إلاَّ وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجدُ من حرصي على العلم. وأنا في عشر الثمانين أشدّ مما كنت أجدُه وأنا ابن عشرين سنة.
قال: وكان له الخاطر العاطر، والبحث كن الغامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى ب "الفنون" مناطًا لخواطره وواقعاته. من تأمل واقعاته فيه عرف غور الرجل.
وتكلم على المنبر بلسان الوعظ مدة. فلما كانت سنة خمسٍ وسبعين وأربعمائة جرت فيها فتنٌ بين الحنابلة والأشاعرة فترك الوعظ واقتصر على التدريس. ومتعه الله تعالى بسمعه وبصره، وجميع جوارحه.
قال: وقرأت بخطه. قال: بلغتُ الاثنتي عشرة سنة، وأنا في سنة الثمانين وما أرى نقصًا في الخاطر والفكر والحفظ، وحدة النظر، وقوة البصر، لرؤية الأهلة الخفية، إلاّ أن القوة بالإضافة إلى قوة الشبيبة والكهولة ضعيفة.
قلتُ: وذكر ابن عقل، في فنونه: قال حنبلي- يعني نفسه-: أنا أقصرُ بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبزة لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعة، أو تسطير فائدة، لم أدركها فيه. قال ابن الجوزي: وكان ابن عقيل قوي الدين، حافظًا للحدود. وتوفي له ولدان، فظهر منه من الصبر ما يتعجب منه. وكان كريمًا ينفق ما يجد، ولم يخلف سوى كتبه وثياب بدنه. وكانت بمقدار كفنه، وقضاء دينه.
وقال ابن عقيل: قدم علينا أبو المعالي الجويني بغداد، أول ما دخل الغزالي فتكلم مع أبي إسحاق، وأبي نصر الصباغ، وسمعتُ كلامه. ثم ذكر عنه مسألة العلم بالأعراض المشهورة عنه، وبالغ في الرد عليه.
ولما ورد الغزالي بغداد، ودرس بالنظامية، حضَره ابن عقيل، وأبو الخطاب، وغيرهُما. وكان ابن عقيل كثير المناظرة للكيا الهراسي. وكان الكيا ينشده في المناظرة:

ارفق بعبدك إنَّ فيه فهاهة

 

جبلية ولك العراق وماؤها

قال السلفي: ما رأت عيناي مثل الشيخ أبي الوفاء بن عقيل ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه، وحسن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوة حجته. ولقد تكلم يومًا مع شيخنا أبي الحسن الكيا الهرّاسي في مسألة، فقال شيخنا: هذا ليس بمذهبك. فقال: أنا لي اجتهادٌ، متى ما طالبني خصمي بحجة كان عندي ما أدفع به عن نفسي، وأقوم له بحجتي، فقال له شيخنا: كذلك الظنُّ بك.
وذكر ابن النجار في تاريخه: أن ابن عقيل قرأ الفقه على القاضي أبي يعلى، وعلى أبي محمد التميمي، وقرأ الأصول والخلاف على القاضي أبي الطيّب الطبري، وأبي نصر بن الصباغ، وقاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني.
وكان ابن عقيل رحمه الله عظيم الحرمة، وافر الجلالة عند الخلفاء والملوك.
وكان شهمًا مقدامًا، يُواجه الأكابر بالإنكار بلفظه، وخطه، حتى إنه أرسل مرة إلى حماد الدباس، مع شهرته بالزهد والمكاشفات، وعكوف العامة عليه، يتهدده في أمر كان يفعله ويقول له: إن عدتَ إلى هذا ضربتُ عنقك.
وكتبَ مرة إلى الوزير عميد الدولة ابن جهير لما بنى سور بغداد، وأظهر العوام، في الاشتغال ببنائه المنكرات.
لولا اعتقاد صحة البعث، وأن لنا دارًا أكون فيها على حال أحمدها، لما نصبت نفسي إلى مالك عصري، وعلى الله أعتمد في جميع ما أورده، بعد أن أشهده: أني محبٌ متعصبٌ. لكن إذا تقابل دين محمد ودولة بني جهير، فوالله ما أردت هذه بهذه، ولو كنت كذلك كنت كافرًا. فقلت: إن هذا الخرق الذي جرى بالشريعة لمناصبة واضعها. فما بالنا نعقد الختمات ورواية الأحاديث? فإذا نزلت بنا الحوادث تقدمنا بجميع الختمات، والدعاء عقيبها، ثم بعد ذلك طبول وصَواني، ومخانيث، وخيال، وكشف عورات الرجال مع حضور النساء، إسقاطًا لحكم اللّه تعالى.
وما عندي يا شرف الدين، أن تقوم بسخطة من سخطات الله تعالى. ترى بأي وَجهٍ تلقى محمدًا صلى الله عليه وسلم بل لو رأيته في المنام مقطبًا كان ذلك يزعجك في يقظتك. وأيّ حرمةٍ تبقى لوجوهنا وأيدينا وألسنتنا عند الله، إذا وضعنا الجباه ساجدة له ثم كيف تطالب الأجناد بتقبيل عتبة، ولثم ترابها، وتقيم الحدّ في دهليز الحريم، صباحًا ومساءً، على قدح نبيذٍ مختلف فيه، ثم تمرح العوام في المسكر المجمع على تحريمه? هذا مضاف إلى الزنا الظاهر بباب بدر، ولبس الحرير على جميع المتعلقين والأصحاب.
يا شرف الدين، اتق سخط الله تعالى فإن سخطه لا يقاومه سماء ولا أرض وإن فسدت حالي بما قلتُ فلَعَلَّ اللّهَ يلطف بي، ويكفيني هوائج الطباع. ثم لا تلمنا على ملازمة البيوت، والاختفاء عن العوام لأنهم إن سألونا لم نقل إلاّ ما يقتضي الإعظام لهذه القبائح، والإنكار لها، والنياحة على الشريعة. أترى لو جاءت معتبة من الله سبحانه في منام أو على لسان نبي- لو كان للوحي نزول- أو ألقى إلى روع مسلم بإلهام: هل كانت إلا إليك. فاتق اللّه تقوى من علم بمقدار سخطه، فقد قال: "فَلَمَّا آسَفُونا انتقَمْنَا مِنْهُم" الزخرف: 56، وقد ملأتكم في عيونكم مدائح الشراء ومداجاة المتمولين بدولتكم، الأغنياء الأغبياء، الذين خسروا الله فيكم، فحسنوا لكم طرائقكم. والعاقل من عرف نفسه، ولا يغره مدح من لا يخبرها.
وكتب ابن عقيل إلى السلطان جلال الدولة "ملكشاه" وقد كانت الباطنية أفسدوا عقيدته، ودَعوه إلى إنكار الصانع:

أيُّها الملك، اعلم أن هؤلاء العوام والجهال يطلبون الله من طريق الحواس، فإذا فَقدوه جحَدوه. وهذا لا يحسن بأرباب العقول الصحيحة. وذلك أن لنا موجودات ما نالها الحس ولم يجحدها العقل ولا يمكننا جحدها لقيام العقل على إثباتها.
فإن قال لك أحد من هؤلاء: لا تثبت إلا ما ترى. فمن ههنا دَخل الإلحادُ على جُهّال العوام، الذين يستثقلون الأمر والنهي، وهم يرون أن لنا هذه الأجساد الطويلة العميقة، التي تنمى ولا تفسد، وتقبل الأغذية وتصدر عنها الأعمال المحكمة، كالطب، والهندسة فعَلِموا أن ذلك صادر عن أمرٍ وراء هذه الأجساد المستحيلة وهو الروح والعقل، فإذا سألناهم: هل أدركتم هذين الأمرين بشيء من إحساسكم قالوا: لا، لكننا أدركناهُما من طريق الاستدلال بما صَدر عنهما من التأثيرات قلنا: فما لكم جحدتم الإله، حيث فقدتموه حسًا، مع ما صدر عنه من إنشاء الرياح والنجوم، وإدارة الأفلاك، وإنبات الزرع، وتقليب الأزمنة وكما أن لهذا الجسد عقلاً وروحًا بهما قوامه لا يحركهما الحس، لكن شهدت بهما أدِلةُ العقل من حيث الآثار، كذلك الله سبحانه- وله المثل الأعلى- ثبت بالعقل، لمشاهدة الإحساس من آثار صنائعه، وإتقان أفعاله.
وأرسل هذا الفصل إلى السلطان مع بعض خواصه. قال: فحكى لي أنه أعادهُ عليه فاستحسنه، وهش إليه، ولعن أولئك، وكشف إليه ما يقولون له.
وكتب ابن عقيل أيضَا مرة إلى أبي شجاع، وزير الخليفة المقتدي. كان ديناً كثير التعبد، لكن كانت به وسوسة في عباداته: أما بعد، فإن أجل تحصيل عند العقلاء، بإجماع العلماء: الوقتُ، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص. فالتكاليف كثيرة، والآداب خاطفة. وأقلّ متَعَبدٍ به الماء. ومن اطلع على أسرار الشريعة علم قدر التخفيف.
فمن ذلك قوله: "صُبوا على بول الأعرابي ذنوبًا من الماء".
وقوله في المني: "أمطه عنك".
وقوله في الخف: "طهوره أن تدلكه بالأرض". وفي ذيل المرأة: "يطهره ما بعده".
وقوله: "يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام". و "كان يحمل بنت أبي العاص في الصلاة".
ونهى الراعي في إعلام السائل عن الماء وما يرده، وقال: "يا صاحب الميزاب لا تخبره"، فإن خطر بالبال نوعُ احتياط في الطهارة، كالاحتياط في غيرها في مراعاة الإطالة، وغيبوبة الشمس، والزكاة، فإنه يفوتُ من الأعمال ما لا يفي به الاحتياط في الماء، الذي أصله الطهارة.
وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي وركب الحمار وما عرف من خلقه التعبد بكثرة الماء. وقد توضأ من سقاية المسجد. ومعلوم حال الأعراب الذين بان من أحدهم الإقدام على البول في المسجد. وتوضأ من جرة نصرانية وما احترز تعليمًا لنا وتشريعًا. وأعلمنا أن الماء أصله الطهارة. وتوضأ من غدير كان ماؤه نقاعة الحناء.
فأما قوله: "تنزهوا من البول" فإن للتنزه حدًا معلومًا. فأما الاستشعار: فإنه إذا نما وانقطع الوقت، ولا يقتضي مثله الشرع.
وكتب ابن عقيل غير مَرّة إلى قاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني رسائل تتضمن توبيخه على تقصير وقع منه في حقّه. وفيها كلام خشن وعتاب غليظ.
ولما دخل السلطان جلال الدولة إلى بغداد، ومعه وزيره نظام الملك، سنة أربع وثمانين، قال النظام: أريدُ أن أستدعي بهم، وأسألهم عن مذهبهم، فقد قيل: إنهم مجسمة- يعني: الحنابلة.
قال ابن عقيل: فأحببتُ أن أصوغ لهم كلامًا يجوز أن بقال إذًا، فقلت: ينبغي لهؤلاء الجماعة أن يُسألوا عن صاحبنا? فإذا أجمعوا على حفظه لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، إلا ما كان للرأي فيه مدخل من الحوادث الفقهية، فنحن على مذهب ذلك الرجل الذي أجمعوا على تعديله، على أنهم على مَذهب قومٍ أجمعنا على سلامتهم من البدعة. فإن وافقوا على أننا على مذهبه فقد أجمعوا على سلامتنا معه? لأن متبع السليم سليم. وإن ادّعوا علينا أنّا تركنا مذهبه، وتمذهبنا بما يخالف الفقهاء، فليذكروا ذلك ليكون الجواب بحسبه. وإن قالوا: أحمد ما شبَّه وأنتم ما شبَّهتم، قلنا: الشافعي لم يكن أشعريًّا، وأنتم أشعرية. فإن كان مكذوبًا عليكم فقد كذب علينا. ونحن نفزع من التأويل مع نفي التشبيه، فلا يُعَاب علينا إلا ترك الخوض والبحث وليس بطريقة السلف. ثم ما يريد الطاعنون علينا، ونحن لا نزاحمهم على طلب الدنيا.

وفي هذه السنة المذكور: توفي أبو طاهر بن علك. وكان من صدر الشافعية، وأكابر المتمولين. فشيّعه نظام الملك وأرباب الدولة. ودفن بتربة أبي إسحاق الشيرازي، وجاء السلطان إلى القبر بعد دفنه.
قال ابن عقيل: جلستُ إلى جانب نظام الملك، بتربة أبي إسحاق، والملوك قيامٌ بين يديه، واجترأتُ على ذلك بالعلم. وكان جالسًا للتعزية بابن علك. ولما بويع المستظهر حضر ابن عقيل مع الغزالي والشاشي للمبايعة. فلما توفي المستظهر غسله ابن عقيل مع الشيبي.
قال ابن عقيل: ولما تولد المسترشد تلقاني من المستخدمين يقول كل واحد منهم: قد طلبك مولانا أمير المؤمنين. فلما صرت بالحضرة، وقال لي قاضي القضاة- وهو قائم بين يديه-: طلبك مولانا أمير المؤمنين ثلاث مرات، فقلت: ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. ثم مددتُ يدي فبسط لي يده الشريفة، فصافحته بعد السلام، وبايعتُ، فقلتُ: أبايعُ سيّدنا ومولانا أميرَ المؤمنين المسترشد باللّه على كتاب اللّه وسنة رسوله، وسنّة الخلفاء الراشدين، ما أطاق واستطاع، وعلى الطاعة مني.
وكان ابن عقيل رحمه الله من أفاضل العالم، وأذكياء بني آدم، مفرط الذكاء، متسع الدائرة في العلوم. وكان خبيرًا بالكلام، مطلعًا على مذاهب المتكلمين. وله بعد ذلك في ذم الكلام وأهله شيء كثير، كما ذكر ابن الجوزي وغيره عنه أنه قال: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا، ما عرفوا الجوهر والعَرض. فإن رضيتَ أن تكون مثلهم فكن، وإنْ رأيتَ أنَّ طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيتَ.
وذُكر عنه أنه قال: لقد بالغتُ في الأصول طول عمري، ثم عدتُ القهقرى إلى مذهب المكتب.
وقد حكى هذا عنه القرطبي في شرح مسلم. وله من الكلام في السنة والانتصار لها، والرد على المتكلمين شيء كثير. وقد صنّف في ذلك مصنفًا.
وقرأتُ بخط الحافظ أبي محمد البرزالي قال: قرأتُ بخط الحافظ ضياء الدين المقدسي، قال: كتب بعضُهم إلى أبي الوفاء بن عقيل يقول له: صِف لي أصحابَ الإمام أحمد على ما عرفتمن الإنصاف.
فكتب إليه يقول: هُم قوْم خُشُنٌ ، تقَلّصتْ أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجدّ، وقلَّ عندهم الهزل، وغربتْ نفوسهم عن ذل المراءاة، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرّجًا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا في العلوم الغامضة، بل دققوا في الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم، وما وراء ذلك قالوا: الله أعلم بما فيها، من خشية باريها. لم أحفظ على أحد منهم تشبيهًا، إنما غلبت عليهم الشناعة لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار، من غير تأويل ولا إنكار. والله يعلم أنني لا أعتقد في الإسلام طائفة محقة، خالية من البدع، سوى من سلك هذا الطريق. والسلام.
وكان رحمه اللّه بارعًا في الفقه وأصوله.- وله في ذلك استنباطات عظيمة حسنة، وتحريرات كثيرة مستحسنة. وكانت له يد طولى في الوعظ، والمعارف. وكلامه في ذلك حسن، وأكثره مستنبطٌ من النصوص الشرعية، فيستنبط من أحكام الشرع وفضائله معارف جليلة وإشارات دقيقة.
ومن معاني كلامه يستمدّ أبو الفرج بن الجوزي في الوعظ.
فمن ذلك ما قاله في الفنون: لقد عظم الله سبحانه الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، وخوف الضرر على نفسه، فقال: "إلاَّ مَنْ أكْرهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان" النحل: 106.
من قدَّم حرمة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى وتحامي عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره، وتقر أوامره، وزواجره.
وعصم عرضك بإيجاب الحدّ بقذفك، وعَصَم مالك بقطع مسلم في سرقته، وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس، وأباحك الميتة سدًّا لرمقك، وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجلٍ، ووعيد آجل، وَخَرق العوائد لأجلك، أنزل الكتب إليك. أيحسن بك- مع هذا الإكرام- أن تُرى على ما نهاك منهمكًا، وعما أمرك متنكبًا، وعن داعيه معرضًا، ولسنته هاجرًا، ولداعي عدوك فيه مطيعًا? يعظمك وهُوَ هُو، وتهمل أمره وأنت أنت. هو حط رتب عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجُدها لك.

هل عاديتَ خادمًا طالتْ خدمته لك لترك صلاة. هل نفيته من دارك للإخلال بفرض، أو لارتكاب نهي. فإن لم تعترف العبيد للموالي، فلا أقل من أن تقتضي نفسك للحق سبحانهُ، اقتضاء المساوي المكافي.
ما أوحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان بينا يكون بحضرة الحق، وملائكةُ السماء سجودٌ له، تترامى به الأحوال والجهالات بالمبدأ والمآل، إلى أن يوجد ساجدًا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمسٍ أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفرة ما أوحش زوال النعم، وتغيّر الأحوال، والجَوْرَ بعد الكور!.
لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوان أن يُرى إلا عابدًا للّه في دار التكليف، أو مجاورًا لله في دار الجزاء والتشريف. وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير مواضعها.
ومن كلامه في تقرير البعث والمعاد: واللّه لا أقنع من الله سبحانه بهذه اللمحة التي مزجت بالعلاقم، ولا أقنع من الأبدي السَّرمدي ولا يليق بذا الكرم إلا إدامة النعم. والله ما لوّح إلا وقد أعدّ ما تخافه الآمال. وما قدح أحدٌ في كمال جود الخالق وإنعامه بأكثر من جحده البعث مع تشريف النفوس، وتعليق القلوب بالإعادة، والجزاء على الأعمال الشاقة، التي هجر القوم فيها اللذات، فصبروا على البلاءة طمعًا في العطاء.
قال: ويَدُلُّ على أنّ لنا إعادةً تتضمن بقاءً دائمًا، وعيشًا سالمًا: أن أصح الدلالة قد دلّت على كمال البارىء سبحانه وتعالى، وخروجه عن النقائص. وقد استقرينا أفعالَه، فرأيناهُ قد أعدّ كل شيء لشيء. فالسمعُ للمسموعات، والعين للمبصرات، والأسنان للطحن، والمنخران للشمّ، والمعدة لطبخ الطعام. وقد بقي للنفس غرض قد عجن في طينها: وهو البقاء بغير انقطاع، وبلوغ الأغراض من غير أذى. وقد عدمت النفس ذلك في الدنيا. ثم إنا نرى طالما لم يقابل ولا تقتضي الحكمة لذلك. فينبغي أن يكون لها ذلك في دار أخرى.
قال: ولأنظر إلى صُورة البلى في القبور، فكم من بداية خالفتها النهاية. فإن بداية الآدمي والطير ماء مُسَخَّن مستقذَرٌ ، ومبادي النبات حَبٌّ عَفِن، ثم يخرج الآدمي والطاوس. وكذلك خروجُ الموتى بعد البلى.
قال: وبينا أنا نائم سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، لاحت لي مقبرة، وكأن قائلاً يقول: هذه خيم البلى، على باب الرجاء وعلى الوفاء. قال: وهذا الإلقاء من الله تعالى لكثرة لهجي بالبعث، وتشوفي إلى الاجتماع بالسلف النطاف، وتبرمي من مخالطة السفساف.
وكان ابن عقيل يقول: لا يعظم عندكَ بَذْلُك نفسك في ذاتِ الله فهي التي بذلتها بالأمس في حب مغنية، وهوى أمرد، وخاطرتَ بها في الأسفار لأجل زيادة الدنيا. فلما جئت إلى طاعة الله تعالى عظمت ما بذلتَه، والله ما يحسن بذل النفس إلا لمن إذا أباد أعاد، وإذا أعاد أفاد، وإذا أفاد خلد فائدته على الآباد. وذاك الله الذي يحسن فيه بذل النفوس، وإبانة الرءوس. أليس هو القائل: "وَلاَ تَحْسَبَن الذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتًا" آل عمران: 170.
سَمع ابن عقيل الحديث الكثير من أبي بكر بن بشران، وأبي الفتح بن شيطا، وأبي الحسن التوزي، وأبي محمد الجوهري، وأبي طالب العشاري، والقاضي أبي يعلى، وأبي على المباركي، وغيرهم.
وحدث، وروى عنه ابن ناصر، وعمر بن ظفر المغازلي، وأبو المعمر الأنصاري، وأبو الرضى الفارسي وأبو القاسم الناصحي وأبو المظفر السَّنجيّ وأبو الفتح محمد بن يحيى البرداني، وغيرهم. وأجاز لأبي سعد بن السمعاني الحافظ، وعبد الحق اليوسفي، ويحيى بن بوش.
أنبأتنا زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم عن علي بن عبد اللطيف الدينوري، عن أبي الحسين بن عبد الحق بن عبد الخالق، أخبرنا أبو الوفاء علي بن عقيل الإمام، أخبرنا أبو طالب محمد بن علي بن الفتح، أخبرنا محمود بن عمر العكبري، أخبرنا أبو بكر بن محب إجازة، حدثنا أبو حفص الجوهري، حدثنا أبو أحمد بن محمد بن جعفر، حدثنا أحمد بن محمد الأنماطي- الذي كان ينزل سامرَّا- أخبرنا أحمد بن نصر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله مَنْ تركت لنا في عصرنا هذا ممن يُقتدى به. قال: عليكم بأحمد بن حنبل.
ولابن عقيل تصانيف كثيرة في أنواع العلم.

وأكبر تصانيفه: كتاب "الفنون" وهو كتاب كبير جدًا، فيه فوائد كثيرة جليلة، في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات. وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قَيَّدَها فيه.
وقال ابن الجوزي: وهذا الكتاب مائتا مجلد. وقع لي منه نحو من مائة وخمسين مجلدة.
وقال عبد الرزاق الرسعني في تفسيره. قال لي أبو البقاء اللغوي: سمعتُ الشيخ أبا حكيم النهرواني يقول: وقفتُ على السَّفر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب الفنون.
وقال الحافظ الذهبي في تاريخه: لم يُصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب. حدثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربعمائة.
قلتُ: وأخبرني أبو حفص عمر بن علي القزويني ببغداد، قال: سمعتُ بعض مشايخنا يقول: هو ثمانمائة مجلدة.
وله في الفقه كتاب "الفصول"، ويُسمى "كفاية المفتي" في عشر مجلدات، كتاب "عمدة الأدلة"، كتاب "المفردات"، كتاب "المجالس النظريات"، كتاب "التذكرة" مجلد، كتابُ "الإشارة" مجلد لطيف، وهو مختصر كتاب "الروايتين والوجهين"، كتاب "المنثور".
وفي الأصلين كتاب "الإرشاد في أصول الدين"، وكتاب "الواضح في أصول الفقه"، و "الانتصار لأهل الحديث"، مجلد، "نفي التشبيه"، "مسألة في الحرف والصوت"، جزء، "مسائل مشكلة في آيات من القرآن" وأحاديث سُئل عنها فأجاب. وله كتاب "تهذيب النفس"، "تفضيل العبادات على نعيم الجنات".
وكان ابن عقيل كثير التعظيم للإمام أحمد وأصحابه، والرد على مخالفيهم.
ومن كلامه في ذلك: ومن عجيب ما نسمعه من هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه، لكنه مُحَدِّث. وهذا غاية الجهل لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم. وخرج عنه من دقيق الفقه ما لا تراه لأحد منهم. وذكر مسائل من كلام أحمد، ثم قال: وما يقصد هذا إلا مبتدع، قد تمزق فؤاده من خمود كلمته، وانتشار علم أحمد، حتى إن أكثر العلماء يقولون: أصلي أصلُ أحمد، وفرعي فرع فلان. فحسبك بمن يرضى به في الأصول قدوة.
وكان يقول: هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع واحد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات. فكانت الولاية لتدريسه واشتغاله بالعلم. فأما أصحاب أحمد: فإنه قل فيهم من تعلق بطرفٍ من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم.
وكان مع ذلك يتكلم كثيرًا بلسان الاجتهاد والترجيح، واتباع الدليل الذي يظهر له ويقول: الواجب اتباع الدليل، لا اتباع أحمد.
وكان يخونه قلة بضاعته في الحديث. فلو كان متضلعًا من الحديث والآثار، ومتوسعًا في علومهما لكملتْ له أدوات الاجتهاد.
وكان اجتماعه بأبي بكر الخطيب، ومن كان في وقته من أئمة الحفاظ، كأبي نصر بن ماكولا، والحميدي، وغيرهم أولى وأنفع له من الاجتماع بابن الوليد وابن التبان. وتركه لمجالسة مثل هؤلاء هو الذي حرمه علمًا نافعًا في الحقيقة. ولكن الكمال لله.
وله مسائل كثيرة ينفرد بها، ويخالف فيها المذهب. وقد يخالفه في بعض تصانيفه، ويوافقه في بعضها، فإن نظره كثيرًا يختلف، واجتهاده يتنوع.
وكان يقول: عندي أن من أكبر فضائل المجتهد: أن يتردد في الحكم عند تردد الحجة والشبهة فيه. وإذا وقف على أحد المترددين دلّه على أنه ما عرف الشبهة، ومن لا تعترضه شبهة لا تصفو لي حجة. وكل قلب لا يقرعه التردد، فإنما يظهر فيه التقليد والجمود على ما يقال له ويسمع من غيره.
فمن المسائل التي تفرَّد بها: أن النساء لا يجوز لهن استعمال الحرير في اللبس دون الافتراش والاستناد. ذكره في الفنون.
ومنها: أن صلاة الغد تصح في صلاة الجنازة خاصة. وهو معروف عنه.
ومنها: أن الربا لا يجري إلاّ في الأعيان الستة المنصوص عليها. ذكره في نظرياته.
ومنها: أن الوقف لا يجوز بيعه، وإن خرِب وتعطل نفعه. وله في ذلك كلام في جزء مفرد.
ومنها: أن الأب ليس له أن يتملك من مال ولده ما شاء، مع عدم حاجته ذكره في الفصول في كتاب النكاح.
ومنها: أن المشروع في عطية الأولاد: التسوية بين الذكور والإناث. ذكره في الفنون.
ومنها: أنه يجوز استئجار الشجر المثمر تبعًا للأرض لمشقة التفريق بينهما. حكاه عنه الشيخ تقي الدين بن تيمية.

ومنها: أنه لا يجوز أن يؤخذ العشر من تجار أهل الحرب ولا أهل الذمة، إذا اتجروا في بلاد الإسلام، إلا بشرطٍ أو تراضٍ. ذكره في فنونه.
وقد حكى القاضي في شرحه الصغير رواية عن أحمد كذلك. ذكرها ابن تميم لكنها غريبة جدًا.
ومنها: إذا حلف على فعل يتعلق بعين معينة، فتغيرت صفاتها بما يزيل اسمها: لم يتعلق الحنثُ بها على هذه الحال مطلقًا.
ومنها: أنه لا يجوز وَطء المكاتبة، وإن اشترط وطأها في عقد الكتابة. وحكاه في مفرداته رواية.
ومنها: أنه لا زكاة في حليّ المواشط المعد للكراء. ذكره في "عمدة الأدلة" وخرج من قول الأصحاب بالوجوب وجهًا يوجب الزكاة في سائر ما يعد للكراء من الأملاك، من عقارٍ وغيره.
ومنها: أن الزروع والثمار التي تسقى بماء نجسِ طاهرة مُباحة، وإن لم تسقَ بعده بماء طاهر.
ومنها: أن الزوجة إذا كانت نِضوة الخُلق لا يُمكن وطأها إلا بجناية عليها: فإنه يملك فسخ نكاحها بذلك.
ومنها: أن الإمام لا يمتنع من الصلاة على الغالّ، ولا على من قتل نفسه، وأن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهما كان من خصائصه.
ومنها: تحريم الاستمناء بكل حال. وحكاه رواية.
ومنها: أنه يجب الحد بقذف العبد العفيف كالحرّ. ذكره في مفرداته.
ومن المسائل الغريبة التي ذكرها ابن عقيل: مسألة في الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفًا على ولديهما: فهل تكون الكفارة على الأم من مالها، أو بينها وبين من تلزمه نفقته. ذكر في الفنون: فيها احتمال.
قال: والأشبه أنه على الأم لأنها هي المرتفقة بالإفطار لاستضرارها، وتغير لبنها، والولد تبع لها.
قال: ولأنه لو كان الطفل معتبرًا في إيجاب التكفير لكان على كل واحدٍ منهما كفارة تامة، كالجماع في رمضان، وكالمشتركين في قتل الصيد، على أصح الروايتين.
قلتُ: وهذا ضعيف فإن المشتركين في الجماع كل منهما أفسد صومه والمشتركين في القتل كل منهما جنى على إجرامه، فهما متساويان في الجناية، بخلاف الطفل والأم ههنا.
وذكر أيضًا في الفنون: قال: سأل سائل عن قائل قال: والله لا رددت سائلاً- أو قال: للّه عليّ لا رددت سائلاً- وليس يتسع حاله لذلك، وإن اعتمد ذلك لم يبقَ له وقت لعمل ولا لتجارة، ولو كان له مال يفي، فكيف ولا مال يفي، ولا وقت يتسع لذلك مع كثرة السؤال? فأجاب حنبلي: بأن هذا قياس قولنا فيمن نفر أن يتصدق بجميع ماله: فإنه في اليمين مخيّر بين الثلث، وكفارة يمين. وفي النذر: يلزمه أن يتصدق بثلث ماله، فيجب أن يتصدق بثلث ما يتحصل له، مما يزيد على حاجته. وإن لم يتحصل له ما يحتاج إليه: لم يدخل تحت نذره لزومُه التصدق به، ويكفر كفارة يمين.
قال قائل: يشتري بُرًّا أو حَبَّ رُمان، ويُعطي كل سائل حبة من ذلك? قال له الحنبلي: هذا لا يجيء على أصلنا لأنا نعتبر المقاصد في الأيمان والنذور، والقصد: أن لا يردّ سائلاً عن سؤاله. وحبة رمان وحبة بر ليست سؤال السائل، فإعطاؤه كردِّه.
وقال حنبلي: يحتمل أن يصح خروجه من نذره بِبَرّة بُرّ أنَّا قد علّقنا حكم الربا على برة ببرتين. وما علق عليه الشرع مأثمًا، فأحرى أن يعلق عليه ما يحصل به الثواب.
وقول عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا النارَ وَلَوْ بِشقّ تَمرَة" يعضد القول بالتصدق بالبرَّة.
وقال حنبلي آخر: بل إذا لم يجد شيئًا أصلاً وَعَدَ، فكانت العِدة مخلصة له من الردّ. فإن الردَّ لا يتحقق مع العِدة. ألا ترى أن من وَعَد بزكاة ماله للساعي لا يستحق القتال، ولا التغرير، ولا يأثم? ولا يقال: إنه ردَّ الساعي ولا المطالب بدينه، ولا الفقير. وللحديث الذي جاء: "العِدَةُ دَيْنٌ" وهذه العدة نافعة في منع الحنث، من حيث إنها لا تقف مع العزم على الإعطاء على التوفية، بل من وعد فعزم أنه متى حصل له مال أعطى السائل ما سأله فما ردّه. والله أعلم.
ومن غرائب ابن عقيل: أنه اختار وجوب الرضى بقضاء الله تعالى في الأمراض والمصائب. ذكره في مواضع من كلامه. لكنه فسر الرضى في الفنون: بأنه الرضى عن الله تعالى بها، ثقة بحكمه وإن كانت مؤلمة للطبع، كما لا يبغض الطبيب عند بطء الدمّل وفتح العروق. وليس المراد هشاشة النفس وانشراحها لها، فإن هذا عنده مستحيل.
وصَرَّح بأنه لم يحصل للأنبياء. كذا قال. وهو فاسد

واختار: أن النهار أفضل من الليل.
واختار: أنه لا تجوز الصلاة على القبر في شيء من أوقات النهي، بخلاف الصلاة على الجنازة. وخالفه بعض مشايخ أصحابنا في زمنه.
ومن كلامه الحسن: أنهُ وَعظ يومًا فقال: يا من يجد في قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت عهداً فإن اللّه تعالى يقول: "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُم لَعَنَاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة" 5: 15.
وسُئل فقيل له: ما تقول في عزلة الجاهل? فقال: خبال ووبال، تضره ولا تنفعه.
فقيل له: فعزلة العالم? قال: مَا لَك ولها، معها حِذَاؤها وسِقاؤُها: ترد الماء وترعى الشجر، إلى أن يلقاها ربها.
ومن كلامه في صفة الأرض أيام الربيع: إن الأرض أهدتْ إلى السماء غبرتها بترقية الغيوم، فكستها السماء زهرتها من الكواكب والنجوم.
وقال: كأنَ الأرض أيام زهرتها مرآة السماء في انطباع صورتها.
قال ابن النجار: قرأتُ في كتاب أبي نصر المعمر بن محمد بن الحسن البيع بخطه، وأنبأنا عنه أبو القاسم الأزجي، قال: أنشدنا أبو الوفاء عليّ بن عقيل بن محمد بن عقيل الحنبليّ لنفسه:

يقولون لي: ما بال جسمك ناحـلٌ

 

ودمعك من آماق عينيك هاطـلُ.

وما بال لون الجسم بدل صـفـرةً

 

وقد كان محمرًّا فلونـك حـائلُ.

فقلتُ: سقامًا حلّ في باطن الحشـا

 

ولوعة قلب بلبلتـه الـبـلابـلُ

وأنَّى لمثلي أن يبـين لـنـاظـر

 

ولكنني للعـالـمـين أُجـامـلُ

فلا تغتررْ يوماً ببشري وظاهـري

 

فلي باطن قد قطّعته الـنـوازلُ

وما أنا إلا كالزناد تـضـمّـنـتْ

 

لهيباً، ولكنّ اللـهـيبَ مُـداخـلُ

إذا حُمل المرء الذي فوق طـوره

 

يرى عن قريب من تجلد عاطـلُ

لعمري إذا كان التجمّـل كـلـفة

 

يكون كذا بين الأنام مـجـامِـلُ

فأما الذي أثنى له الدهر عطـفـه

 

ولان له وعر الأمور مـواصـلُ

بألطاف قربٍ يسهل الصعب عندها

 

وينعم فيها بـالـذي كـان يأمـلُ

تراه رخيّ البال من كل عـلـقةٍ

 

وقد صميت منه الكَلا والمفاصلُ

توفي أبو الوفاء بن عقيل رحمه اللّه بكرة الجمعة، ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثلاثة عشرة وخمسمائة- وقيل: توفي سادس عشر الشهر- والأول أصح. وصُلي عليه في جامعي القصر والمنصور. وكان الإمام عليه في جامع القصر ابن شافع. وكان الجمعُ يفوت الإحصاء.

قال ابن ناصر: حزَرْتُهم بثلاثمائة ألف. ودُفن في دكة قبر الإمام أحمد رضي الله عنه. وقبره ظاهر رضي اللّه عنه. فما كان في مذهبنا أحدٌ مثله. آخر كلام ابن ناصر.
وذكر المبارك بن كامل الخفاف: أنه جرت فتنة- يعني: على حمله- قال: وتجارَحُوا، وقال الشيخ مطيع: كفن ونطع.


قال ابن الجوزي: حدثني بعض الأشياخ: أنه لما احتضر ابن عقيل، بكى النساء.
فقال: قد وقعت عنه خمسين سنة، فدعوني أتهنا بلقائه.


قال بن السمعاني، أنشدني، الإمام أبو المحاسن مسعود بن محمد بن غانم الأديب الغانمي لنفسه يمدح الإمام أبا الوفاء بن عقيل:

لعليّ بن عقـيل الـبـغـدادي

 

مجد لفرق الفرقدين محـاذي

قد كان ينصر أحمدًا خير الورى

 

وكلامه أحـلـى مـن الأَزاذ

وإذا تلهّب في الجدال فعـنـده

 

سبحان فيه في التجارب هذي

ما أخرجت بغداد فحلاً مثـلـهُ

 

للّه در الفاضل الـبـغـدادي

ولقد مضى لسبيله مع عصـبةٍ

 

كانوا لدين الحق خـير مـلاذِ

وقد قرأ على ابن عقيل الفقه الأصول خلقٌ من أصحابنا، يأتي ذكرهم في مواضعهم إن شاء الله تعالى من الطبقة التي بعد هذه.


وممن قرأ عليه أبو الفتح بن برهان الأصولي، صاحب التصانيف في الأصول، ومدرّس النظامية. وكان أولاً حنبليًا، ثم انتقل لجفاء أصحابنا له.


وكان لابن عقيل ولدان ماتا في حياته: أحدهما:

أبو الحسن عقيل:

كان في غاية الحسن. وكان شابًا، فهمًا، ذا خط حسن.
قال ابن القطيعي: حكى والده أنه وُلد ليلة حادي عشر رمضان سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
وذكر غيره: أنه سمع من هبة الله بن عبد الرزاق الأنصاري، وعلي بن حسين بن أيوب، وغيرهما، وتفقه على أبيه، وناظر في الأصول والفروع.

وسمع الحديث الكثير، وشهد عند قاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني، فقبل قوله. وكان فقيهًا فاضلاً يفهم المعاني جيدًا، ويقول الشعر. وكان يشهد مجلس الحكم، ويحضر المواكب.
وتوفي رحمه الله يوم الثلاثاء، منتصف محرم سنة عشر وخمسمائة. وصُلي عليه يوم الأربعاء. كذا ذكر ابن شافع وغيره.
وفي تاريخ ابن المنادي: أنه توفي يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. ودُفن يوم السبت بدكة الإمام أحمد.
فعلى هذا: تكون وفاته قبل والده بشهرٍ واحد. ولا أظن هذا إلا غلطًا. وكان له من العمر سبع وعشرون سنة. ودفن في داره بالظفرية، فلما مات أبوه نُقل إلى دكة الإمام أحمد رضي الله عنه.
قال والده: مات ولدي عقيل. وكان قد تفقه وناظر وجمع أدباً حسناً فتَعَزّيتُ بقصة عمرو بن عبد ودّ الذي قتله علي رضي الله عنه، فقالت أمه ترثيه:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

 

ما زلتُ أبكي عليه دائم الأبدِ

لكن قاتله مـن لا يقـاد بـه

 

من كان يُدعى أبوه بيضة البلدِ

فأسلاها، وعزاها جلالة القاتل، وفخرها بأن ابنها مقتوله. فنظرتُ إلى قاتل ولدي الحكيم المالك، فهان عليَّ القتل والمقتول لجلالة القاتل.


وذكر عن الإمام أبي الوفاء: أنه كب عليه وقبَّله، وهو في أكفانه. وقال: يا بُنَيَّ، استودعتُك الله الذي لا تضيع ودائعه. الربُ خيرٌ لك مني. ثم مضى، وصلى عليه بجنان ثابت. رحمه الله.
ومن شعر عقيل هذا:

شاقَهُ والشوقُ مـن غـيرِهْ

 

طللٌ عـافٍ سـوى أثـرِهْ

مقـفـرٌ إلا مَـعـالـمُـهُ

 

واكف بالودق من مطـرِهْ

فانثنى والدمعُ مـنـهـمـلٌ

 

كانسلال السِلك عـن دررِهْ

طاوياً كشحاً عـلـى نُـوَبٍ

 

سبحات لَسْنَ مـن وَطَـرِهْ

رحلة الأحباب عـن وطـنٍ

 

وحُلولُ الشيب في شعـرِهْ

شِيَمٌ لـلـدهـر سـالــفة

 

مستبيناتٌ لـمـخـتـبـرِهْ

وقبول الدر مـبـسـمـهـا

 

أبلج يفترّ عـن خَـضِـرِهْ

هزَّ عطفيها الشبابُ كـمـا

 

ماس غصنُ البان في شجرِهْ

ذاتُ فرع فوق ملـتـمـع

 

كدجى أبدي سنـا قـمـرِهْ

وبـنـان زانـه تـــرفٌ

 

ذاده التسليم عـن خَـفَـرِهْ

خَصْرُها يشكـو روادفـهـا

 

كاشتكاء الصبُّ من سهـرِهْ

نَصبت قلبي لهـا غـرضـاً

 

فهو مصميّ بمـعـتـورِهْ

وزهتْ تيهـاً كـأن لـهـا

 

منبتاً تزهى بمـفـتـخـرهْ

وأناختْ في فـنـا مـلـك

 

دَنتِ الأخطارُ عن خَطَـرِهْ

والآخر:

أبو منصور هبة الله:

ولد في ذي الحجة سنة أربع وسبعين وأربعمائة. وحفظ القرآن وتفقه وظهر منه أشياء تدل على عقل غرير، ودين عظيم. ثم مرض وطال مرضه، وأنفق عليه أبوه مالاً في المرض، وبالغ.
قال أبو الوفاء: قال لي ابني، لما تقارب أجله: يا سيدي قد أنفقتَ وبالغتَ في الأدوية، والطب، والأدعية، ولله تعالى في اختيارٌ، فدعني مع اختياره. قال: فوالله ما أنطق الله سبحانه وتعالى ولدي بهذه المقالة التي تشاكل قول إسحاق لإبراهيم: "افعَل مَا تُؤمَرُ" الصافات: 103، إلاّ وقد اختاره الله تعالى للحظوة.
توفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وله نحو أربع عشرة سنة.
وحمل أبو الوفا رحمه الله في نفسه من شدة الألم أمرًا عظيمًا، ولكنه تصبَّر، ولم يظهر منه جزع. وكان يقول: لولا أن القلوب توقن باجتماع ثانٍ لتفطرت المرائر لفراق المحبوبين.
وقال في آخر عمره- وقد دخل في عشر التسعين، وذكر من رأى في زمانه من السادات من مشايخه وأقرانه، وغيرهم-: قد حمدتُ ربي إذْ أخرجني ولم يبق لي مرغوب فيه، فكفاني صحبة التأسف على ما يفوت لأن التخلف مع غير الأمثال عذاب. وإنما هوّن فقداني للسادات نظري إلى الإعادة بعين اليقين وثقتي إلى وعد المبدىء لهم، فلكأني أسمع داعي البعث قد دعا، كما سمعتُ ناعيهم وَقَد نعى. حاشا المبدىء لهم على تلك الأشكال والعلوم أن يقنع لهم من الوجود بتلك الأيام اليسيرة، المشوبة بأنواع التنغيص وهو المالك. لا والله، لا قنع لهم إلا بضيافة تجمعهم على مائدة تليق بكرمه: نعيم بلا ثبور، وبقاء بلا موت، واجتماع بلا فرقة، ولدات بغير نغصة.

المبارك بن علي بن الحسين بن بندار البغدادي المخرّمِي

الفقيه القاضي، أبو سعد قاضي باب الأزج: ولد في رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة.
وسمع الحديث من القاضي أبي يعلى، وأبي الحسين بن المهتدي، وأبي جعفر بن المسلمة، وجابر بن ياسين، والصريفيني، وابن المأمون، وابن النقور.
وسمع من القاضي أبي يعلى شيئًا من الفقه، ثم تفقه على صاحبه الشريف أبي جعفر، ثم القاضي يعقوب البَرْزَبِيني. وأفتى ودرّس وناظر، وجمع كتبًا كثيرة لم يسبق إلى جمع مثلها. وشهد عند أبي الحسن الدامغاني في سنة تسع وثمانين، ثم ناب في القضاء. وكان حسن السيرة، جميل الطريقة، سديد الأقضية، وبنى مدرسة بباب الأزج، ثم عزل عن القضاء في سنة إحدى عشرة، ووكل به في الديوان على حساب وقوف الترب، فأدى مالاً.
ثم توفي في ثاني عشر المحرم سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. ودُفن إلى جانب أبي بكر الخلال عند رجلي الإمام أحمد رضي الله عنه. ذكر هذا كله أبو الفرج في تاريخه.
وقال أبو الحسين: تُوفي ليلة الجمعة ثاني عشر المحرم. ودُفن يوم الجمعة. قبل الصلاة. وصُلي عليه في عدة مواضع.
قال: وكان مليح المناظرة، سيرته جميلة، وعشرته مليحة. وكان بيني وبينه امتراج، واجتمعنا في مجلس الشريف للدرس. غفر اللّه له.
وفي تاريخ القضاة للميداني: أنه توفي ليلة الأحد رابع عشر محرم. وهو وهم.
و "المخرّمي" بكسر الراء- منسوب إلى المخرّم: محلة ببغداد شرقيها. نزلها بعض ولد يزيد بن المخرم، فنسبت إليه. ذكره المنذري.
والمدرسة المذكورة التي بناها: هي المنسوبة الآن إلى تلميذه الشيخ عبد القادر الجيلي لأنه وسعها وسكن بها، فعُرفت به. وللمخرّمي ذرية فيهم شيوخ تصوف، ورؤساء ذوو ولايات، ورواة حديث.
ولأبي سعد المخرمي مع ابن عقيل مناظرة في مسألة بيع الوقف إذا خرب وتعطل. ونحن نذكر مضمون المناظرة ملخصًا: قال ابن عقيل: أنا أخالف صاحبي في هذه ة لدليل عرض لي، وهو أنَّ الباقي بعد التعطل والدروس صالح لوقوع البيع وابتداء الوقف عليه، فإنه يصحُ وقف هذه الأرض العاطلة ابتداء، فالدوام أولى. ألا ترى أن الرّدَّة والعدة يمنعان ابتداء النكاح، ولا يمنعان دوامه? اعترض عليه المخرَّمي، فقال: يحتمل أن لا أسلم ما عولت عليه في صحة إنشاء وقفها، بل لا يصح وقف ما يجب نقله? قال ابن عقيل: هذا لا يجوز أن يقال جملة، فإنك تقول: تباع ويُصرف ثمنها في وقف آخر. فهذه المالية التي قبلت البيع، وهو عقد معاوضة مستأنف كيف لا يصلح لبقاء دوام عقد قد انعقد بشروطه? وكثر ما يقدر أن المسجد بقي في بَريَّة، فيصالح لصلاة المارة والقوافل، ويصحّ أن يستأجر البقعة أهلُ قافلة لإيقاف دوابهم، وطرح رحالهم، وهذا القدر من بقاء مالية الأصل والمنافع، وقبلها للعقود المستجدة، لا يجوز معه قطع دوام الوقف.
قلتُ: هذا ليس بجوابٍ لما قاله المخرَّمي من منع صحة إنشاء وقفها، فإن أكثر ما يفيد هذا: أن وقفيتها لم تزل بالخراب، والمخرمي موافق على ذلك، ولكنه يقول: إنه يجوز أو يجبُ بيعها وصرف ثمنها إلى مثلها، وهذا شيء آخر. ولم يستدل ابن عقيل على صحة إنشاء وقفها.
فإن قال: فإذا صح إنشاء عقد البيع عليها صح إنشاء الوقف.
قلنا: هذا ممنوع، فكم من عين يصحّ بيعها، ولا يصح وقفها. فإن الواقف إنما يصح في عين يدوم نفعها مع بقائها. ولو جاز وقفُ ما يجب بيعه ونقله لجاز بيع وقف المطعومات ونحوها، وتباع ويصرف ثمنها في غيرها. ثم يقال: إذا وقفها ابتداء وهي متعطلة، فإن كان يمكن الانتفاع بها فيما وقفت له كوقف أرض سباخ مسجدًا: صح وقفها.
فإن قيل: مع هذا يُقَر لحاله، ولا يباع فلأنه لم يفقد منه شيء من منافعه الموقوفة. بخلاف المسجد العامر إذا خرب، وإنْ لم يمكن الانتفاع بها فيما وقفتْ له، كفرس زَمِنٍ حُبس للجهاد، فهذا كيف يصح وَقفهُ والمقصود منه مفقود? فإنّ هذا بمنزلة إجازة أرض سَبِخة لنزع، وبعير زَمِن للركوب. وإنْ سلَّمنا صحة إنشاء وقفها، وأنها تباع، ويُصرف ثمنها، فيما ينتفعُ به، كما هو ظاهر كلام أحمد في مسألة السرج الفضية.
وأفتى بمثله جماعة في وقف الستور على المسجد. فهذا حجة لنا، لأن صحة الوقف لما لم تنافِ جواز البيع والإبدال، بل وجوبها في الابتداء، فكذا ينبغي أن يكون في الدوام.

وقوله: وهذا القدر من بقاء المالية لا يجوز معه قطع دوام الوقف دعوى مجردة.
قال المخرمي: فما طلب بالنقل والبيع إلا دوام النفع، فإن نقل الوقف إلى مكان ينتفع به أبقى للنفع.
قال ابن عقيل: إلا أنك لما أسقطت حكم العين والتعيين، وذلك إسقاطٌ، كمراعاة تعيين الواقف. وأحق الناس بمراعاة بقايا المحل أحمدُ. حتى إنه قال: إذا حلف: لا دخلتُ هذا الحمام فصار مسجدًا ودخله، أو لا أكلتُ لحم هذا الجدي فصار تيسًا، أو هذا التمر فاستحال ناطفًا أو خلاً: حنث بكله، فهذا في باب الأيمان.
وفي باب المالية والملك: تزول المالية بموت الشاة، وشدة العصير، ويبقى تخصيصه به بدءًا، بحيث يكون أحق بالجلد دبغًا واستصلاحًا، وبالخمر تخليلاً في رواية. وكذلك الجلاَّلة والماء النجس.
قلت: الإمام أحمد يراعي المعاني في مسائل الأيمان، ومسألة الوقف، فإنَّ الواقف إنما قصد بوقفه دوام الانتفاع بما وقفه، فإذا تعذّر حصول ذلك النفع من تلك العين أبدلناها بغيرها مما يحصل منه ذلك النفع، مراعاة بحصول النفع الموقوف ودوامه به. وهو المقصود الأعظم للواقف، دون خصوصية تلك العين المعينة. وكذلك الحالف قصد الامتناع من تلك العين المحلوف عليها دخولاً وكلاً. وهذا القصد لا يتغير بتبدل صفات تلك العين، فإنَ ذاتها باقية. وهذا أفقه وأحسن مما اختاره ابن عقيلٍ من تعليق الحكم على مجرد الاسم. فراعى العين في صورة الوقف ولم يجز إبدالها، وإن فات المقصود منها لتعلق الوقف بها، وراعى الاسم المعلق به اليمين، فمنع الحنث بتبدله مع بقاء العين، ووجود المعنى الذي قصد اجتنابه باليمين.
وأما مسألة الميتة والخمر وما أشبههما: فهناك عين باقية على اختصاص صاحبها وتحت يده الحكمية لما بقي فيها من المنافع، فلذلك كان أحق بها. كذلك هنا العين باقية على الوقفية، لكن نحن نقول: يجوز إبدالها، والمخالف لم يذكر حجة على منع ذلك.
قال المخرمي: لا يجوز أخذ حكم الدوام من الابتداء، كما لم يجز في باب تملك القريب ذي الرحم المحرم، وكما لم يجز في باب تملك الكافر العبد المسلم بالإرث. فإنه لا يدوم الملك على الأب ولا على المسلم، ويصح ابتداء الملك فيهما، والأضحية المعينة يجوز نقلها إلى ما هو أسمن منها، فيقطع الدوام بالإبدال.
قال ابن عقيل: أما مسألة تملك في الرحم المحرم: فذاك ضد ما نحن فيه لأن ذاك التملك جعل وسيلة الوسائل إلى الأغراض المقصودة، يعفى فيها عن خلل يدخل وضرر يحصل، كما في مسألة النجاسة باليد، وإزالة المحرم الطيبَ عنه بيده. فالتملك للأب سبب للمجازاة والمكافأة التي نطق بها الشرع، وهي عتقه، ولا يمكنه ذلك في ملك غيره، فصار التملك ضرورة لحريته، إذ لو ملكه ودام ملكه صار مكافأة الشيء بضده لما فيه من إذلاله لأبيه، والمطلوب مكافأته بالإعتاق والإطلاق، واغتفر دخوله في ملكه لحظة لما يعقبه من العزّ الدائم. فهذه علّة انقطاع الدوام هناك وهو ضدّ ما نحن فيه، فإن الموقوف موضوع لدوام الانتفاع، ولهذا لا يصح إلا في محل يبقى على الدوام.
وأما الأضحية: فمن الذي أخبرك أنّي أنصر مذهب أحمد وأبي حنيفة، حتى يلزمني إبدالها بخير منها، على أنها انقطعتْ لجواز المشاركة بالثلث أكلاً للمضحى، وإهداء لثلثها، بخلاف مسألتنا. فههنا إبدال قليلة الانتفاع بأنفع منها لا يجوز. فالأمران مختلفان. والله أعلم.
قلتُ: كان المخرّمي رجع معه، على وجه التنزل، إلى أن الوقف المعطل، وإنْ صحّ ابتداؤه، فلا يلزم منه صحة دوامه، كشراء ذي الرحم، فاستطال ابن عقيل عليه، وقال: المقصودُ من شراء ذي الرحم قطع الدوام بخلاف الوقف. ولكن لا حاجة إلى ما ذكره المخرمي هنا فإن التحقيق في ذلك ما تقدم، وهو أن العين المعطلة إن كان يمكن الانتفاع بها على وجه ما: صحّ وقفها ابتداء ودوامًا، لكن في الدوام تبدل، وإن لم تبدل في الابتداء لما سبق من الفرق. وفي الموضعين الوقف صحيح، لكن جواز الإبدال أو وجوبه أمر زائد على صحة الوقف. ولم يذكر ابن عقيل دليلاً على امتناعه.
وأما إن كانت العين مسلوبة النفع بالكلية: فهذه لا يصح وقفها ابتداء ولا دوامًا، بل تخرج بذلك عن الوقفية، وإن سلم صحة بقائها على الوقفية في الدوام- وهو ظاهر كلام الأصحاب- فلأنه يفتقر في الدوام ما لا يفتقر في الابتداء

وأما الأضحية وتفريقه بينها وبين الوقف بالمشاركة فيها دون الوقف: فالوقف أيضًا قد يدخله المشاركة، بأن يقف على نفسه، أو يقف مسجدًا ويصلي فيه مع الناس، ونحو ذلك.
وأما تفريقه بجواز الإبدال في الأضحية بأنفع منها دون الوقف، فيقال: والوقف فيه رواية أخرى عن أحمد: بجواز الإبدال كالأضحية، فلمن نصر هذا القول أن ينتصر لهذه الرواية، فلا يبقى بينهما فرقٌ. والله أعلم.

محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الغازي البدليسي أبو الحسن:

أحد الفقهاء الأعيان. اشتغل قديمًا على أبي الحسن الآمدي بآمد، ولازمه وتفقه عليه، وسمع منه الحديث، وبرع في الفقه.
وقد ذكره القاضي أبو الحسين في ترجمة شيخه أبي الحسن. وشغل الناس، وتفقه عليه طائفة. وأظنه قديم الوفاة.
قرأتُ بخط شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية قال: نقلتُ من خط شيخنا يحيى بن الصيرفي الحراني قال: ذكر الشيخ أبو علي الحسن بن علي بن سلامة الحراني فيما علقه عن الشيخ أبي الحسن بن الغازي، فقال: وإذا وقع الإناء الذي أصَابه الولوغ في ماء كثير، فهو غسلة واحدة على ظاهر كلام أصحابنا، سواء أكان واقفًا أو جاريًا. ولا يعتبر لكل غسلة جرية. قال: ويحتمل وجهاً آخر. وهو أن يكون وقوعه في الماء الواقف يحتسب به غسلة واحدة، وفي الماء الجاري يحتسب بكل جرية غسلة. وكلا الوجهين محتملان.
قال: وذكر: إذا مات في الماء ما ليست له نفس سائلة، فإنه لا ينجس ما مات فيه من الماء اليسير والكثير المائع على الظاهر من المذهب.
قال: وفيه رواية أخرى أنه ينجس ما مات فيه. والأول أصح.

الحسن بن محمد العكبري، أبو المواهب:

أحد الفقهاء الأكابر، وله تصانيف في المذهب أظنه من أصحاب القاضي- أو أصحابه القدماء- ووقفت له على رؤوس المسائل، وهي منتخبة من الخلاف الكبير، على طريق أبي جعفر، وأبي الخطاب.
وقد روى عن محمد بن عبد اللّه بن أحمد بن عبد اللّه الخيَّاط العكبري المقرىء حديثًا.
وروى عنه نصر المقدسي. وشيخه العكبري هذا كان من أصحاب ابن بطة فقيهًا.
مات سنة تسع وثلاثين وأربعمائة. ذكره ابن البناء في طبقات الفقهاء.
ورواية نصر المقدسي عن أبي المواهب تدل على تقدم وفاته.

أبو علي بن شهاب العكبري:

صاحب كتاب عيون المسائل، متأخر. ونقل من كلام القاضي وأبي الخطّاب كأنه من ولد ابن شهاب المتقدم. ما وقعت له على ترجمة. ومن الناس من يظنه الحسن بن شهاب الكاتب الفقيه صاحب ابن بطة. وهو خطأ عظيم.

عبد الوهاب بن حمزة بن عمر البغدادي، الفقيه المعدل، أبو سعد:

وُلد في أحد الربيعين سنة سبع وخمسين وأربعمائة. وسمع من ابن النقور، والصريفيني، وأبي القاسم بن البسري، وأبي عبد الله الحميدي. وتفقه على أبي الخطاب. وأفتى وبرع في الفقه. وشهد عند قاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني.
وكان مرضيّ الطريقة جميل السيرة من أهل السنة. وهو شيخ أبي حكيم النهرواني، الذي تفقه عليه. وروى عنه حكاية، ولم يحدث إلا باليسير.
توفي ليلة الثلاثاء ثالث شعبان سنة خمس عشرة وخمسمائة. ودُفن بمقبرة الإمام أحمد رضي اللّه عنه.

محمد بن علي بن عبيد الله بن الدَّنِف البغدادي المقرىء الزاهد، أبو بكر:

وُلد في صفر سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة.
وسَمع الحديث من ابن المسلمة، وابن المهتدي، والصريفيني، وابن المأمون، وابن النقور، وطبقتهم. وتفقه على الشريف أبي جعفر، وحدث بشيء يسير.
سمع منه ابن ناصر. وروى عنه المبارك بن خضير، وذاكر بن كامل، وابن بوش وغيرهم. وكان من الزهاد الأخيار، ومن أهل السنة، انتفع به خلق كثير. ذكره ابن الجوزي.
وقال ابن النجار: كان مشهورًا بالصلاح والدين. درس الفقه على الشريف أبي جعفر وصحبه، وانتفع به جماعة قرأوا عليه، وعادت عليهم بركته.
توفي يوم الإثنين سابع شوال سنة خمس عشرة وخمسمائة. ودُفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب. رحمه الله.
و "الدنف": بفتح الدَّال المهملة وكسر النون وآخره فاء. قيّده ابن نقطة الحافظ وغيره.

محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن دَاوُد الأصبهاني، أبو سعد بن أبي العَباس، وَيُعرف بالخيَّاط:

من أهل أصبهان، قدم بغداد، واستوطنها مدة طويلة. وسمع من مشايخها، وانتخب، وعلّق وكتب بخطه كثيرًا. وحصل الأصول والنسخ، وجمع شيئًا كثيرًا جدًا من الحديث والفقه، ونفذه إلى أصبهان. وأدركه أجله ببغداد.
حدّث ببغداد عن أبي القاسم بن منده إجازة، وعن غيره سماعاً. كتب عنه ابن عامر العبدري وابن ناصر، وخطه حسن.
قال ابن النجار: وكان من أهل السنة المحققين المبالغين المتشددين، ظاهر الصلاح، قليل المخالطة للناس. كان حنبليًا متعصبًا لمذهبه، متشددًا في ذلك.
توفي يوم الخميس سادس عشرين ذي الحجة سنة سبع عشرة وخمسمائة. ودُفن بباب حرب، ولم يخلف وارثًا لأنه لم يتزوج قط رحمه الله.

علي بن المبارك بن علي بن الفاعُوس، البغدادي، الأسكاف، المقرىء، الزاهِد أبو الحسن:

سمع من القاضي أبي يعلى، وأبي منصور عبد الباقي بن محمد بن غالب العَطار وغيرهما. وصَحِب الشريف أبا جعفر. وكان مشهورًا بالزهدِ والورع والتقشف وحسن الطريقة، للخلق فيه اعتقاد عظيم.
وذكر ابن ناصر: أنه كان أزهد الناس في عصره. وكان يقرأ يوم الجمعة على الناس أحاديث قد جمعها بغير أسانيد.
قال ابن الجوزي: حدثني أبو حكيم النهرواني قال: كان ابن الفاعُوس إذا صلى الجمعة جلس يقرأ على أصحابه الحديث، فيأتي ساقي الماء، فيأخذ منه فيشرب ليريهم أنه مفطر، وربما صامها في بعض الأيام.
وكان ابن الفاعوس يتورع عن الرواية. وحدَّث وسمع منه أبو المعمر الأنصاري، وأبو القاسم بن عساكر الحافظ.
وقال: كان أبو القاسم بن السمرقندي يقول: إن أبا بكر بن الخاضبة كان يسمى ابن الفاعوس الحجري لأنه كان يقول: الحجر الأسود يمين اللّه حقيقة.
قلتُ: إنْ صحَّ عن ابن الفاعوس أنه كان يقول: الحجر الأسود يمين الله حقيقة فأصل ذلك: أن طائفة من أصحابنا وغيرهم نَفَوْا وُقوع المجاز في القرآن، ولكن لا يعلم منهم من نفى المجاز في اللغة، كقول أبي إسحاق الإسفرايني. ولكن قد يسمع بعض صالحيهم إنكار المجاز في القران، فيعتقدُ إنكارهُ مطلقًا.
ويؤيد ذلك: أن المتبادر إلى فهم كثر الناس من لفظ الحقيقة والمجاز: المعاني والحقائق دون الألفاظ.
فإذا قيل: إنَّ هذا مجاز فهموا أنه ليس تحته معنى، ولا له حقيقة، فينكرون ذلك، وينفرون منه. ومن أنكر المجاز من العلماء فقد ينكر إطلاق اسم المجازة لئلا يوهم هذا المعنى الفاسد، ويصير ذريعة لمن يريد جحد حقائق الكتاب والسنة ومدلولاتهما.
ويقول: غالب من تكلم بالحقيقة والمجاز هم المعتزلة ونحوهم من أهل البدع، وتطرفوا بذلك إلى تحريف الكلم عن مواضعه، فيمنع من التسمية بالمجاز، ويجعل جميع الألفاظ حقائق، ويقول: اللفظ إنْ دل بنفسه فهو حقيقة لذلك المعنى، وإن دلّ بقرينة فدلالته بالقرينة حقيقة للمعنى الآخر، فهو حقيقة في الحالين. وإن كان المعنى المدلول عليه مختلفًا فحينئذ يقالُ: لفظ اليمين في قوله سبحانه وتعالى: "والسّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمينهِ" 39: 67، حقيقة. وهو دَالٌ على الصفة الذاتية. ولفظ اليمين في الحديث المعروف: "الحَجَرُ الأسوَدُ يَمِينُ اللهِ في الأَرْضِ. فَمَنْ صَافَحَهُ فَكَأَنما صَافَح اللهَ عز وَجلَّ".
وقيل: يمينه يُرادُ به- مع هذه القرائن المحتفة به- محل الاستلام والتقبيل. وهو حقيقة في هذا المعنى في هذه الصورة، وليس فيه ما يوهم الصفة الذاتية أصلاً، بل دلالته على معناه الخاص قطعية لا تحتمل النقيض بوجهٍ، ولا تحتاج إلى تأويل ولا غيره.
وإذا قيل: فابن الفاعوس لم يكن من أهل هذا الشأن- أعني: البحث عن مدلولات الألفاظ? قيل: ولا ابن الخاضبة كان من أهله، وإن كان محدثاً. وإنما سمع من ابن الفاعوس، أو بلغه عنه إنكار أن يكون هذا مجازًا، لما سمعه من إنكار لفظ المجاز فحمله السامع لقصوره أو لهواه على أنه إذا كان حقيقة لزم أن يكون هو يد الرب عزَّ جل، التي هي صفته. وهذا باطل. واللّه أعلم.
توفي ابن الفاعوس ليلة السبت تاسع عشر شوال- وقيل: العشرين منه، والأول أصح- سنة إحدى وعشرين وخمسمائة. وصُلي عليه من الغد بجامع القصر. ودُفن قريبًا من قبر الإمام أحمد رضي الله عنه.
وكان ذلك يومًا مشهودًا، غلقت فيه أسواق بغداد. وكان أهل بغداد يصيحون في جنازته: هذا يَوم سُنيّ حنبلي، لا قشيري ولا أشعري.

وكان حينئذٍ ببغداد أبو الفرج الإسفرايني الواعظ، وكان العوام قد رجموه غير مرة في الأسواق، ورموا عليه الميتات، فأظهروا في ذلك اليوم لعنَه وسبَّه، فبلغ ذلك المسترشد، فمَنَعَهُ من الوعظ، وأمره بالخروج من بغداد. وظهر في ثاني يوم عند رجل من أصحابه كراريس فيها ما يتضمن الاستخفاف بالقرآن، فطيف به البلد، ونودي عليه، وهَمّت العامة بإحراقه. وظهر الشيخ عبد القادر، وجلس للوعظ، وعكف الناسُ عليه، وانتَصرَ به أهل السنة. رحمه الله تعالى.

موسى بن أحمد بن محمد النشادري الفقيه أبو القاسم:

كان يذكر أنه من أولاد أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
سمع الحديث الكثير. وقرأ بالروايات، وتفقه على أبي الحسن بن الزغواني، وناظر.
قال ابن الجوزي: رأيته يتكلم كلامًا حسنًا.
توفي رابع رجب سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة. ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب. رحمه اللّه تعالى.
وقال غيره: توفي ليلة الخميس خامس رجب.
وذكر ابن القطيعي: أنه سمع من أبي منصور الخازن، وأنه كمل التعليقة، وناظر، وتبصر في المذهب.
قلت: أظنه مات شاباً فإن شيخه ابن الزاغوني عاش بعده مدةً.

محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء، القاضي الشهيد، أبو الحسين ابن شيخ المذهب، القاضي أبي يَعْلى:

وُلد ليلة نصف شعبان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة.
وقرأ ببعض الروايات على أبي بكر الخيَّاط. وسمع الحديث من أبيه، وعبد الصمد بن المأمون، وأبوي الحسين بن المهتدي. وابن النقور، وأبي بكر الخطيب، والعاصمي، وطبقتهم. وتوفي والده وهو صغير، فتفقه على الشريف أبي جعفر، وبرع في الفقه، وأفتى وناظر.
وكان عارفًا بالمذهب، متشددًا في السُنة.
وله تصانيف كثيرة في الفروع والأصول، وغير ذلك، منها: "المجموع في الفروع"، "رؤوس المسائل"، "المفردات في الفقه"، "التمام لكتاب الروايتين والوجهين" الذي لأبيه، "المفردات في أصول الفقه"، "طبقات الأصحاب"، "إيضاح الأدلة في الردّ على الفرق الضالة المضلة"، "الرد على زائغي الاعتقادات في منعهم من سماع الآيات"، "شرف الاتباع وسرف الابتداع"، "تنزيه معاوية بن أبي سفيان المقنع في النيات"، "المفتاح في الفقه".
وقرأ عليه جماعة، منهم: الشيخ عبد المغيث الحربي، وغيره.
وحَدّث، وسمع منه خلق كثير من الأصحاب وغيرهم، منهم: ابن ناصر، ومعمر بن الفاخر، وابن الخشاب، وأبو الحسين البراندسي الفقيه، والجنيد بن يعقوب الجيلي الفقيه، وحَدَّثا عنه، وعبد الغني بن الحافظ أبي العلاء الهمداني، وأبو نجيح محمود بن أبي المرجا الأصبهاني الحنبلي، وعبد الوهاب بن أبي حبسة، ويحيى بن بوش.
وحَدَث عنه أيضًا: علي بن المرحب البطائحي، والمبارك بن الطباخ، وابن الحريف، وابن عساكر الحافظ. وبالإجازة أبو موسى المديني، وابن كليب.
وكان للقاضي أبي الحسين بيت في داره بباب المراتب يبيت فيه وحده، فعلم بعض من كان يخدمه ويترددُ إليه بأن له مالاً، فدخلوا عليه ليلاً، وأخذوا المال وقتلوه، ليلة الجمعة- ليلة عاشوراء- سنة ست وعشرين وخمسمائة. وصلى عليه يوم السبت حادي عشر المحرم. ودُفِن عند أبيه بمقبرة باب حرب. وكان يومًا مشهوداً. وقدر الله ظهور قاتليه، فقتلوا كلهم.
أخبرنا أبو الفتح الميدومي- بمصر- أخبرنا أبو الفرج الحراني، أخبرنا أبو علي ضياء بن أحمد بن الحسن النجار، أخبرنا القاضي أبو الحسين ابن القاضي أبي يعلى، أخبرنا أبو الغنائم عبد الصمد بن المأمون، أخبرنا أبو القاسم بن حبابة، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن أنس قال: "وقّت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة: أن لا يترك أكثر من أربعين ليلة" أخرجه مسلم.
نقلت من خط القاضي أبي الحسين في مفرداته في الأصول: اختلفت الرواية عن أحمد هل يَصِح الاستثناء في اليمين بالله? فقال: مع انقطاع يمينه على روايتين: إحداهما: يصح، وإن كان منقطعًا، وهي مذهب عبد الله بن عباس.
والرواية الثانية: لا يصح الاستثناء. اختارها الخرقي والوالد، وبها قال أكثرهم.
وجه الأولى: أن النسخ والتخصيص يجوز أن يتأخرا، فكذلك الاستئناء.

ووجه الثانية: أن الاستثناء يجري مجرى الشرط لأنه إذا انفصل عما قبله لم يفد ألا ترى أنه إذا قال: اضرب زيدًا أو أعطه درهمًا، ثم قال بعد يوم: إذا قام أو كل لم يفد ذلك، ولم يكن شرطًا كذلك في اليمين? هذا لفظه بحروفه. وهو ظاهر في أن الرواية الأولى، كما حكي عن ابن عباس من صحة الاستثناء. في اليمين، وإن طال الفصل. ولا أعلم أحدًا من الأصحاب حكى ذلك عن أحمد.

علي بن الحسن الدواحي، أبو الحسن الواعظ:

تفقه على أبي الخطاب الكلوذاني، وسمع منه الحديث.
توفي ليلة الجمعة خامس شوال سنة ست وعشرين وخمسمائة، وصلى عليه من الغد. ودُفِنَ بمقبرة باب حرب.

محمد بن الحسين بن علي بن إبراهيم بن عبد الله الشيباني الحاجي، المَزْرَفي، المقرىء، الفرضي أبو بكر:

وُلد في سلخ سنة تسع وثلاثين وأربعمائة. وقيل: سنة أربعين.
وقرأ القرآن بالروايات على جماعة من أصحاب الحمامي، منهم: أبو بكر بن موسى الخياط، وطاهر بن الحسين القواس.
وسمع من ابن المسلمة وابن المأمون، والصريفيني، وابن المهتدي، وابن النقور، والنهرواني، وأبي الحسين العاصمي، وابن البري، وأبي الغنائم بن الدجاجي. وكتب بخطه كثيرًا. وبرع في القراءات وتفرد بعلم الفرائض وألف فيه.
وذكر ابن ناصر أنه كان مقرىء زمانه، قرأ عليه القرآن جماعة، منهم: أبو موسى المديني الحافظ، وعليّ بن عساكر البطائحي.
وحدث عنه ابن ناصر، وابن عساكر، واليونارتي، وأبو سعد بن أبي عصرون، وابن الجوزي، وجماعة آخرهم أبو الفتح الميْداني، ودرس عليه جماعة الفرائض والحساب.
قال أبو نصر اليونارتي في معجمه. هو وحيدُ عصره في خلقه، وحسن قراءته.
قال ابن الجوزي: كان ثقة عالمًا ثبتًا، حسن العقيدة.
وقال ابن القطيعي: سمعت ابن الأخضر يقول: سمعت أبا محمد الخشاب يقول: قد سمعت من يحيى بن منده سنة ثمان وتسعين، وحضر معي في الطبقة أبو منصور الخياط المقرىء، ولا أفرح بسماعي منه مثل ما أفرح بسماعي من المزرفي، وذلك لأنه طلب الحديث بنفسه وفهم.
توفي يوم السبت مستهل سنة سبع وعشرين وخمسمائة فجأة. وقيل: إنه توفي في سجوده. ودفن بباب حرب.
"والمزرفي" نسبة إلى المزرفة: قرية بين بغداد وعكبرا، ولم يكن منها، وإنما انتقل أبوه إليها أيام الفتنة، فأقام بها مدة، فلما رجع إلى بغداد قيل له: المزرفي.
أخبرنا أبو الفتح المصري بها، أخبرنا أبو الفرج الحراني، أخبرنا أبو الفرج بن الجوزي، أخبرنا أبو بكر المزرفي- سنة عشرين وخمسمائة- أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة، أخبرنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري، أخبرنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آيةُ المُنافِقِ ثَلاَثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا ائتمن خَانَ". أخرجاه عن قتيبة.

علي بن عبيد الله بن نصر بن السري:

كذا نسبه ابن شافع وابن الجوزي وغيرهما.
وقال ابن النجار: ابن نصر بن عبيد الله بن سهل بن السري.
وقال ابن نقطة: نصر بن عبيد الله بن أبي السري.
وقال ابن السمعاني نصر بن عبيد الله بن سهل بن الزاغواني البغدادي، الفقيه المحدث الواعظ، أبو الحسن، أحد أعيان المذهب.
وُلد سنة خمس وخمسين وأربعمائة في جمادى الأولى- فيما نظنه.
وقرأ القران بالروايات، وطلب الحديث بنفسه، وقرأ وكتب بخطه.
وسمع من أبي الغنائم بن المأمون، وأبي جعفر بن المسلمة، وأبي محمد الصّريفيني وأبي الحسين بن النقور، وأبي القاسم بن اليسري، وأبي محمد بن عبد الله بن عطاء الهروي، وجماعة آخرين. وقرأ الفقه على القاضي يعقوب البرزبيني، وقرأ الكثير من كتب اللغة والنحو والفرائض. وكان متفننًا في علوم شتى، من الأصول والفروع والحديث والوعظ وصنف في ذلك كله.
قال ابن الجوزي: كان له في كل فن من العلم حظ وافر، ووعظ مدة طويلة.
قال. وصحبته زمانًا، فسمعتُ منه الحديث، وعلقت عنه من الفقه والوعظ وكانت له حلقة بجامع المنصور يناظر فيها يوم الجمعة قبل الصلاة، ثم يعظ بعد الصلاة. ويجلسُ يوم السبت أيضًا.
وذكر ابن ناصر: أنه كان فقيه الوقت في الطبقة الثالثة عشرة. وكان مشهورًا بالصلاح والديانة والورَع والصيانة.

قال ابن السمعاني: سمعت أبا عبد الله حامد بن أبي الفتح المديني يقول: سمعتُ أبا بكر محمد بن عبد الله بن الزاغوني- يعني: أخا أبي الحسن هذا- يقول: ذكر بعضُ الناس ممن يوثق بهم: أنه رأى في المنام ثلاثة، يقول واحد منهم: أخسف، وواحد يقول: أغرق، وواحد يقول: أطبق- يعني: البلد- فأجاب أحدهم: لا لأن بالقرب منا ثلاثة: أبو الحسن بن الزاغوني، والثاني أحمد بن الطلاية، والثالث محمد بن فلان من الحربية.
ولابن الزاغوني تصانيف كثيرة، منها: في الفقه: "الإقناع" في مجلد، و "الواضح" و "الخلاف الكبير" "المفردات" في مجلدين، وهي مائة مسألة. وله مصنف في الفرائض يسمى "التلخيص" وجزء في "عويص المسائل الحسابية" ومصنف في "الدور والوصايا". وله "الإيضاح في أصول الدين"، مجلد، و "غرر البيان في أصول الفقه" مجلدات عدة. وله ديوان خطب أنشأها، ومجالس في الوعظ وله تاريخ على السنين من أول ولاية المسترشد إلى حين وفاته هو، ومناسك الحج، وفتاوى، ومسائل في القرآن والفتاوى الرجعية، وجزء في تصحيح حديث الأطيط، سدره في المستحيل وسماع الموتى في قبورهم.
وكان ثقة صدوقًا، صحيح السماع. حدَّثَ بالكثير.
وروى عنه ابن ناصر، وأبو المعمر الأنصاري، وابن عساكر، وابن الجوزي، وعمر بن طبرزد، وغيرهم.
وتفقه عليه جماعة، منهم: صدقة بن الحسين، وابن الجوزي.
توفي يوم الأحد سادس عشر محرم سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وصُلي عليه يوم الإثنين بجامع القصر وجامع المنصور ودفن بمقبرة الإمام أحمد، بباب حرب. وكان له جمع عظيم يفوت الإحصاء رحمه الله تعالى.
هذا الذي ذكرناه في تاريخ وفاته هو الذي ذكره صدقة بن الحسين. نقله عنه ابن النجار.
وذكره ابن السمعاني عن ابن عساكر، وغيره.
والذي ذكره ابن شافع وابن الجوزي في عدة مواضع وابن نقطة: أنه توفي يوم الأحد بعد الظهر سابع عشر محرم. والأول أصح فإن ابن شافع وابن الجوزي وافقا على أن وفاة المزرفي- المذكور قبله- كانت يوم السبت مستهل محرم. ومتى كان السبت مستهل محرم، فالأحد سادس عشره، لا سابع عشره. وقد علق ابن الجوزي في جزء وفاة ابن الزاغوني، فقال: في الأحد سادس عشر محرم، على الصواب.
أخبرنا أبو الفتح الميدومي- بفسطاط مصر- أخبرنا أبو الفرج الحراني، أخبرنا الحافظ أبو الفرج بن الجوزي، أخبرنا أبو الحسين بن الزاغوني، أخبرنا أبو الحسين بن النقور. أخبرنا عيسى بن علي بن الجراح، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا نعيم بن الهيضم، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم، فقالوا: ما عندنا إلا خل. فدعا به، فجعل يأكل، ويقول: نعمً الأدمُ الْخَل- مرتين" تفرّد به مسلم، فرواه عن يحيى بن يحيى عن أبي عوانة.
ذكر ابن الزاغوني في مناسكه: أن رمي الجمار أيام منى، ورمي جمرة العقبة يوم النحر يجوز قبل الزوال وبعده، والأفضل بعده. ولهذا لم يوافقه عليه أحد فيما أعلم. وهو ضعيف مخالف للسنة في رَمي جمرة العقبة يوم النحر.
وحكي في الإقناع رواية عن أحمد: أنه إذا اتخذ عصيرًا للخمر، فانقلبت خلاً لم تطهره لأن اتخاذه كان محرمًا.
وحكى فيه رواية عن أحمد: أنه لا ينتقض عهد أهل الذمة بشيء غير منع الجزية.
وقال فيه: المشهور من المذهب أن السم نجس، وفي المذهب ما يحتمل أنه ليس بنجس لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الذراع المسمومة.
وذكر فيه: أن المتوفى عنها زوجها لا يلزمُها المقام في منزل الوفاة، إلا إذا تبرع لها الورثة بالسكنى، ولا يلزمها فيما عدا ذلك، حتى لو كان المنزل ملكاً لها لم يلزمها المقام فيه.
وحكى فيه رواية: أن البائن تجب لها السكنى والنفقة، وإن كانت حاملاً.
وذكر فيه: أن الحامل المتوفى عنها زوجها تجب لها النفقة والسكنى إن قلنا: إن النفقة للحَمْل، كما لو كان الأب حيًا. ولم أعلم أحدًا من الأصحاب بنى رواية وجوب النفقة والسكنى لها على هذا الأصل، ولا جعلها من فوائد الخلاف في أن النفقة: هل هي للحمل أو للحامل. فإن نفقة الأقارب تسقط بالموت، فكيف تجب نفقة الحمل من التركة?.
وحكي في باب نفقة الزوجات في ثمن ماء الغسل والسدر والمشط والدهن الطيب وما أشبه ذلك وجهين.
أحدهما: أنه عليها لأن به يحصل التمكين من الاستمتاع. والثاني: هو عليه، وشبهه بالقوت وتوابعه، ولا أعلم أحدًا من الأصحاب ألزم الزوج ثمن الطيب مطلقًا، ولا حكى في لزوم ثمن البواقي خلافًا، سوى ماء الغسل الواجب.
وقال أيضَا، في نفقة الأقارب: إذا كان بعض ورثة الفقير موسرًا، وبعضهم مُعْسرًا: فإن كان الفقير أباً أو أمًا لزم الموسر كمال النفقة عليه، وإن كان جدًا أو جدة فوجهان. أما سائر الورثة: فلا تلزم الموسر منهم النفقة إلا بقدر حصته من الميراث. وهنا تفصيل غريب.
وحكي فيه رواية عن أحمد: أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث إذا كان صومًا، ويجوز بالمال.
وذكر فيه: أن نذر اللجاج والغضب نذر صحيح يلزم الوفاء به، وهذا لا يعرف في المذهب، لكن فد قيل: إنه وقع في كلام ابن أبي موسى ما يوهمه.
وذكر فيه أيضًا: أن المستأمن إذا دخل دار الإسلام بتجارة أخذ منه الخمس، وأن الذمي إذا اتجر في دار الإسلام في غير بلده أخذ منه العشر. وهو غريب مخالف لنصوص أحمد وقول الأصحاب، والمأثور عن عمر رضي الله عنه.

محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن أحمد بن خلف بن الفراء

الفقيه، الزاهد، أبو خازم ابن القاضي الإمام أبي يعلى. وأخو القاضي أبي الحسين المتقدم ذكره: وُلد في صفر سنة سبع وخمسين وأربعمائة.
وسمع الحديث من أبي جعفر بن المسلمة، وابن المأمون، وجابر بن ياسين.
وذكر ابن نقطة: أنه حدث عن أبيه القاضي أبي يعلى، وما أظنه إلا بالإجازة ة فإنه وُلد قبل موت والده بسنة.
وقد ذكر أخوه القاضي أبو الحسين: أن والده أجاز له ولأخيه أبي خازم، وقرأ الفقه على القاضي يعقوب ولازمه، وعلق عنه وبرع في معرفة المذهب والخلاف والأصول.
وصنف تصانيف مفيدة، وله كتاب "التبصرة" في الخلاف وكتاب "رؤوس المسائل"، وشرح مختصر الخرقي، وغير ذلك.
وكان من الفقهاء الزاهدين، والأخيار الصالحين. وحدث وسمع منه جماعة ورَوَى عنه ابنته نعمة، وأبو المعمر الأنصاري، ويحيى بن بوش.
وتوفي يوم الإثنين تاسع عشرين صفر سنة سبع وعشرين وخمسمائة. وصُلّي عليه يوم الثلاثاء مستهل ربيع الأول بجامع القصر. وكان يومه يومًا مشهودًا. ودفن بداره بباب الأزج، ثم نقل في سنة أربع وثلاثين إلى مقبرة الإمام أحمد، فدُفِن عند أبيه. رحمهما اللّه تعالى.
و "أبو خازم" بالخاء والزاي المعجمتين.
نقلت من خط ابن الصيرفي الحراني، مسألة: إذا حلق شاربه بحيث إنه لا ينبت.
فقال ابن أبي موسى: تجب فيه حُكُومة، وقال القاضي أبو خازم ابن القاضي أبي يعلى: يتوجَّهُ أن لا يجب فيه لأنه مأمور بحفَّه. قال: ويتوجه أن يجب إذا كان شابًا دون الشيخ لما روى عن قتادة أنه قال: من الشيخ سُنَة، من الشابِّ مُثْلة- يعني: حلق الشارب.

عبد الله بن المبارك ويعرف بعسكر بن الحسن العكبري، المقرىء، الفقيه أبو محمد، ويُعرف بابن نيال:

سمع من أبي نصر الزينبي، وأبي الغنائم بن أبي عثمان، وأبي الحسين العاصمي وغيرهم. وتفقه على أبي الوفاء بن عقيل، وأبي سعد البرداني. وكان يصحب شافعًا الحنبليَّ، فأشار عليه بشراء كتب ابنِ عقيل، فباع ملكاً له واشترى بثمنه كتاب الفنون، وكتاب الفصول، ووقفها على المسلمين. وكان خيرًا مِن أهل السنة، وحَدَّث.
وتوفي ليلة الثلاثاء ثاني عشرين جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة وصلى عليه أبو محمد المقرىء الزاهد من الغد بجامع القصر. ودفن بمقبرة الإمام أحمد عن نيف وسبعين سنة. رحمه الله تعالى.

عبد الواحد بن شنيف بن محمد بن عبد الواحد الديلمي، البغدادي الفقيه أبو الفرج:

أحد أكابر الفقهاء. تفقه على أبي علي البرداني وبَرَع. وكان مناظرًا مجودًا، وأمينًا من قبل القضاة، وباشر بعض الولايات، وله دنيا واسعة. وكان ذا فطنة وشجاعة وقوة قلب وعفةٍ ونزاهة وأمانةٍ.
قال ابن النجار: كان مشهورًا بالديانة وحسن الطريقة، ولم يكن له رواية في الحديث.

قال ابن الجوزي: حدثني أبو الحسن بن عربية قال: كان تحت يده- يعني: ابن شنيف- مال لصبي، وكان قد قبض بعض المال، وللصبي فهم وفطنة، فكتب الصبي جملة التركة عنده، وأثبتَ ما يأخذ من الشيخ. فلما مرض الشيخ أحضر الصبي وقال له: أي شيء لك عندي. فقال: والله ما لي عندك شيء لأن تركتي وصلت إليّ بحساب محسوب. فأخرج الشيخ سبعين دينارًا وقال: خذ هذه، فهي لك فإني كنت أشتري لك بشيء من مالك وأعود فأبيعه، فحصل لك هذا.
قال: وحدثني أبو الحسن قال: توفي رجل حشري بدارِ القز. وكان أبو العباس ابن الرطبي يتولى التركات. فكتب إلى الشيخ عبد الواحد يتولى تركة فلان، فحضر وأعطى زوجته حقها، وأعطى الباقي ذوي أرحامه، وكتب بذلك إليه. فكتب ابن الرطبي مع مكتوبه إليه رقعة إلى المسترشد يخبره بما صنع، وأنه وَرَّث ذوي الأرحام. فكتب: نعم، ما فعل إذا عمل بمذهبه، إنما الذنب لمن استعمل في هذا حَنْبليًا. وقد علم مذهبه في ذلك.
توفي رحمه الله تعالى في ليلة السبت حادي عشرين شعبان سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وصلّى عليه الشيخ عبد القادر. ودفن بمقبرة الإمام أحمد رضي الله عنه.

ثابت بن منصور بن المبارك الكيلي، المقرىء المحدّث، أبو العز:

سمع من أبي محمد التميمي، وأبي الغنائم بن أبي عثمان، وغانم بن الحسين وطبرزد، ونصر بن البطر، والحسين بن طلحة وخلق كثير. وعني بالحديث.


وسمع الكثير، وكتب الكثير. وخَرَّج تخاريج لنفسه عن شيوخه في فنون، وحَدَّث وسمع منه جماعة.
وروى عنه السلفي، والمبارك بن أحمد الأنصاري، وأبو الفرج الجوزي وغيرهم.


وقال أبو الفرج: كان دينًا، ثقة، صحيح الإسناد. ووقف كتبه قبل موته.


وقال السلفي عنه: فقيه على مذهب أحمد. كتب كثيْرًا، وسمع معنا وقبلنا على شيوخ. وكان ثقة وعر الأخلاق.


وقال ابن السمعاني: سألتُ ابن ناصر عنه. فقال: صحيح السماع، ما كان يعرف شيئًا.
وتوفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وقيل: سنة ثمان.


قال ابن النجار: قرأت بخط يحيى بن الطَراح: أن ثابتًا توفي يوم الإثنين سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وعشرين. ودفنَ يوم الثلاثاء بمقبرة الإمام أحمد رحمه الله تعالى. ورأيت جماعة من المحدثين وغيرهم قد نعتوه في طابق السماع بالإمام الحافظ رحمه الله.
وهو منسوب إلى "كيل": قرية على شاطىء دجلة على مسيرة يوم من بغداد مما يلي طريق واسط، ويقال لها: "جيل" أيضًا.


أخبرنا أبو الفتح الميدومي- بمصر- أخبرنا أبو الفرج الحراني، أخبرنا أبو الفرج بن الجوزي، أخبرنا أبو العز ثابت بن منصور الكيلي بقراءة شيخنا ابن ناصر عليه، أخبرنا أبو القاسم الفضل بن أبي حرب، أخبرنا أحمد بن محمد الجرجاني، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا محمد بن عبيد اللّه المنادي، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا عبد العزيز بن المختار عن عبد الله الداناج قال: شهدتُ أبا سلمة بن عبد الرحمن أبي خالد بن عبد الله بن أسيد في هذا المسجد- يعني: مسجد البصرة- قال: وجاء الحسن، فجلس إليه قال: فحدث قال: حدثنا أبو هُرَيرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "الشَّمْسُ وَألقَمَرُ ثوران مُكَوَّرانِ في النَّار يَوْمَ القيَامَةِ". قال: فقال الحسن: وما ذنبهما? فقال: أحدثك عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. قال: فسكت الحسن.

علي بن أبي القاسم بن أبي زرعة الطبري، المقرىء، المحدّث الزاهد أبو الحسن:

من أهل آمل طبرستان. ذكره ابن المسعاني، فقال: شيخ صالح خيّر دين كثير العبادة والذكر، مستعمل للسنن، مبالغ فيها جهده. وكان مشهورًا بالزهد والديانة. رحل بنفسه في طلب الحديث إلى أصبهان، وسَمِع بها جماعة من أصحاب أبي نعيم الحافظ، كأبي سعد المطرز، وأبي علي الحداد، وغيرهما.
وسمع ببلده آمل من أبي المحاسن الروياني الفقيه، وأبي بكر بن الخطاب الاخباري قال: وكتب لي الإجازة ولم أره، ثم روى حديثًا عن رجل عنه. ثم قال: توفي بالعُسَيْلَةِ بعدَ فراغه من الحج والعمرة والزيادة في المحرّم سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. ودُفن بها. وصلى عليه أبو زيد البصري الخطيب رحمه الله تعالى.

أحمد بن علي بن عبد الله بن الأبرادي البغدادي، الفقيه، الزاهد أبو البركات:

سَمِع من أبي الغنائم بن أبي عثمان، وأبي الحسن بن الأخضر الأنباري، وأبي الحسن بن النحاس، وأبي القاسم بن فهد العلاف وغيرهم. وقرأ الفقه على ابن عقيل، وصحب الفاعوسَ وغيره من الصالحين. وتعبد ووقف دارًا له بالبحرية شرق بغداد على أصحابنا مدرسة. وحَدث وسمع منه جماعة.

وروى عنه أبو المعمر الأنصاري، وأبو القاسم بن عساكر.

وتوفي ليلة الخميس ثاني عشر رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. ودُفِن بباب أبرز.
قال ابن النجار: قرأته في تاريخ ابن شافع بخطه. والذي رأيت في تاريخ مختصر ابن شافعِ لابن نقطة: في هذه السنة وفاة أبي الحسن محمد بن أبي البركات أحمد بن الأبرادي. وقد تابعه على ذلك ابن الجَوزي في تاريخه، وترجماه بترجمة أبي البركات. وهو وهم. وسنذكر ابنه أبا الحسن في موضعه إن شاء الله تعالى.

يحيى بن الحسن بن أحمد بن عبد اللّه بن البناء، أبو عبد الله

ابن الإمام أبي علي المتقدم ذكره، وأخو أبي نصر المتقدم ذكره أيضًا: ولد يوم الجمعة رابع عشرين ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.، وبكر به أبوه في السماع، فسمع من أبي الحسين بن المهتدي، وابن الأبنوسي، وابن النقور، وأبي الغنائم، وجابر بن ياسين، والده أبي علي بن البناء، وغيرهم.


وَحَدث وروى عنه جماعة من الحُفاظ وغيرهم، منهم: ابن عساكر، وابن الجوزي، وابن بوش.


وروى عنه ابن السمعاني إجازة، وقال: كان شيخًا صالحًا حسن السيرة واسع الرواية حسن الأخلاق متوددًا متواضعًا، برًا لطيفًا بالطلبة، مشفقًا عليهم.


قال: وسمعت أبا محمد عبد الله بن عيسى بن أبي حبيب الأندلسي الحافظ قاضي اشبيلية يثني عليه كثيرًا، ويمدحه ويطريه، يصفه بالعلم والتمييز والفضل وحسن الأخلاق، وعمارة المسجد. وقال: ما رأيت ببغداد في الحنابلة مثلهُ.


قال: وكان شيخنا أبو شجاع البسطامي كثير الثناء عليه، يصفه بالخير والصلاح والعلم. وكذلك كل من رأيته ممن سمع منه أخذ عنه كان يثني عليه ويمدحهُ.


وتوفي ليلة الجمعة ثامن شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. ودُفن صبيحة يوم الجمعة بمقبرة الإمام أحمد.


أخبرنا أبو الفتح الميدومي بالفسطاط، أخبرنا عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن عَلي الحافظ، أخبرنا يحيى بن أبي علي البناء بقراءة شيخنا أبي الفضل بن ناصر، أخبرنا أبو الحسين بن محمد بن علي بن المهتدي، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن عبد اللّه بن الخضر السوسنجردي، حدثنا محمد بن عمرو بن البحتري، حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لقد اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدٍ بنِ مُعَاذٍ".

أحمد بن محمد بن أحمد الدّينوري البغدادي الفقيه، الأمام أبو بكر بن أبي الفتح:

أحد الفقهاء الأعيان، وأئمة أهل المذهب.


سمع الحديث من أبي محمد التميمي، وجعفر السراج وغَيرهما. وتَفقه على أبي الخطاب وَبَرَع في الفقه. وتقدم في المناظرة على أبناء جنسه، حتى كان أسعد الميهني شيخ الشافعية يقول: ما اعترض أبو بكر الدينوري على دليل أحد إلا ثلم فيه ثلمة.
وله تصانيف في المذهب، منها: كتاب "التحقيق في مسائل التعليق" وتخرج به أئمة، منهُم: أبو الفتح بن المنى، والوزير ابن هبيرة.


قال ابن الجوزي: حَضَرتُ دَرْسَه بعد موت شيخنا ابن الزاغوني نحوًا من أربع سنين.
قال وأنشدني:

تمنيت أن تمسي فقيهاً مناظرًا

 

بغير عناء، والجنُون فُـنـون

وليس اكتساب المالِ دون مشقةٍ

 

تلقيتها، فالعِلمُ كـيف يكـون.

قال: وحدثني قال: كنت أتفقه على شيخنا أبي الخطاب. وكنت في بدايتي أجلس في آخر الحلقة، والناص فيها كلى مراتبهم، فجرى بيني وبين رجل كان يجلس قريبًا من الشيخ بيني وبينه رَجُلان أو ثلاثة كلام. فلما كان في الثاني جلست في مجلسي على عادتي في آخر الحلقة، فجاء ذلك الرجل، فجلس إلى جانبي، فقال له الشيخ: لم تركتَ مكانك. فقال: أترك مثل هذا، فأجلسُ معَه يُزرِي عليّ. فوالله ما مضى إلا قليل حتى تقدمت في الفقه، وقويت معرفتي به، فصرت أجلس إلى جانب الشيخ، وبيني وبين ذلك الرجُل رجال.

قال ابن الجوزي: وكان يرق عند ذكر الصالحين، ويبكي ويَقُول: للعلماء عند الله قَدر، فَلعلّ الله أن يجعلني منهم.
توفي يوم السبت غرة جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. ودُفن عند رجل أبي منصور الخياط، قريبًا من قبر الإمام أحمد رضي الله عنه.
وقيل: إنه لم يُشَيِّعْهُ إلاَ عدد يسير. رحمه اللّه تعالى.
قال أبو البقاء بن طبرزد: كنت يوم مَوته عند القاضي أبي بكر بن عبد الباقي، فخبر بذلك، فقال: لا إله إلا اللّه، موت الأقران هَدَّ الأركان. وقال: إذا رأيت أخاك يحلق فبلّ أنت.
ومن غرائب أبي بكر الدينوري: أنه خرّج رواية عن أحمد: أنه من اشتبهتْ عليه القبلة لزمهُ أن يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات، وقد قيل: إنه قول مخالف للإجماع.
وحكى ابن تميم عنه: أنه ذكر وجهًا أن باطن اللحية الكثة في الغسل كالوضوء.
قال ابن الجوزي في كتاب "تلبيس إبليس": كنتُ أصلي وراء شيخنا أبي بكر الدينوري في زَمن الصّبا فكنت- يعني: إذا دخلتُ مَعه في الصلاة وقد بقي في الركعة يسير- أستفتح وأستعيذ، فيركع قبل أن أقرأ، فقال لي: يا بُنيّ، إن الفقهاء قد اختلفوا في وجوب قراءة الفاتحة خلفَ الإمام، ولم يختلفوا في أن الاستفتاح سنة، فاشتغل بالواجب ودعِ السُّنَة.

محمد بن محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني الفقيه أبو جعفر

ابن الإمام أبو الخطاب، المتقدم ذكره: وُلد سنة خمسمائة، فيما ذكره أبو الحسن بن القطيعي في تاريخه عن ابن أخيه محفوظ بن أحمد بن محفوظ.
قال ابن القطيعي: وتفقه على أبيه وبَرَع في الفقه.
قلتُ: هذا محال فإنَّ عمره يوم مات أبوه- على ما ذكر في مولده- يكون عشر سنين، فكيف تفقه عليه وبرع?.
قال: وصنف كتاباً سماه "الفريد" وهو عندي بخطه، ثم ساق منه حديثًا وحكايات وأشعاراً.
قال: وتوفي- فيما ذكره لي ابن أخيه- في سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. ودُفن بمقبرة باب حرب.
قلتُ: وفي تاريخ ابن شافع: أنه توفي ليلة الاثنين ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين. ودُفن في منزله بباب الأزج. ورأيت في تاريخ القضاة لابن المندائي: أن المتوفى في هذه السنة أبو الفرج أحمد ين الإمام أبي الخطاب. وكان من المعدلين ببغداد، وأن وفاته يوم الإثنين ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين. ودُفن بمقبرة باب حرب عند أبيه.

محمد بن عبد الباقي بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الربيع بن ثابت بن وهب بن مشجعة بن الحارث بن عبد الله بن كعب بن مالك

أحد الثلاثة الذين خلفوا، ثم تاب الله عليهم- الأنصاري الكعبي البغدادي البصري البزاز الفرضي، القاضي أبو بكر بن أبي طاهر، ويعرف بقاضي المارستان.
كان والده أبو طاهر عبد الباقي- ويعرف بصهر هبة المقرىء، وكان من أكابر أهل بغداد والملازمين للقاضي أبي يعلى- شيخًا صالحًا محدثًا، معدلاً. سمع الحديث وحدَّث، وتوفي في صفر سنة إحدى وستين وأربعمائة.
وأما ولده أبو بكر هذا: فَوُلد يوم الثلاثاء عاشر صفر سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة. وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين. وَحَضر على أبي إسحاق البرمكي سنة خمس وأربعين.
سمع من أخيه أبي الحسن علي، والقاضي أبي الطيب الطبري وأبي طالب العشاري، وأبي الحسن الباقلاني، وأبي محمد الجوهري، وأبي القاسم عمر بن الحسين الخفاف، وأبي الحسين بن حسنون، وأبي علي بن غالب، وأبي الحسين بن الأبنوسي، وأبي الحسن بن أبي طالب المكي، وأبي الفضل بن المأمون، وتفرد بالرواية عن هؤلاء كلهم. وسمع من خلقٍ آخرين.
وسمع بمكة من أبي معشرٍ وغيره، وبمصر من أبي إسحاق الحبال. وقد خرجت له مشيخة عن شيوخه في خمسة أجزاء سمعتُها بالقاهرة. وكانت له إجازة من أبي القاسم التنوخي، وابن شيطا، والقضاعي مُصَنف الشهاب.
وتفقه في صباه على القاضي أبي يعلى، وقرأ الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة، وبرع في ذلك، وله فيه تصانيف. وشهد عند قاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني وتفنن في علوم كثيرة.
قال ابن السمعاني: عارف بالعلوم متفنن، حسن الكلام، حُلو المنطق، مليح المحاورة. ما رأيت أجمع للفنون منه نظر في كل علمٍ. وسمعته يقول: تبت من كل علم تعلمته إلا الحديث وعلمه.

قال: وكان سريع النسخ حسن القراءة للحديث سمعته يقول: ما ضيعت ساعة من عمري في لهو أو لعب.
قال: وسمعته يقول: أسرتني الروم، وبقيت في الأسر سنة ونصفًا، وكان خمسة أشهر الغلّ في عنقي، والسلاسل على يدي ورجلي. وكانوا يقولون لي: قل: المسيح ابن اللّه، حتى نفعل ونصنع في حقك، فامتنعتُ وما قلت. قال: ووقت أن حبست كان ثَمَّ معلم يعلم الصبيان الخط بالرومية، فتعلمت في الحبس الخط الرومي.
وسمعته يقول: حفظتُ القرآن ولي سبع سنين، وما من علم في عالم الله إلا وقد نظرتُ فيه، وحصلت منه كله أو بعضه، وتفرد في الدنيا بعلو الإسناد ورحل إليه المحدثون من البلاد.
قال ابن الجوزي: كان حسن الصورة، حلو المنطق، مليح المعاشرة، كان يُصلي في جامع المنصور، فيجيء في بعض الأيام، فيقف وراء مجلسي وأنا على منبر الوعظ فيسلّم عليّ. وأملى الحديث في جامع القصر باستملاء شيخنا ابن ناصر، وقَرأت عليه الكثير. وكان ثقة فهمًا، ثبتًا حجة، متفننًا في علوم كثيرة، منفردًا في علم الفرائض.
وكان يَقُول: ما أعلم أني ضيَّعت من عُمري شيئًا في لَهو أو لعب، وما من علم إلا وقد حصلت بعضه أو كله. وكان قد سافر فوقع في أيدي الروم، فبقي في أسرهم سنة ونصفًا، وقَيّدوه وجعلوا الغل في عنقه، وأرادوا منه أن ينطق بكلمة الكفر فلم يفعل، وتعلم منهم الخط الرومي.
قال: وسمعته يقول: يجب على المعلم أن لا يعنف، وعلى المتعلم أن لا يأنف. وسمعته يقول: من خدم المحابر خدمته المنابر.
قال: وأنشدني:

لي مدّة لا بُـدّ أَبْـلُـغُـهَـا

 

فإذا انقضَتْ وتَصرَّمَتْ مُـتُّ

لو عَاندتنـي الأسـدُ ضـارية

 

ما ضرّني ما لم يجىء الوقتُ

قال: ذُكر لنا أنّ منجمين حَضَرا حين وُلد، فأجمعا أن عمره اثنتان وخمسون سنة. قال: وها أنا قد جاوزت التسعين.
قال: ورأيته بعد ثلاث وتسعين صحيح الحواس، لم يتغير منها شيء، ثابت العقل، يقرأ الخط الدقيق من بُعد. ودخلنا عليه قبل موته بمدَيدة، فقال: قد نزلت في أذني مادة، فقرأ علينا من حديثه، وبقي على هذا نحوًا من شهرين، ثم زال ذلك، وعاد إلى الصحة ثم مرض فأوصى أن يعمق قبره زيادة على ما جرت به العادة، وقال: لأنه إذا حفر ما جرت به العادة لم يَصلوا إلي وأن يكتب على قبره "قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنُتُم عنهَ مَعرِضُون" ص: 68، 69. وبقي ثلاثة أيام قبل موته لا يفتر من قراءة القران، إلى أن توفي يوم الأربعاء قبل الظهر ثاني رجب سنهَ خمس وثلاثين وخمسمائة. وصلي عليه بجامع المنصور. وحضر قاضي القضاة الزينبي، ووجوه الناس وشيعناه إلى مقبرة باب حرب، فدُفن إلى جانب أبيه، قريبًا من بشر الحافي رضي الله عنه.
قلتُ: وحدّث القاضي أبو بكر بالكثير من حَديثه، وسمع منه الأئمة الحفاظ وغيرهم، وأثنوا عليه.
قال ابن الخشاب عنه: كان مع تفرده بعلم الحساب والفرائض، وافتنانه في علوم عديدة، صدوقاً، ثبتًا في الرواية، متحريًا فيها.
وقال ابن ناصر عنه: كان إمامًا في الفرائض والحساب، وهو آخر من حدث عن البرمكي، وذكر جماعة.
وكان سماعه صحيحًا، ومتعه الله بعقله وسمعه وبصره وجوارحه إلى حين وفاته.
ولم يخلف بعده من يقوم مقامه في علمه. وكان قد خرجت له مجالس سنة ثمان عشرة، فأملاها بالجامع من دار الخليفة.
وقال ابن شافع: سمعتُ ابن الخشاب يقول: سمعتُ قاضي المارستان يقول: قد نظرتُ في كل علم حصلت منه بعضه أو كله، إلا هذا النحو فإني قليل البضاعة فيه.
قال ابن شافع: وما رأيت أبا محمد- يعني: ابن الخشاب- يعظم أحدًا من مشايخه تعظيمه له. وكان أبو القاسم بن السمرقندي يقول: ما بقي مثله ويطريه في الثناء.

أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم- بمصر- أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم، أخبرنا الحافظان: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجزي، وأبو محمد بن عبد العزيز بن محمود بن الأخضر، وأبو أحمد بن عبد الوهاب بن علي بن سكينة وغيرهم وأخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الدمشقي بها- غير مرة- أخبرنا أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم التنوخي، وأبو محمد عبد العزيز بن عبد المنعم الحارثي وأبو الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي، وأبو الغنائم المسلم بن محمد بن علان وغيرهم، قالوا: أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزد، وأبو اليمن زيد بن الحسن الكندي. زاد الأولان: وأبو البركات عبد اللطيف بن إسماعيل الصوفي، وزاد الأول وحده: وأحمد بن تُزمش البغدادي. قالوا كلهم: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزاز، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي -حضوراً- أخبرنا أبو محمد عبد الله بن إبراهيم البزار حدثنا أبو مسلم حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا حميد عن أنس قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتبؤأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار": أنبئت عن يوسف بن خليل الحافظ قال: أخبرنا الشيخ الصالح أبو القاسم عبد اللّه بن أبي الفوارس محمد بن علي بن حسن الخزاز الصوفي البغدادي ببغداد قال: سمعتُ القاضي أبا بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزاز الأنصاري يقول: كنتُ مجاورًا بمكة- حرسها الله تعالى- فأصابني يومًا من الأيام جوع شديد لم أجد شيئًا أدفع به عني الجوع، فوجدتُ كيسًا من إبريسم مشدودًا بشرابة من إبريسم أيضًا فأَخذته وجئت به إلى بيتي، فحللته فوجدتُ فيه عقدًا من لؤلؤ لم أرَ مثله، فخرجتُ فإذا الشيخ ينادي عليه، ومعَه خرقة فيها خمسمائة دينار وهو يقول: هذا لمن يَرد علينا الكيس الذي فيه اللؤلؤ، فقلت: أنا محتاج، وأنا جائع، فآخذ هذا الذهب فأنتفع به، وأرد عليه الكيس، فقُلت له: تعالى إليّ، فأخذته وجئت به إلى بيتي، فأعطاني علامة الكيس، وعلامة الشرابة، وعلامة اللؤلؤ وعَدَدَه، والخيط الذي هو مَشدُود به، فأخرجته ودَفعته إليه. فسلم إليّ خمسمائة دينار، فما أخذتها، وقلت: يجب عليّ أن أعيده إليك ولا آخذ له جزاء، فقال لي: لا بد أن تأخذ. ألح عليَّ كثيرًا، فلم أقبل ذلك منه، فتركني ومضى.
وأما ما كان مني: فإني خرجتُ من مكة وركبتُ البحر، فانكسر المركب وغرق الناس، وهلكت أموالهم، وسلمتُ أنا على قطعة من المركب، فبقيت مُدّةً في البحر لا أدري أين أذهب، فوصَلت إلى جزيرة فيها قوم، فقعَدتُ في بعض المساجد، فسمعوني أقرأ، فلم يبق في تلك الجزيرة أحد إلا جاء إليّ وقال: علمني القرآن. فحصل لي من أولئك القوم شيء كثير من المال.
قال. ثم إني رأيتُ في ذلك المسجد أوراقًا من مصحف، فأخذتها أقرأ فيها فقالوا لي: تحسن تكتب?. فقلت: نعم، فقالوا: علمنا الخط، فجاءوا بأولادهم من الصبيان والشباب، فكنتُ أعلمهم، فحصل لي أيضًا من ذلك شيء كثير فقالوا لي بعد ذلك: عندنا صبيَّةً يتيمة، ولها شيء من الدُنيا نريد أن تتزوج بها، فامتنعتُ، فقالوا: لا بل، وألزموني، فأجبتهم إلى ذلك.
فلما زفوها إليَّ مددتُ عيني أنظر إليها، فوجدت ذلك العقد بعينه معلقًا في عنقها، فما كان لي حينئذ شغل إلا النظر إليه. فقالوا: يا شيخ، كسرتَ قلب هذه اليتيمة من نظرك إلى هذا العقد، ولم تنظر إليها، فقصصتُ عليهم قصة العقد فصاحوا وصرخوا بالتهليل والتكبير، حتى بلغ إلى جميع أهل الجزيرة، فقلتُ: ما بكم. فقالوا: ذلك الشيخ الذي أخذ منك العقد أبو هذه الصبية، وكان يقول: ما وجدتُ في الدنيا مسلمًا إلا هذا الذي رد عليَّ هذا العقد، وكان يدعو ويقول: اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه بابنتي، والآن قد حصلت، فبقيتُ معها مدة ورزقتُ منها بولدين.
ثم إنها ماتت فورثت العقد أنا وولداي، ثم مات الولدان فحصل العقد لي فبعته بمائة ألف دينار. وهذا المال الذي ترون معي من بقايا ذلك المال. هكذا ساق هذه الحكاية يوسف بن خليل الحافظ في معجمه.
وساقها ابن النجار في تاريخه، وقال: هي حكاية عجيبة. وأظن القاضي حكاها عن غيره. وقد ذكرها أبو المظفر سبط بن الجوزي في تاريخه في ترجمة أبي الوفاء بن عقيل.

وذكر عن ابن عقيل: أنه حكى عن نفسه: أنه حج، فالتقط العقد ورده بالموسم، ولم يأخذ ما بذل له من الدنانير، ثم قدم الشام، وزار بيت المقدس، ثم رجع إلى دمشق، واجتاز بحلب في رجوعه إلى بغداد، وأنَ تزوجه بالبنت كان بحلب. ولكن أبا المظفر ليس بحجة فيما ينقله، ولم يذكر للحكاية إسنادًا متصلاً إلى ابن عقيل، ولا عزاها إلى كتاب معروف، ولا يعلم قدوم ابن عقيل إلى الشام، فنِسبتُها إلى القاضي أبي بكر الأنصاري أنسب. والله أعلم.
وقد تضمنت هذه القصة: أنه لا يجوز قبول الهدية على رد الأمانات لأنه يجب عليه ردها بغير عوض، وهذا إذا كان لم يلتقطها بنِيَّة أخذ الجُعْل المشروط وقد نص أحمد رضي اللّه عنه على مثل ذلك في الوديعة، وأَنه لا يجوز لمن ردها إلى صاحبها قبولُ هديته إلا بنية المكافأة.

عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي، ثم الدمشقي، المعروف بابن الحنبلي

الفقيه الواعظ المفسر، شرف الإسلام أبو القاسم.
كذا كناه ابن القلانسي في تاريخه. وكناه المنذري وغيره أبا البركات ابن شيخ الإسلام أبي الفرج الزاهد- المتقدم ذكره- شيخ الحنابلة بالشام في وقته.
توفي والده وهو صغير فاشتغل بنفسه، وتفقه وبرع، وناظر وأفتى، ودرس الفقه والتفسير ووعظ، واشتغل عليه خلق كثير. وكان فقيهًا بارعًا، وواعظًا فصيحًا، وصدرًا معظمًا، ذا حُرمةٍ وحشمه وسؤددٍ ورئاسة، ووجاهةٍ وَجَلالة وهيبهْ.
ولما ورد الفرنج إلى دمشق سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، أرسله صاحب دمشق إلى الخليفة المسترشد ببغداد ليستنجدهم على الفرنج، فخلع عليه ووَعَده بالإنجاد.
وكان له بجامع دمشق مجلس يعقده للوعظ، وقيل: إنه منع منه بسبب الفتن.
قال ابن السمعاني: سمعتُ أبا الحجاج يُوسف بن محمد بن مقلد التنوخي الدمشقي- مذاكرة- يقول: سمعتُ الشيخ الإمام عبد الوهاب بن أبي الفرج الحنبلي الدمشقي- بدمشق- ينشد على الكرسي في جامعها، وقد طاب وقته:

سيدِي عَلِّلِ الفُـؤَاد الـعَـلـيلا

 

وَأحْيني قَبْل أن تراني قـتـيلا

إن تكن عَازماً على القبض رحي

 

فتَرفَّق بهـا قَـلـيلاً قَـلـيلاً

قرأت بخط حفيده ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم قال: حكى لنا الفصيح الحنفي قال: احتجت، فأشار عليّ بعضُ الناس أن أقوم في مجلس شرف الإسلام فأمتدحه بقصيد شعر. قال: فَفَعَلْتُ، فرمى عليّ الشيخُ منديلاً كان في يده، فخلع على جماعة أصحابه ثيابًا كثيرة، ونثروا عليّ، فخرجتُ من المجلس ومعي جمال تحمل الخلع. فبلغ ذلك البرهان البلخي شيخ الحنفية، فشكاني إلى والدي، فقلتُ: كنت محتاجًا، ورحت إلى رجل أغناني، فاسكتوا عني وإلا رُحتُ إليه بُكرةً.
قال ناصح الدين: وكان وجيه الدين مسعود بن شجاع شيخ الحنفية- بدمشق- يذكر شرف الإسلام جدّي، ويقول: كان يَذكر مجلدة من التفسير في المجلس الواحد ويُثني عليه.
قال: وكان زين الدين بن الحكيم الواعظ الحنفي يذكر جدي شرف الإسلام على المنبر، ويثني عليه، وربما ذكره فبكى.
قلت: ولشرف الإسلام تصانيف في الفقه والأصول، منها "المنتخب في الفقه" في مجلدين و "المفردات"، و "البرهان في أصول الدين" ورسالته في الرد على الأشعرية.
وحدث عن أبيه ببغداد ودمشق وسمع منه ببغداد أبو بكر بن كامل، وناظر مع الفقهاء ببغداد في المسائل الخلافيات.

قال ابن النجار: حدث عن والده بحديث منكر. وبنى بدمشق مدرسة داخل باب الفراديس، وهي المعروفة بالحنبلية. ولما شرع في بنائها طلع بعض المخالفين إلى "زمرّد خاتون" أم شمس الملوك- وكان حكمها نافذًا في البلد- فقالوا لها: هذا ابن الحنبلي يبني مدرسةً للحنابلة، وهذا البلد عامته شافعية، وتصير الفتن وبناؤها مفسدة وضرر كبير. فبعثتْ إلى الشيخ، وقالت له: بطل هذا البناء، فقال: السمع والطاعة. وقال للصناع: انصرفوا، فانصرفوا. فلما كان الليل أحضر الصُّنَاع والفعلة وأصحابه، وأشعلوا المشاعل والشمع، وشرعوا في تأسيس حائط القبلة، ونصبوا المحراب ليلاً، وقال: اغدوا على عملكم، فغدوا، وقال أولئك لها: قد خالفَ أمرك. فنزل إليه عشرة من القلعة، وقالوا له: أما قد نهتك خاتون عن بناء هذا المكان. فقال: أنا قد بنيتُ بيتًا من بيوت اللّه عز وجل، ونصبتُ محرابًا للمسلمين، فإن كانت هي تهدمه تبعث تهدمه، وصاح على الصناع: اعملوا. فبلغها ما قال. فقالت: صدق. أنا ما لي وللفقهاء.
ذكر ذلك الناصح عن بعض أصحاب أبي شرف الإسلام.
قال: سمعتُ والدي يقول: جاء رجل من أصحاب أبي شرف الإسلام إليه، فقال: رأيتُ الليلة في منامي أبي، فقال لي: هذا الذي يقوله لكم الشيخ ما هو صحيح، ما رأينا لا جنةً ولا نارًا، ولا قيامةً ولا حسابًا، وهو يبكي، فقال له الشيخ: ما ذاك والدك. فقال: يا سيدي، والدي، أنا أعرفه، فقال له الشيخ: ذاك الشيطان، الساعة.
يعود ويقول لك مثل ما قال. فقل أنت له: بالله الذي لا إله إلا هو، أنت والدي. فيولي عنك ويضرط لك. فلما كانت الليلة الثانية أصبح وجاء إلى الشيخ، فقال له: ضرط لك? قال: أي واللّه يا سيدي.
توفي رحمه الله في ليلة الأحد سابع عشر صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة.
ودفن عند والده بمقابر الشهداء من مقابر الباب الصغير.
وذكره أبو المعالي بن القلانسي في تاريخه، فقال: كان على الطريقة المرضية، والخلال الرضية، ووفور العلم وحسن الوعظ وقوة الدين، والتنزه عما يقدح في أفعال غيره من المتفقهين، وكان يوم دفنه مشهودًا من كثرة المشيعين له والباكين حوله، والمؤبنين لأفعاله والمتأسفين عليه. رحمه الله تعالى.
وللمهذب أحمد بن منير الشاعر الحلبي المشهور رسالة إلى شرف الإسلام يمدحه فيها وأهل بيته بقصيدة، يقول فيها:

ولعمري لـولا بـقـية عـبـد ال

 

واحد الحنبـلـيّ أعـضـل داؤه

هم أعادوا المعروف غضاً وقد صوّ

 

ح محضـره وغـاض بـهـاؤه

معشر أرضعوا النباهة مـن عـو

 

د نضار مـاء الـمـروءة مـاؤه

كل معروفهم لمعروفهـم طـلـق

 

وهم في مكـروهـه شـركـاؤه

ألسن توّج المـنـابـر مـنـهـا

 

كل عضب فلّ القضاء مـضـاؤه

فالكتابُ العَـزيز يشـهـدُ أن قـد

 

سلمـت خـصـلة لـه قـراؤه

أهله أنتـم، وَمَـن لـم يقـل قـو

 

لي عمّمـت عـينـه أعـضـاؤه

فقـهـاء الإســلام إنْ عـــنَّ

 

لبـس أحـبـاره خـطـبــاؤه

قال ناصح الدين حفيد شرف الإسلام: قد عرضت هذه القصيدة على أبي البقاء العكبري، فأثنى عليها كثيرًا.

عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي، الحافظ أبو البركات

محدّث بغداد: ولد في رجب سنة اثنتين وستين وأربعمائة.
وسمع الكثير من أبي محمد الصريفيني، وأبي الحسين بن النقور، وأبي القاسم الأنماطي، وابن البسري، وأبي نصر الزينبي، وطراد، وخلق كثير بعدهم. وكتب بخطه الكثير، وسمع العالي والنازل، حتى إنه قرأ على أبي الحسين بن الطيوري جميع ما عنده.
قال ابن ناصر عنه: كان بقية الشيوخ، سمع الكثير. وكان يفهم، مضى مَستُورًا وكان ثقةً، ولم يتزوج قط.
وقال السلفي: كان عبد الوهاب رفيقًا حافظاً ثقة، لديه معرفة جيدة. وقال الحافظ أبو موسى المديني في معجمه: هو حافظ عصره ببغداد.
وذكره ابن السمعاني، فقال: حافظ ثقة، واسع الرواية، دائم البشر، سريع الدمعة عند الذكر، حسن المعاشرة. جمع الفوائد وخرج التخاريج، لعله ما بقي جزء مروي إلا وقد قرأه وحصل نسخته. ونسخ الكتب الكبار، مثل الطبقات لابن سعد، وتاريخ الخطيب. وكان متفرغًا للتحديث: إما أن يقرأ عليه، أو ينسخ شيئًا.

وذكره ابن الجوزي في عِدَّة مواضع من كتبه، كمشيخته، وطبقات الأصحاب المختصرة، والتاريخ، وصفوة الصفوة، وصيد الخاطر. وأثنى عليه كثيرًا، وقال: كَان ثقة ثبتًا، ذا دين وورع، وكنت أقرأ عليه الحديث وهو يبكي، فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتي بروايته. وكان على طريقة السلف، وانتفعت به ما لم أنتفع بغيره، ودخلت عليه في مرضه- وقد بلي وذهَبَ لحمُه- فقال لي: إنَّ اللّه عز وجل لا يُتهمُ في قضائه.
وقال أيضًا: ما رأينا في مشايخ الحديث أكثر سماعًا منه، ولا أكثر كتابة للحديث بيده مع المعرفة به، ولا أصبر على الإقراء، ولا أسرع دمعة وأكثر بكاء مع دوام البشر وحسن اللقاء.
وقال أيضًا: كنت أقرأ عليه الحديث من أخبار الصالحين، فكلما قرأتها بكى وانتحب. وكنا ننتظره يوم الجمعة بجامع المنصور، فلا يجيء من قنطرة باب البصرة وإنما يجيء من القنطرة العتيقة. فسألته عن هذا? فقال: تلك كانت دار ابن معروف القاضي، فلما غضب عليه السلطان أخذها وبنى عليها القنطرة.
قال لنا: وسمعتُ أبا محمد التميمي يحكي عن ابن معروفٍ: أنه أحل كل من يَجوزُ عليها، إلا أني أنا لا أفعل.
قال: وكانت فيه خلة أخرى عجيبة: لا يغتاب أحدًا، ولا يُغتاب عنده. وكان صبورًا على القراءة عليه، يقعد طول النهار لمن يطلب العلم. وكان سهلاً في إعارة الأجزاء لا يتوقف، ولم يكن يأخذ أجرًا على العلم، ويعيبُ من يفعل ذلك، ويقول: علِّمْ مجانًا كما عُلَّمتَ مجانًا.
قلتُ: حَدَّث عبد الوهاب بالكثير، وسمع منه خلق عظيم.
وروى عنه من الحفاظ والأئمة وغيرهم خلق كثير منهم: ابن ناصر والسلفي وابن عساكر، وأبو موسى المديني، وأبو سعد السمعاني، وابن الجوزي، وابن الأخضر، وأبو أحمد بن سكينة، وابن طبرزد، وأحمد بن الديبقي، وعبد الوهاب بن أحمد. هذا خلاف عبد الوهاب بن أحمد بن هذيمة، وهو خاتمة أصحابه.
وكان ابن السمعاني وغيرهُ مِن الحُفاظ يستفيدون منه، ويرجعون إلى قوله في أحوال الرواة وجرحهم وتعديلهم.
ومن الفوائد المذكورة عنه: أنه كان لا يجيز الرواية بالإجازة عن الإجازة وجمع في ذلك تأليفًا. ذكره ابن السمعاني عنه. وهو مذهبٌ غريب.
تُوفي رحمه اللّه تعالى يوم الخميس حادي عشر المحرم سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، ودفن من الغد بالشونيزية، وهي مقبرة أبي القاسم الجنيد غربي بغداد.
أخبرنا أبو الفتح محمد بن إبراهيم- بمصر- أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، أخبرنا الحافظ عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي بقراءتي عليه، أخبرنا أبو محمد عبد اللّه بن محمد الصريفيني، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد الله الصيرفي، حدثنا أبو القاسم البغودي، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة عن منصور عن ربعي عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَ آخِرَ مَا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ الْنبُوّةِ الأُولى: إذا لَمْ تَسْتَحِ فاصْنَعْ مَا شِئتَ".
أخرجه البخاري عن آدم عن شعبة.

محمد بن علي بن صدقة بن جلب الصائغ، أبو البركات، أمين الحكم بباب الأزج:

سمع من أبي محمد التميمي، وقرأ الفقه على القاضي أبي خازم.
وذكر ابن القطيعي عن أبي الحسين بن أبي البركات الصائغ قال: سمعت أبي قال: جاءت فتوى إلى القاضي أبي خازم، وفيها مكتوب:

ما يقول الإمام أصلحه اللّ

 

هُ ولـلـسـبـيل هَــدَاهُ

في محب أَتى إليه حبـيب

 

في ليالي صيامه فـأتـاه

أَفْتِنا: هل صباح ليلتـه أف

 

طر أم لا? وقل لنا ما تراه

قال: فقال في القاضي أبو خازم: أجب يا أبا البركات، فكتبتُ الجواب وبالله التوفيق:

أيها السائل عن الوطء في لي

 

لة الصيام الذي إلـيه دعـاه

وجده بالـذي أحـبَّ وقـد أح

 

رق نارُ الغرام منه حَـشَـاه

كيف تَعْصي? ولو تفَكَّر في قد

 

رة ربي مفكر ما عـصـاه

أأمِنْتَ الذي دحا الأرض أنْ تط

 

بقَ دُونَ الورى علَيك سماه?

ليس فيما أتيتَ ما يُبْطِل الصَّو

 

م جوابي فاعلم هداك الـلّـه

تُوفي ليلة الثلاثاء سابع عشر رجب سنة ثمانٍ وثلاثين وخمسمائة. ودُفِن بباب حرب.

وكان سبب موته: أن زوجتَه سمَّتْهُ في طعام قدَّمَتْه له، وأكل معه منه رجلان فمات أحدهما من ليلته، والآخر من غده. وبقي أبو البركات مَرِيضًا مديدة، ثم مات رحمه الله تعالى.

موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر بن الحسن بن محمد الجواليقي، أبو منصور بن أبي طاهر

شيخ أهل اللغة في عصره: ولد في ذي الحجة سنة خمس وستين وأربعمائة. ذكره ابن شافع وابن الجوزي.
وقال ابن السمعاني: سألته عن مولده?. فقال: سنة ست وستين.
وذكر غيره: أنه سأله عن ذلك? فقال: في أواخر سنة خمس، أو أوائل سنة ست. وسمع الحديث الكثير من أبي القاسم بن البسري، وأبي طاهر بن أبي الصقر وأبي الحسن علي بن محمد الخطيب الأنباري، وطراد الزينبي، ونصر بن البطر، وأبي الحسين بن الطيوري، وجعفر السراج، وأبي طاهر بن سوار، وجماعة من بعدهم.
وقرأ الأدب على أبي زكريا التبريزي سبع عشرة سنة. وبرع في علم اللغة والعربية. ودرس العربية في المدرسة النظامية بعد شيخه أبي زكريا مدّة، ثم قربه المقتفي لأمر اللّه تعالى، فاختص بإمامته في الصلوات. وكان المقتفي يقرأ عليه شيئًا من الكتب، وانتفع بذلك، وبان أثره في توقيعاته. وكان من أهل السنة المحامين عنها. ذكر ذلك ابن شافع.
وقال ابن السمعاني في حقه: إمام في اللغة والأدب. وهو من مفاخر بغداد وهو متدين ثقة، ورع. غزير الفضل، كامل العقل، مَليحَ الخطّ، كثير الضبط. صنف التصانيف، وانتشرت عنه، وشاع ذكره. نقل بخطه الكثير.
وقال ابن الجوزي: انتهى إليه علم اللغة. وكان غزير العقل، متواضعًا في ملبسه ورئاسته، طويل الصمت، لا يقول الشيء إلا بعد التحقيق والفكر الطويل. وكثيرًا ما كان يقول: لا أدري. وكان من أهل السنة. سمعت منه كثيرًا من الحديث وغريب الحديث، وقرأتُ عليه كتابه "المعرب: وغيره من تصانيفه وقطعة من اللغة.
وقال ابن خلكان في تاريخه: صنَّف التصانيف المفيدة وانتشرتْ عنه، مثل شرح كتاب "أدب الكاتب" وكتاب "المعرب" وتتمة "دُرَةِ الغَوَّاص" للحريري. وخطه مرغوب فيه.
كان يصلي بالمقتفي بالله، فدخل عليه- وهو أول ما دَخل- فما زاد على أن قال: السلام على أمير المؤمنين. فقال: ابن التلميذ النَّصراني- وكان قائمًا، وله إدلال الخدمة، والطب-: ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ، فلم يلتفت إليه ابن الجواليقي وقال: يا أمير المؤمنين، سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية، وروى الحديث، ثم قال: يا أمير المؤمنين، لَوْ حَلَفَ حَالِفٌ أنَّ نصرانيًا أو يهوديًا لم يَصِل إلى قلبه نوعٌ من أنواع العلم على الوَجْه المرضي لما لزمته كفارة، لأن اللّه خَتم على قلوبهم ولن يفك ختم اللّه إلا الإيمان. فقال: صَدَقت وأحسنت، وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر، مع فضله وغزارة أدبه.
وقال المنذري: الإمام أبو منصور، أحد الفضلاء في اللغة والنحو، وهو من مفاخر بغداد، وله التصانيف المشهورة. حدث أبو منصور بالعوالي من حديثه لعزة أوقاته.
وسمع منه جماعة، منهم: ابن ناصر، وابن السمعاني، وابن الجوزي، وأبو اليمن الكندي.
وتوفي سحر يوم الأحد خامس عشر محرم سنة أربعين وخمسمائة، وصلى عليه من الغد في جامع القصر، وحضر الصلاة عليه أربابُ الدولة والعلماء، وتقدمهم في الصلاة قاضى القضاة أبو القاسم الزينبي. ودفن بباب حرب عند والده. رحمهما الله تعالى.
ووهم ابن السمعاني في وفاته، فقال: في سنة تسع وثلاثين.
أخبرنا أبو الفتح الميدومي- بمصر- أخبرنا أبو الفرج الحراني، أخبرنا عبد الرحمن بن علي الحافظ، أخبرنا موهوب بن أحمد بن الجاليقي بقراءتي عليه، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن البسري، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصلت، حدثنا إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، حدثنا أبو مصعب الزهري عن مالك عن سمي- مولى أبي بكر- عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السَّفر قطْعَةٌ مِن العَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نومَه وَطَعامَه وَشَرابَه. فإذا قَضَى أحَدُكم نَهْمَتَه مِن وَجْهِهِ فَليُعَجّلْ الرُّجُوعَ إلى أهْلِهِ".
أخرجاه عن القعنبي عن مالك.

نصر بن الحسين بن حامد الحراني، أبو القاسم: أحد شيوخ حران، وفقهائها الأكابر. وهو من أصحاب أبي الفتح بن جَلَبة القاضي، وأبي الحسين بن عمرو الزاهد، وعنهما أخذ العلم. ولا أعلم سنة وفاته.
ذكره أبو الفتح بن عبدوس، وقد عدَّ شيوخ حرَّان، وعلماءها، وفقهاءها، وذكر منهم: أبا المحاسن هبة الله بن نصر بن الحسين بن حامد ولد المذكور.
قلت: أبو المحاسن هذا تفقه ببغداد، وقرأ على ابن الزاغوني، وأبي الخطاب وغيرهما، وسمع من طلحة العاقولي.
وله تصنيف أظنه في أصول الدين سماه "كفاية المنتهى ونهاية المبتدي"، نقل منه الشيخ فخر الدين بن تيمية في تفسيره.
وذكر ابن عبدوس: أبا القاسم صدقه بن عمي بن محشي، وصاحبه أبا المعالي رافع بن محمد بن الحكيم، ولده أبا الحسن محمد بن رافع. وقد كان روى السلفي عن أبي الفتح أحمد بن حامد الأسدي الحراني بماكسين.
قال: وكان قد ولي قضاءها حديثًا بإجازته من أبي طالب العُشَاري، وبسماعه من القاضي أبي الفتح بن جلبة، بسماعه من العشاري.
وذكر ابن نقطة عن السلفي قال: سمعت المؤتمن بن أحمد الساجي يقول: علي بن محمد بن علي بن جلبة قاضي حران كان محبًا للحديث، مجدًّا في السنة.

نجيب بن عبد اللّه السمرقندي، أبو بكر:

ذكره يحيى بن الصيرفي الحراني الفقيه في بعض تصانيفه، وقال: أظنه من تلامذة ابن عقيل.
قال: وله تخاريج حَسَنَةٌ في المذهب.
وذكر من ذلك: أنه خرج رواية: أنه لا يجب القود في صورة الإكراه على القتل إلا على المكره، ولا على المكرَه، من الرواية التي يقول فيها: لا تقتل الجماعة بالواحدة لامتزاج الأفعال، فكذلك هنا وأولى لأن السبب غير صالح.

الحسين بن الهمذاني أبو عبد الله شمس الحفاظ:

له كتاب "المقتدى" في الفقه في المذهب.
ذكره ابن الصقال الحراني في رسالته المسماة ب "الإنباء عن تحريم الربا".
وذكر: أنه ذكر في هذا الكتاب: أن العروض المحلى بأحد النقدين لا يجوز بيعه بأحدهما، قولاً واحدًا. وهذا موافقةً لطريقة ابن أبي موسى وغيره. ولا أعلم من حاله غير هذا.

المبارك بن عبد الملك بن الحسين البغدادي، الحريمي، الفقيه، الإمام أبو علي، المعروف بابن القاضي:

تفقه في المذهب وبرع فيه. وسمع في حال كبره من غير واحد. وكان من أكابر الفقهاء.
تفقه عليه جماعة. ولا أعلم سنة وفاته.
وله ابن يقال له: أبو منصور عبد الملك كان موصوفًا بالصلاح والخير. ولي القضاء بمدينة المنصور بالحريم الطاهري.
وسمع من أبي منصور القزاز، وأبي البدر الكرخي وطبقتهما، وحدث.
وكان مولده سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.
وتوفي في عشرين ذي الحجة سنة تسع وستمائة. ودُفن بباب حرب.
سمع منه النجيب الحراني. وسيأتي عنه حديث في ترجمة ابن الطلاية.

بقية وفيات المائة السادسة

من سنة 541 ه- إلى سنة 600 ه

عبد الله بن علي بن أحمد بن عبد الله البغدادي

المقرىء النحوي الأديب الزاهد أبو محمد، سبط أبي منصور الخياط: وُلد ليلة الثلاثاء سابع عشرين شعبان سنهْ أربع وستين وأربعمائة.
وتلقن القرآن من شيخه أبي الحسن بن الفاعوس، وقرأ بالروايات على جده أبي منصور الزاهد، والشريف عبد القاهر العباسي، وابن سوار: وجماعة.
وسمع الحديث الكثير من أبي الحسين بن النقور، وأبي منصور بن عبد العزيز، وطراد، وغيرهم.
وقرأ الأدب على أبي الكرم بن فاخر، وبرع عليه في العربية واللغة، وقرأ عليه كتاب سيبويه، وتصانيف ابن جني. وصنف في القراءات كتباً وقصائد، وأم بمسجد ابن جردة وأقرابه، من سنة سبع وثمانين وأربعمائة إلى وفاته، وختم ما لا يحصى.
وقرأ عليه بالروايات خلق كثير. آخرهم موتاً تاج الدين زيد بن الحسن الكندي.
وسمع منه الحديث خلق كثير من الحفاظ وغيرهم، منهم: ابن ناصر، وابن السمعاني، وابن الجوزي. وكان أكابر العلماء وأهل بلده يقصدونه.
قال ابن الجوزي: قرأت عليه القرآن والحديث الكثير، ولم أسمع قارئاً قط أطيب صوتًا منه، ولا أحسن أداء على كبر سنه، وجمع الكتب الحسان. وكان كثير التلاوة، لطيف الأخلاق، ظاهر الكياسة والظرافة، وحسن المعاشرة للعوام والخواص.
وقال أيضًا: كان قويًا في السّنة. وكان طول عمره منفردًا في مسجده.

وقال ابن السمعاني: كان له معرفة بالنحو واللغة، متوددًا متواضعاً، حسن القراءة والتلاوة في المحراب، خصوصًا في ليالي رمضان، يحضر الناس عنده لاستماع قراءته. وصنف تصانيف في القراءات وعلوم القرآن، وخولف في بعضها، وشنعوا عليه. وسمعت أنه رجع عن ذلك. والله تعالى يغفو لنا وله وكتبت عنه وعلقت عنه من شعره.
وقال ابن شافع: سار ذكر سبط الخياط في البلاط والأغوار والأنجاد ورأس أصحاب الإمام أحمد، وصار أوحد وقته ونسيج وحده، لم أسمع في جميع عمري من يقرأ الفاتحة أحسن ولا أوضح منه. وكان جمال العراق بأسره. وكان ظريفًا كريمًا لم يخلف مثله في أكثر فنونه.
ولصدقة بن الحسين في مدحه:

يا قـدوة الـقـراء والأدبـا

 

ومحجة الفقهاء والعلـمـا

والعالم الحبر الإمام من سمى

 

بالعلم مرتبة على الجـوازا

وقال ابن نقطة: كان شيخ العراق يوجع إلى دين وثقة وأمانة. وكان ثقة صالحًا من أئمة المسلمين.
وقال الذهبي في طبقات القراء: صنف التصانيف المليحة في القراءات، مثل "المبهج" و "الكفاية" و "القصيدة المتحدة" و "الروضة" و "الإيجاز في السبعة" و "المؤيدة للسبعة"، و "الموضحة في العشرة" و "الاختيار" و "التبصرة" وغير ذلك.
وله شعر حسن كثير، فمنه ما أنشده ابن السمعاني عنه:

يا من تمسك بالدنـيا ولـذتـهـا

 

وجد في جمعها بالكد والتعـب

هل لا عمرت لدار سوف تسكنها

 

دار القرار وفيها معدن الطلب?

فعن قليل تراهـا وهـي دائرة

 

وقد تمزق ما جمعت من نشب

ومنه قوله:

ومن لم تؤدبه الليالي وصرفهـا

 

فما ذاك إلا غائب العقل والحس

يظن بأن الأمر جار بحـكـمـه

 

وليس له علم: أيصبح أم يمسي?

وقوله:

إذا كان أمر الله في الخلق نـافـذاً

 

ومقدوره فـيهـم يقـيم ويقـعـد

فلا ينفع الحرص المركب في الفتى

 

ولا أحـد فـيه يحـل ويعـقــد

وقوله:

أيها الزائرون بعـد وفـاتـي

 

جدثاً ضمني ولحدًا عمـيقـا

سترون الذي رأيت من الموت

 

عياناً وتسلكون الـطـريقـا

وقال الحافظ الضياء المقدسي: أخبرنا أبو الفضل عبد الواحد بن سلطان ببغداد، أخبرنا محمد المقرىء، أجاز لهم، وأنشدنا لنفسه:

ترك التكلف في التصوف واجب

 

ومن المحال تكلف الـفـقـراء

قوم إذا امتد الـظـلام رأيتـهـم

 

يتركعـون تـركـع الـقـراء

والوجد منهم في الوجوه محـلـه

 

ثم السماع يحل في الأعـضـاء

لا يرفعون بذاك صوتاً مجـهـرًا

 

يتجنـبـون مـواقـع الأهـواء

ويواصلون الدهر صومـاً دائمـاً

 

في البأس إن يأتي وفي السـراء

وتراهـم بـين الأنـام إذا أتـوا

 

مثل النجوم الغر في الظلـمـاء

صدقت عزائمهم وعز مرامهـم

 

وعلت منازلهم على الـجـوزاء

صدقوا الإله حـقـيقة وعـزيمة

 

ورمحوا حقوق الله فـي الآنـاء

والرقص نقص عندهم في عقدهم

 

ثم القضيب بغير مـا إخـفـاء

هذا شعار الصالحين ومن مضى

 

من سادة الزهاد والـعـلـمـاء

فإذا رأيت مخالفًا لفـعـالـهـم

 

فاحكم عليه بمعـظـم الإغـواء

وله أيضًا:

الفقه علم به الأديان ترتـفـع

 

النحو عز به الإنسان ينتـفـع

ثم الحديث إذا ما رمته فـرج

 

من كل معنى به الإنسان يبتدع

ثم الكلام فذره، فهـو زنـدقة

 

وخرقه فهو خرق ليس يرتقع

وله أيضًا:

ظهرت في الأنام بـدعة قـوم

 

جحدوا الله والقرآن المـبـينـا

عطلوا وصفه، وحادوا عن الحق

 

جميعاً، وخـالـفـوه يقـينـا

قال ابن الجوزي: توفي بكرة يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وتوفي في غرفته التي في مسجده، فحط تابوته بالحبال من سطح المسجد، وأخرج إلى جامع القصر، فصلى عليه عبد القادر. وكان الناس في الجامع أكثر من يوم الجمعة ثم صلى عليه في جامع المنصور.

وقال: وقد رأيت أنا جماعة من الأكابر، لما رأيت أكثر جمعًا من جمعه على تقدير الناس، من نهر معلى إلى قبر أحمد، وغلقت الأسواق، ودفن في دكة الإمام أحمد عند جده أبي المنصور.
أخبرنا أبو الفتح الميدومي- بفسطاط مصر- أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم، أخبرنا الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن علي المقرىء- بقراءتي عليه- أخبرنا الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة، أخبرنا أبو عمر بن مهدي، حدثنا المحاملي، حدثنا يوسف بن موسى القطان، حدثنا إسماعيل بن علية، حدثني علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن بشر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا". أخرجه البخاري عن أبي معمر عن عبد الوارث، ومسلم عن أبي الربيع الزهراني عن يزيد بن زريع، كلاهما عن حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير.

دعوان بن علي بن حماد بن صدقة الجبائي

ويقال له: الجُبّي أيضًا- نسبة إلى قرية بسواد بغداد عند العقر على طريق خراسان، المقرىء الفقيه الضرير أبو محمد: ولد سنه ثلاث وستين وأربعمائة بالجبة المذكورة.
وقدم بغداد فسمع بها من أبي محمد التميمي، وأبي عبد الله البسري، والحسين بن طلحة وثابت بن بندار، والصريفيني، وابن البطر، وابن السراج.
وقرأ بالروايات على الشريف عبد القاهر المكي، وابن سوار، وتفقه على أبي سعد المخرمي، وأحكم الفقه، وأعاد شيخه المذكور في درس الخلاف، وأقرأ القرآن، وحدث، وانتفع به الناس. قرأ عليه جماعة، وحدث عنه آخرون، منهم ابن السمعاني.
قال ابن الجوزي: كان خيرًا دينًا، ذا ستر وصيانة وعفاف، وطرائق محمودة، على سبيل السلف الصالح.
توفي يوم الأحد ساس عشر ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة أبي بكر- غلام الخلال- إلى جانبه.
قال ابن الجوزي: كتب إليّ عبد اللّه الجبائي الشيخ الصالح، قال: رأيت دعوان بن علي بعد موته بنحو من شهر في المنام، وكأن عليه ثيابًا بيضاء شديدة البياض، وعمامة بيضاء، وهو يمضي إلى الجامع لصلاة الجمعة، وقد أخذت يده اليسرى بيدي، ومضينا. فلما بلغنا إلى حائط الجامع، قلت له: يا سيدي، إيش لقيت. قال لي: عرضت على الله تعالى خمسين مرة، وقال لي: إيش عملت. فقلت له: قرأت القرآن وأقرأته. قال لي: أنا أتولاك، أنا أتولاك. قال عبد اللّه: فأصابني عن الوجد، وصحتُ وضربت بكفي اليمنى حائط الجامع ثلاث مرات، أتأوه وأضرب الحائط بكفي، ثم استيقظت.

صالح بن شافع بن صالح بن حاتم بن أبي عبد الله الجيلي الفقيه المعدل، أبو المعالي:

ولد ليلة الجمعة لست خلون من المحرم سنة أربع وسبعين وأربعمائة.
وسمع من أبي منصور الخياط، وابن الطيوري، وغيرهما. وصحب ابن عقيل وغيره من الأصحاب. وتفقه ودرس بالمسجد المعروف به بدرب المطبخ شرقي بغداد.
قال ابن المنذري في تاريخ القضاة: كان فقيهًا زاهدًا من سروات الناس.
قال ابن الجوزي: كان من المعدلين، فجرت حالة أوجبت أن عزل من الشهادة.
وقال ابن المنذري: كان أحد الفضلاء الشهود. وحدث عنه الحافظان: أبو القاسم الدمشقي وأبو سعد السمعاني.
توفي يوم الأربعاء سادس عشر رجب سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وصلى عليه من الغد. وتقدم عليه في الصلاة ولده أبو الفضل أحمد صاحب التاريخ. ودفن في دكة الإمام أحمد رضي الله عنه. وذكر ابن الجوزي: أنه دفن على ابن عقيل.

المبارك بن كامل بن أبي غالب محمد بن أبي طاهر الحسين بن محمد البغدادي، الظفري المحدث، مفيد العراق، أبو بكر، ويعرف أبوه بالخفاف:

ولد يوم الخميس ثاني عشر ذي الحجة سنة خمس وتسعين وأربعمائة.
وقرأ القران بالروايات. وسمع الحديث الكثير. وأول سماعه سنة ست وخمسمائة، وعنى بهذا الشأن.
سمع من أبي القاسم بن بيان، وأبي علي بن شهاب، أبي طالب بن يوسف، وأبي سعد بن الطيوري، وابن شجاع الذهلي، وأبي الغنائم النرسي، وأبي الوفاء بن عقيل، وخلق كثير غيرهم.
قال ابن الجوزي وما زال يسمع العالي والنازل، ويتتبع الأشياخ في الزوايا وينقل السماعات، فلو قيل: إنه سمع من ثلاثة آلاف شيخ لما رد القائل. وجالس الحفاظ، وكتب بخطه الكثير، وانتهت إليه معرفة المشايخ، ومقدار ما سمعوا والإجازات.

وكان قد صحب هذا رست، ومحمود الأصبهاني، وغيرهما ممن يعنى بهذا الشأن، وانتهى الأمر في ذلك إليه، إلا أنه كان قليل التحقيق فيما ينقل من السماعات مجازفة لكونه يأخذ عن ذلك ثمنًا، وكان فقيرًا إلى ما يأخذ. وكان كثير التزويج والأولاد.
وقال ابن النجار: أفاد الطلبة والغرباء، وخرج التخاريج، وجمع مجموعات، منها كتاب "سلوة الأحزان" نحو ثلاثمائة جزء وأكثر، وحدث بأكثر ما جمعه، وبقليل من مروياته. وسمع منه الكبار والقدماء.
وكان صدوقًا مع قلة فهمه ومعرفته، وخرج لنفسه معجماً لشيوخه.
وقال: الذهبي سمع الكثير، كتب عن الجم الغفير، وأفاد الطلبة، وانتفع به خلق كثير.
توفي في يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ودفن بالشونيزية. رحمه الله تعالى.

عبد الله بن الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن قثامى الحريمي الفقيه المعدل، أبو القاسم بن أبي علي:

ولد سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.
وسمع من أبي نصر الزينبي، وأبي الحسين العاصمي، وأبي الغنائم بن أبي عنان، وثابت بن بندار، وغيرهم.
قال ابن الجوزي: كان صدوقًا فقيهًا مفتيًا مناظرًا، وروى عنه حكاية في غير موضع من كتبه.
وسمع منه ابن السمعاني، وقال: فقيه فاضل على مذهب أحمد، حسن الكلام في المسائل، جميل الصورة، مرضي الطريقة، متواضع، كثير البشر راغب في الخير.
وقال ابن شافع: كان فقيهاً مفتيًا مناظرًا. صدوقًا أمينًا. ذكره شيخنا- يعني: ابن ناصر- وأثنى عليه.
روى عنه أحمد بن عبد الملك بن يوسف بن بانانة.
وتوفي يوم الجمعة سادس ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه اللّه تعالى.

عبد الله بن عبد الباقي بن التبان الواسطي

ثم البغدادي، أبو بكر الفقيه، ويسمى محمد وأحمد أيضاً: قال ابن الجوزي: كان من أهل القرآن، وسمع من أبي الحسين بن الطيوري وتفقه على ابن عقيل، وناظر وأفتى ودرس. كان أميًا لا يكتب.
توفي في شوال سنة أربع وأربعين وخمسمائة عن تسعين سنة. ودفن بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.
وقال ابن شافع: كان مذهبيًا جيدًا، وخلافيًا مناظرًا، ومن أهل القرآن. بقي على حفظه لعلومه إلى أن مات.
وذكر: أنه توفي يوم الخميس ثامن شوال المذكور، وله تسعون سنة أو أزيد.
وقال ابن النجار: درس المذهب على ابن عقيل حتى برع فيه. وكان يتكلم في مسائل الخلاف، ويفتي ويدرس.
سمع الحديث من أبي منصور الخياط، وابن الطيوري وأبي الحسن بن الدهان المرتب. وحدث باليسير.
وسمع منه المبارك بن كامل، وأبو الفضل بن شافع.

الجنيد بن يعقوب بن الحسن بن الحجاج بن يوسف الجيلي

الفقيه الزاهد، أبو القاسم بن أبي يوسف بن أبي علي: ولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة بتولم: من أرض جيلان. كذا ذكره ابن السمعاني عنه.
وذكر ابن شافع عنه: أنه ولد سنة خمسين. ثم قدم بغداد، وأقام بباب الأزج.
وقرأ الفقه على يعقوب البرزبيني، والأدب على أبي منصور بن الجواليقي.
وسمع الحديث من أبي محمد التميمي، أبي الحسن الهكاري، وأبي الحسن بن العلاف، ومن طلحة العاقولي، والقاضي أبي الحسين، وغيرهم. وحدث باليسير. وكتب بخطه الكثير من الفقه والأصول والخلاف والحديث والأدب.
وكان فاضلاً دينًا، حسن الطريقة. جمع كتابًا كبيرًا في استقبال القبلة ومعرفة أوقات الصلاة. ذكر ذلك ابن النجار.
وروى عنه ابن عساكر، والسمعاني، وقال: شيخ صالح حسن السيرة.
وقال أبو العباس بن لبيدة عنه: كان صادقًا زاهدًا ثبتًا، لم يعرف عليه إلا خيرًا.
قال: وتوفي يوم الأربعاء سادس عشري جمادى الآخرة سنة ستة وأربعين وخمسماية. وصلى عليه الشيخ عبد القادر بمدرسته. ودفن من يومه بمقبرة الجلبة. رحمه الله تعالى.
قرأت بخط أبي القاسم الجنيد بن يعقوب الجيلي في بعض تعاليقه في حادثة جاءت من بلد الهكار: قطعة جبل لرجل عليها شجر نابت، وتحتها أرض لرجل آخر مزروعة، انقطعت القطعة فسقطت على الأرض التي تحتها، فسترتها وصارت حاضنة لها، مانعة لصاحبها من زراعتها، والشجر بحاله ثابت في تلك القطعة لا يستضر ساحبها، لكن صاحب الأرض التي تحتها يستضر: ما الحكم في ذلك.

الجواب- وباللّه التوفيق-: أنه يحتمل القيمة، لأنها صارت كالمستهلكة فهي كاللآلىء إذا ابتلعها عبده. انتهى. ولم يعز الجنيد هذا الجواب إلى أحد بعينه والظاهر: أنه جوابه بنفسه.
وفيما قاله نظر فإن جناية العبد تفارق بقية جنايات الأموال لأن العبد مكلف مختار، فلا تسقط جنايته وتتعلق برقبته، وإن لزم من ذلك فوات حق المالك. وهذا بخلاف جنايات البهائم فإنه لا يضمن مالكها إلا أن ينسب إلى نوع من تفريط في حفظها، على ما فيه من اختلاف وتفصيل.
وأما الجنايات الحادثة من أمواله التي لا حياة فيها: فلا ضمان عليه فيها إلا أن ينسب إلى نوع تفريط، مثل من مال حائطه إلى جاره أو إلى الطريق، فإنه إذا لم يعلم به فلا نعلم خلافًا في أنه لا ضمان عليه، وإن علم وامتنع من النقض حتى سقط فأتلف، ففي وجوب الضمان عليه خلاف مشهور. فهذه الأرض الساقطة بسيل أو غيره على أرض الغير تشبه ما تلف بسقوط الجدار ونحوه.
وقد يقال: المتلف نوعان.
أحدهما: ما فات ولم يمكن إعادته من مال ونفس، فهذا الذي تكلم الفقهاء في ضمانه على ما سبق ذكره.
والثاني: ما هو باقي، ولكن المالك بينه وبين مالكه. فهذا يلزم المالك الذي حال ملكه بينه وبين مالكه: أن يخلي بين المالك ليأخذه. فإذا عجز فهل يقال: يلزمه ضمانه لحيلولة ملكه. فقد ذكره صاحب المحرر في مسودته على الهداية فيما إذا ابتلعت بهيمته جوهرة في حال لا يلزم المالك ضمان جنايتها: هل يلزمه هنا شيء أم لا. وبيض لذلك.
ولكن كلام ابن عقيل وغيره في مسألة من وقع في محبرته دينار لغيره بغير تفريط منه: أنه يلزمه بذلها للكسر مضمونة، ولا يلزمه أكثر من ذلك يدل على أنه لا يلزمه ضمان ما حال ملكه بينه وبين مالكه، وأنه لا يلزمه أكثر من بذل التسليم للمالك، ليخلص ملكه. وهذا يبقى الضمان عند العجز. وهو الأظهر.
ولو قيل: إنه يلزمه الأجرة مدة الانتفاع ببقاء أرضه على أرض غيره، إلحاقًا بمن حمل السيل غراسه إلى أرض آخر.
قلنا: يلزمه الأجرة، وفيه نظر. والله أعلم.
والذي ذكره القاضي وابن عقيل فيمن ابتلعت بهيمته ما لا لغيره يبقى، كذهب وجوهر: فإن كان يلزمه الضمان وكانت مأكولة: فهل تذبح لاستخراجه. على وجهين للنهي عن ذبح الحيوان لغير مأكلة، وإن كانت غير مأكولة تعين الضمان، وإن لم تكن مضمونة عليه فلا ضمان.
ولكن قياس ما ذكر ابن عقيل في سقوط الدينار في المحبرة: أنه يخير مالك المال المبتلع بين أن يذبح المأكول ويضمن نقصه، وبين أن يتركه. والله أعلم.

عبد الملك بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد علي الأنصاري الشيرازي

ثم الدمشقي، القاضي بهاء الدين بن شرف الإسلام ابن الشيخ أبي الفرج. وقد تقدم ذكر أبيه وجده: تفقه وأفتى ودرس وناظر. وذكره أبو المعالي حمزة بن القلانسي في ذيل تاريخ دمشق، فقال: كان إمامًا فاضلاً، مناظرًا مستقلاً، مفتيًا على مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة، يحكم عليه، ما كان عليه عند إقامته بخراسان لطلب العلم والتقدم. وكان يعرف اللسان الفارسي مع العربي. وهو حسن الحديث في الجد والهزل.
توفي يوم الإثنين سابع عشر رجب سنة خمس وأربعين وخمسمائة. وكان له يوم مشهود. ودفن في جوار أبيه في مقابر الشهداء- يعني: بالباب الصغير، وكثر الباكون حول سريره من العالم، والمثنون له والمتأسفون عليه. رحمه الله تعالى.

عبد اللّه بن هبة الله بن أحمد بن محمد السامري الفقيه، أبو الفتح:

ولد يوم الاثنين ثاني عشر ذي الحجة سنة خمس وثمانين وأربعمائة.
وسمع الكثير من أبي بكر الطريثيثي، وثابت بن بندار، والمبارك بن عبد الجبار، وأبي سعد بن خشيش، وجعفر السراج، وغيرهم.
وتفقه على أبي الخطاب الكلوذاني. وحدث باليسير، روى عنه جماعة.
توفي ليلة الإثنين ثالث عشر محرم سنة خمس وأربعين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب.

أيوب بن أحمد بن تيموه الباجرائي

الفقيه الحنبلي. ويكتب بخطه: القاضي أيوب: قال ابن النجار: سمع ابن ناصر الدسكري. والقاضي أبا الحسين بن الفراء. وحدث عنه بأصبهان بيسير.
سمع منه أبو الكرم سعد بن الحسين بن ولاد المديني.
توفي في ذي القعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
قلتُ: ووجدت خطه كثيرًا على كتب كثيرة من كتب الأصحاب، قرئت عليه، وحدث بالغيلانيات. سماعه من ابن الحصين.

الحسن بن محمد بن الحسين الراذاني

الأواني، ثم البغدادي، الفقيه الواعظ أبو علي الزاهد، ابن الزاهد أبي عبد الله. وقد تقدم ذكر أبيه: وُلد أبو علي بأوانا، وسمع ببغداد من أبي الحسين بن الطيوري، من بيان وابن شهاب، وابن خشيش، ومن الحافظ بن ناصر، ولازمه إلى أن مات.
وتفقه على أبي سعد المخرمي، ووعظ تقدم. ولما توفي ابن الزاغوني أخذ حلقته بجامع المنصور في النظر والوعظ، وطلبها ابن الجوزي فلم يعطها لصغر سنه.
سمع منه ابن السمعاني، وقال: واعظ حسن السيرة متودد. وسمع منه أبو الحسن بن عبدوس الحراني الفقيه جزءًا فيه أجوبة عن مسائل وردت من الموصل، تتضمن عدة مسائل من أصول الدين، أجاب عنها في كراس، بجواب حسن موافق لمذهب أهل الحديث.
وذكر عبد المغيث الحربي، في بعض مؤلفاته: فتيًا من فتاويه، في تحريم السماع.
قال ابن الجوزي: توفي يوم الأربعاء رابع صفر سنة ست وأربعين وخمسمائة.
ودفن من الغد إلى جانب ابن سمعون بمقبرة الإمام أحمد. وكان موته فجأة ة فإنه دخل إلى بيته ليتوضأ لصلاة الظهر، فقاء فمات. وكان قد تزوج وعزم تلك الليلة على الدخول بزوجته.
وفي تاريخ ابن السمعاني وابن شافع: أنه توفي سادس صفر.

عبد الرحمن بن محمد بن علي بن محمد الحلواني

الفقيه الأمام أبو محمد بن أبي الفتح، وقد سبق ذكر أبيه: وُلد سنة تسعين وأربعمائة.
تفقه على أبيه، وأبي الخطاب، وبرع في الفقه وأصوله، وناظر وصنف تصانيف في الفقه والأصول، منها: كتاب "التبصرة" في الفقه، كتاب "الهداية" في أصول الفقه.
رأيت بخطه ما يقتضي أن له تعليقة في مسائل الخلاف كبيرة، وله تفسير القرآن في إحدى وأربعين جزءًا حدث به.
وروى عن أبيه، وعلي بن أيوب البزار، والمبارك بن عبد الجبار، والحسين الخلال، وأبي نصر بن ودعان، وغيرهم.
سمع منه يحيى بن طاهر بن النجار الواعظ، وغيره.
قال ابن شافع: كان فقيهًا في المذهب، يفتي وينتفع به جماعة أهل محلته.
وقال ابن النجار: كان موصوفًا بالخير والصلاح والفضل.
وقال ابن الجوزي: كان يتجر في الخل، وينتفع به، ولا يقبل من أحد شيئًا.
وتوفي في يوم الإثنين سلخ ربيع الأول سنة ست وأربعين وخمسمائة. وصلى عليه من الغد الشيخ عبد القادر بالمصلى القديم بالجلبة. ودفن بداره بالمأمونية.
وذكر الحافظ المنذري في التكملة في ترجمة ولده أبي عبد اللّه محمد بن عبد الرحمن الحلواني المتوفي سنة أربع عشرة وستمائة: أنه سمع بإشادة والده هذا من ابن المعالي بن السمين وغيره.
قال: ووالده أبو محمد عبد الرحمن كان من شيوخ الحنابلة وله معرفة بالفقه والتفسير، وحدث.
قال: والحلواني- بفتح الحاء المهملة وسكون اللام- وهذه النسبة إلى بيع الحلواء أو عملها.
قلت: المعروف أنه بضم الحاء، وما أظنه منسوبًا إلا إلى حلوان البلد المعروف بالعراق.

محمود بن الحسين بن بندار أبو نجيح بن أبي المرجا بن أبي الطيب الأصبهاني

الطلحي، الواعظ المحدث: سمع الحديث الكثير، وطلب بنفسه وقرأ.
سمع بأصبهان كثيرًا من يحيى بن منده الحافظ، ومن أبي الفتح أحمد بن محمد بن أحمد الحداد. ورحل إلى بغداد، وسمع بها من أبي الحصين، والقاضي أبي الحسين والطبقة. وكتب بخطه كثيرًا. وخطه حسن متقن. ووعظ وقال الشعر.
وسمع منه يحيى بن سعدون القرطبي، حدث عنه أبو عبد اللّه محمد بن بكر الأصبهاني وغيره. وأجاز للشيخ عبد المغيث زهير وأولاده، ولأبي المعالي بن شافع وغيرهما.
وتوفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة- أظنه بأصبهان- رحمه الله.
قرأت بخطه في الإجازة: فليرووا عني بلفظة التحديث، وإن أرادوا بلفظة الإخبار.
قلت: وهذا وإن اشتهر عند المحدثين من المتأخرين إنكاره، كما أنكره الخطيب على أبي نعيم الأصبهاني، لكن هو قول طوائف من علماء الحديث.

وقد روي عن الإمام أحمد رضي الله عنه، أخبرنا أبو الفتوح الميدومي- بمصر- أخبرنا أبو الفرج الحراني، حدثنا أبو المعالي أحمد بن يحيى الخازن من لفظه ببغداد، حدثنا أبو الكرم المبارك بن الحسن الشهرزوري إملاء، قال: سمعت الإمام أبا محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي يقول: حدثني عمي أبو الفضل عبد الواحد بن عبد العزيز التميمي قال: سمعت غلام الخلال يقول: سمعت الخلال يقول: قال الإمام أبو عبد اللّه أحمد رضي الله عنه لولده صالح: إذا أجزت لك شيئًا فلا تبالي. قلت: أخبرنا أو حدثنا.
وروى الخطيب بإسناده عن أبي اليمان الحكم بن نافع قال: قال لي أحمد بن حنبل: كيف سمعت الكتب من شعيب بن أبي حمزة. قلت: قرأت عليه بعضًا، وبعضًا قرأه علي، وبعضًا أجاز لي، وبعضًا مناولة. فقال أحمد: قل في كل: أخبرنا شعيب. وقد روي هذا المذهب عن مالك، والحارث بن مسكين.
ذكره ابن الصلاح في كتابه عن الزهري ومالك وغيرهما من المتقدمين. وحكاه ابن شاهين عن طائفة من العلماء.
وذكر السلفي في مقدمته لإملاء الاستذكار: أن مذهب أبي عمر بن عبد البر وعامة حفاظ الأندلس: الجواز فيما يجاز قول حدثنا وأخبرنا، أو ما شاء المجاز مما يقرب منه. قال: بخلاف ما نحن وأهل المشرق عليه من إظهار السماع والإجازة، وتمييز أحدهما عن الآخر بلفظ لا إشكال فيه.
وقد صنف بعض المحدثين المتأخرين في جواز إطلاق: حدثنا وأخبرنا في الإجازة جزءاً.

أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن نجا بن محمد بن علي بن محمد الأزجي، القاضي أبو علي بن شاتيل:

سمع من أبى محمد التميمي، ونصر بن البطر، وابن طلحة النعالي، وأبي بكر بن سوسين، وشيخ الإسلام الهكاري- وسمع منه سنة أربع وخمسين وأربعمائة. كذا ذكره القطيعي. وفيه نظر- وغيرهم.
وتفقه على أبي الخطاب الكلوذاني، وولي القضاء بربع سوق الثلاثاء مدة، ثم ولي قضاء المدائن.
ذكره ابن السمعاني، فقال: أحد فقهاء الحنابلة وقضاتهم. قال: وكتبت عنه يسيراً.
وذكر ابن القطيعي في تاريخه: أنه سمع منه جماعة. ثم روى عن أبي إسحاق الصقال الفقيه عنه.
وذكر: أنه توفي يوم السبت سابع عشر شعبان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
رحمه الله تعالى.

أحمد بن أبي غالب بن الطلاية الحربي الزاهد، أبو العباس الوراق:

ولد بعد الستين وأربعمائة.
وقرأ القرآن. وسمع من أبي القاسم عبد العزيز بن علي الأنماطي جزءًا من حديث المخلص، واشتهر به.
وسمعه منه خلق، فنسب الجزء إليه. وقد سمعناه. ثم اشتغل بالعبادة، ولازم المسجد يتعبد فيه ليلاً ونهارًا حتى انطوى من كثرة التعبد، فكان رأسه إذا قام عند ركبتيه.
قال ابن الجوزي: حدثني أبو الحسن بن غريبة، قال: جاء إليه رجل فقال: سل لي فلانًا في كذا، فقال أحمد: قم معي فصل ركعتين، واسأل الله تعالى فإني لا أترك بابًا مفتوحًا وأقصد بابًا مغلقًا.
توفي ليلة الاثنين حادي عشر رمضان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. ودفن إلى جانب ابن سمعون بمقبرة الإمام أحمد، بباب حرب.
أخبرنا أبو الفتح الميدومي، أخبرنا أبو الفرج الحراني، أخبرنا القاضي أبو منصور عبد الملك بن أبي علي المبارك بن عبد الملك بن الحسن البغدادي الحريمي- ويعرف بابن القاضي، وقد سبق ذكر ترجمته في هذا الكتاب- أخبرنا أبو العباس ابن الطلاية، أخبرنا أبو القاسم الأنماطي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص، حدثنا يحيى بن صاعد، حدثنا زياد بن يحيى، حدثنا مالك بن سعيد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ستر على مسلم عورة ستره اللّه تعالى في الدنيا والآخرة- وذكر الحديث"

محمد بن ناصر بن محمد بن علي بن عمر السلامي

الفارسي الأصل، ثم البغدادي، الأديب اللغوي، الحافظ أبو الفضل بن أبي منصور: ولد ليلة السبت نصف شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة. كذا ذكره ابن الجوزي وابن السمعاني عنه.
وفي تاريخ ابن النجار: ليلة الخميس، وكان والده شابًا تركيًا، محدثاً فاضلاً من أصحاب أبي بكر الخطيب الحافظ توفي في شبيبته. ومحمد جده اسمه "ابتغدى" وأبو جده على اسمه "تكين المضافري" التركي الحر.

وتوفي ناصر وأبو الفضل هذا صغير، فكفله جده لأمه أبو حكيم الحيري الفرضي، فأسمعه في صغره شيئًا من الحديث يسيرًا، وشغله بحفظ القرآن، والفقه على مذهب الشافعي. ثم إنه صحب أبا زكريا التبريزي اللغوي، وقرأ عليه الأدب واللغة، حتى مهر في ذلك. ثم جد في سماع: الحديث، وصاحب في قراءة الأدب على التبريزي، وسماع الحديث أبا منصور بن الجواليقي.
وكان في أول الأمر أبو الفضل أميل إلى الأدب، وابن الجواليقي أميل إلى الحديث. وكان الناس يقولون: يخرج ابن ناصر لغوي بغداد، وابن الجواليقي محدثها. فانعكس الأمر، فصار ابن ناصر محدث بغداد، وابن الجواليقي لغويها. ولازم ابن ناصر أبا الحسن بن الطيوري. وسمع منه الكثير.
وسمع من أبي القاسم بن البسري، وأبي طاهر بن أبي الصقر- وهو أول شيخ سمع عليه. وذلك سنة ثلاث وسبعين وأبي الحسن العاصمي ومالك البانياسي وأبي الغنائم بن أبي عثمان، وأبي محمد التميمي، وطراد، والنعال، وابن البطر. وأكثر عن المتأخرين بعدهم، وعنى بهذا الفن. وبالغ في الطلب والسماعات.
وكانت له إجازات قديمة من أبي الحسين بن النقور، والصريفيني، وأبي القاسم بن عليك، وأبي صالح المؤذن، وابن ماكولا الحافظ وغيرهم، وخالط أصحابنا الحنابلة ومال إليهم، وانتقل إلى مذهبهم لمنام رأى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: عليك بمذهب الشيخ أبي منصور الخياط. وقد سقناه بكماله في ترجمة الشيخ أبي منصور.
وساقه ابن النجار مختصرًا، وفي آخره قال ابن ناصر: ثم أخذت في سماع كتب أحمد ومسائله، والتفقه على مذهبه، ذلك في رمضان سنة ثلاث وتسعين.
قال السلفي: سمع ابن ناصر معنا كثيرًا، وهو شافعي أشعري، ثم انتقل إلى مذهب أحمد في الأصول والفروع، ومات عليه، وله جودة حفظ وإتقان، وحسن معرفة. وهو ثبت إمام.
قال أبو موسى المديني: هو مقدم أصحاب الحديث في وقته ببغداد.
وقال ابن الجوزي: كان حافظًا ضابطًا، متقنًا، ثقة من أهل السنة، لا مغمز فيه.
وكان كثير الذكر، سريع الدمعة. وهو الذي تولى تسمعي الحديث، وعنه أخذت ما أخذت من علم الحديث.
وقال أيضًا: قرأت عليه ثلاثين سنة، ولم أستفد من أحد كاستفادتي منه.
وقال ابن النجار: كان جيد النقل، صحيح الضبط، كثير المحفوظ، له يد باسطة في معرفة النحو واللغة. وكانت أصوله في غاية من الصحة والإتقان. وكان ثقة نبيلاً، حجة، حسن الطريقة، متدينًا فقيرًا، متعففًا نظيفًا نزهًا، وقف كتبه على أصحاب الحديث.
رأيت بخطه وصية له أوصى بها، ذكر فيها صفة ما يخلفه من التركة، وهو ثياب بدنه، وكلها خلق مغسولة، وأثاث منزله- وكان مختصرًا جدًا- وثلاثة دنانير من العين، لم يذكر سوى ذلك، ومات ولم يعقب.
قال: وسمعت ابن سكينة، وابن الأخضر وغيرهما يكثرون الثناء عليه، ويصفونه بالحفظ والإتقان والديانة، والمحافظة على السنن والنوافل.
وذكره ابن السمعاني في كتابه، فقال: حافظ ثقة، دين خير، متقن متثبت وله حظ كامل من اللغة ومعرفة تامة في المتون والأسانيد كثير الصلاة دائم التلاوة وللقرآن الكريم، مواظب على صلاة الضحى، غير أنه يحب أن يقع في الناس، ويتكلم في حقهم. وقد رد هذا عليه الحافظ أبو الفرج بن الجوزي ردًّا بليغًا.
وقال صاحب الحديث: ما يزال يجرحُ ويعدل. وقد احتج بكلام ابن ناصر في أكثر التراجم، فكيف عول عليه في الجرح والتعديل، ثم طعن فيه. ولكن هذا من تعصب ابن السمعاني على أصحاب أحمد. وذكر كلامًا كثيرًا.
ونقل ابن السمعاني في ترجمة أحمد بن علي الطريثيثي عن ابن ناصر: أن الطريثيثي، كان كذابًا ضعيفًا في الرواية، لا يحتج به، ولا يعتمد على روايته.
ثم قال أبو الفضل: لا يحسن الكلام فإنه إذ قال: كذاب، لا يحتاج أن يقول: لا يعتمد على روايته، وإذا رماه بالكذب فلا يقال: إنه ضعيف في الرواية فإن الضعف دون الكذب.

قال الحافظ أبو محمد بن الأخضر ما معناه: قول شيخنا "كذاب" لأنه روى ما ليس من سماعه، ونهى عن ذلك فلم ينته. وقوله "ضعيف في الرواية" حيث لم يميز صحيح حديثه من سقيمه. و "لا يحتج به" لأنه ليس من شرط الصحيح بهذا الوصف. و "لا يعتمد على روايته" لوجوب هذا التخليط في معرفته وحديثه، فلو وصفه بمجرد الكذب لما كان من أهله لأنه ليس من قبيل من يضع متنًا ولا يهيىء على متن إسناد، فصاحب الترجمة لم ينفرد بوصف من هذه الأوصاف، بل اشتمل عليها جميعها، فكان الجرح على حسبها.
قال: وقول ابن السمعاني: إن ابن ناصر لا يحسن الكلام، عِيٌ من القول وقصور عن إدراك الفهم، أتراه من أدرك في رحلته من اشتمل بصفة شيخنا في طبقته من حفظ وإتقان، ودوام صلاة وصيام، وأوراد كثيرة، لا يقطعها في أوقاتها، وحسن خط لم يماثله عالم في تحقيقه وضبطه، حتى إنه لا يفتقر من قرأ كتابه إلى إسناد، ولا من يعرفه طريق الإسناد، ويفيد من حفظه علومًا جمة. له في كل وصف شريف سيرة حسنة، يعلو شخصه المهابة، كأنه أحد الصحابة، فكيف يستجيز من تعقل وتفهم أن يطلق من لفظه، وقد شاء هذه أنه لا يحسن أن يتكلم.
قلت: حدث ابن ناصر بالكثير، وأملى الحديث، واستملى للأشياخ الكثير وخرج لهم التخاريج الكثيرة، وتكلم فيها على الأسانيد، ومعاني الأحاديث وفقهها، وله مصنف في مأخذ في اللغة على الغريبين للهروي، ومصنف في مناقب الإمام أحمد في مجلد وجزء في الرد على من يقول: إن صوت العبد بالقرآن غير مخلوق.
وروى عنه خلق كثير من الحفاظ وغيرهم. كالسلفي، وابن عساكر، وأبي موسى، وابن السمعاني، وابن الجوزي، وابن الأخضر، وابن سكينة، وعبد الرزاق بن عبد القادر، ويحيى بن الربيع مدرس النظامية، وأبي بكر محمد بن غنيمة بن الحلاوي الفقيه الحنبلي، وأبي اليمن الكندي، وخلق كثير. وآخر من روى عنه بالإجازة أبو الحسن بن المقير.
وتوفي ليلة الثلاثاء ثامن عشر شعبان سنة خمسين وخمسمائة، وصلى عليه قريبًا من جامع السلطان، ظاهر السور بالجانب الشرقي، ثم بجامع المنصور، ثم بالحربية ودُفن بمقبرة باب حرب، إلى جانب أبي منصور بن الأنباري تحت السدرة.
وذكر ذلك ابن الجوزي، وقال: حدثني أبو بكر بن الخضري الفقيه، قال: رأيته في المنام، فقلتُ: يا سيدي، ما فعل الله بك? فقال: غفر لي، وقال لي: قد غفرتُ لعشرة من أصحاب الحديث في زمانك لأنك رئيسهم وسيدهم. رحمه الله تعالى.
وذكر غيره: أنه صلى عليه أولاً على باب جامع السلطان أبو الفضل بن شافع بوصية منه، ثم صلى عليه الشيخ عبد القادر، ثم ابن القواريري بجامع المنصور، ثم عمر الحربي بالحربية، ودفن وقت الظهر، وكانت جنازته عظيمة، وحضره عالم كثير. رحمه الله تعالى.
أخبرنا أبو الفتح الميدومي- بمصر- أخبرنا أبو الفرج الحراني، أخبرنا أبو الفرج الحافظ، حدثنا محمد بن ناصر الحافظ من لفظه، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن أبي الصقر، أخبرنا أبو الحسن بن ميمون بن محمد الحضرمي، أخبرنا محمد بن عبد الله بن زكريا بن حيوه. حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت: "سأل الحارث بن هشام رسول الله-صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي? قال: في مثل صلصلة الجرس، فَيَفْصِم عني وقد وعيت عنه، وهو أشد علي، وأحيانًا يأتيني في مثلى صورة الفتى، فيفيده إلي".
ومن غرائب ما حكي عن ابن ناصر: أنه كان يذهب إلى أن السلام على الموتى، يقدم فيه لفظة "عليكم" فيقال: عليكم السلام لظاهر حديث أبي حري الهجيمي.
وذكر في بعض تصانيفه: أن الإحداد على الميت بترك الطيب والزينة لا يجوز للرجال بحال، ويجوز للنساء على أقاربهن ثلاثة أيام، دون زيادة عليها ويجب على المرأة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا.

عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن دويل اليعقوبي، المؤدب أبو الكرم:

ولد بعد السبعين والأربعمائة، وسمع من أبي النرسي، وأبي الغنائم بن المهتدي، وإسماعيل بن ملة، وعبد القادر بن يوسف.
وحدث وسمع منه ابن الخشاب، ابن شافع، وابن المندائي، وابن الأخضر.
قال أبو الفضل بن شافع: كان رجلاً صالحًا من خيار أصحابنا، تفقه على ابن عقيل، وسمع الحديث الكثير.
وتوفي سنة خمسين وخمسمائة، ودفن بباب أبرز.
قال وأنشدنا:

يا أهل ودي ويا أهلا دعوتكم

 

بالحق لكنها العادات والنوب

أشبهتم الدهر في تلوين صبغته

 

فكلكم حائل الألوان منقلـب

أحمد بن الفرج بن راشد بن محمد المدني الوراق البغدادي، القاضي أبو العباس

من أهل المدينة، قرية فوق الأنبار: ولد في عشر ذي الحجة سنة تسعين وأربعمائة.
وقرأ القرآن بالروايات على مكي بن أحمد الحنبلي وغيره. وتفقه على عبد الواحد ابن سيف.
وسمع من أبي منصور محمد بن أحمد الخازن، وأبي العباس بن قريش، وأبي غالب القزاز، أبي بكر بن عبد الباقي وغيرهم. وشهد عن قاضي القضاة الزينبي. وولي القضاء بدجيل مدة.
وحدث، وروى عنه ابن السمعاني، وغيره.
وتوفي يوم السبت سادس ذي الحجة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

?محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن سعدان الأزجي، الفقيه أبو المظفر:

سمع الحديث من القاضي أبي الحسين وابن العز بن كادش. وتفقه على القاضي أبي الحسين، وأبي بكر الدينوري، ولازمه.
وروى عن أبي محمد بن القحف الواعظ شيئًا.
روى عنه أحمد بن طارق. وكتب عنه المبارك بن كامل حكاية بغير إسناد في معجمه.
قال صدقة بن الحسين في تاريخه. كان فقيهًا كيسًا من أصحاب أبي بكر الدينوري.
توفي في ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. ودفن بباب حرب وسماه مظفرًا.

محمد بن خذاداذ بن سلامة بن خذاداذ

العراقي المأموني المباردي الحداد الكاتب الفقيه الأديب، أبو بكر بن أبي محمد، ويعرف بنقاش المبارد: سمع من نصر بن البطر، والحسين بن طلحة، وأبي نصر الزينبي، وأبي الخطاب بن الجراح، وطراد، وأبي طاهر بن قيداس، والمبارك بن عبد الجبار، وابن الحصين. وغيرهم.
وتفقه على أبي الخطاب. وكتب خطًا حسنًا.
ذكره ابن السمعاني، فقال: أحد فقهاء الحنابلة. درس الفقه على محفوظ الكلوذاني، يسكن المأمونية، شيخ صالح، كتبت عنه يسيرًا.
وقال ابن نقطة: حدث، وسماعه صحيح.
وذكره ابن القطيعي، فقال: من أهل القران والفقه، وطريقته في النسخ معروفة بالسرعة.
وروى قديمًا عن عبد اللّه بن جابر بن ياسين. ثم ساق حديثًا عن أحمد بن أبي السرايا التاجر عن محمد بن خذاداذ حدثنا عبد الله بن جابر بن ياسين سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.
قال ومما أنشده لنفسه:

لما رأيت أوار الحب في كـبـدي

 

أجريت دمعي على الخدين مهمولا

وقلت: يا قلب صبرًا بعد بينـهـم

 

ليقضي الله أمرًا كان مـفـعـولا

وقال ابن النجار: كان فقيهَا مناظرًا أصوليًا، تفقه على أبي الخطاب، وعلق عنه مسائل الخلاف، وقرأ الأدب، وقال الشعر. وكان خطه رديئًا.
روى لنا عنه ابن الأخضر، وثابت بن شرف. وكان صدوقًا.
وتوفى محمد بن خذاداذ ليلة الخميس مستهل جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. وصلى عليه من الغد بمسجد بن جرعة. ودفن بباب حرب. رحمه الله تعالى. وأبوه خذاداذ بن سلامة أبو محمد الحداد، نقاش المبارد.
ذكره ابن السمعاني أيضًا، وقال: كان من فقهاء الحنابلة، يسكن المأمونية.
سمع أبا نصر الزينبي. وحدث بشيء يسير. سمع منه، أفاد الطلبة، كتب لي الإجازة.
وتوفي في نصف رمضان سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وصلى عليه بجامع المنصور. ودفن بباب حرب.
وقال ابن نقطة: حدث عنه أبو القاسم بن عساكر.
وقيد ابن نقطة "خذاداذ" بدال مهملة بين ذالين معجمتين.

سالم بن عبد الله بن عبد الملك الشيباني

الفقيه الزاهد، أبو الفتح: صحب أبا بكر الدينوري، وسمع من الشريف أبي العز بن المختار، وأبي الغنائم النرسي، وغيرهما. وحدث باليسير.
سمع منه الشريف أبو الحسن الزيدي، وإبراهيم بن الشعار، وأبو الفضل بن شافع، وقال عنه: كان فقيهًا زاهدًا مخمولاً، ذكره عند أبناء الدنيا، رفيعًا عند الله، وصالح عباده، وقال صدقة بن الحسين: كان فقيهًا متزهدًا.
توفي ليلة الأربعاء سابع شعبان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. ودفن بباب حرب. رحمه اللّه تعالى.

أحمد بن معالي بن بركة الحربي:

تفقه على أبي الخطاب الكلوذاني، وبرع في النظر.
ذكره ابن الجوزي في عدة مواضع من كتبه، كالطبقات والتاريخ، وقال: كان له فهم حسن، وفطنة في المناظرة.

قال: وسمعت درسه مدة، وكان قد انتقل إلى مذهب الشافعي، ثم عاد إلى مذهب أحمد، ووعظ.
وقال صدقة بن الحسين: كان شيخًا كبيرًا قد نيف على الثمانين، فقيهًا مناظرًا عارفًا له مخالطة مع الفقهاء، ومعاشرة مع الصوفية. وكان يتكلم كلامًا حسنًا، إلا أنه كان متلونًا في المذهب.
وتوفي في يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وخمسمائة وصلى عليه الشيخ عبد القادر. ودفن بمقبرة باب حرب.
وكان سبب موته: أنه ركب دابة فانحنى في ضيق ليدخل، فاتكى بصدره على قربوس السرج فأثر فيه، وانضم إلى ذلك إسهال، فضعفت القوة. وكان مرضه يومين أو ثلاثة. رحمه الله.
وله تعليقة في الفقه وقفت على جزء منها.

الحسين بن جعفر بن عبد الصمد بن المتوكل على الله العباسي الهاشمي المقرىء، الأديب أبو علي:

ولد في حادي عشر شوال سنة سبع وسبعين وأربعمائة.
وقرأ القرآن. وسمع قديمًا من أبي غالب الباقلاني، وأبي الحسن بن العلاف وشهفير، وابن أبي الفوارس الشاعر، وابن الحصين، وأبي بكر اللفتواني وغيرهم. وحدث.
وكان يؤم في مسجد ابن الثعلبي الزاهد، وكان فيه لطف وظرف وأدب، ويقول الشعر الحسن، مع دين وخير. وجمع سيرة المسترشد، وسيرة المقتفى، وجمع لنفسه مشيخة، وجمع كتابًا سماه "سرعة الجواب ومداعبة الأحباب" أحسن فيه.
قال ابن النجار: وكان أديبًا فاضلاً، يقول الشعر ويروي الحكايات والنوادر. وكان صالحًا متدينًا صدوقًا.
روى لنا عنه ابن الأخضر، وغيره.
وذكره ابن السمعاني، وقال: كان صالحًا فاضلاً، له معرفة بالأدب والشعر.
ومن شعره مما كتبه في بعض الأجايز:

أجزت للسادة الأخيار مـا سـألـوا

 

فليرووا عني بلا بخـس ولا كـذب

مهما أحيوه من شعر ومـن خـبـر

 

ومن جميع سماعاتي من الكـتـب

وليحذروا السهو والتصحيف من غلط

 

ويسلكوا سنة الحفـاظ فـي الأدب

قال ابن النجار: أنشدنا أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن هبة الله الضرير النحوي. أنشدنا الشريف أبو علي الحسن بن جعفر لنفسه هذه القصيدة في آخر ترجمة الحسين بن جعفر الاَتي ذكره:

الدهر يعقب ما يضـر وينـفـع

 

والصبر أحمد ما إليه المرجـع

والمرء فيما منه كان مـصـيره

 

حينا، وليس عن المنية مـدفـع

فاحذر مفاجآت المنـون فـإنـه

 

لا يلتجي منها ولا يستـشـفـع

أين الذين تجمعوا وتحـصـنـوا

 

وتوثقوا وتجيشوا وتـمـنـعـوا

وتعظموا وتحشموا وتـجـبـروا

 

وتكبروا وتمولوا وتـرفـعـوا?

صاحت بهم نوب الزمان فأسرعوا

 

وحدى بهم حادي البلى فتقطعـوا

ألا احتموا عنه بعضـب بـاتـر

 

أو صانعوه بالذي قد جمـعـوا?

كانت منازلهم بـهـم مـأنـوسة

 

فتفرقت أوصالهم وتضعضعـوا

واستوطنوا الأجداث بعد قصورهم

 

وسفت على الآثار ريح زعـزع

ماذا أعدوا في الجواب لمنـكـر

 

أن غرهم فيه، وماذا يصـنـع?

وجدوا الذي عملوا: فوجه أبـيض

 

بجميل طاعته، ووجـه أسـفـع

أبتي كن متمسكاً بنـصـيحـتـي

 

فالدهر ذو غر يجـور ويخـدع

واحذر مجاورة الحسود، فـإنـه

 

بخلاف ما في نفـسـه يتـذرع

وعليك بالخلق الجمـيل، فـإنـه

 

من كل شيء يقتنى لك أنـفـع

وتجنب الدنيا وكن مـتـقـنـعـاً

 

فالحرّ يرضى بالقلـيل ويقـنـع

وخذ الكتاب بقوة، واعمل بـمـا

 

أمر المهيمن فهو حـق يتـبـع

واسلك سبيل رسوله فـي أمـره

 

تنجو به فهو الطريق المـهـيع

واعلم بأن الله "ليس كمثله شـيء"

 

إليه مصـيرنـا والـمـرجـع

حي قـديم واحـد مـتـنــزه

 

صمد، تذل له الرقاب وتخضـع

متكلـم عـدل جـواد مـنـعـم

 

بالقسط يعطي من يشاء ويمنـع

ذو العرش لا يخفى عليه سريرة

 

منا، ويعلم ما نقـول ويسـمـع

في الحشر يظهر للعباد بلطـفـه

 

كل يذل لـه، وكـل يخـضـع

 

بالعدل يحكم في القيامة بـينـنـا

 

ونبينـا فـينـا إلـيه يشـفـع

خير البـرية بـعـده صـديقـه

 

هو في الخلافة سابق مستتبـع

وكذلك الفاروق أكرم صـاحـب

 

من بعده، حبر جواد سـلـفـع

ومجهز الجيش العظيم، ومن ثوى

 

مستسلماً في الدار وهو يبضـع

وحبيبه ونـسـيبـه وصـفـيه

 

وحسامه ذاك البطـين الأنـزع

لهم المناقب والمواهب والعلـى

 

هم والصواحب والنجوم الطـير

وهم الذين بهم يفوز محـبـهـم

 

يوم المعاد وكل ذخـر ينـفـع

قال ابن القطيعي: أنشدني إبراهيم بن محمد بن أحمد الشاهد الفقيه- هو ابن الصقال- أنشدنا الشريف أبو علي بن المتوكل على الله لنفسه:

يا ذا الذي أضحى يصول ببدعة

 

وتشيع وتمشعر وتـمـعـزل

لا تنكرن تحنبلي وتسـنـنـي

 

فعليهما يوم المعاد معـولـي

إن كان ذنبي حب مذهب أحمد

 

فليشهد الثقلان أني حنبـلـي

ومن شعره أيضًا:

بشرقي بغداد لـي حـاجة

 

سأقضي وما خلتها تنقضي

ديون على ماطل ظـالـم

 

ووجد بمستكبر معـرض

أحن إليه حنين المـحـب

 

ويهجرني هجر المبغض

ومن شعره أيضًا:

ألا بأبي من صدّ عنـي، وإنـه

 

على صده شخص إليّ حبـيب

تجنبني خف الوشاة وفي الحشـا

 

رسيس جوى ما ينقضي ووجيب

ولي كبد حري عـلـيه قـريحة

 

وقلب معنيّ فـي هـواه يذوب

هموا نسبوا حبي إلى غير عـفة

 

وظنوا بنا سوءًا وذلـك حـوب

وواللّه، ما حدثت نفسـي بـريبة

 

وحاشا لمثلي أن يقـال مـريب

قال ابن الجوزي: توفي في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وخمسمائة. ودفن بمقبرة باب حرب.
وفي تاريخ ابن القطيعي: أنه توفي ليلة الإثنين لخمس عشرة ليلة مضت من جمادى الأولى من السنة المذكورة.
وذكر ابن النجار عن عمر القرشي: أنه توفي يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى.

محمد بن أحمد بن علي بن عبد الله الابرادي البغدادي الفقيه أبو الحسن بن أبي البركات

وقد سبق ذكر أبيه: تفقه على ابن عقيل. وسمع منه، ومن أبيه أبي البركات، وأبي الحسن بن الفاعوس. وحدث باليسير.
سمع منه أبو الفضل بن شافع.
وتوفي يوم الجمعة خامس شعبان سنة أربع وخمسين وخمسمائة. ودفن عند باب المختارة.
أرخ وفاته: صدقة بن الحسين، وابن نقطة، وابن النجار. وقد اشتبه على بعض الناس وفاته بوفاة أبيه، كما سبق في ترجمة أبيه.

أحمد بن مهلهل بن عبد اللّه بن أحمد البرداني

قال ابن النجار: هو من قرية "برد" بسكون الراء- من بلد إسكاف المقرىء- الزاهد الضرير، أبو العباس، ويعرف بالأزجي. كان من أهل القرآن والزهد والعبادة.
روى عن أبي طالب اليوسفي وغيره، وحدث.
ذكره ابن القطيعي، وقال: سمعت أبا الحسن البراندسي الفقيه يقول: كان هذا الشيخ يصلي في كل يوم أربعمائة ركعة.
وتوفي يوم الخميس غرة جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وخمسمائة. ودفن بمقبرة باب حرب. رحمه اللّه تعالى.
وقال ابن النجار: كان منقطعًا في مسجده لا يخالط أحدًا، مشتغلاً بالله عز وجل.
وكان الإمام المقتفي يزوره، وكذلك وزيره ابن هبيرة. والناس كافة يتبركوا به. وكان قرأ طرفًا صالحًا من الفقه على أبي الخطاب الكلوذاني، ثم على أبي بكر الدينوري.
وسمع الحديث من أبي غالب الباقلاني، وأبي الغنائم النرسي، وأبي طالب اليوسفي، وغيرهم. وحدث باليسير.
روى عنه أبو الفضل بن شافع وأبو بكر الباقداري.

سعيد بن الحسين بن شنيف بن محمد الديلمي الدارقزي، الأمين أبو عبد الله:

ولد سنة تسع وسبعين وأربعمائة.
وسمع من أبي عبد الله الحسين بن محمد السراج، والحسين بن طلحة النعال، وابن الطيوري، وغيرهم.
وتفقه في المذهب. وكان إمامًا بجامع دار القز، وأمينًا للقاضي بمحلته وما يليها. وكان شيخًا صالحًا، ثقة، حدث.
وروى عنه جماعة، منهم: ابنه أبو عبد اللّه الحسين.
وتوفي ليلة السبت رابع عشر ذي الحجة سنة أربع وخمسين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

أحمد بن أبي غالب بن أحمد بن غالب بن عبد الله الحربي

الفقيه الفرضي المعدل، أبو بكر: سمع الحديث من أحمد بن الحسين بن قريش، وابن الحصين، وأبي بكر الأنصاري، وأبي الحسين بن الفراء، وغيرهم. وتفقه في المذهب. قال ابن النجار: كان أحد الفقهاء على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد ابن حنبل، حافظًا لكتاب اللّه تعالى، له معرفة بالفرائض، والحساب والنجوم، وأوقات الليل والنهار، وشهد عند قاضي القضاة أبي القاسم الزينبي، وتولى قضاء دجيل مدة، ثم عزل، حدث باليسير.
وسمع منه عبد المغيث الحربي، والقاضي أبو القاسم بن الفراء، وغيرهما.
وتوفي يوم الأحد يوم عيد الأضحى، سنة خمس وخمسين وخمسمائة. ودفن بمقبرة الإمام أحمد.

محمد بن أحمد بن علي بن الحسين البرمكي العباسي

الهاشمي المعدل الشريف الخطيب أبو المظفر: توفي في نصف ذي القعدة سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
ودفن بالقرب من قبر معروف رحمه اللّه.
وكان مولده سنة سبعين وأربعمائة.
روى عن طراد، وأبي نصر الزينبي، والعاصمي، وغيرهم.
وحدث، وسمع منه جماعة. وكان جليل القدر. وكان من رجالات الهاشميين، ذا أدب وعلم. وله نظم، وخطب بجامع له.

علوي الإسكاف

توفي في يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
وكان شيخًا صالحًا من أصحاب أبي الحسن بن الزاغوني. وكان يقرأ كتاب الخرقي. وصلى عليه بجامع القصر بكرة النهار. ودفن بمقبرة الوردية. ذكره صدقة بن الحسين في تاريخه.

إبراهيم بن دينار بن أحمد بن الحسين بن حامد بن إبراهيم النهرواني الرزاز

الفقيه الفرضي، الزاهد الحكيم الورع، أبو حكيم: ولد سنة ثمانين وأربعمائة.
وسمع الحديث من أبي الحسن بن العلاف، وأبي عثمان بن ملة، وأبي القاسم بن بيان، وأبي الخطاب الكلوذاني، وأبي علي بن شهاب، وابن الحصين، وغيرهم.
وتفقه على أبي سعد بن حمزة صاحب أبي الخطاب، وبرع في المذهب والخلاف والفرائض، وأفتى وناظر.
وكانت له مدرسة بناها بباب الأزج، وكان يدرس ويقيم بها. وفي آخر عمره فوضت إليه المدرسة التي بناها ابن الشمحل بالمأمونية، ودرس بها أيضًا. وقرأ عليه العلم خلق كثير، وانتفعوا به.
قال ابن الجوزي: قرأت عليه القرآن والمذهب والفرائض، وممن قرأ عليه: السامري صاحب المستوعب، ونقل عنه في تصانيفه.
قال ابن الجوزي: وكان زاهدًا عابدًا، كثير الصوم، يضرب به المثل في الحلم والتواضع.
وقال أيضًا: كان من العلماء العاملين بالعلم، كثير الصيام والتعبد، شديد التواضع، مؤثرًا للخمول. وكان المثل يضرب بحلمه وتواضعه، وما رأينا له نظيرًا في ذلك.
قال ابن القطيعي: سمعت ابن الجوزي يقول: كان الشيخ أبو حكيم تاليًا للقرآن.
يقوم الليل ويصوم النهار، ويعرف المذهب والمناظرة، وله الورع العظيم. وكان يكتب بيده، فإذا خاط ثوبًا فأعطى الأجرة مثلاً قيراطًا، أخذ منه حبة ونصفًا ورد الباقي، وقال: خياطتي لا تساوي أكثر من هذا. ولا يقبل من أحد شيئًا.
قلت: وقد صنف أبو حكيم تصانيف في المذهب والفرائض. وصنف شرحًا للهداية. كتب منع تسع مجلدات، ومات ولم يكمله.
وحدث، وسمع منه جماعة منهم: ابن الجوزي، وعمر بن علي القرشي الدمشقي وله نظم.
وقال ابن القطيعي: أنشدني أحمد التاجر، أنشدني إبراهيم بن دينار الفقيه لنفسه:

يا دهر إن جارت صروفك واعتدت

 

ورميتنـي فـي ضـيقة وهـوان

إني أكون عليك يوماً سـاخـطـاً

 

وقد استفدت معـارف الإخـوان

قال القطيعي: وقرأت في كتاب أبي حكيم النهرواني بخطه:

وإني لأذكر غور الـكـلام

 

لئلا أجـاب بـمـا أكـره

أصم عن الكلم المحفظـات

 

وأحكم والحكم بي أشـبـه

إذا ما آثرت سفاة السـفـيه

 

عليَّ، فإني أنـا الأسـفـه

فكم من فتى يعجب الناظرين

 

له ألـسـن ولـه أوجـه

ينام إذا حضر المكـرمـات

 

وعند الدناءة يسـتـنـبـه

قال: وقرأت في كتابه بخطه:

عجباً لي وقد مـررت بـآثـارك

 

إني اهتديت نـهـج الـطـريق

أتـرانـي أنـسـيت عـهــدك

 

فيها? صدقوا، ما لميت من صديق

قال ابن الجوزي: رأيت بخطه- يعني: أبا حكيم- على ظهر جزء له: رأيت ليلة الجمعة عاشر رجب سنة خمس وأربعين- فيما يرى النائم- كأن شخصًا في وسط داري قائمًا، قلت: من أنت? قال: أنا الخضر. قال: تأهب للذي لا بد منه من الموت الموكل بالعباد ثم كأنه علم أني أريد أن أقول له: هل ذلك عن قرب? فقال: قد بقي من عمرك اثنا عشر سنة تمام سني أصحابك.

وعمري يومئذ خمس وستون سنة.

قال ابن الجوزي: فكنت دائمًا أترقب صحة هذا، ولا أفاوضه في ذكره لئلا أنعي إليه نفسه، فمرض رحمة الله عليه اثنين وعشرين يومًا.


وتوفي يوم الثلاثاء بعد الظهر ثالث عشر جمادى الآخرة من سنة ست وخمسين وخمسمائة، فكان مقتضى حساب منامه أن يبقى له سنة، فتأولت ذلك وقلت: لعله دخول سنة لإتمامها، أو لعله رأى في آخر سنة، ومات في أول الأخرى أو لعلها من السنين الشمسية. ودفن رحمه اللّه قريبًا من بشر الحافي رضي الله عنه.


وقد امتدحه الصرصري في قصيدته اللامية، التي مدح فيها الإمام أحمد وأصحابه، فقال:

وبالحلم والتقوى وصفة الرضى

 

أبو حكيم غدا للفقه أكبر مجمل

أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم- بمصر- أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الحافظ، أخبرنا أبو حكيم النهرواني قال الحراني: وأخبرنا- عاليًا- أبو الفرج بن عبد المنعم ابن عبد الوهاب التاجر قالا: أخبرنا أبو علي محمد بن نبهان أبو الحسن بن الحسين بن دوما، أخبرنا أحمد بن نصر الزارع. حدثنا صدقة بن موسى، وأحمد بن محمد الأنباري، والقاسم بن أحمد، قالوا: حدثنا سويد بن سعيد الجدثاني، حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عشق وكتم وعف فمات، فهو شهيد".

علي بن عمر بن أحمد بن عمار بن أحمد بن علي بن عبدوس الحراني

الفقيه الزاهد، العارف الواعظ، أبو الحسن: ولد سنة عشر- أو إحدى عشرة- وخمسمائة، على ما نقله القطيعي عن أبي المحاسن الدمشقي عنه.


وسمع ببغداد بآخر سنة أربع وأربعين من الحافظ أبي الفضل بن ناصر، وغيره.
وتفقه وبرع في الفقه والتفسير والوعظ، والغالب على كلامه التذكير وعلوم المعاملات. وله تفسير كبير- وهو مشحون بهذا الفن. وله كتاب "المذهب في المذهب" ومجالس وعظية، فيها كلام حسن، على طريقة كلام ابن الجوزي.


قرأ عليه قرينه أبو الفتح نصر الله بن عبد العزيز، وخاله الشيخ فخر الدين بن تيمية في أول اشتغاله، وقال عنه: كان نسيج وحده في علم التذكير، والاطلاع على فنون التفسير، وله فيه التصانيف البديعة، والمبسوطات الوسيعة.


وسمع منه الحديث أبو المحاسن عمر بن علي القرشي الدمشقي بحران، سنة ثلاث وخمسين، قال: هو إمام الجامع بحران، من أهل الخير والصلاح والدين.


قال: وأنشدني لنفسه:

سألت حبيبـي وقـد زرتـه

 

ومثلي في مثـلـه يرغـب

فقلت: حديثك مستـظـرف

 

ويعجب منه الذي يعـجـب

أراك مـلـيح الـجـــاب

 

فصيح الخطاب، فما تطلب

فهل فيك من خـلة تـزدري

 

بها الصد والهجر به يقرب?

فقال: أما قد سمعت المقـال

 

مغنية الحي ما تـطـرب?

ومما أورد الشيخ أبو الحسن في قوله لنفسه:

يا حاملاً ثقل الذنوب تجاهلا

 

حملت من أثقالها العظائمـا

لا بد من يوم عبـوس هـائل

 

يكون من أسرف فيه نادمـا

قم خفف الثقل بحسن تـوبة

 

حتى تكون في المعاد سالما

وكن بأنوار اليقين مبـصـرًا

 

إن كنت في ليل المعاد هائما

فإن للّه عـبـادًا أبـصـروا

 

بأعين الفكر المعاد قـائمـا

فشمروا أذيالهم وقـصـروا

 

آمالهم وحققوا الـعـزائمـا

وصيروا أفراحهم في قربـه

 

وأقلبوا أعراسهم مـآتـمـا

واستفرغوا من العيون ماءها

 

وأسعدوا على البكا الحمائما

أولئك الناجون في معادهـم

 

يعطيهم الله نعـيمـاً دائمـا

ومما أورده أيضاً لنفسه:

أقاموا فقاموا له ركـعـا

 

وكبروا فخروا لديه سجودا

 

وأجروا دموعـهـم خـشـية

 

فبلوا بتلك الدموع الـخـدودا

ولما أطالوا لديه الـسـجـود

 

رجوا منه وعدًا وخافوا وعيدا

فأعطاهم منه ما يرتـجـون

 

وأمنهم بعد ذاك الـصـدودا

فمعظم أشغـالـهـم ذكـره

 

فطورًا قياماً وطورًا قعـودا

فورثهـم ذكـرهـم ذكـره

 

وزادهم في الجنان الخلـودا







ومن ذلك قوله:

قرة عين من صدق بعزمه عن الصدق

 

ثم اقتنى الدر الذي من ناله نال الشرفا

وإنما الدنيا متاع زائل لمـن عـرفـا

 

من نال منها طرفاً فليعطها منه طرفا

توفي رحمه اللّه وإيانا في آخر نهار يوم عرفة- وقيل: ليلة عيد النحر- سنة تسع وخمسين وخمسمائة بحران.
ورثاه الإمام فخر الدين بن تيمية وهو يومئذ شاب له دون العشرين بقصيدة وهي:

قد زادني حزني واستمكنت عـلـلـي

 

لما رحلت عن الإخـوان يا أمـلـي

يا عالماً أوحش الـدنـيا بـغـيبـتـه

 

لا صنع لي في قضاء اللّـه والأجـل

يا أهل حران وا لهفـي وواأسـفـي

 

على فراق ابن عبدوس الفقيه علـي

واحسرتاه على زين الـزمـان ومـن

 

كانت عقيدته بالـقـول والـعـمـل

يا قوم ما الصنع من بعد الفـراق لـه

 

لا صنع للعبد في شيء من الـحـيل

كان الفقيه علـي عـالـمـاً ورعـاً

 

وكان مسلكه في أحسـن الـسـبـل

كان الفقيه عـلـي فـوق مـنـبـره

 

مثل العروس ترى في أحسن الحلـل

كان الفقيه عـلـي غـير مـبـتـدع

 

بل كان في دينه كالفارس الـبـطـل

يقـول: إن كـلام الـلـه ذو قـــدم

 

حرف وصوت على التحقيق كيف تلي

كان الـفـقـيه عـلـي دائمـاً أبـدًا

 

يذكـر مـولاه ذا خـوف وذا وجـل

وروحه قبضت فـي لـيلة شـرفـت

 

يحظى بها كل محبوب وكـل ولـي

أبكى عيون الورى حزناً لـفـرقـتـه

 

وأرسل الدمع يا روحي من المـقـل

بكت عليه عيون الـنـاس كـلـهـم

 

وأوحش الكل من سهل ومن جـبـل

بكت عليه الزوايا الخـالـيات كـمـا

 

قد كان يؤنسها من غير مـا مـلـل

بكت دفـاتـره حـزنـاً لـه وأسـى

 

لأنه كان عنهـا غـير مـشـتـغـل

عليه طيب سلام غـير مـنـفـصـل

 

على ممر ليالي الدهـر مـتـصـل

ذكر أبو الحسن بن عبدوس في كتاب المذهب: أن فائدة الخلاف في أن الغرض في استقبال القبلة: هل هو استقبال العين أو الجهة. أنا إن قلنا: الغرض استقبال العين، فمتى رفع رأسه ووجهه إلى السماء حتى خرج وجهه عن مسامتة القبلة فسدت صلاته، وإن قلنا: الغرض استقبال الجهة لم تفسد. كذا قال. وفيه نظرة فإن فائدة هذا الخلاف إنما يظهر في صرة يخرج فيها المصلي عن استقبال العين إلى استقبال الجهة. وهذا لم يخرج عن العين إلى الجهة، بل أخرج وجهه خاصة عن استقبالهما جميعًا.
وحكى ابن حمدان عن ابن عبدوس.

محمد بن محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء

القاضي أبي يعلى الصغير. ويلقب عماد الدين ابن القاضي أبي خازم ابن القاضي الكبير أبي يعلى، شيخ المذهب في وقته: ولد يوم السبت لثمان عشرة من شعبان سنة أربع وتسعين وأربعمائة.
وسمع الحديث من أبيه وعمه القاضي أبي الحسين، وأبي البركات طلحة العاقولي وأبي عليّ التككي، وأبي الحسن بن العلاف، وأبي العز بن كادش، وأبي الغنائم النرسي، وابن نبهان، وابن بيان، وغيرهم.
وظهر له إجازة لابن الجواليقي معه من الحريري صاحب المقامات.
وتفقه على أبيه القاضي أبي خازم، وعلى عمه القاضي أبي الحسين. وبرع في المذهب والخلاف والمناظرة. وأفتى ودرس وناظر في شبيبته.
وكان ذا ذكاء مفرط، وذهن ثاقب، وفصاحة وحسن عبارة.

قال ابن القطيعي: قرأت عليه شيئًا من المذهب، وحضرت درسه، ولم ير مثله في حسن عبارته، وعذوبة محاورته، وحسن سمته، ولطافة طبع، ولين معاشرة، ولطف تفهيم. عطر بالرياسة، خليق بالتصدر، جد واجتهد حتى صار أنظر أهل زمانه، وأوحد أقرانه، ذو خاطر عاطر، وفطنة ناشئة، أعرف الناس باختلاف أقوال الفقهاء. ظهر علمه في الآفاق، ورأى من تلاميذه من ناظر ودرس وأفتى في حياته. وولي القضاء بباب الأزج سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. ثم ولي قضاء واسط سنة سبع وثلاثين، وبقي مدة بها حاكمًا، ثم عزله قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني.
وذكر عنه: أنه لم يلتفت إلى عزله واستمر على الحكم، ثم خاف عاقبة ذلك فتشفع بصاحب البطيحة إلى الخليفة، ثم قدم بغداد بعد إحدى عشرة سنة، وقد ذهب بصره، فلازم بيته.
وكانت له حلقة بجامع القصر للمناظرة، وبنيت له في بعض الأوقات موضعها دكة، ثم أزيلت، وذلك قبل ولايته للقضاء. ولما بنى أبو المعالي بن النبل مدرسة بالريان جعلها للحنابلة، وفوض أمرها إلى القاضي أبي يعلى هذا. وكان ذا فصاحة، لسن.
ومن بعض كتبه إلى بعض العلماء: فلو أن الكرم مقلة كان هو إنسانها، أو المجد لغة لكان هو لسانها، أو السؤدد دهراً لكان هو ربيع أزمانه، أو الشرف عمرًا كانت صفوة ريعانه، أو الأجواد شهبًا لكان هو الشمس التي إذا ظهرت خفيت الكواكب لظهورها، وإذا تأملها الراءون ردت أبصارهم عن شعاعها ونورها.
وللشيخ أبي الفرج بن الجوزي في القاضي أبي يعلى هذا مدائح كثيرة.
فمن ذلك قوله يهنيه بقدوم رجب، أنشده عنه ابن القطيعي في تاريخه:

تهن بشهر قـد أتـاك عـلـى يمـن

 

يبشر بالإقبـال والـسـعـد والأمـن

وعش سالماً من كل مـنـية حـاسـد

 

ومن شر ذي شر ومن كيد ذي ضغن

ومرْ وانْه وانعم واعل وانق وطب وجد

 

وعد وارق وازدد واسم بالفهم والذهن

تدبرت بالفكـر الـسـلـيم عـواقـب

 

الأمور ولم تقبل على مثمر الغـبـن

وسابقت أهل العلم حتى سـبـقـهـم

 

فذو السبق منهم حين سعيك في وهـن

وكلهم في الـدين أضـحـوا كـهـيئة

 

وأصبحت في الإسلام كالشرط والركن

وكم ليلة نـامـوا وبـت مـؤانـسـاً

 

علوماً أبت من لم يبت ساهراً لجفـن

إذا أنت جادلت الخصـوم تـجـدلـوا

 

لديك بلا ضـرب يقـد ولا طـعـن

وإن فهت بالتدريس نظمـت لـؤلـؤاً

 

وإن تسطر الفتوى فكالدر في القطـن

فبيتك معروف وعـلـمـك ظـاهـر

 

وفضلك مشهور، فما حصل المثنـي

عليك سوى تشـريفـه بـمـديحـكـم

 

وإلا فعلم الناس فيكم بـكـم يغـنـي

وذكر ابن الجوزي في كتابه التلقيح: أن أبا يعلى هذا هو الذي كان فقيه العصر في الطبقة الرابعة عشر.
وصنف القاضي أبو يعلى تصانيف كثيرة، منها: "التعليقة" في مسائل الخلاف كبيرة، و "المفردات"، وكتاب "شرح المذهب" وهو مما صنفه في شبيبته، وكتاب "النكت والإشارات في المسائل المفردات".
وقرأ عيه المذهب والخلاف جماعة كثيرة، منهم: أبو إسحاق الصقال، وأبو العباس القطيعي، وأبو الحسن بن ورخذ، وأبو البقاء العكبري. وعلق عنه الخلاف بواسط يحيى بن الربيع الشافعي مدرس النظامية.
وحدث، وسمع منه جماعة، منهم: أبو العباس القطيعي، وأبو إسحاق الصقال، وأبو المعالي بن شافع، وأبو بكر محمد بن المبارك بن الحضري، وأحمد بن صوما، وغيرهم.
وتوفي ليلة السبت- سحرًا- خامس جمادى الأولى سنة ستين وخمسمائة. كذا ذكره ابن الجوزي في طبقاته، وفي جزء مفرد، وابن القطيعي، وابن نقطة.
وذكر ابن الجوزي أيضًا في تاريخه وفي كتاب فضائل مقبرة أحمد: أنه توفي في خامس جمادى الآخرة. وصلي عليه من الغد بجامع القصر، وأم الناس عليه ولده أبو منصور. ودفن بمقبرة باب حرب عند أبيه وجده. رحمهم اللّه تعالى.
وذكر ابن الجوزي في موضع: أنه لم يشيعه عدد كثير، وقال في تاريخه: كان سأل في مرضه أن يدفن في دكة الإمام أحمد، فأرسل إلى الوزير يقول: في دكة جدي لأمي، فأنكر الوزير ذلك وقال: كيف تنبش عظام الموتى?.

قرأت على أبي المعالي محمد بن عبد الرزاق بن أحمد الشيباني ببغداد: أخبركم أبو الفرج عبد الرحمن بن عبد اللطيف البزار- سماعًا- أخبرنا أبو العباس أحمد بن صرما- قراءة عليه- أخبرنا القاضي الإمام أبو يعلى محمد بن محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي- قراءة عليه- أخبرنا أبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون الحافظ بن علي بن إبراهيم المقرىء وأخبرناه- عاليًا- محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الأنصاري بدمشق، أخبرنا المسلم بن محمد بن علان أخبرنا، حنبل بن عبد الله، أخبرنا هبة اللّه بنّ محمد بن الحصين أخبرنا أبو علي التميمي قالا: أخبرنا أحمد بن جعفر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا فضيل بن مرزوق، حدثنا أبو سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن عبد الله- هو ابن مسعود- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك. أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو علمته أحدًا من خلقك أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي: إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحًا. قال: فقيل: يا رسول الله، أفلا نتعلمها. قال: فقال: بل ينبغي لمن يسمعها أن يتعلمها".
ذكر القاضي أبو يعلى الصغير في تعليقته- ونقلته من خطه- فيما إذا طرح في الماء طحلباً أو ورقًا أو طينًا تعمدًا، فتغير به الماء: فهل يسلبه طهوريته? على وجهين.
قال: وإن تغير بعود أو كافور أو دهن: ففيه وجهان.
قال: ويتوجه على المذهب: أن يصح الوضوء والغسل من غير نية لأن الأثرم نقل عن أحمد: أنه سأله عن رجل اغتسل يوم الجمعة من جنابة ينوي به غسل الجمعة? قال: أرجو أن يجزيه.
قال: وظاهر هذا يقتضي الجواز.
قال: وقد بنى القاضي هذه المسألة على أن التجديد هل يرفع الحدث أم لا?.
وقال: فأما إخراج البعير عن خمس من الإبل فلا يجوز عندنا في أحد الوجهين، والثاني: يجوز. وإذا قلنا: يجزي: فهل البعير كله فرض، أو خمسه. فيه وجهان.
وفائدة الوجهين: أنه إذا كان الفرض قدر خمس البعير جاز هذا البعير الواحد عن خمسة وعشرين بعيرًا، وهل الأصل الشاة أم البعير? فيه وجهان.
أحدهما: الأصل كلاهما، أيهما أدى كان أصلاً.
والثاني: الإبل أصل، والشاة بدل. وقال: فيه وجوب الحج على التراخي في أحد الروايتين. ثم نصر هذا القول ورجحه.
وقال أيضًا: تثبت الاستطاعة ببذل الابن الطاعة على قياس المذهب. والمنصوص: أنها لا تثبت ببذل الابن ماله وبدنه. وأخذه من قاعدة أحمد في تصرف الأب في مال ابنه، وبسطه فيه.
ونصر فيه أيضًا: أن الإحرام بالحج لا ينعقد في غير أشهر الحج.
قال: ورواه هبة اللّه الطبري في سننه عن إمامنا أحمد، قال: والذي نقله جماعة الأصحاب واختاروه: أنه يصح في جميع السنة.
ونصر فيه: صحة الاستئجار وجواز أخذ الأجرة على سائر القرب غير المتعينة.
ومما ذكره في شرح المهذب- ونقلته من خطه-: يتوجه أن يجب الغسل بغيبوبة بعض الحشفة لأن من أصلنا: أن وجود بعض الجملة يجري مجرى وجود جميعها، كما في مسائل الأيمان.
وذكر فيه: إذا أولج رجل في قبل الخنثى المشكل: هل يجب عليه الغسل. يحتمل وجهين.
وذكر فيه: أنه يستحب للرجل إذا أجنب وأراد النوم أن يتوضأ، فإن كان الجنب امرأة ففي استحباب الوضوء لها روايتان. قال: فإن أراد الجنب الأكل أو الشرب استحب له أن يغسل فرجه ويتوضأ، في الروايتين.
وفي الأخرى: يغسل يده وفمه.
قال: ويستحب للإنسان إذا فرغ من وضوئه أن يشرب الماء الذي فضل منه وذكر حديث عليّ في ذلك.
وذكر في جواز دخول المرأة حمامها في بيتها لغير عذر شرعي: يحتمل وجهين قال: فإن أجزناه فإنها تدخل وحدها، ولا تدخل معها امرأة قريبة ولا بعيدة.
وحكى في كفارة وطء الحائض: هل يجزىء صرفها إلى واحد من الفقراء. على وجهين: أحدهما: يجزىء، وهو اختيار أبي حفص البرمكي.
والثاني: لا يجزىء.
وعلى هذا: فبكم يتقدر? لا نص فيها عن أصحابنا، ويحتمل وجهين:

أحدهما: يجب صرفها إلى عشرة من المساكين لأنه أقل عدد يجزىء في كفارة ليمين.

والثاني: يجزىء ثلاثة لأنه أقل الجمع المطلق. وقال فيه: فأما من به جرح يجري دمه فلا يرقأ: فعليه أن يغسله عند كل فريضة ويشده. وفي إيجاب الوضوء روايتان.

وحكى رواية عن أحمد: أن أقل النفاس ثلاثة أيام، لقوله في رواية أبي داود وقد قيل له: إذا طهرت بعد يوم? فقال: "بعد يوم لا يكون ولكن بعد أيام".

وذكر فيمن اجتهد وصلى، ثم بان أنه صلى قبل دخول الوقت رواية: أنه لا يلزمه القضاء.

قال: وقد تأولها أصحابنا. وقال: إذا كان عليه سجود وسهو بعد السلام أخر لدعاء إلى تشهده ليكون خاتمة صلاته.

وحكي فيما إذا كان عليه سجود بعد السلام، فسجد قبله: هل تجزيه ويعتد به? على وجهين.

وقال فيه: فإن صلى فاسق خلف فاسق: فهل تصح أم لا? على احتمالين.

محمد بن عبد الله بن العباس بن عبد الحميد بن الحراني الأزجي المعدل، أبو عبد اللّه

من أعيان عدول بغداد: توفي في جمادى الأولى سنة ستين وخمسمائة. ودفن بمقبرة الفيل.

روى عن أبي محمد الثقفي التميمي والنعالي. حدث.

سمع منه جماعة، منهم: ابن القطيعي، وقال: كان ثقة مأمونًا، عالمًا لطيفًا صاحب نادرة، حسن المعاشرة. جمع كتابًا سماه "روضة الأدباء" وهو آخر من مات من شهود أبي الحسن الدامغاني. وكان ينتحل مذهب الإمام أحمد. انتهى.

وله شعر حسن. قال ابن الجوزي: زرته يومًا، فأطلت الجلوس عنده، فقلت: قد ثقلت، فقال:

لئن سميت إبراماً وثـقـلا

زيارات رفعت بهن قدري

فما أبرمت إلا حبـل ودي

ولا أثقلت إلا ظهر شعَري

يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعد بن الحسن بن أحمد بن الحسن بن الجهم بن عمر بن هبيرة بن علوان بن الحوفزان. وهو الحرث بن شريك بن عمرو بن قيس بن شرحبيل بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكاية الشيباني

الدوري، ثم البغدادي، الوزير العالم العادل، صدر الوزراء، عون الدين، أبو المظفر: ولد في ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وأربعمائة بالدور: قرية من أعمال الدجيل، ودخل بغداد شاباً.

وقرأ القرآن بالروايات على جماعة. وسمع الحديث الكثير من جماعة، منهم: القاضي أبو الحسين بن الفراء، وأبو الحسين بن الزاغوني، وعبد الوهاب الأنماطي، وأبو غالب بن البنا وأبو عثمان بن ملة، وابن الحصين، وغيرهم.

وقرأ الفقه على أبي بكر الدينوري فيما ذكره ابن القطيعي. وقيل: إنه قرأ على أبي الحسين بن الفراء، وقرأ الأدب على أبي منصور بن الجواليقي. وصحب أبا عبد الله محمد بن يحيى الزبيدي الواعظ الزاهد من حداثته، وكمل عليه فنونًا من العلوم الأدبية وغيرها، وأخذ عنه التأله والعبادة، وانتفع بصحبته، حتى إن الزبيدي كان يركب جملاً ويعتم بفوطة، ويلويها تحت حنكه، وعليه جبة صوف، وهو مخضوب بالحناء، فيطوف بأسواق بغداد ويعظ الناس، وزمام جمله بيد أبي المظفر بن هبيرة. وهو أيضًا معتم بفوطة من قطن، قد لواها تحت حنكه، وعليه قميص قطن خام، قصير الكم والذيل، وكلما وصل الزبيدي موضعًا أشار أبو المظفر بمسبحته، وناس برفيع صوته: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

ذكر ذلك أبو بكر التيمي ابن المرستانية، في الكتاب الذي جمعه في مناقب الوزير وفضائله.

وقال ابن الجوزي: كانت له معرفة حسنة بالنحو، واللغة، والعروض، وصنف في تلك العلوم، وكان متشددًا في اتباع السنة، وسير السلف.

قلت: صنف الوزير أبو المظفر كتاب "الإفصاح عن معاني الصحاح" في عدة مجلدات، وهو شرح صحيحي البخاري ومسلم، ولما بلغ فيه إلى حديث "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" شرح الحديث، وتكلم على معنى الفقه، وآل به الكلام إلى أن ذكر مسائل الفقه المتفق عليها، والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين.

وقد أفرده الناس من الكتاب، وجعلوه مجلدة مفردة، وسموه بكتاب "الإفصاح" وهو قطعة منه، وهذا الكتاب صنفه في ولايته الوزارة، واعتنى به وجمع عليه أئمة المذاهب، وأوفدهم من البلدان إليه لأجله، بحيث إنه أنفق على ذلك مائة ألف دينار، وثلاثة عشر ألف دينار، وحدث به، واجتمع الخلق العظيم لسماعه عليه. كتب به نسخة لخزانة المستنجد. وبعث ملوك الأطراف ووزراؤها وعلماؤها، واستنسخوا لهم به نسخًا، ونقلوها إليهم، حتى السلطان نور الدين الشهيد. واشتغل به الفقهاء في ذلك الزمان على اختلاف مذاهبهم، يدرسون منه في المدارس والمساجد، ويعيده المعيدون، ويحفظ منه الفقهاء.

وصنف في النحو كتابًا سماه "المقتصد"، وعرضه على أئمة الأدب في عصره، وأشار إلى ابن الخشاب بالكلام عليه، فشرحه في أربع مجلدات، وبالغ في الثناء عليه. واختصر كتاب "إصلاح المنطق" لابن السكيت، وكان ابن الخشاب يستحسنه ويعظمه.

وصنف كتاب "العبادات الخمس" على مذهب الإمام أحمد، وحدث به بحضرة العلماء من أئمة المذاهب.

وله أرجوزة في المقصور والممدود، وأرجوزة في علم الخط.

وقد صنف ابن الجوزي كتاب، "المقتبس من الفوائد العونية" وذكر فيه الفوائد التي سمعها من الوزير عون الدين، وأشار فيه إلى مقاماته في العلوم. وانتقى من زبد كلامه في الإفصاح على الحديث كتابًا سماه "محض المحض".

وكان ابن هبيرة رحمه الله في أول أمره فقيرًا، فاحتاج إلى أن دخل في الخدم السلطانية، فولي أعمالاً، ثم جعله المقتفي لأمر الله مشرفًا في المخزن، ثم نقل إلى كتابة ديوان الزمام.

ثم ظهر للمقتفي كفاءته وشهامته، وأمانته ونصحه، وقيامه في مهام الملك. فاستدعاه المقتفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة إلى داره، وقلده الوزارة، وخلع عليه وخرج في أبهة عظيمة. ومشى أرباب الدولة وأصحاب المناصب كلهم بين يديه، وهو راكب إلى الإيوان في الديوان. وحضر القراء والشعراء، وكان يومًا مشهودًا. وقرىء عهده، وكان تقليداً عظيمًا، بولغ فيه بمدحه والثناء عليه إلى الغاية. وخوطب فيه بالوزير العالم العادل، عون الدين، جلال الإسلام، صفي الإمام، شرف الأنام، معز الدولة، مجير الملة، عماد الأمة، مصطفى الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، صدر الشرق والغرب، سيد الوزراء، ظهير أمير المؤمنين.

وكان الوزير قبل وزارته يلقب جلال الدين، وقال يومًا: لا تقولوا في ألقابي سيد الوزراء فإن الله تعالى سمى هارون وزيرًا، وجاء عِن النبي صلى الله عليه وسلم أن وزيريه من أهل السماء: جبريل وميكائيل ومن أهل الأرض: أبو بكر وعمر وجاء عنه أنه قال: "إن الله اختارني، واختار لي أصحابًا، فجعلهم وزراء وأنصارًا" ولا يصلح أن يقال عني: أني سيد هؤلاء السادة.

قال صاحب سيرته: ركب الوزير إلى داره مجاورة الديوان، وبين يديه جميع من حضر من أرباب الدولة، وأصحاب المناصب والأمراء والحجاب، والصدور والأعيان، وقد أخذ قوس الخلافة باريها، واستقرت الوزارة في كفؤها وكافيها. فقام فيها قيام من عدَّله الزمان بثقافه، وزينه الكمال بأوصافه، ودبرها بجوده ونُهاه، وأورد الأمل فيها مناه، ومد الدين رواقه، وأمن بدره به محاقه. فأقام سوق الخلافة على ساقها، وابتدع في انتظام ممالكها واتساقها، وأوضح رسمها، وأثبت في حين أوانه وسمها، وتتبع ما أفسدته العين منها بالإصلاح، واستدرك لها ما أخرجته لها يد الاجتياح، وداوى كل حال بدوائه، ورد غائر الماء إلى لجائه، وأقام الصلاة جماكة، وافترض العدل سمعًا لله وطاعة، ورعى لأهل الفضل والمعارف، وأواهم من بره إلى ظل وارف، حتى صارت دولته مشرعًا للكرم، ومستراحًا لآمال الأمم، يرتضع فيه للمكارم أخلاف، وتداريها الأماني سلاف، ونفقت فيها أقدار الأعلام، وتدفقت فيها نذر الكلام، ولاحت بها من العلماء شموس، وارتاحت فيها للطلبة بالعلوم نفوس، ولم تخل أيامه ومجالسه من مناظرة، ولا عمرت إلا بمذاكرة ومحاضرة، إلا أوقات عطلها من ذلك النظام، وأوقعها إما على صلاة وصيام، أو على تصنيف، وجمع وتأليف بحيث صنف عدة كتب، منها: كتاب "الإفصاح عن شرح معاني الصحاح" وهذا الكتاب بمفرده يشتمل على تسعة عشر كتابًا

ولما ولي الوزير أبو المظفر رحمه الله الوزارة بالغ في تقريب خيار الناس من الفقهاء والمحدثين والصالحين، واجتهد في إكرامهم وإيصال النفع إليهم، وارتفع أهل السنة به غاية الارتفاع. ولقد قال مرة في وزارته: واللّه لقد كنت أسأل الله تعالى الدنيا لأخدم بما يرزقنيه منها العلم وأهله.

وكان سبب هذا: أنه ذكر مرة في مجلسه مفردة للإمام أحمد تفرد بها عن الثلاثة، فادعى أبو محمد الأشتري المالكي: أنها رواية عن مالك، ولم يوافقه على ذلك أحد، وأحضر الوزير كتب مفردات أحمد، وهي منها، والمالكي مقيم على دعواه. فقال له الوزير: بهيمة أنت. أما تسمع هؤلاء الأئمة يشهدون بانفراد أحمد بها، والكتب المصنفة، وأنت تنازع وتفرق المجلس? فلما كان المجلس الثاني، واجتمع الخلق للسماع أخذ ابن شافع في القراءة، فمنعه وقال: قد كان الفقيه أبو محمد جريء في مسألة أمس على ما يليق به عن العدول عن الأدب والانحراف عن نهج النظر حتى قلت تلك الكلمة، وها أنا فليقل لي كما قلت له فلست بخير منكم، ولا أنا إلا كأحدكم، فضج المجلس بالبكاء، وارتفعت الأصوات بالدعاء والثناء، وأخذ الأشتري يعتذر، ويقول: أنا المذنب والأولى بالاعتذار من مولانا الوزير، ويقول: القصاص، القصاص، فقال يوسف الدمشقي مدرس النظامية: يا مولانا، إذا أبى القصاص فالفداء، فقال الوزير: له حكمه، فقال الأشتري: نعمك عليّ كثيرة، فأي حكم بقي لي. فقال: قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الافتيات عليك، فقال: علي بقية دين منذ كنت بالشام، فقال الوزير: يعطى مائة دينار لإبراء ذمته وذمتي، فأحضر له مائة، فقال له الوزير: عفا الله عنك وعني، وغفر لك ولي.

وذكر ابن الجوزي أنه قال: يعطى له مائة دينار لإبراء ذمته، ومائة دينار لإبراء ذمتي. وكان هذا الأشتري من علماء المالكية، طلبه الوزير من نور الدين محمود بن زنكي، فأرسل به إليه، فأكرمه غاية الإكرام.

قال ابن الجوزي: وكان ابن الوزير إذا استفاد شيئًا قال: أفادنيه فلان حتى، إنه عرض له يومًا حديث، وهو "من فاته حزب من الليل فصلاه قبل الزوال كان كأنه صلى بالليل" فقال: ما أدري ما معنى هذا? فقلت له: هذا ظاهر في اللغة والفقه.

أما اللغة: فإن العرب تقول: كيف كنت الليلة، إلى وقت الزوال.

وأما الفقه: فإن أبا حنيفة يصحح الصوم بنية قبل الزوال، فقد جعل ذلك الوقت في حكم الليل. فأعجبه هذا القول. وكان يقول بين الجمع الكثير: ما كنت أدري معنى هذا الحديث حتى عرفنيه ابن الجوزي، فكنت أستحي من الجماعة.

قال: وجعل لي مجلسًا في داره، كل جمعة يطلقه ويطلق العوام في الحضور وكان بعض الفقراء يقرأ القرآن في داره كثيرًا، فأعجبه، فقال لزوجته: أريد أن أزوجه ابنتي، فغضبت الأم من ذلك. وكان يقرأ عنده الحديث كل يوم بعد العصر.

وكان يكثر مجالسة العلماء والفقراء. وكانت أمواله مبذولة لهم، ولتدبير الدولة فكانت السنة تدور عليه وعليه ديون، وقال: ما وجبت علي زكاة قط.

قلت: وفي ذلك يقول بعض الشعراء:

يقولون: يحيى لا زكاة لـمـالـه

وكيف يزكي المال من هو باذله?

إذا دار حول لا يرى في بـيوتـه

من المال إلا ذكره وفـضـائلـه

وقال ابن الجوزي: وكان يتحدث بنعم الله تعالى عليه. ويذكر في منصبه شدة فقره القديم، فيقول: نزلت يومًا إلى دجلة، وليس معي رغيف أعبر به الحمام.

ثم ذكر طرفًا من حلمه وصفحه وعفوه، فقال: لما جلس في الديوان أول وزارته أحضر رجلاً من غلمان الديوان، فقال: دخلت يومًا إلى هذا الديوان، فقعدت في مكان، فجاء هذا، فقال: قم فليس هذا موضعك، فأقامني. فأكرمه وأعطاه.

ودخل عليه يومًا تركي، فقال لحاجبه: أما قلت لك: اعط هذا عشرين دينارًا، وكذا من الطعام، وقل له: لا يحضر ههنا? فقال: قد أعطيناه. قال: عد واعطه، وقل له: لا يحضر. ثم التفت إلى الجماعة، وقال: لا شك أنكم ترتابون بسبب هذا? فقالوا: نعم، فقال: هذا كان شحنة في القرى، فقتل قتيل قريبًا من قريتنا، فأخذ مشايخ القرى وأخذني مع الجماعة، وأمشاني مع الفرس، وبالغ في أذاي وأوثقني، ثم أخذ من كل واحد شيئًا وأطلقه، ثم قال لي: أي شيء معك? قلت: ما معي شيئًا، فانتهرني، وقال: اذهب. فأنا لا أريد اليوم أذاه، وأبغض رؤيته.

وقد ساق مصنف سيرة الوزير هذه الحكاية بأتم من هذا السياق.

وذكر: أن الوزير قال: ما نقمت عليه إلا أني سألته في الطريق أن يمهلني حسبما أصلي الفرض فما أجابني، وضربني على رأسي وهو مكشوف عدة مقارع فكنت أنقم عليه حين رأيته لأجل الصلاة، لا لكونه قبض عليَّ فإنه كان مأمورًا.

وذكر: أنه استخدمه في أصلح معايش الأمراء، واستحله من صياحه عليه وقوله: أخرجوه عني.

قال ابن الجوزي: وكان بعض الأعاجم قد شاركه في زراعة. فآل الأمر إلى أن ضرب الأعجمي الوزير وبالغ، فلما ولي الوزارة أتى به فأكرمه ووهب له وولاه.

أنبئت عن أحمد بن عبد الدائم المقدسي قال: حكى لنا ابن الجوزي قال: كنا جلس إلى الوزير ابن هبيرة، فيملي علينا كتابه "الإفصاح" فبينا نحن كذلك إذ قدم رجل - معه رجل ادعى عليه أنه قتل أخاه، فقال له عون الدين: أقتلته? قال: نعم. جرى بيني - بينه كلام فقتلته: فقال الخصم: سلمه إلينا حتى نقتله فقد أقر بالقتل، فقال عون الدين: أطلقوه ولا تقتلوه، قالوا: كيف ذلك، وقد قتل أخانا. قال: فتبيعونيه، فاشتراه منهم بستمائة دينار، وسلم الذهب إليهم وذهبوا، قال للقاتل: اقعد عندنا لا تبرح. قال: فجلس عندهم، وأعطاه الوٍزير خمسين ديناراً. قال!: فقلنا للوزير: لقد أحسنت إلى هذا وعملت معه أمراً عظيماً وبالغت في الإحسان إليه فقال الوزير: منكم أحد يعلم أن عيني اليمنى لا أبصر بها شيئًا. فقلنا: معاذ اللّه، فقال: بلى والله. أتدرون ما سبب ذلك. قلنا: لا. قال: هذا الذي خلصته من القتل جاء إلي وأنا في الدور ومعي كتاب من الفقه أقرأ فيه، ومعه سلة فاكهة، فقال: احمل هذه السلة، قلت له: ما هذا شغلي فاطلب غيري، فشاكلني، ولكمني فقلع عيني، ومضى ولم أره بعد ذلك إلى يومي هذا. فذكرت ما صنع بي، فأردت أن أقابل إساءته إلي بالإحسان مع القدرة.

قال ابن الجوزي: كان الوزير يجتهد في اتباع الحق، ويحذر من الظلم، ولا يلبس الحرير. وكان مبالغاً في تحصيل التعظيم للدولة العباسية، قامعًا للمخالفين بأنواع الحيل، حسم أمور السلاطين السلجوقية.

وذكر صاحب سيرته: أنه سمعه يذكر: أنه لما استطال السلطان مسعود وأصحابه وأفسدوا، عزم هو والخليفة على قتاله. قال: ثم إني فكرت في ذلك، ورأيت أنه ليس بصواب مجاهرته. لقوة شوكته. فدخلت على المقتفى، فقلت: إني رأيت أن لا وجه في هذا الأمر إلا الالتجاء إلى الله تعالى، وصدق الاعتماد عليه، فبادر إلى تصديقي في ذلك، وقال: ليس إلا هذا. ثم كتبت إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا على رعل وذكوان شهرًا، وينبغي أن ندعو نحن شهرًا. فأجابني بالأمر بذلك.

قال الوزير: ثم لازمت الدعاء في كل ليلة وقت السحر أجلس فأدعو الله سبحانه، فمات مسعود لتمام الشهر، لم يزد يومًا ولم ينقص يومًا، وأجاب الله الدعاء وأزال يد مسعود وأتباعه عن العراق، وأورثنا أرضهم وديارهم. وهذه القصة تذكر في كرامات الخليفة والوزير. رحمهما اللّه تعالى.

وكاتب الوزير ابن هبيرة السلطان نور الدين محمود بن زنكي يستحثه على انتزاع مصر من يد العبيديين. فسير إليها أسد الدين شيركوه مرتين، وفي الثالثة خطب بها للمستنجد، وجاء الخبر بذلك إلى بغداد سنة تسع وخمسين، وعمل أبو الفضائل بن تركان حاجب الوزير ابن هبيرة قصيدة يهنىء بها الوزير بفتح مصر، ويذكر أن ذلك. كان بسبب سعيه وبركة رأيه، وتكامل انتزاع مصر من بني عبيد، وإقامة الخطبة لبني العباس بها بعد سبع سنين في خلافة المستضيء فعظمت حرمة الدولة العباسية في وقته، وانتشرت إقامة الدعوة لها في البلاد.

قال ابن الجوزي: وكان المقتفي معجبًا به، يقول: ما وزر لبني العباس مثله.

قال ابن الجوزي: حدثني الوزير قال: لما رجعت من الحلة- وكان قد خرج لدفع بعض البغاة دخلت على المقتفي فقال لي: ادخل هذا البيت فغير ثيابك فدخلت فإذا خادم وفراش ومعهم خلعة حرير، فقلت: أنا واللّه ما ألبس هذه. فخرج الخادم فأخبر المقتفي، فسمعت صوت المقتفي وهو يقول: قد واللّه قلت: إنه ما يلبس.

ذكر صاحب سيرته هذه الحكاية مبسوطة. قال: فعاد الخادم وعلى يده دست من ثياب الخليفة فأفاضه عليّ، وقال: قد أخبرت أمير المؤمنين بامتناعك، فقال: والله لقد حسبت هذا، وأنه لا يفعل. قال: فقلت حينئذ لنفسي: يا يحيى كيف رأيت طاعة اللّه تعالى? لو كنت قد لبستها كيف كنت تكون في نفس أمير المؤمنين. وكيف كانت تكون منزلتك عنده?.

قال صاحب سيرته: وكان لا يلبس ثوبًا يزيد فيه الإبريسم على القطن، فإن شك في ذلك سلّ من طاقاته ونظر: هل القطن أكثر أم الإبريسم. فإن استويا لم يلبسه.

قال: ولقد ذكر يومًا في بعض مجالسه، فقال: له بعض الفقهاء الحنابلة: يا مولانا، إذا استويا جاز لبسه في أحد الوجهين عن أصحابنا، فقال: إني لا آخذ إلا بالأحوط.

قال: وذكر يومًا بين يديه: أنه كان للصاحب ابن عباد دست من ديباج فقال الوزير: قبح والله بالصاحب أن يكون له دست من ديباج فإنه وإن كان زينة فهو معصية وهجنة.

قال ابن الجوزي: ونقله عنه ابن القطيعي سمعت ابن هبيرة الوزير يقول: جاءني مكتوب مختوم من المستنجد في حياة أبيه المقتفي، فقلت للرسول: ارجع إليه وقل له: إن كان فيه ما تكره أن يعلم به أمير المؤمنين فلا حاجة لك في فتحه فإني أعرّفه ما فيه، وإن لم تكن تكره إطلاعه عليه فافتحه، ثم أعطه الرسول، فمضى ولم يعد، وحصل في نفسه من ذلك شيء. فلما توفي المقتفي وولي المستنجد أمر بحضوره للمبايعة.

قال ابن الجوزي: فقال لي الوزير حين جاءه الرسول: إن وصلت إلى أمير المؤمنين نلت ما أريد، وإن قتلت قبل وصولي إليه فما لي حيلة. فما كان إلا ساعة دخوله عليه حتى عاد فرحًا، فقلت له: ما الخبر. قال: وصلت إليه وبايعته، ثم قلت: يكفي العبد في صدقه ونصحه أنه حابى مولانا في أبيه نصحًا لأمير المؤمنين وأشرت إلى رد مكتوبه، فقال: صدقت، أنت الوزير، فقلت: إلى متى. فقال: إلى الموت، فقلت: أحتاج واللّه إلى اليد الشريفة، فأحلفته على ما ضمن لي.

قال صاحب سيرته: وأخبرني الخادم "مرجان بن عبد اللّه- أحد خواص خدم الخليفة قال: سمعت المستنجد بالله أمير المؤمنين ينشد وزيره عون الدين أبا المظفر بن هبيرة، وفد مثل الوزير بين يدي سدته في أثناء مفاوضة جرت بينهما في كلام يرجع إلى تقرير قواعد الدين، وانظر في مصالح الإسلام والمسلمين، فأعجب الخليفة به، فأنشده الخليفة- يمدحه- أربعة أبيات: الأخيرين منهما لنفسه، والأولين لابن حيوس، وهي:

صفت نعمتان خصّتاك وعـمّـتـا

فذكرهما حتـى الـقـيامة يذكـر

وجودك والـدنـيا إلـيك فـقـيرة

وجودك والمعروف في الناس ينكر

فلو رام يا يحيى مكانك جـعـفـر

ويحيى لكفى عنه يحيى وجعـفـر

ولم أرَ من ينوي لك السـوء يا أبـا

المظفر إلا كنت أنت المـظـفـر

وقال ابن الذهبي في تاريخه: كان عالمًا فاضلاً، عابدًا عاملاً، ذا رأي صائب وسريرة صالحة، وظهرت منه كفاية تامة، وقيام بأعباء الملك حتى شكره الخاص والعام. وكان مكرمًا لأهل العلم، ويقرأ عنده الحديث عليه، وعلى الشيوخ بحضوره، ويجري من البحث والفوائد ما يكثر ذكره. وكان مقربًا لأهل العلم والدين، كريمًا طيب الخلق.

قال ابن القطيعي: كان ابن هبيرة عفيفًا في ولايته، محموداً في وزارته، كثير البر والمعروف، وقراءة القرآن، والصلاة والصيام، يحب أهل العلم، ويكثر مجالستهم ومذاكرتهم، جميل المذهب، شديد التظاهر بالسنة.

قال: ومن كثرة ميله إلى العمل بالسنة، اجتاز في سوق بغداد- وهو الوزير- فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير.

قال صاحب سيرته: ولقد بلغ به من شدة الورع بحيث أحضر له كتاب من وقف المدرسة النظامية، ليقرأ عنده. فقال: قد بلغني أن الواقف شرط في كتاب الوقف: أن لا يخرج شيء من كتب الوقف عن المدرسة، وأمر برده. فقيل له: إن هذا شيء ما تحققناه. فقال: أليس قد قيل. ولم يمكّنهم من قراءته، وحثهم على إعادته.

قال: وحدثني الفقيه أبو حامد أحمد بن محمد بن عيسى الحنبلي قال: حدثني الوزير عون الدين قال: كان بيني وبين بعض مشايخ القرى معاملة مضيت من أجلها من الدور إلى قريته فلم أجده، فقعدت لانتظارهم حتى هجم الليل، فصعدت إلى سطحه للنوم، فسمعت قومًا يسفهون بالهجر من الكلام، فسألت عنهم. فأخبرت أنهم يعصرون بالنهار الخمر ويسفهون في الليل. فقلت: والله لا بت بها فقيل: ولم? فقلت: أخاف أن ينزل بهم عذاب وسخط فأكون معهم، فإن لم يكن خسفًا حقيقيًا كان خسفا معنويًا، مما يدخل على القلب من القساوة والفتور عن ذكر الله تعالى بسماع هذا الكلام، ومضيت ذلك الوقت إلى الدور.

قال الوزير: فلما عدت أنا والمقتفي لأمر الله من حصار قلعة تكريت مررنا بتلك القرية، فسألني المقتفي عنها. فقلت: هذه الناحية للوكلاء أجلهم الله تعالى. فقال: لئن تكون لك، إذ هي في جوارك أصلح من أن تكون لنا، فتقدم إلى عمالك بالتصرف فيها. فذكرت له حينئذ حالتي بها، وقلت له: فمن بركة ذلك الفعل رزقت القرب منك يا أمير المؤمنين، وتملك الناحية من غير طلب مني لها، فاستظرف ذلك مني، وكثر تعجبه مني.

قال: وكان الوزير شديد التواضع، رافضًا للكبر، شديد الإيثار لمجالسة أرباب الدين والفقراء،. بحيث سمعته في بعض الأيام يقول لبعض الفقراء وهو يخاطبه: أنت أخي، والمسلمون كلهم إخوة.

قال: ولقد كنا يومًا بالمجلس على العادة لسماع الحديث، إذ دخل حاجبه أبو الفضائل بن تركان. فسار الوزير بشيء لم يسمعه أحد. فقال له الوزير: أدخل الرجل، فأبطأ عليه. فقال الوزير: أين الرجل. فأبطأ. فقال: أين الرجل. فقال الحاجب: إن معه شملة صوف مكورة. وقلى قلت له: اتركها مع أحد الغلمان خارجًا عن الستر وادخل. قال: لا أدخل إلا وهي معي. فقال له الوزير: دعه يدخل وهي معه، فخرج وعاد. وإذا معه شيخ طوال من أهل السواد، وعليه فوطة قطن، وثوب خام، وفي رجليه جمجان، فسلم، وقال للوزير: يا سيدي، إن أم فلان- يعني: أم ولده- لما علمت أني متوجه إليه. قالت لي: باللّه سلم على الشيخ يحيى عني، وادفع إليه هذه الشملة فقد خبزتها على اسمه، فتبسم الوزير إليه وأقبل عليه، وقال: الهدية لمن حضر، وأمر بحلها، فحلت الشملة بين يديه وإذا فيها خبز شعير مشطور بكامخ اكشوت. فأخذ الوزير منه رغيفين، وقال: هذا نصيبي، وفرق الباقي على من حضر من صدور الدولة، والسادة الأجلة، وسأله عن حوائجه جميعها. وتقدم بقضائها على المكان، ثم التفت إلى الجماعة وقال: هذا شيخ قد تقدمت صحبتي له قديمًا، واختبرته في زرع بيننا فوجدته أمينًا، ولم يظهر منه تأفف بمقال الشيخ، ولا تكبر عليه، ولا أعرض عنه، بل أحسن لقاءه، وقضى حوائجه، وأجزل عطاءه.

ثم حكى: أنه كان بينه وبين هذا الشيخ زرع، وأنهم خشوا عليه من جيش عظيم نزل عندهم فقرأوا على جوانبه القرآن فسلم ولم يرع منه سنبلة واحدة.

قال: ودخل عليه يومًا نقيب نقباء الطالبين الطاهر بن أحمد بن علي الحسيني فسلم عليه وخدمه، وسأله رفع رقعة له إلى الخليفة المستنجد، وأن يتكلم له عند عرضها ولا يهملها، فتبسم وقال: والله ما أهملت لأحد رقعة قط، ولا حاجة حضرني ذكرها، وذكر حكاية عن الوزير ابن العميد: أنه وعد رجلاً النظر في ظلامته ومطله وسوّفه وقال، سننظر فيها: فقال له بعض أصحابه، هذا كلام من لا يعرف دبيب الساعات في انخرام السدول، فانتبه لها ابن العميد، والآن يتولى رفع ظلامات المتظلمين.

قال: ودخل عليه يومًا أبو الفرج عبد الخالق بن يوسف المحدث، وقال في كلامه: المملوك شيخ من حملة القرآن وأهل العلم ورواة الحديث، وله وعليه حقوق في المال، فانظر له وعليه، مقاطعة شيء من الجانب الغربي، فليس بيده شيء. فتقدم له الوزير بخمسين دينارًا قبضها في مجلسه، ثم قال: هذا بعض مالك على بيت المال، فأدِّ بعض ما عليك لبيت المال.

قال: وكنا يومًا عنده والمجلس غاص بولاة الدين والدنيا، والأعيان الأماثل وابن شافع يقرأ عليه الحديث، إذ فجأنا من باب الستر وراء ظهر الوزير صراخ بشع وصياح يرتفع، فاضطرب له المجلس، وارتاع الحاضرون، والوزير ساكن ساكت، حتى أنهى ابن شافع قراءة الإسناد ومتنه. ثم أشار الوزير إلى الجماعة على رسلكم، ثم قام ودخل إلى الستر ولم يلبث أن خرج، فجلس وتقدم بالقراءة، فدعا له ابن شافع والحاضرون، وقالوا: قد أزعجنا ذلك الصياح، فإن رأى مولانا أن يعرفنا سببه، فقال الوزير: حتى ينتهي المجلس. وعاد ابن شافع إلى القراءة حتى غابت الشمس وقلوب الجماعة متعلقة بمعرفة الحال، فعاودوه، فقال: كان لي ابن صغير مات حين سمعتم الصياح، ولولا تعين الأمر علي بالأمر بالمعروف في الإنكار عليهم ذاك الصياح لما قمت عن مجلس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعجب الحاضرون من صبره.

قال: وحضر يومًا في دار الخلافة بالمرخم من التاج، فجلس به وحضر أرباب الدولة بأسرهم للصلاة على جنازة الأمير إسماعيل بن المستظهر، فسقط من السقف أفعى عظيمة المقدار على كتف الوزير، فما بقي أحد من أرباب الدولة وحواشي الخدمة إلا خرج أو قام عن موضعه، إلا الوزير فإنه التفت إلى الأفعى وهي تسرح على كمه حتى وقعت على الأرض، وبادرها المماليك فقتلوها، ولم يتحرك الوزير عن بقعته، ولا تغير في هيئته ولا عبارته.

وللوزير رحمه الله تعالى من الكلام الحسن والفوائد المستحسنة والاستنباطات الدقيقة من كلام الله ورسوله ما هو كثير جدًا.

وله من الحكم والمواعظ والكلام في أصول السنة وذم من خالفها شيء كثير أيضًا. ونذكر هنا بعض ذلك إن شاء الله تعالى.

قال ابن الجوزي في المقتبس: سمعت الوزير يقول: الآيات اللواتي في الأنعام "قل: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" الأنعام: 151، محكمات، وقد اتفقت عليها الشرائع، إنما قال في الآية الأولى: "لعلكم تعقلون" وفي الثانية: "لعلكم تذكرون" وفي الثالثة: "لعلكم تتقون" لأن كل آية يليق بها ذلك، فإنه قال في الأولى: "أن لا تشركوا به شيئًا" والعقل يشهد أن الخالق لا شريك له، ويدعو العقل إلى بر الوالدين، ونهى عن قتل الولد، وإتيان الفواحش لأن الإنسان يغار من الفاحشة على ابنته وأخته، فكذلك هو، ينبغي أن يجتنبها، وكذلك قتل النفس، فلما لاقت هذه الأمور بالعقل، قال: "لعلكم تعقلون" ولما قال في الآية الثانية: "ولا تقربوا مال اليتيم" والمعنى: اذكر لو هلكت فصار ولدك يتيمًا، واذكر عند ورثتك، لو كنت الموروث له، واذكر كيف تحب العدل لك في القول. فاعدل في حق غيرك، وكما لا تؤثر أن يخان عهدك فلا تخن، فلاق بهذه الأشياء التذكر، فقال "لعلكم تذكرون" وقال في الثالثة: "وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه"، فلاق بذلك اتقاء الزلل، فلذلك قال: "لعلكم تتقون".

قال: وسمعته يقول في قوله تعالى: "فإنك من المنظرين" 38: 80. قال: ليس هذا بإجابة سؤاله، وإنما سأل الإنظار، فقيل له: كذا قدر، لا أنه جواب سؤالك، لكنه مما فهم.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "قل: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" التوبة: 51، قال: إنما لم يقل: ما كتب علينا لأنه أمر يتعلق بالمؤمن، ولا يصيب المؤمن شيء إلا وهو له، إن كان خيرًا فهو له في العاجل، وإن كان شرًا فهو ثواب له في الآجل.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "حجابًا مستورًا" الإسراء: 143 قال أهل التفسير: يقولون: ساترًا، والصواب: حمله على ظاهره، وأن يكون الحجاب مستورًا عن العيون فلا يرى، وذلك أبلغ.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "ولولا إذ دخلت جنتك قلت: ما شاء الله" الكهف: 39، قال: ما قال: ما شاء الله كان ولا يكون، بل أطلق اللفظ ليعم الماضي والمستقبل والراهن.

قال: وتدبرت قوله تعالى: "ولا قوة إلا بالله" فرأيت لها ثلاثة أوجه.

أحدها: أن قائلها يتبرأ من حوله وقوته، ويسلم الأمر إلى مالكه.

والثاني: أنه يعلم أن لا قوة للمخلوقين إلا بالله، فلا يخاف منهم إذ قواهم لا تكون إلا بالله، وذلك يوجب الخوف من الله وحده.

والثالث: أنه رد على الفلاسفة والطبائعيين الذين يدعون القوى في الأشياء بطبيعتها، فإن هذه الكلمة بينت أن القويّ لا يكون إلا بالله

وسمعته يقول في قوله تعالى: "فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا" الكهف: 197 قال: "التاء"، من حروف الشدة، تقول في الشيء القريب الأمر: ما استطعته، وفي الشديد: ما استطعته، فالمعنى: ما أطاقوا ظهوره لضعفهم، وما قدروا على نقبه لقوته وشدته.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "إن الساعة آتيةٌ أكادُ أُخْفيهَا" طه: 15، قال: المعنى إني قد أظهرتها حين أعلمت بكونها، لكن قاربت أن أخفيها بتكذيب المشرك بها، وغفلة المؤمن عنها، فالمشرك لا يصدق كونها، والمؤمن يهمل الاستعداد لها.

قال: وقرأت عليه ما جمعه من خواطره، قال: قرأ عندي قارىء، قال: "هم أولاء على أثري" طه: 4، فأفكرت في معنى اشتقاقها، فنظرت فإذا وضعها للتنبيه، الله لا يجوز أن يخاطب بهذا، ولم أرَ أحدًا خاطب الله عز وجل بحرف التنبيه إلا الكفار، كما قال الله عز وجل: "قالوا: ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك" النحل: 86، "ربنا هؤلاء أضلونا" الأعراف: 38، وما رأيت أحدًا من الأنبياء خاطب ربه بحرف التنبيه، والله أعلم.

فأما قوله: "وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون" الزخرف: 88، فإنه قد تقدم الخطاب بقوله: يا رب، فبقيت "ها" للتمكين، ولما خاطب اللّه عز وجل المنافقين، قال: "ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا" النساء: 9، وكرم المؤمنين بإسقاط "ها"، فقال: "ها أنتم أولائي تحبونهم" آل عمران: 19، وكان التنبيه للمؤمنين أخف.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "إنه يعلم الجهر من القول" الأنبياء: 110، المعنى: أنه إذا اشتدت الأصوات وتغالبت فإنها حالة لا يسمع فيها الإنسان. والله عز وجل يسمع كلام كل شخص بعينه، ولا يشغله سمع عن سمع.

قال: وقوله: "قال: رب احكم بالحق" الأنبياء: 112. قال: المراد منه: كن أنت أيها القائل على الحق ليمكنك أن تقول: احكم بالحق، لأن المبطل لا يمكنه أن يقول: احكم بالحق.

وقال في قوله تعالى: "قل: لا تقسموا، طاعة معروفة" النور: 53، قال: وقع لي فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أن المعنى: لا تقسموا واخرجوا من غير قسم، فيكون المحرك لكم إلى الخروج الأمر لا القسم فإن من خرج لأجل قسمه ليس كمن خرج لأمر ربه.

والثاني: أن المعنى نحن نعلم ما في قلوبكم، وهل أنتم على عزم الموافقة للرسول في الخروج. فالقسم ههنا إعلام منكم لنا بما في قلوبكم. وهذا يدل منكم على أنكم ما علمتم أن اللّه يطلع على ما في القلوب.

والثالث: أنكم ما أقسمتم إلا وأنتم تظنون أنا نتهمكم، ولولا أنكم في محل تهمة ما ظننتم ذلك فيكم. وبهذا المعنى وقع المتنبي، فقال:

وفي يمينك ما أنت واعـده

ما دل أنك في الميعاد متهم

وسمعته يقول في قوله تعالى: "أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة" الفرقان: 5، قال: العجب لجهلهم حين أرادوا أن يلقى إليه كنز أو تكون له جنة. ولو فهموا علموا أن كل الكنوز له وجميع الدنيا ملكه. أوليس قد قهر أرباب الكنوز، وحكم في جميع الملوك. وكان من تمام معجزته أن الأموال لم تفتح عليه في زمنه لئلا يقول قائل قد جرت العادة بأن إقامة الدول، وقهر الأعداء بكثرة الأموالّ، فتمت المعجزة بالغلبة والقهر من غير مال، ولا كثرة أعوان، ثم فتحت الدنيا على أصحابه، ففرقوا ما جمعه الملوك بالشره، فأخرجوه فيما خلق له، ولم يمسكوه إمساك الكافرين، ليعلموا الناس بإخراج ذلك المال: أن لنا دارًا سوى هذه، ومقرًا غير هذا.

وكان من تمام المعجزات للنبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما جاءهم بالهدى فلم يقبل، سلّ السيف على الجاحد، ليعلمه أن الذي ابتعثني قاهر بالسيف بعد القهر بالحجج.

ومما يقوي صدقه أن قيصر وكبار الملوك لم يوفقوا للإيمان به لئلا يقول قائل: إنما ظهر لأن فلانًا الملك تعصب له فتقوى به، فبان أن أمره من السماء لا بنصرة أهل الأرض.

وقال في قوله تعالى: "فقد كذبوكم بما تقولون" الفرقان: 19، قال: المعنى: فقد كذبكم أصنامكم بقولكم? لأَنكم ادعيتم أنها الآلهة وقد أقررتم أنها لا تنفع فإقراركم يكذب دعواكم.

وقال في قوله تعالى: "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق" الفرقان: 25، قال: فهو يدل على فضل هداية الخلق بالعلم، ويبين شرف العالم على الزاهد المنقطع فإن النبي صلى الله عليه وسلم كالطبيب، والطبيب يكون عند المرضى، فلو انقطع عنهم هلكوا.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي" النمل: 19، قال: هذا من تمام برّ الوالدين. كأن هذا الولد خاف أن يكون والداه قصرا في شكر الرب عز وجل، فسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم به عليه وعليهما ليقوم بما وجب عليهما من الشكر إن كانا قصرا.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم، ثواب اللّه خير لمن آمن" القصص: 80، قال: إيثار ثواب الآجل على العاجل حالة العلماء، فمن كان هكذا فهو عالم. ومن آثر العاجل على الآجل فليس بعالم.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون" القصص: 171 وفي الآية التي تليها "أفلا تبصرون" القصص: 72، قال: إنما ذكر السماع عند ذكر الليل والإبصار عند ذكر النهار لأن الإنسان يدرك سمعه في الليل أكثر من إدراكه بالنهار، ويرى بالنهار أكثر مما يرى بالليل.

قال المبرد: سلطان السمع في الليل، وسلطان البصر في النهار.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "اذكروا نعمة الله عليكم: هل من خالق غير الله" فاطر: 3، قال: فطلبت الفكر في المناسبة بين ذكر النعمة وبين قوله تعالى: "هل من خالق غير الله" فرأيت أن كل نعمة ينالها العبد فالله خالقها، فقد أنعم بخلقه لتلك النعمة، وبسوقها إلى المنعم عليه.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى" فاطر: 46، قال: المعنى: أن يكون قيامكم خالصًا للّه عز وجل، لا لغلبة خصومكم، فحينئذ تفوزون بالهدى.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى" يس: 25، في الآية الأخرى "وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى" القصص: 20، فرأيت الفائدة في تقديم ذكر الرجل وتأخيره: أن ذكر الأوصاف قبل ذكر الموصوف أبلغ في المدح من تقديم ذكره على وصفه فإن الناس يقولون: الرئيس الأجل فلان، فنظرت فإذا الذي زيد في مدحه وهو صاحب يس أمر بالمعروف وأعان الرسل وصبر على القتل، والآخر إنما حذر موسى من القتل، فسلم موسى بقبوله مشورته. فالأول هو الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والثاني هو ناصح الآمر بالمعروف. فاستحق الأول الزيادة. ثم تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بُعد في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبعد الطريق.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "ليت قومي يعلمون. بما غفر لي ربي" يس: 26، 27. قال: المعنى: يا ليتهم يعلمون بأي شيء وقع غفرانه. والمعني: أنه غفر لي بشيء يسير فعلته، لا بأمر عظيم.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "إن هؤلاء ليقولون: إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين. فائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين. أهم خير أم قوم تبع?". الدخان: 34- 36، قال: ربما توهم جاهل أنهم لم يجابوا عما سألوا، وليس كذلك فإن الذي سألوا لا يصلح أن يكون دليلاً على البعث لأنهم لو أجيبوا إلى ما سألوا لم يكن ذلك حجة على من تقدم، ولا على من تأخر، ولم يزد على أن يكون لمن تقدم وعدًا، ولمن تأخر خبرًا، اللهم إلا أن يجيء لكل واحد أبوه، فتصير هذه الدار دار البعث. ثم لو جاز وقوع مثل هذه كان إحياء ملك يضرب به الأمثال أولى، كتبع، لا أنتم يا أهل مكة، فإنكم لا تعرفون في بقاع الأرض.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك" غافر: 7، قال: علمت الملائكة أن اللّه عز وجل يحب عباده المؤمنين، فتقربوا إليه بالشفاعة فيهم. وأحسن القرب أن يسأل المحب إكرام حبيبه، فإنك لو سألت شخصًا أن يزيد في إكرام ولده لارتفعت عنده، حيث تحثه على إكرام محبوبه.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "لو نشاء لجعلناه حطامًا" الواقعة: 65 "لو نشاء جعلناه أجاجًا" الواقعة: 75، قال: تأملت دخول اللام وخروجها، فرأيت المعنى: أن اللام تقع للاستقبال، تقول: لأضربنك، أي فيما بعد، لا في الحال. والمعنى "أفرأيتم ما تحرثون? أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون? لو نشاء لجعلناه حطامًا" الواقعة: 63- 65، أي: في مستقبل الزمان إذا تم فاستحصد، وذلك أشد العذاب، لأنها حالة انتهاء تعب الزراع، واجتماع الدين عليه، لرجاء القضاء بعد الحصاد، مع فراغ البيوت من الأقوات.

وأما في الماء: فقال: "لو نشاء جعلناه أجاجًا" أي: الآن? لأنا لو أخرنا ذلك لشرب العطشان وادخر الإنسان.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا" الممتحنة: 15 قال: المعنى: لا تبتلينا بأمر يوجب افتتان الكفار بنا، فإنه إذا خذل المتقي ونصر العاصي فتن الكافر، وقال: لو كان مذهب هذا صحيحًا ما غلب.

قال: وسمعته يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل رمضان سلسلت الشياطين" قال: إن الشياطين للعاصي في غير رمضان كالعكاز يقول: سوّل لي، وغرني. فإذا سلسل الشيطان قلّ عذر العاصي.

وسمعته يقول في حديث عائشة رضي الله عنها "كان أكثر صوم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في شعبان" قال: ما أرى هذا إلا على وجه الرياضة لأن الإنسان إذا هجم بنفسه على أمر لم يتعوده صعب عليه، فدرج نفسه بالصوم في شعبان لأجل رمضان.

وسمعته يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بك من شر ما لم أعمل" قال: له معنيان. أحدهما: أن الإنسان يبلغه أن الرجل قد عمل الشر فيرضى به، أو يتمنى أن يعمل مثله، فهذا شر ما لم يعمل.

والثاني: أن الرجل قد لا يشرب الخمر، فيعجب بنفسه كيف لا يشرب، فيكون العجب بترك الذنب شر ما لم يعمل.

وذكر صاحب سيرة الوزير قال: سمعته يقول في قوله تعالى: "وما تلك بيمينك يا موسى? قال: هي عصاي" طه: 17، 18، قال: في حمل العصا عظة لأنها من شيء قد كان ناميًا فقطع، فكلما رآها حاملها تذكر الموت.

قال: ومن هذا قيل لابن سيرين رحمه الله: رجل رأى في المنام أنه يضرب بطبل? فقال: هذه موعظة لأن الطبل من خشب قد كان ناميًا فقطع، ومن أغشية كانت جلود حيوان قد ذبح. وهذا أثر الموعظة.

وسمعته يقول في قوله تعالى: "في قلوبهم مرض" البقرة: 15، قال: المريض يجد الطعوم على خلاف ما هي عليه، فيرى الحامض حلوًا، والحلو مرًا وكذلك هؤلاء يرون الحق باطلاً، والباطل حقًا.

قال: وسمعت الوزير يقول: وقد قرىء عنده "أن رجلاً قال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم قال ذاك? فقال الرجل: أنا يا رسول الله، لم أرد بذلك إلا الخير. فقال صلى الله عليه وسلم رأيت بضعًا وثلاثين ملكاً يبتدرونها". فطفقت والجماعة عندي أفكر في معنى تخصيص هذا العدد من الملائكة، فنظرت فإذا حروف هذه الكلمات بضع وثلاثون حرفًا إذا فكك المشدد، ورأيت أنه من عظم ما قد ازدحمت الملائكة عليها، بلغوا إلى فك المشدد، فلم يحصل لكل ملك سوى حرف واحد، فصعد به يتقرب بحمله.

وسمعته يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: "وجدت على باب الجنة مكتوباً: الصدقة بعشرة، والقرض بثمانية عشر" فتدبرت هذا الحصر، فإذا الفائدة: أن الحسنة بعشر أمثالها، فدرهم الصدقة لا يعود فيكتب به عشر مع ذهابه، فيكون الحاصل به على الحقيقة تسعة، والقرض يضاعف على الصدقة، فيصير ثمانية عشرة لأن تسعة وتسعة ثمانية عشر. والسبب في مضاعفته: أن الصدقة قد تقع في يد غير محتاج، والقرض لا يقع إلا في يد محتاج.

وسمعته يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا شربتم فاسئروا" قال: هذا في الشرب خاصة.

فأما الأكل فمن السنة: لعق القصعة والأصابع، وإنما خص الشرب بذلك لأن التراب والأقذار ترسخ في أسفل الإناء، فاستقصاء ذلك يوجب شرب ما يؤذي. قال: وكذلك السر في الأمر بالتنفس في الإناء ثلاثاً لأن التنفس يخرج كرب القلب، كدر البدن. فكره الشارع أن يعود في الماء فيؤذي الشارب.

وسمعته يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: "أول زمرة تدخل الجنة من أمتي وجوههم كالقمر

ليلة البدر" قال: إنما لم يقل كالشمس لأن نور الشمس يؤثر في عيون الناظرين إليها، فلا يتمكنون من النظر، والجنة دار لذة وطيب عيش، فلو أشبهت وجوههم نور الشمس لم يتمكن أحد منهم أن ينظر الآخر.

ومن كلامه في السنة: قال أبو الفرج بن الجوزي: سمعت الوزير يقول: تأويل الصفات أقرب إلى الحظ من إثباتها على وجه التشبيه فإن ذلك كفر. وهذا غايته البدعة.

قال وسمعته ينشد لنفسه:

لا قول عند آية المتشابه

للراسخين غير "آمنا به"

قال: وسمعته يقول: ما أنزل الله آية إلا والعلماء قد فسروها، لكنه يكون للآية وجوه محتملات، فلا يعلم ما المراد من تلك الوجوه المحتملات إلا الله عز وجل.

قال: وسمعته يقول في قوله تعالى: "إن هذا إلا قول البشر" المدثر: 25، قال: العرب لا تعرف ذا ولا هذا إلا في الإشارة إلى الحاضر. وإنما أشار هذا القائل إلى هذا المسموع. فمن قال: إن المسموع عبارة عن القديم، فقد قال: هذا قول البشر.

قال مصنف سيرته: كثيرًا ما سمعته يقول: ليس مذهب أحمد إلا الاتباع فقط. فما قاله السلف قاله، وما سكتوا عنه سكت عنه فإنه كان يكثر أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق، لأنه لم يقل. وكان يقول في آيات الصفات: تمرّ كما جاءت.

قال: وسمعته يقول: تفكرت في أخبار الصفات، فرأيت الصحابة والتابعين سكتوا عن تفسيرها، مع قوة علمهم، فنظرت السبب في سكوتهم، فإذا هو قوة الهيبة للموصوف، ولأن تفسيرها لا يتأتى إلا بضرب الأمثال للّه، وقد قال عز وجل: "تضربوا للّه الأمثال" النحل: 74، قال: وكان يقول: لا يفسر على الحقيقة ولا على المجاز لأن حملها على الحقيقة تشبيه، وعلى المجاز بدعة.

قال: وسمعته يقول: واللّه ما نترك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الرافضة نحن أحق به منهم، لأنه منا ونحن منه، ولا نترك الشافعي مع الأشعرية فإنا أحق به منهم.

قال: وسمعته يقول: من مكايد الشيطان: تنفيره عباد اللّه من تدبر القرآن لعله أن الهدى واقع عند التدبر، فيقول: هذه مخاطرة، حتى يقول الإنسان: أنا لا أتكلم في القرآن تورعًا.

ومنها: أن يخرج جوالب الفتن مخرج التشدد في الدين.

ومنها: أن يقيم أوثاناً في المعنى تعبد من دون الله مثل أن يبين الحقٌّ فيقول: ليس هذا مذهبنا تقليدًا للمعظم عنده، قد قدمه على الحق.

قال: وسمعته يقول لبعض الناس: لا يحل والله أن تحسن الظن بمن يرفض، ولا بمن يخالف الشرع في حال.

ومن كلامه في فنون، قال ابن الجوزي: وسمعته يقول: يحصل العلم بثلاثة أشياء.

أحدها: العمل به، فإن من كلف نفسه التكلم بالعربية، دعاه ذلك إلى حفظ النحو. ومن سأل عن المشكلات ليعمل فيها بمقتضى الشرع تعلم.

والثاني: التعليم، فإنه إذا علم الناس كان أدعى إلى تعليمه.

الثالث: التصنيف، فإنه يخرجه إلى البحث، ولا يتمكن من التصنيف من لم يدرك غور ذلك العلم الذي صنف فيه.

قال: وسمعته يقول: الحكمة في اختصاص المرأة بالحيض: أنها تحمل الولد، والولد مفتقر إلى الغذاء، فلو شاركها في غذائها، لضعفت قواها، ولكن جعلت له فضلة من فضلاتها، إن حملت فهي قوته، وإن لم تحمل اندفعت، فإذا ولدت توفرت تلك الفضلة على اللبن.

قال: وسمعته يقول لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب.

وسمعته يقول: الأيام قد ذهبت، والأعمار قد نهبت، والنفوس باتباع الهوى قد التهبت، وما يطلب منها شيء من الخير إلا أبت، وبيوت التقوى من القلوب قد خربت.

وسمعته يقول: نظر العامل إلى عمله بعين الثقة به في باب النجاة، أضر على العصاة من تفريطهم، وقال: لولا الظلم الجائر ما حصلت الشهادة للشهيد، ولولا أهل المعاصي، ما بانت بلوى الصابر في الأمر بالمعروف، ولو كان المجرمون ضعفاء لقهروا، فلم يحصل ذلك المعنى.

وكان يقول في قوله تعالى: "وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها" الأنعام: 123، إنه على التقديم والتأخير، أي: جعلنا مجرميها أكابر. وقال: البحر محيط بالأرض، وخلجانه تتخلل الأرض. والريح تهب على الماء، وتمر على الأرض، فيعتدل النسيم بالرطوبة. ولو كان ماء البحر عذبًا لأنتن لكونه واقفًا، فكانت الريح إذا هبت عليه أوقعت الوباء في الخلق، ولكنه جعل مالحًا، ليحصل منه نفع الرطوبة، ولا يقم به الفساد.

قال: وسمعته يقول: احذروا مصارع العقول، عند التهاب الشهوات.

قال: وسمعته يقول: العجب ممن يخاصم الأقدار ولا يخاصم نفسه، فيقول: قضى عليّ، وعاقبني! ويحك، قل لنا كيف تحب أن يكون الأمر? أتختار أن تخلق أعمى لا تنظر إلى المستحسن. قال: لا. قلنا: أفتحب أن تخلق معدوم الحس? قال: لا. قلنا: أتختار أن ترد عن المعاصي قهرًا. قال: لا. قلنا: أفتؤثر أن تطلق فيها من غير حجر? فلا تغضب إذًا إن أطلق غيرك في أخواتك وبناتك. فأما أن تغضب لذلك الفعل من غيرك في حرمك، وتختار أن تفعله في حُرم غيرك فهذا في غاية الجور. فإذا جعل لك الطريق إلى مرادك بكلمة هي عقد النكاح، أو عوضت عما منعت عنه من جنسه ووعدت الأجر على الصبر فهذا غاية العدل. فإن زللت في معصية فقد جعل لك طريق النجاة بالتوبة.

قال: مصنف سيرة الوزير: سمعته يقول: قفلت في صحبة أمير المؤمنين المقتفي من الكوفة بعد وداع الحاج، فشاهدنا في الطريق بردًا كبارًا قد وقع أمامنا- وكان الجماعة يأكلون منه- فلم أستطبه على الريق فلما نزلنا الخيام وأمسينا وحضر العشاء وأكلنا الطعام ذكرت ذلك البرد ووددت أن لو كان الآن منه شيء وأظن أني دعوت الله عز وجل أن يأتينا منه شيء، فما كان إلا لحظة والسحاب هملى، وإذا البرد فيه كثير. وشرع الغلمان وجمعوا منه شيئاً كثيرًا، وجاءوا به، فأكلت منه حتى تركته، وحمدت الله عز وجل على إجابة الدعاء، وإعطائه لما خطر في النفس.

قال: وسمعته يقول: كنت جالسًا في سطحٍ أصُلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وعيناي مغمضتان، فرأيت كاتبًا يكتب في قرطاس أبيض بمداد أسود، ما أذكره، وكلما قلت: اللهم صلِ على محمد، كتب الكاتب: اللهم صل على محمد، فقلت لنفسي: افتح عينك وانظر بها، ففتحت عيني، فخطف عن يميني حتى نظرت بياض ثوبه، وهو شديد البياض فيه صقالة.

قال: وسمعته يقول: مرضت مرة مرضًا شديدًا، انتهى بي الأمر فيه إلى مقام رفعت فيه إلى أرض ذات ظل ممدود، ورملة دمثة، وهو أطيب مستلذ، وبجانب تلك الرملة ماء على نحو دجلة لا أجراف له، وأنا أناجي في سري بما أراه من الله عز وجل، وفيه عتاب لي على نظري إلى الخلق وعملي لهم، ونحو هذا. فشرعت في الإنكار لذلك، فأعدم جميع من في الأرض، بحيث لم يبقَ عندي أنه بقي في الأرض غيري، فاستوحشت حينئذ من الحياة، ووددت الموت كل الوداد، حتى كنت أقول: لو كان الشرع يبيح قتل النفس كان شيئاً طيباً ثم عرضت عليّ أعمال الخير كلها فلم تخف عليّ كما كانت تخفى عليّ، فوقر حينئذ في نفسي أنك إنما كنت تريد الحياة معهم، وأعمال الخير لتبلغهم، ونحو هذا، فاعترفت حينئذ بما كنت قد ناكرت عليه، ثم نوجيت أيضًا بما معناه: إنك قد تخاف من الأشياء، وإن دواء ذلك كله أن تدخل في الخوف منه بالإيمان بأن كل مخلوف لا يقدر إلا على ما يقدره الله عز وجل عليه لوقته، أو نحو هذا.

قال: وسمعته يقول: اتباع السنة سبب لكل خير، فإني صليت الفريضة يومًا في مسجدنا، ثم قلت: يستحب أن تصلي السنة في غير موضع الفرض ومضيت إلى البيت فصليتها، ثم اشتاق قلبي إلى رؤية اللّه عز وجل، فقلت: اللهم أرني نفسك. فنمت تلك الليلة، فرأيته عز وجل. وأنشد هذه الأبيات، وقال: كان ابن سمعون كثيرًا ما ينشدها:

ركبت بحار الحب جهلاً بقدرها

 

وتلك بحار لا يفيق غريقـهـا

وسرنا على ريح تدل علـيكـم

فبانت قليلاً ثم غاب طريقهـا

إليكم بكم أرجو النجاة وما أرى

لنفسي منها سائقًا فيسوقـهـا

وذكر الوزير في كتابه "الإفصاح" قال: الصحيح عندي: أن ليلة القدر تنتقل في أفراد العشر، فإنه حدثني من أثق به أنه رآها في ليلة سبع وعشرين. وحدثني أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله: أنه رآها. فأما أنا فكنت في ليلة إحدى وعشرين وكانت ليلة جمعة، فواصلت انتظارها بذكر اللّه عز وجل، ولم أنم تلك الليلة. فلما كان وقت السحر- وأنا قائم على قدمي- رأيت في السماء بابًا مفتوحًا مربعًا عن يمين القبلة، قدرت أنه على حجرة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فبقي على حاله- وأنا أنظر إليه- نحو قراءة مائة آية، ولم يزل، حتى التفت عن يساري إلى المشرق لأنظر هل طلع الفجر? فرأيت أول الفجر. فالتفت إلى ذلك الباب فرأيته قد ذهب. وكان ذلك مما صدق عندي ما رأيت. فالظاهر من ذلك: تنقلها في ليالي الأفراد في العشر. فإذا اتفقت ليالي الجمع في الأفراد فأجدر وأخلق بكونها فيها.

وكتاب "الإفصاح" فيه فوائد جليلة غريبة.

وقال فيه: الخضر الذي لقيه موسى عليه السلام قيل: كان ملكاً. وقيل: كان بشرًا. وهو الصحيح. ثم قيل: إنه عبد صالح ليس بنبي. وقيل: بل نبي. وهو الصحيح.

والصحيح عندنا: أنه حي، وأنه يجوز أن يقف على باب أحد مستعطيًا له، وغير ذلك لما حدثني، محمد بن يحيى الزبيدي. وذكر عنه حكايات تتضمن رؤية الخضر والاجتماع به.

وقال في حديث عمران بن حصين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "قد علمت أن بعضكم خالجنيها" فيه دليل على أنه لا يقرأ المأموم وراء الإمام.

قال: وهذا محمول عندي على غير الفاتحة.

وقال: الحبس غير مشروع إلا في مواضع.

أحدها: إذا سرق فقطعت يمينه، ثم سرق فقطعت رجله، ثم سرق: حبس ولم يقطع، في إحدى الروايتين.

الثاني: أمسك رجل رجلاً لآخر فقتله: حبس الممسك حتى يموت، في إحدى الروايتين أيضاً.

الثالث: ما يراه الإمام كفًا لفساد مسد لقوله تعالى: "وآخرين مقرنين في الأصفاد" 38: 38، وما يراه أبو حنيفة في قطّاع الطريق، فإنه يحبسهم حتى يتوبوا.

فأما الحبس على الدين فمن الأمور المحدثة، وأول من حبس فيه شريح القاضي وقضت السنة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان: أنه لا يحبس على الدين، ولكن يتلازم الخصمان.

فأما الحبس الذي هو الآن فإني لا أعرف أنه يجوز عند أحد من المسلمين. وذلك أنه يجمع الجمع الكثير في موضع يضيق عنهم، غير متمكنين من الوضوء والصلاة، ويتأذون بذلك بحره وبرده. فهذا كله محدث. ولقد حرصت مرارًا على فكه، فحال دونه ما قد اعتاده الناس منه، وأنا في إزالته حريص واللّه الموفق.

وقال في حديث الزبير في سراج الحرة: فيه جواز أن يكون السقي للأول، ثم الذي بعده. إلا أن هذا في النخل خاصهّ، وما يجري مجراه وأما الزرع وما لا يصبر على العطش أكثر من جمعة ونحو ذلك: فإن الماء يتناصف فيه بالسوية، كما قال تعالى: "ونبئهم أن الماء قسمة بينهم" القمر: 29.

وقال في سورة الضحى: لما توالى فيها قسمان، وجوابان مثبتان، وجوابان نافيان، فالقسمان: "والضحى والليل إذا سجى" والجوابان النافيان: "ما ودعك ربك وما قلى"، والجوابان المثبتان: "وللآخرة خير لك من الأولى. ولسوف يعطيك ربك فترضى".

ثم قرر بنعم ثلاث، وأتبعهن بوصايا ثلاث: كل واحدة من الوصايا شكر النعمة التي قوبلت بها.

فإحداهن: "ألم يجدك يتيمًا فآوى" وجوابها: "فأما اليتيم فلا تقهر".

والثانية: "ووجدك ضالاً فهدى" فقابلها بقوله: "وأما السائل فلا تنهر" وهذا لأن السائل ضال يبغي الهدى.

والثالثة: "ووجدك عائلاً فأغنى" فقابلها بقوله: "وأما بنعمة ربك فحدث".

وإنما قال: "وما قلى" ولم يقل: وما قلاك لأن القلى بغض بعد حب، وذلك لا يجوز على الله تعالى. والمعنى: وما قلى أحدًا قط، ثم قال: "وللاَخرة خير لك من الأولى" ولم يقل: خير على الإطلاق. وإنما المعنى خير لك ولمن آمن بك.

وقوله: "فآوى" ولم يقل: فآواك، لأنه أراد: آوى بك إلى يوم القيامة.

وقال: أما كون صوم يوم عرفة بسنتين ففيه وجهان: أحدهما: لما كان يوم عرفة في شهر حرام بين شهرين حرامين: كفر سنة قبله وسنة بعده.

والثاني: إنما كان لهذه الأمة، وقد وعدت في العمل بأجرين. قال تعالى: "يؤتكم كفلين من رحمته" 57: 28

أما عاشوراء: فقد كانت الأمم قبل هذه الأمة تصومه، ففضل ما خصت به هذه الأمة، وإنما كفر عاشوراء السنة الماضية لأنه تبعها وجاء بعدها. والتكفير بالصوم إنما يكون لما مضى لا لما يأتي.

فأما يوم عرفة: فإنه يكفر السنة التي قد مضى أكثرها، ويزيد لموضع فضله بتكفير ما يأتي.

وقال في حديث تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ: لما كانت صلاة الفذ مفردة أشبهت العدد المفرد، فلما جمعت مع غيرها أشبهت ضرب العدد. كانت خمسًا فضربت في خمس، فصارت خمسًا وعشرين، وهي غاية ما يرتفع إليه ضرب الشيء في نفسه.

فأما رواية "سبع وعشرين" فإن صلاة المنفرد وصلاة الإمام أدخلتا مع المضاعفة في الحساب.

وقد ذكر الوزير في كلامه على شرح حديث "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" وهو الذي أفرد من كتابه "الإفصاح" فوائد غريبة.

فذكر في أول كلامه: أن اختصاص المساجد ببعض أرباب المذاهب بدعة محدثة، فلا يقال: هذه مساجد أصحاب أحمد، فيمنع منها أصحاب الشافعي، ولا بالعكس فإن هذا من البدع. وقد قال تعالى في المسجد الحرام: "سواء العاكف فيه والباد" الحج: 25، وهو أفضل المساجد.

وأما المدارس فلم يقل فيها ذلك، بل قال: لا ينبغي أن يضيق في الاشتراط على المسلمين فيها، فإن المسلمين فيها إخوة، وهي مساجد تبنى لله تعالى، فينبغي أن يكون في اشتراطها ما يقع لعباد الله، فإني امتنعت من دخول مدرسة شرط فيها شروط لم أجدها عندي، ولعلي منعت بذلك أن أسأل عن مسألة أحتاج إليها، أو أفيد أو أستفيد.

وحكي في مسائل الخلاف رواية عن أحمد: أنه لا يشترط في المسح على العمامة ولا بحوائل الرأس خاصة لبسها على طهارة. وهنه غريبة جدًا، لا أعلم أحدًا من الأصحاب حكاها غيره.

واختار فيه: استحباب الجمع بين الاستفتاح ب "وجهت وجهي" و "سبحانك اللهم وبحمدك".

واختار: أنه يستحب أن يزاد في التشهد الأول: اللهم صلِ على محمد.

واختار: استحباب التكبير ثلاثًا في أول تكبير العيدين، وأيام التشريق.

وذكر: أن الفصاد يفطر الصائم كالحجامة، وأنه مذهب أحمد.

وكان الوزير رحمه اللّه تعالى أديبًا بارعًا، فصيحًا مفوهًا. وقد أورد له مصنف سيرته من رسائله إلى الخلفاء والملوك، والكتب الذي أنشأها بأفصح العبارات، وأجزل الألفاظ ما لا يتسع هذا المكان لذكره.

وله شعر كثير حسن في الزهد وغيره.

فمما أنشده ابن الجوزي عنه:

يا أيها الناس إني ناصح لكـم

فعوا كلامي فإني ذو تجاريب

لا تلهينكم الدنيا بزهـرتـهـا

فما تدوم على حسن ولا طيب

قال: وأنشدنا لنفسه:

يلذ بهذا العيش مـن لـيس يعـقـل

ويزهد فيه الألمعي المـحـصـل

وما عجب نفس أن ترى الرأي إنمـا

العجيبة نفس مقتضى الرأي تفعـل

إلى الـلـه أشـكـو هـمة دنـيوية

ترى النـص إلا أنـهـا تـتـأول

ينهنها موت النـبـيه فـتـرعـوي

ويخدعها روح الحياة فـتـغـفـل

وفي كل جزء ينقضي من زمانهـا

من الجسم جزءمثـلـه يتـحـلـل

فنفس الفتى في سهوها وهي تنقضي

وجسم الفتى في شغلة وهو يعمـل

قال: وأنشدنا لنفسه:

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه

وأراه أسهل ما عليك يضـيع

قال: وأنشدنا لنفسه:

الحمد لله هـذا الـعـين لا الأثـر

فما الذي باتباع الحـق ينـتـظـر

وقت يفـوت وأشـغـال مـعـوّقة

وضعف عزم، ودار شأنها الغـير

والناس ركضاً إلى مهوى مصارعهم

وليس عندهم من ركضهم خـبـر

تسعى بهم خادعات من سلامتـهـم

فيبلغون إلى المهوى وما شعـروا

والجهل أصل فساد الناس كـلـهـم

والجهل أصل عليه يخلق البـشـر

وإنما العلم عن ذي الرشد يطرحـه

كما عن الطفل يوماً يطرح السرر

وأصعب الـداء داء لا يحـس بـه

كالدق يضعف حساً وهو يستـعـر

وإنما لم يحس المرء مـوقـعـهـا

لأن أجزاؤه قد عمهـا الـضـرر

وقال صاحب سيرته: سمعته يقول لولا عموم فقراء الناس ما استغنوا? فإن الإنسان لما افتقر احتال فسافر لجلب الثياب والمطاعم والأدوية والحطب وغير ذلك، فانتفع بذلك المقيم فلو أن الناس استغنوا عن الكسب لافتقروا، لكنهم لما افتقروا تم الفناء.

قال: وأنشدنا لنفسه في المعنى. وقد أنشدها ابن الجوزي عنه أيضًا:

جسوم لا يلائمها الـبـقـاء

وأجزاء تخللـهـا الـثـواء

وكون الشيء لا ينفك يفنـى

فذلك أن غايتـه الـفـنـاء

نكب على التكاثر وهو فقـر

وتعجبنا السلامة وهـي داء

ونجزع للشدائد وهي نصـح

وتغرينا وقد عز الـرجـاء

تنافى الناس فانتفوا اضطرارا

وقد يرجى من الداء الـدّواء

وعم الفقر فاستغنوا، ولـولا

عموم الفقر ما عم الغـنـاء

قال: وأنشدنا لنفسه:

يلذ بذي الدنيا الغنيّ ويطـرب

ويزهد فيها الألمعي المجرب

وما عرف الأيام والناس عاقل

ووفق إلا كان في اليوم يرغب

إلى الله أشكو همة لعبت بهـا

أباطيل آمال تغر وتـخـلـب

فواعجبًا من عاقل يعرف الدنا

فيصبح فيها بعد ذلك يرغـب

قال: وأنشدنا لنفسه- مما قاله قديمًا-:

كل من جاء بـدين غـريب

غير دين الإسلام فهو كذوب

وإذا عالم تكلف في القـول

بلا سنة فـذاك الـمـريب

قال: وأنشدنا لنفسه:

ما لنا قط غير ما شرع الله

به يعبـد الإلـه الـكـريم

فتمسك بالشرع واعلم بأن ال

حق فيه وما سواه سمـوم

ومما يذكر من شعر الوزير رحمه الله:

تمسك بتقوى اللّه فالمرء لا يبقى

وكل امرىء ما قدمت يده يلقى

ولا تظلمن الناس ما في يديهـم

ولا تذكرن إفكاً ولا تحسدن خلقا

تعود فِعال الخير جمعاً فكلـمـا

تعوده الإنسان صار له خلـقـا

وذكر ياقوت الحموي في كتابه "معجم الأدباء" بإسناد له: أن الوزير عرضت عليه جارية فائقة الحسن، وظهر له في المجلس من أدبها وحسن كتابتها وذكائها وظرفها ما أعجبه فأمر فاشتريت له بمائة وخمسين ديناراً وأمر أن يهيأ لها منزل وجارية وأن يحمل لها من الفرش والآنية والثياب وجميع ما تحتاج إليه، ثم بعد ثلاثة أيام جاءه الذي باعها، وشكى إليه ألم فراقها، فضحك، وقال له: لعلك تريد ارتجاع الجارية? قال: أي والله يا مولانا، وهذا الثمن بحاله، لم أتصرف فيه وأبرزه، فقال له الوزير: ولا نحن تصرفنا في المثمن، ثم قال لخادمه: ادفع إليه الجارية وما عليها، وجميع ما في حجرتها، ودفع إليه الخرقة التي فيها الثمن، وقال: استعينا به على شأنكما، فأكثرا من الدّعاء له، وأخذها وخرج.

وحكي عن الوزير: أنه كان إذا مدّ السماط فكثر ما يحضره الفقراء والعميان، فلما كان ذات يوم وأكل الناس وخرجوا بقي رجل ضرير يبكي، ويقول: سرقوا مداسي وما لي غيره، واللّه ما أقدر على ثمن مداس، وما بين إلا أن أمشي حافيًا وأصلي، فقام الوزير من مجلسه، ولبس مداسه وجاء إلى الضرير، فوقف عنده وخلع مداسه والضرير لا يعرفه، وقال له: البس هذا وأبصره على قدر رجلك، فلبسه، وقال: نعم، لا إله إلا اللّه كأنه مداسي. ومضى الضرير، ورجع الوزير إلى مجلسه، وهو يقول: سلمت منه أن يقول: أنت سرقته.

وأخبار الوزير رحمه الله ومناقبه كثيرة جدًا. وقد مدحه الشعراء فكثروا.

وقيل: إنه رزق من الشعراء ما لم يرزقه أحد، ومن أكابرهم: الحيص بيص، وابن بختيار الأبله، وابن التعاويذي، والعماد الكاتب، وأبو علي بن أبي قيراط، ومنصور النميري، وخلق كثير. حتى قيل: إنه جمعت من مدائحه ما يزيد على مائتي ألف قصيدة في مجلدات. فلما بيعت كتبه بعد موته اشتراها بعض الأعداء. فغسلها.

ومن قول الحيص بيص في مدحه رحمه الله تعالى:

يفل عزب الرزايا وهي بـاسـلة

ويوسع الجار نصرًا وهو مخذول

ويشهد الهول بساماً وقد دمـعـت

شوس العيون فذم القوم إحفـيل

ويتقي مثل ما ترجى فواضـلـه

وجوده، فهو مرهوب ومأمـول

عار من العار كاسٍ من مناقبـه

كأنه مرهف الخدين مسـلـول

سهل المكارم صعب في حفيظته

فبأسه والندى مر ومـعـسـول

قالى الدنايا وصبوان العلى كلـف

فالعار والمجد مقطوع وموصول

الملك يحيى لذي قول ومعتـرك

 

إذا تشابه مقطـوع ومـفـلـول

يمضي الأسنة والأقوال ماضـية

فالحبر والقرن مطرود ومفصول

جواد مجد له في فخـره شـبـه

وفيه من واضح العلياء تحجـيل

يصيد وحش المعالي وهي نافـرة

كأن مسعاه للعـلـياء أحـبـول

ومما أنشده أبو الفتح بن الأديب في أول يوم جلس فيه الوزير وقرىء عهده:

إذا قلت: ليث فهو أمضى عـزيمة

وإن قلت: غيث فهو أندى وأجود

من القوم ما أبقوا سوى حسن ذكره

م وما عمروه بالجمـيل وشـيدوا

وصية موروث إلى خـير وارث

إذا سيد منهـم خـلا قـام سـيد

سيحييهم يحيى وما غـاب غـائب

إليه أحاديث المكـارم تـسـنـد

مناقب تحصى دونها عدد الحصى

بها يغبط الحر الكريم ويحـسـد

ليهن أمير المؤمنين اعـتـضـاده

برأيك والآراء تهـدي وتـرشـد

هو المقتفـي أمـر الإلـه وإنـه

ليصدر عـن أمـر الإلـه ويورد

تمنى وزيرًا صالحاً يكتـفـي بـه

 

وأفكاره في مـثـلـه تـتـردد

دعا زكريا النـبـي كـمـا دعـا

إمام الهدى، والأمر بالأمر يعضد

فخص بيحيى بعدما خص بـعـده

بيحيى أمير المؤمنين مـحـمـد

وهي طويلة.

ومن قصيدة لأبي علي بن الفلاس الشاعر أولها:

الحب يهجر والطيوف تـزور

وكأنما أصل الصـبـابة زور

ظلت الملوك وقصروا عن غاية

ما نالها كسرى ولا سـابـور

وعدلت حتى لم تدع من ظالـم

يده على المستضعفين تجـور

فالأرض مشرقة بعدلك والندى

وصباح عدلك ما لـه ديجـور

قد روضت بالمكرمات كأنمـا

كل البـلاد خـوريق وسـدير

ولنصر النميري:

أعلقت من يحيى رجائي لمـن

تحتكم الآمـال فـي وفـره

وكان عون الدين أحرى الورى

بنصرة الحر علـى دهـره

وزير صدق عم إحـسـانـه

فأجمع الناس على شـكـره

أبهة الملك عـلـى وجـهـه

 

وخشية الرحمن فـي سـره

يربى على الغيث ندى كـفـه

ونائل المرء عـلـى قـدره

قال ابن الجوزي: كان الوزير يتأسف على ما مضى من زمانه، ويندم على ما دخل فيه. ثم صار يسأل الله عز وجل الشهادة، ويتعرض بأسبابها.

وكان الوزير ليس به قلبة في يوم السبت ثاني عشر جمادى الأولى سنة ستين وخمسمائة ونام ليلة الأحد في عافية فلما كان الوقت السحر قاء فحضر طبيب كان يخدمه، فسقاه شيئًا، فيقال: إنه سمه فمات، وسقي الطبيب بعده بنحو ستة أشهر سماً، فكان يقول: سقيت كما سقيت، فمات.

قال: وكنت في تلك الليلة رأيت في النوم مع انشقاق الفجر والوزير كأنه في داره، ودخل رجل بيده حربة فضربه بها، فخرج الدم كالفوار فضرب الحائط، ورأيت هناك خاتماً من ذهب ملقى. فلما استيقظت أخبرت من معي بالحديث، فما استتممته حتى جاء الخبر بموت الوزير ونفذ إلي من داره، فحضرت أمرني ولداه أن أغسله فغسلته، فرفعت يده ليدخل الماء في مغابنه، فسقط الخاتم من يده حيث رأيت ذلك الخاتم، فتعجبت من وجهه، ورأيت في وقت غسله آثاراً بوجهه وجسده، تدل على أنه مسموم، وحملت جنازته يوم الأحد إلى جامع القصر، وصلى عليه، ثم حمل إلى مدرسته التي أنشأها بباب البصره، فدفن بها. وغلقت يومئذٍ أسواق بغداد، وخرج جمع لم نره لمخلوق قط في الأسواق وعلى السطوح وشاطىء دجلة، وكثر البكاء عليه لما كَان يفعله من البر، ويظهره من العدل.

وذكر مصنف سيرته: أنه كان ثار به بلغم وهو في قصره بالخالص، ثم خرج مع المستنجد للصيد، فسقى مسهلاً لأجل البلغم، فاستأذن الخليفة في الدخول إلى بغداد للتداوي، فأذن له، فدل يوم الجمعة في موكب عظيم. وصلى الجمعة وحضر الناس عنده يوم السبت. فلما كان وقت صلاة الصبح يوم الأحد عاوده البلغم، فوقع مغشياً عليه، فصرخ الجوار، فأفاق فسكتهن. وقيل له: إن أستاذ الدار ابن رئيس الرؤساء، قد بعث جماعة ليستعلم ما هذا الصياح? فتبسم الوزير على ما هو عليه من تلك الحال، وأنشد متمثلاً:

وكم شامت بي عند موتي جاهل

 

بظلم يسل السيف بعد وفـاتـي

ولو علم المسكين مـاذا ينـالـه

 

من الضرّ بعدي مات قبل مماتي

قلت: وكذا وقع، فإن البليدي الذي تولى الوزارة بعده لم يبق من الأذى لبيت رئيس الرؤساء ممكنًا.

قال: ثم تناول مشروبًا فاستفرخ به، ثم استدعى بماء فتوضأ للصلاة، وصلى قاعدًا فسجد فأبطأ عن القعود من السجود، فحركوه فإذا هو ميت. رحمه الله.

ورثاه جماعة من شعرائه- منهم: النميري- بقصائد. منها قوله:

ألمم على جدث حوى تاج الملوك وقل: سلام

 

واعقر سويد الضمير فليس يقنعني السـوام

وتوق أن يثني حياً دمـع عـينـيك أو مـلام

 

إن التماسك والوقار بمن أصيب بـه حـرام

فإذا ارتوت تلك الجنادل من دموعك والرغام

 

فأقم صدور اليعملات فبعد يحيى لا مـقـام

ذهب الذي كانت تقيدني مواهبه الـجـسـام

 

وإذا نظرت إليه لم يخطر على قلبي السـآم

غاض الثدي الفياض عن راحتيه واشتد الأوام

 

وتفرقت تلك الجموع وقوضت تلك الخـيام

ولقد عهدت أبا المظفر ذا علا لا يستـضـام

 

يثب القعود إذا بدا ويقبـل الأرض الـقـيام

ما للنفوس من الحمام إذا ألم بها اعـتـصـام

 

عجباً لمن يغتر بالدنـيا ولـيس لـهـا دوام

عقبى مسرتها الأسى، وعقيب صحتها السقام

 

انظر إلى أبواب عن الدين يعلوها القـتـام

وكان عون الدين لم يك للزمان به ابـتـسـام

 

لله ما عدمت به الدنيا وما حـوت الـرجـام

لا غرو أن أدمى الجفون لفقدك الدمع الجسام

 

إن المكارم بعد موتك ما لفرقتهـا الـتـئام

ما مت وحدك يوم مت، وإنما مـات الأنـام

 

حياك رقراق النسيم وجاد مثواك الـغـمـام

بأبي لك الإحسان إن أنساك والشيم الـكـرام

 

وببعض حقك إن حزني فيك ليس له انصرام

وأنشد بعض الشعراء يوم موته:

مات يحيى ولم نجد بعد يحيى

 

ملكاً ماجدًا به يسـتـعـان

وإذا مات من زمان كـريم

 

مثل يحيى به يموت الزمان

قال مصنف سيرته: حدثني أبو حامد أحمد بن عيسى الفقيه الحنبلي ابن الشيخ الصالح أبو عبد اللّهبن زفر، قال: رأيت في المنام- وأنا بأرض جزيرة ابن عمر- كأن جماعة من الملائكة يقولون لي: قد مات في هذه الليلة ببغداد ولي من أولياء اللّه تعالى فاستيقظت منزعجاً فحدثت بالمنام الجماعة الذين كانوا معي وأرخنا تلك الليلة فلما قدمت بغداد سألت: من مات في تلك الليلة. فقيل لي: مات بها الوزير عون الدين بن هبيرة.

قال: وحدثني الشيخ الصالح محمود بن النعالي المقرىء الزاهد، قال: كنت دائمًا إذا ذكرت الوزير عون الدين بن هبيرة أقول: اللهم هبه، واستوهب له. قال: ومضى على ذلك زمان، فرأيت في النوم كأنني قد دخلت إلى مدرسته لزيارة قبره، وإذا هو نائم على القبر، فقال: يا محمود، إن اللّه وهبني واستوهب لي.

وحدثني الوزير أبو شجاع محمد ابن الوزير أبي منصور محمد ابن الوزير أبي شجاع محمد قال: كنت كثير الوقوع في الوزير ابن هبيرة، فرأيته في المنام في بستان لم أرَ له في الدنيا شبيهًا، ومعه ملك يجني له من ثماره، ويترك في فمه، فهممت بدخول البستان، فصاح الملك عليّ، وقال: هذا البستان قد وهبه الله تعالى لهذا بعد أن غفر له، فلا سبيل لأحد أن يدخله إلا بإذنه. فاستيقظت مرعوباً، وتبت إلى الله عز وجل من ذكره، إلا بالرحمة عليه، والاستغفار له.

قال. وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الواحد المقرىء قال: رأيت الوزير ابن هبيرة في النوم، فسألته عن حاله? فأجابني بهذين البيتين:

قد سألنا عن حالنا فأجبنـا

 

بعد ما حاك حالنا وحجبنا

فوجدنا مضاعفاً ما كسبنـا

 

ووجدنا ممحصاً ما اكتسبنا

وهذه الأبيات رواها ابن النجار عن ابن الدبيثي عن أبي شجاع محمد بن علي المؤدب، قال: سمعت أبا القاسم السلاحي، قال رأيت الوزير في النوم فذكرها.

قال صاحب سيرته: ولو استقصيت ما ذكر له من المنامات الصالحة لجاءت بمفردها كتابًا ضخمًا.

أخبرنا أبو المعالي محمد بن عبد الرزاق بن أحمد الشيباني الزاهد- بقراءتي عليه ببغداد سنة تسع وأربعين وسبعمائة- أخبرنا الحافظ أبو عبد الله أحمد بن محمد الأنجب بن الكسار- سماعاً- أخبرنا العلاّمهّ أستاذ دار الخلافة أبو محمد يوسف بن الحافظ أبي الفرج بن الجوزي، أخبرنا أمير المؤمنين المستعصم باللّه أبو محمد عبد اللّه بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن الظاهر بن الناصر، أخبرنا أبو علي الحسن بن المبارك الزبيدي وأخبرناه- عاليًا- أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم المصري بها، أخبرنا سفير الخلافة أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم، أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الحافظ قالا: أخبرنا الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة قال: قرأت على الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد بن المستظهر باللّه بن المقتدي، قلت له: حدثكم أبو البركات أحمد بن عبد الله الشيبي، أخبرنا أبو محمد عبد اللّه بن محمد الصيرفي، حدثنا محمد بن عبد الرحمن المخلص، حدثنا إسماعيل بن العباس الوراق، حدثنا حفص بن عمرو الربالي، أخبرنا المبارك بن سحيم، حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا يزداد الناس إلا شحًا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس". وفي هذا الإسناد سلسلة عجيبة بالخلفاء والملوك.

عبد الله بن سعد بن الحسين بن الهاطر الوزان العطار، الأزجي، أبو المعمر:

كان اسمه خُريفة، فغير وسار يكتب عبد اللّه.

قرأ القرآن بالروايات على أبي الخطاب بن الجراح، وغيره.

وسمع الحديث من أبي الفضل بن خيرون، وأبي الحسن بن أيوب، وأبي عبد الله بن طلحة بن البطر، وأبي القاسم الربعي، وغيرهم. وتفقه على أبي الخطاب الكلوذاني، وحدث.

روى عنه أبو حفص السهروردي في مشيخته، وغيره.

قال الشريف أبو الحسن الزبيدي الحافظ: كان محبًا للرواية صحيح السماع.

قال: وتوفي يوم الإثنين ثامن عشر رجب سنة ستين وخمسمائة، وصلى عليه الشيخ عبد القادر من الغد بمدرسته. ودفن بباب حرب.

وكذا أرخه القطيعي في تاريخه.

ووقع في مشيخة السهروردي: أنه توفي يوم الأربعاء تاسع عشر رجب.

إسماعيل بن أبي طاهر بن الزبير الجيلي، الفقيه، أبو المحاسن:

حدث بيسير عن أبي الحسن عليّ بن سعد الخباز، وهو حي.

سمع منه بعض الطلبة في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمسمائة.

عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله بن جنكي دوست بن أبي عبد الله بن عبد الله الجيلي

ثم البغدادي، الزاهد: شيخ العصر، وقدوة العارفين، وسلطان المشايخ، وسيد أهل الطريقة في وقته، محيي الدين أبو محمد، صاحب المقامات والكرامات، والعلوم والمعارف، والأحوال المشهورة.

وبعض الناس يذكر نسبه إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فيزيد بعد أبي عبد الله: ابن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

ولد سنة تسعين وأربعمائة- أو سنة إحدى وتسعين- بكيلان.

وفد بغداد شابًا، فسمع بها الحديث من أبي غالب بن الباقلاني، وجعفر السراج وأبي بكر بن سوسن، وابن بيان، وأبي طالب بن يوسف، وابن خشيش، وأبي الزيني، وتفقه على القاضي أبي سعد المخرامي وأبي الخطاب الكلوذاني.

وقيل: إنه قرأ أيضًا على ابن عقيل، والقاضي أبي الحسين وبرع في المذهب والخلاف في الأصول، وغير ذلك.

وقرأ الأدب على زكريا التبريزي. وصحب الشيخ حماد الدباس الزاهد، ودرس بمدرسة شيخه المخرمي، وأقام بها إلى أن مات، ودفن بها.

قال ابن الجوزي: كانت هذه المدرسة لطيفة، ففوضت إلى عبد القادر، فتكلم على الناس بلسان الوعظ، وظهر له صيت بالزهد. وكان له سمت وصمت، وضاقت المدرسة بالناس.

وكان يجلس عند سور بغداد مستندًا إلى الرباط، ويتوب عنده في المجلس خلق كثير، فعمرت المدرسة ووسعت، وتعصبت في ذلك العوام. وأقام في مدرسته يدرس ويعظ إلى أن توفي.

وذكره ابن السمعاني فقال: إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه صالح، دين خير، كثير الذكر، دائم الفكر. سريع الدمعة، كتبت عنه. وكان يسكن بباب الأزج في المدرسة التي بنوا له.

وسمعت أبا الحسين بن التبان الفقيه البغدادي يقول: إن مدرسة عبد القادر كانت للقاضي المخرمي، فلما فوضت إلى عبد القادر أراد أن يوسعها ويعمرها. فكان الرجال والنساء يأتونه بشيء فشيء إلى أن عمرها، فاتفق أن امرأة مسكينة جاءت بزوجها. وكان زوجها من الفعلة الروزجارية، وقالت لعبد القادر: هذا زوجي،، ولي عليه من المهر قدر عشرين دينارًا، ووهبت له النصف بشرط أن يعمل في مدرستك بالنصف الباقي، وقد تراضينا على هذا. فقبل الزوج ذلك وأحضرت المرأة الخط وسلمته إلى عبد القادر. فكان يستعمل الزوج في المدرسة، وكان يعطيه يومًا الأجرة، ويوماً لا يعطيه لعلمه بأن الرجل محتاج فقير، ولا يملك شيئًا، إلى أن علم أن الزوج عمل بخمسة دنانير، فأخرج عبد القادر الخط، ودفعه إلى الزوج، وقال: أنت في حل من الباقي.

قلت: ظهر الشيخ عبد القادر للناس، وجلس للوعظ بعد العشرين وخمسمائة وحصل له القبول التام من الناس، واعتقدوا ديانته وصلاحه، وانتفعوا به وبكلامه ووعظه، وانتصر أهل السنة بظهوره، واشتهرت أحواله، وأقواله وكراماته ومكاشفاته وهابه الملوك فمن دونهم.

قال الشيخ موفق الدين صاحب المغني: لم أسمع عن أحد يحكي عنه من الكرامات أكثر مما يحكي عن الشيخ عبد القادر، ولا رأيت أحدًا يعظم من أجل الدين أكثر منه.

وذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام شيخ الشافعية: أنه لم تتواتر كرامات أحد من المشايخ إلا الشيخ عبد القادر، فإن كراماته نقلت بالتواتر.

قرأت بخط الإمام ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن الحنبلي الدمشقي قال: حكى شيخنا أبو الحسن بن غريبة الفقيه: أن الوزير ابن هبيرة رحمه الله، قال له الخليفة - يريد: المقتفي لأمر اللّه- قد شكى من الشيخ عبد القادر، وقال إنه يستخف بي، ويذكرني وله نخلة في رباطه يتكلم ويقول: يا نخيلة لا تتعدي أقطع رأسك وإنما يشير إلي. تمضي إليه وتقول له في خلوة: ما يحسن بك أن تتعرض بالإمام أصلاً وأنت تعرف حرمة الخلافة.

قال الشيخ أبو الحسن فذهبت إليه، فوجدت عنده جماعة، فجلست أنتظر منه خلوة، فسمعته يتحدث، ويقول في أثناء كلامه: نعم. اقطع رأسها، فعلمت أن الإشارة إليّ، فقمت وذهبت، فقال لي الوزير: بلغت، فأعدت عليه ما جرى، فبكى الوزير، وقال: لا شك في صلاح الشيخ عبد القادر.

وقرأت بخط ابن الحنبلي أيضًا: أن خاله أبا الحسن بن نجا الواعظ اجتمع بالشيخ عبد القادر، وكان يحكي عنه. قال: سبقت يوم العيد إلى المصلى إلى المكان الذي يصلي فيه الشيخ عبد القادر. قال: فجاء الشيخ عبد القادر، ومعه خلق كثير، والناس يقبلون يده، فصلى ركعتين قبل الصلاة. فقلت، في نفسي: ما هذه الصلاة. فمن السنة أن لا يتنفل قبلها. قال: فلما سلم التفت إليّ وقال: لها سبب.

ونقلت من خط الإمام صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي. قال: قرأت بخط الإمام أبي أحمد عبد الصمد بن أحمد بن أبي الجيش. قال: حدثني أحمد بن مطيع الباجسرائي. قال: كنت أجيء من مدرسة الوزير ابن هبيرة من باب البصرة إلى الشيخ عبد القادر، فجئت في بعض الأيام، وهو كأنه ضجران، فانتهرني. وقال: قم، فمضيت، فبينا أنا في بعض الطريق أنفذ خلفي، فجئت. فقال: لما حردت عليك، ومشيت نمت، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أنت معلم الخير لا تضجر. أنت معلم الخير لا تضجر. أنت معلم الخير لا تضجر- ثلاث مرات- قال: ثم أخذ عليّ، وأقرأني.

وكان الشيخ عبد القادر، رحمه الله في عصره معظمًا، يعظمه أكثر مشايخ الوقت من العلماء والزهاد. وله مناقب وكرامات كثيرة.

ولكن قد جمع المقرىء أبو الحسن الشطنوفي المصري، في أخبار الشيخ عبد القادر ومناقبه ثلاث مجلدات، وكتب فيها الطم والرم، وكفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع.

وقد رأيت بعض هذا الكتاب، ولا يطيب على قلبي أن أعتمد على شيء مما فيه، فأنقل منه إلا ما كان مشهورًا معروفًا من غير هذا الكتاب، وذلك لكثرة ما فيه من الرواية عن المجهولين، وفيه من الشطح، والطامات، والدعاوى. والكلام الباطل، ما لا يحصى ولا يليق نسبة مثل ذلك إلى الشيخ عبد القادر رحمه الله.

ثم وجدت الكمال جعفر الأدفوي قد ذكر: أن الشطنوفي نفسه كان متهمًا فيما يحكيه في هذا الكتاب بعينه.

ومن أحسن ما في هذا الكتاب: ما ذكره المصنف عن قاضي القضاة أبي عبد الله محمد بن الشيخ العماد إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي، قال: سمعت شيخنا الشيخ موفق الدين بن قدامة يقول: دخلنا بغداد سنة إحدى وستين وخمسمائة فإذا الشيخ عبد القادر ممن انتهت إليه الرئاسة بها علمًا وعملاً ومالاً واستفتاء. وكان يكفي طالب العلم عن قصد غيره من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم، والصبر على المشتغلين، وسعة الصدر. وكان ملء العين، وجمع الله فيه أوصافًا جميلة، وأحوالاً عزيزة، وما رأيت بعده مثله.

وذكر فيه أيضًا بإسناده عن موسى ابن الشيخ عبد القادر، وقال: سمعت والدي يقول: خرجت في بعض سياحاتي إلى البرية ومكثت أيامًا لا أجد ماء، فاشتد بي العطش فأظلتني سحابة، ونزل عليِّ منها شيء يشبه الندى. فترويت به. ثم رأيت نورًا أضاء به الأفق، وبدت لي صورة، ونوديت منها: يا عبد القادر أنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات- أو قال: ما حرمت على غيرك- فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. اخسأ يا لعين، فإذا ذلك النور ظلام، وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني، وقال: يا عبد القادر، نجوت مني بعلمك بحكم ربك وفقهك في أحوال منازلاتك. ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق. فقلت: لربي الفضل والمنة. قال: فقيل له: كيف علمت أنه شيطان. قال: بقوله: وقد أحللت لك المحرمات. وهذه الحكاية مشهورة عن الشيخ عبد القادر، فلي الاعتماد فيها على نقل مصنف هذا الكتاب.

وذكر في هذا الكتاب أيضًا من طريق نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر عن أبيه، قال: جاءت فتيا من العجم إلى بغداد، بعد أن عرضت على علماء العراقيين، فلم يتضح لأحد فيها جواب شاف.

وصورتها: ما يقول السادة العلماء في رجل حلف بالطلاق الثلاث: أنه لا بد أن يعبد الله عز وجل عبادة ينفرد بها دون جميع الناس في وقت تلبسه بها. فما يفعل من العبادات? قال: فأتى بها إلى والدي، فكتب عليها على الفور: يأتي مكة، ويخلي له المطاف، ويطوف أسبوعًا وحده، وتنحل يمينه. قال: فما بات المستفتي ببغداد.

فأما الحكاية المعروفة عن الشيخ عبد القادر أنه قال: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله، فقد ساقها هذا المصنف عنه من طرق متعددة.

وأحسن ما قيل في هذا الكلام: ما ذكره الشيخ أبو حفص السهروردي في عوارفه: أنه من شطحات الشيخ التي لا يقتدي بهم فيها، ولا يقدح في مقاماتهم ومنازلهم، فكل أحد يؤخذ عليه من كلامه ويترك، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.

ومن ساق الشيوخ المتأخرين مساق الصدر الأول، وطالبهم بطرائقهم، وأراد منهم ما كان عليه الحسن البصري وأصحابه مثلاً من العلم العظيم، والعمل العظيم، والورع العظيم، والزهد العظيم، مع كمال الخوف والخشية، وإظهار الذل والحزن، والانكسار والازدراء على النفس، وكتمان الأحوال والمعارف، والمحبة والشوق ونحو ذلك- فلا ريب أنه يزدري المتأخرين، ويمقتهم، ويهضم حقوقهم. فالأولى تنزيل الناس منازلهم، وتوفيتهم حقوقهم، ومعرفة مقاديرهم، وإقامة معاذيرهم. وقد جعل اللّه لكل شيء قدرًا.

ولما كان الشيخ أبو الفرج بن الجوزي عظيم الخبرة بأحوال السلف، والصدر الأول، قل من كان في زمانه يساويه في معرفة ذلك. وكان له أيضاً حظ من ذوق أحوالهم، وقسط من مشاركتهم في معارفهم. كان لا يعذر المشايخ المتأخرين في طرائقهم المخالفة لطرائق المتقدمين، ويشتد إنكاره عليهم.

وقد قيل: إنه صنف كتابًا، ينقم فيه على الشيخ عبد القادر أشياء كثيرة، ولكن قد قل في هذا الزمان من له الخبرة التامة بأحوال الصدر الأول، والتمييز بين صحيح ما يذكر عنهم من سقيمه.

فأما من له مشاركة لهم في أذواقهم، فهو نادر النادر. وإنما يلهج أهل هذا الزمان بأحوال المتأخرين، ولا يميزون بين ما يصح عنهم من ذلك من غيره، فصاروا يخبطون خبط عشواء في ظلماء. واللّه المستعان.

وللشيخ عبد القادر رحمه الله تعالى كلام حسن في التوحيد، والصفات والقدر، وفي علوم المعرفة موافق للسنة.

وله كتاب "الغنية لطالبي طريق الحق" وهو معروف، وله كتاب "فتوح الغيب" وجمع أصحابه من مجالسه في الوعظ كثيرًا. وكان متمسكًا في مسائل الصفات، والقدر، ونحوهما بالسنة، بالغًا في الرد على من خالفها.

قال في كتابه "الغنية" المشهور: وهو بجهة اِلعلو مستو على العرش، محتو علىِ الملك محيط علمه بالأشياء "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه". فاطر: 10، "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون" السجدة: 15 ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش، كما قال "الرحمن على العرش استوى" طه: 5، وذكر آياتٍ وأحاديث، إلى أن قال: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش.

قال: وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، بلا كيف. وذكر كلامًا طويلاً، وذكر نحو هذا في سائر الصفات.

وذكر الشيخ أبو زكريا يحيى بن يوسف الصرصري، الشاعر المشهور، عن شيخه العارف علي بن إدريس: أنه سأل الشيخ عبد القادر، فقال: يا سيدي، هل كان للّه ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل. فقال: ما كان، ولا يكون.

وقد نظم ذلك الشيخ يحيى في قصيدته. قال الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: حدثني الشيخ عز الدين أحمد بن إبراهيم الفاروقي، أنه سمع الشيخ شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي، صاحب العوارف، قال: كنتُ قد عزمت على أن أقرأ شيئًا من علم الكلام، وأنا متردد: هل أقرأ الإرشاد لإمام الحرمين، أو نهاية الإقدام للشهرستاني، أو كتابًا آخر ذكره? فذهبت مع خالي أبي النجيب، وكان يصلي بجنب الشيخ عبد القادر قال: فالتفت الشيخ عبد القادر، وقال لي: يا عمر، ما هو من زادِ القبر، ما هو من زاد القبر، فرجعت عن ذلك.

قال الشيخ تقي الدين: ورأيت هذه الحكاية معلقة بخط الشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي رحمه الله. انتهى.

وقال ابن النجار في تاريخه: سمعت عمر بن محمد السهروردي، شيخ الصوفية يقول: كنت أتفقه في شبابي بالمدرسة النظامية، فخطر لي أن أقرأ شيئًا من علم الكلام، وعزمت على ذلك في نفسي من غير أن أتكلم به، واتفق أني صليت يوم الجمعة مع عمي أبي النجيب في الجامع، فحضر عنده الشيخ عبد القادر مسلمًا، فسأله عمي الدعاء لي، وذكر له أني مشتغل بالفقه، قال: وقمت وقبلت يده، فأخذ بيدي، وقال: تب مما عزمت على الاشتغال به، فإنك تفلح، ثم سكت وترك يدي، قال: ولم يتغير عزمي عن الاشتغال، حتى تشوشت عليَّ جميع أحوالي، وتكدر وقتي عليَّ، فعلمت أن ذلك لمخالفة الشيخ، قاد: فتبت إلى الله من ذلك اليوم، ورجعت عنه، فصلحت حالي، وطاب قلبي.

ونقلت من خط السيف بن المجد الحافظ: سمعت الشيخ الزاهد علي بن سلمان البغدادي، المعرف بالخباز برباطه بالجانب الغربي من بغداد، يحكي عن الشيخ عبد القادر الجيلي، وناهيك به، فإنه صاحب المكاشفات، والكرامات التي لم تنتقل لأحد من أهل عصره، أنه قال: لا يكون وليّ لله تعالى إلا على اعتقاد أحمد رضي الله عنه.

قال الحافظ بن النجار: كتب إلى عبد الله بن أبي الحسن الجبالي، نقلته من خطه قال: كان شيخنا عبد القادر الجيلي يقول: الخلق حجابك عن نفسك، ونفسك حجابك عن ربك. ما دمت ترى الخلق لا ترى نفسك، وما دمت ترى نفسك لا ترى ربك. وقال: ما ثَمَّ إلا خلق وخالق، فإن اخترت الخالق فقل كما قال: "فإنهم عدو لي إلا رب العالمين" الشعراء: 77، ثم قال: من ذاقه فقد عرفه، فاعترضه سائل، فقال: يا سيدي، من غلبت عليه مرارة الصفراء كيف يجد حلاوة الذوق? قال: يتعمد قيء الشهوات من قلبه، وقال: طالبتني نفسي يومًا بشهوة من السوق، فكنت أدافعها، وأخرج من عرب إلى عرب، وأطلب الصحارى. فبينا أنا أمشي إذ رأيت ورقة فأخذتها، فإذا فيها مكتوب: ما للأقوياء والشهوات? إنما هي للضعفاء من عبادي، ليتقووا بها على طاعتي. فخرجت تلك الشهوة من قلبي.

قال: وكنت أقتات بخرنوب الشوك، وقمامة البقل، وورق الخس من جانب النهر والشط، وبلغت الضائقة في غلاء نزل ببغداد إلى أن بقيت أيامًا لم آكل فيها طعامًا، بل كنت أتتبع المنبوذات أطعمها، فخرجت يومًا من شدة الجوع إلى الشط لعلي أجد ورق الخس أو البقل، أو غير ذلك فأتقوت به. فما ذهبت إلى موضع إلا وغيري قد سبقني إليه وإن وجدت أجد الفقراء يتزاحمون عليه فأتركه حبًا، فرجعت أمشي وسط البلد أدرك منبوذًا إلا وقد سبقت إليه، حتى وصلت إلى مسجد ياسين بسوق الريحانيين ببغداد وقد أجهدني الضعف، وعجزت عن التماسك، فدخلت إليه وقعدت في جانب منه وقد كدت أصافح الموت، إذ دخل شاب أعجمي ومعه خبز صافي وشواء، وجلس يأكل، فكنت أكاد كلما رفع يده باللقحة أن أفتح فمي من شدة الجوع، حتى أنكرت ذلك على نفسي: فقلت ما هذا. وقلت: ما ههنا إلا الله، أو ما قضاه من الموت، إذ التفت إلى العجمي فرآني، فقال: بسم الله يا أخي، فأبيت، فأقسم عليّ فبادرت نفسي فخالفتها، فأقسم أيضًا، فأجبته، فكلت متقاصرًا، فأخذ يسألني: ما شغلك. ومن أين أنت. وبمن تعرف? فقلت: أنا متفقه من جيلان. فقال: وأنا من جيلان فهل تعرف شابًا جيلانيًا يسمى عبد القادر يعرف بسبط أبي عبد الله الصومعي الزاهد? فقلت: أنا هو فاضطرب وتغير وجهه، وقال: واللّه لقد وصلت إلى بغداد، معي بقية نفقة لي، فسألت عنك فلم يرشدني أحد ونفذت عقتي، ولي ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي، إلا مما كان لك معي، وقد حلت لي الميتة، وأخذت من وديعتك هذا الخبز والشواء، فكل طيبًا، فإنما هو لك، وأنا ضيفك الآن، بعد أن كنت ضيفي، فقلت له: وما ذاك. فقال: أمك وجهت لك معي ثمانية دنانير، فاشتريت منها هذا للاضطرار، فأنا معتذر إليك، فسكّته، وطيبت نفسه، ودفعت إليه باقي الطعام، وشيئًا من الذهب برسم النفقة، فقبله وانصرف.

قال: وكنت أعامل بقليًا كل يوم برغيف وبقل، فبقي له عليّ، فضقت، وما أقدر على ما أوفيه، فقيل لي: امض إلى المكان الفلاني، فمضيت، فوجدت قطعة ذهب، فوفيت بها البقلي. فكنت أشتغل بالعلم، فيطرقني الحال، فأخرج إلى الصحارى، ليلاً أو نهارًا، فأصرخ، وأهج على وجهي، فصرخت ليلة، فسمعني العبارون، ففزعوا، وجاءوا فعرفوني، فقالوا: عبد القادر المجنون، أفزعتنا، وكان ربما أغشى عليَّ، فيغسلوني، ويحسبون أني مت من الحال التي تطرقني، وربما أردت الخروج من بغداد، فيقال لي: ارجع: فإن للناس فيك منفعة.

وذكر عن ابن الخشاب، قال: كنت أشتغل بالعربية، وأسمع بمجلس عبد القادر، فلا أتفرغ له، فجئت يومًا فسمعته، ثم قلت: ضاع اليوم مني، فقال على المنبر: ويلك، تفضل الاشتغال بالنحو على مجالس الذكر، وتختار ذلك. اصحبنا، نصيرك سيبويه، فقلت: إنه يعنيني بكلامه، أو كما قال.

قال ابن النجار: وسمعت أبا محمد الأخفش يقول: كنت أدخل على الشيخ عبد القادر في وسط الشتاء وقوة برده، وعليه قميص واحد، وعلى رأسه طاقية، والعرق يخرج من جسده، وحوله من يروحه، بالمروحة كما يكون في شدة الحر. وأخبار الشيخ عبد القادر كثيرة. اقتصرنا منها على هذا.

قال ابن الجوزي: توفي الشيخ عبد القادر، ليلة السبت ثامن- وقال غيره: تاسع- ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائة بعد المغرب. ودفن من وقته بمدرستة. وبلغ تسعين سنة.

وسمعت أنه كان يقول عند موته: رفقًا رفقًا. ثم يقول: وعليكم السلام، وعليكم السلام. أجيء إليكم، أجيء إليكم.

وسمعت من يحكي أنه قال عند موته: أنا شيخ كبير، ما وعدنا بهذا. قال غيره: صلى عليه ولده عبد الوهاب. وقبره ظاهر يزار بمدرسته ببغداد. رحمه الله تعالى.

ورثاه نصر النميري- غداة دفنه- بقصيدة أولها:

مشكل الأمر ذا الصباح الجـديد

 

ما له ذاك السنا الـمـعـهـود

ومرامي الأبصار من كل قطر

 

مظلمات على النواظـر سـود

مطلع الشمس فيه داج كأن قـد

 

كورت، أو أتى عليها خـمـود

أترى حلت المنون بمحي الـدين

 

حقاً، فما لـنـوره خـمـود?

ما أرى الأمر غير ذاك، ولـن

 

يوجد صبر ومثلـه مـفـقـود

ذو المقام العلي فـي الـزهـد

 

لا ينكر قول المحب فيه الحسود

والفـقـيه الـذي تـعـذر أن

 

يلقى له في الورى جميعاً نـديد

تترامى إليه في العلـم بـالـلّـه

 

وبالحكم في الفتـاوى الـوفـود

معرض الطرف والـضـمـير

 

عن الدنيا تصدى لوصله وتحـيد

مخلص في جميع أعمالـه لـلـه

 

ما إن عـلـيه فـيهـا مــزيد

لم يزغ عن طـريقة الـسـلـف

 

الصالح والمقتفي بهم مسـعـود

ورع كامـل، وزهـد صـحـيح

 

وتقى وافـر، وعـهـد وكـيد

وكلام يروق كالـدر نـاطـقـه

 

بأعناقهـا الـحـسـان الـغـيد

أو كنور الربيع أبداه للإبـصـار

 

بالأبـرقـين روض مـجــود

تخشع القلب عنده، ويظل الدمـع

 

يجري، وتقشـعـر الـجـلـود

واعتقاد مع غيره لـيس يرضـى

 

عملاً من عبـادة الـمـعـبـود

يلتقي النجح ملتقـيه، ويعـطـي

 

عنده غاية الـمـراد الـمـريد

حال من دونه الحمام، فـلـلـدين

 

خمول، ولـلـعـلـى تـبـديد

ولعمري لقد مضى، وهو عند الله

 

والناس كـلـهـم مـحـمـود

طيب الذكر والأحاديث لم يدنـس

 

بلـؤم رداؤه والـــبـــرود

شكت المكرمات لما تشكى ومض

 

ى إذ مضى التقـى والـجـود

هذه نكبة تساوي قريب الناس في

 

شرب كـأسـهـا والـبـعـيد

بكت الأرض والسموات فيها أسفاً

 

واعـتـرى الـنـسـيم ركـود

وقليل إن أضحت عندها الأرض

 

بما فوق منـكـبـيهـا تـمـيد

مات من كانت الأقاليم تـسـقـي

 

الغيث أغوارها به والـنـجـود

ولو أن النفوس تفدى لمـا مـات

 

ومنا على الـثـرى مـوجـود

سيد الأولياء في الشرق والغـرب

 

وبحر الفـضـائل الـمـورود

وذكر باقي القصيدة. وله فيه مرثية أخرى.

قرأت على أبي العباس أحمد بن محمد بن سلمان الحنبلي ببغداد: أخبركم أبو الحسن علي بن ثامر بن حصين، أخبرنا أبو طالب عبد اللطيف بن محمد القطيعي وقرأت على أبي الفضل محمد بن إسماعيل بن الحموي بدمشق: أخبركم أبو إسحاق إبراهيم بن علي الواسطي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الفقيه وأبو طالب بن القطيعي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، أخبرنا أبو غالب محمد بن الحسن بن أحمد الباقلاني، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان، أخبرنا أحمد- يعني ابن سلمان- النجاد، حدثنا الحسن- يعني ابن مكرم- حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا يونس عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه، قال: "قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا أراد سفرًا إلا يوم الخميس".

أحمد بن عمر بن الحسين بن خلف القطيعي، الفقيه، الواعظ، أبو العباس:

ولد سنة اثنتي عشرة وخمسمائة تقريبًا.

سمع الحديث بنفسه- بعدما كبر- من عبد الخالق بن يوسف، والفضل بن سهل الإسفرايني، وأبي منصور القزاز، وابن ناصر الحافظ، وغيرهم وتفقه على القاضي أبي يعلى ابن القاضي أبي خازم، ولازمه حتى برع في الفقه، وأفتى وناظر، ووعظ، ودرس بمدرسة ابن البل بالريان، ووعظ بها أيضًا، وأشغل الطلبة، وأفاد.

قال أبو الفضل بن شافع: كان فقيهًا مفتيًا، ذكريًا فطريًا، قد تأدب، وقرأ التفسير، ووعظ. وكان اعتقاده جيدًا.

وقال ابن النجار: برع في الفقه، وتكلكل في مسائل الخلاف. وكان حسن المناظرة، جريئًا في الجدال، ويعظ الناس على المنبر.

توفي يوم الأربعاء ثامن عشر رمضان سنة ثلاث وستين وخمسمائة، ودفن بالحلية شرقي بغداد، وهو والد أبي الحسن القطيعي، صاحب التاريخ، ولم يسمع من والده هذا إلا حديثًا واحدًا، وذكر أن له مصنفات كثيرة.

قلت: منها: كتاب "النحول، في أسباب النزول".

هبة الله بن أبي عبد الله بن كامل بن حبيش البغدادي

الصوفي، الفقيه أبو علي: سمع الحديث من القاضي أبي بكر بن عبد الباقي، وغيره. وتفقه على أبي يعلى بن القاضي، وتقدم في رباط بدرزيحان على جماعة المتصوفة. وكان من أهل الدين.

وتوفي في المحرم سنة ثلاث وستين وخمسمائة. ودفن بمقبرة أحمد، قريبًا من بشر الحافي.

وذكره ابن الجوزي، وابن القطيعي.

سعد الله بن نصر بن سعيد، المعروف بابن الدجاجي، وبابن الحيواني

الفقيه الواعظ المقرىء الصوفي، الأديب أبو الحسن، ويلقب بمهذب الدين: ولد في أول رجب، سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة.

وقرأ بالروايات على أبي الخطاب بن الجراح، وأبي منصور الخياط، وسمع منهما، من أبي الخطاب الكلوذاني، وأبي الحسن بن العلاف، وأبي القاسم بن بيان، وابن الطيوري، وأبي الغنائم النرسي، وغيرهم. وتفقه على أبي الخطاب حتى برع.

وقد روي عنه كتابه "الهداية" تصنيفه، وقصيدته في السنة وغيرها.

وروي عن ابن عقيل كتاب "الانتصار لأهل السنة والحديث".

قال ابن الخشاب: هو فقيه، واعظ حسن الطريقة، سمعت منه.

قال ابن الجوزي: تفقه، وناظر، ودرس، ووعظ. وكان لطيف الكلام، حلو الإيراد، ملازمًا لمطالعة العلم، إلى أن مات.

وقال ابن نقطة: شيخ فاضل صحيح السماع، حدثنا عنه جماعة من شيوخنا. وكان ثقة.

وقال صدقة بن الحسين في تاريخه: كان شيخًا حسنًا، تفقه على أبي الخطاب وكان من أصحاب أبي بكر الدينوري. وكان يعظ، ويقرىء القرآن، ويسمع الحديث.

قال ابن النجار: كان من أعيان الفقهاء الفضلاء، وشيوخ الوعاظ النبلاء، مليح الوعظ، حسن الإيراد، حلو العبارة، حسن النثر والنظم. وكان يخالط الصوفية، ويحضر معهم سماع الغناء. وكان من ظراف المشايخ.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين المقدسي. فقال: كان شيخًا حسنًا، من فقهاء أصحابنا ووعاظهم، صحب أبا الخطاب، وابن عقيل، وروى عنهما، سمعنا عليه.

قال ابن الجوزي: أنبأنا سعد اللّه بن نصر، قال: كنت خائفًا من الخليفة لحادث نزل، فأغفيت، فرأيت في المنام كأني في غرفة أكتب شيئًا، فجاء رجل فوقف بإزائي، وقال: اكتب ما أملي عليك، وأنشد:

ادفع بصـبـرك حـادث الأيام

 

وترج لطف الواحد الـعـلام

لا تيأسن وإن تضايق كربـهـا

 

ورماك ريب صروفها بسهـام

وله تعالى بـين ذلـك فـرجة

 

تخفى عن الأبصار والأوهـام

كم من نجا من بين أطراف القنا

 

وفريسة سلمت من الضرغـام

قال ابن الجوزي: وسئل في مجلس وعظه- وأنا أسمع- عن أخبار الصفات. فنهى عن التعرض لها، وأمرنا بالتسليم، وأنشد:

أبي العاتب الغضبان يا نفس أن يرض

 

ى وأنت التي صيرت طاعته فرضا

فلا تهجري من لا تطيقين هـجـره

 

وإن هم بالهجران خديك والأرضـا

قال ابن القطيعي: وأنشدني أحمد بن أبي السرايا، قال: أنشدني سعد الله بن الدجاجي لنفسه:

ملكتم مهجتي بيعاً ومـقـدرة

 

فأنتم اليوم أغلالي وأغلالـي

علت فخرًا ولكني ضنيت هوًى

 

فأنتم اليوم أعلالي وأعلالـي

وزاد غير ابن القطيعي في روايته بيتًا ثالثًا:

أوصى لي البين أن أشقى بحبكم

 

فقطع البين أوصالي وأوصالي

ومن شعره أيضًا رحمه الله:

لي لذة في ذلتـي وخـضـوعـي

 

وأحب بين يديك سفـك دمـوعـي

وتضرعي في رأي عـينـك راحة

 

لي من جوى قد كنّ بين ضلوعـي

ما الذل للمحبوب في حكم الهـوى

 

عار، ولا جور الـهـوى بـبـديع

هبني أسأت، فأين عفـوك سـيدي

 

عمن رجاك لقلبه الـمـوجـوع?

جد بالرضى من عطف لطفك واغن

 

ه بجمال وجهك عن سؤال شفـيع

قال ابن القطيعي: كان ابن الدجاجي، قد ناظر ووعظ، وأفتى وصنف، له فضل ودين وخاطر بغدادي. بلغني أنه حضر بالديوان العزيز وجماعة من الفقهاء فاستدل شخص بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال ابن البغدادي الحنفي: هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الخصم: قد أخرجه البخاري ومسلم، فقال ابن البغدادي: قد طعن فيهما أبو حنيفة، فقال ابن الدجاجي: هل كان مع أبي حنيفة ملحمة?.

وقد قرأ بالروايات، وحدث، وسمع منه خلق كثير.

وروى عنه ابنه أبو نصر محمد، وابن الأخضر، وابن سكينة، والشيخ موفق الدين، وابن عماد الحراني، والأنجب الحمامي، وغيرهم.

توفي آخر نهار يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من شعبان سنة أربع وستين وخمسمائة، ودفن من الغد إلى جانب رباط الزوزني بمقبرة الرباط.

قال ابن الجوزي: دفن هناك إرضاء للصوفية لأنه أقام عندهم مدة في حياته فبقي على ذلك خمسة أيام، وما زال الحنابلة يلومون ولده على هذا، يقولون: مثل هذا الرجل الحنبلي أي شيء يصنع عند الصوفية. فنبشه بعد خمسة أيام بالليل.

قال: وكان أوصى أن يدفن عند والديه. ودفن عليهما بمقبرة الإمام أحمد رضي الله عنه.

محمد بن المبارك بن الحسين بن إسماعيل البغدادي

الفقيه القاضي أبو بكر بن أبي البركات، المعروف بابن الحضري: ذكره ابن الجوزي، وقال: صديقنا.

ولد سنة عشر وخمسمائة.

وقرأ القرآن، وسمع الحديث من أبي عبد الله يحيى بن البنا، وأبي بكر بن عبد الباقي، وغيرهم. وتفقه على القاضي أبي يعلى، وناظر. وولي القضاء بقرية عبد الله من واسط.

وذكر القطيعي: أنه روى عن أبي بكر المزرفي، وأبي الحسن علي بن محمد الهروي، وأبي جعفر السمناني، وأبي منصور بن خيرون، وغيرهم.

وسمع منه بعض الطلبة، وناظر، ودرس وأفتى.

قال: وجرى ذكره يومًا عند الوزير أبي المظفر بن يونس- عنده الفقهاء والعلماء على اختلاف مذاهبهم- فأثنى عليه خيرًا. فاستكثر بعض الحاضرين ذلك الثناء، فقال الوزير: والله لقد كان أدين مني فإنه كان يصلي بمسجده، ثم يقرأ عليه القرآن والفقه من بكرة إلى وقت الضحى، ثم يدخل إلى منزله فيتشاغل بالعلم إلى أن يعود إلى مسجده، دائمًا لا يقطع زمانه إلا بطاعة.

توفي رحمه اللَه تعالى فجأة في شهر رجب سنة أربع وستين وخمسمائة. ودفن بمقبرة الزرادين من باب الأزج.

وقد روى عنه ابن الجوزي منامًا رآه لشيخه ابن ناصر. وقد ذكرناه في ترجمته.

عثمان بن مرزوق بن حميد بن سلام القرشي

الفقيه، العارف، الزاهد، أبو عمرو. نزيل الديار المصرية: صحب شرف الإسلام عبد الوهاب بن الجيلي بدمشق، وتفقه واستوطن مصر وأقام بها إلى أن مات، وأفتى بها ودرس وناظر، وتكلم على المعارف والحقائق. وانتهت إليه تربية المريدين بمصر. وانتمى إليه خلق كثير من الصلحاء، وأثنى عليه المشايخ، وحصل له قبول تام من الخاص والعام، وانتفع بصحبته خلق كثير.

وكان يعظم الشيخ عبد القادر، ويقال: إنه اجتمع به هو وأبو مدين بعرفات ولبسا منه الخرقة، وسمعا منه جزءًا من مروياته. وسمع الحديث ورواه.

حدث عنه أبو الثناء محمود بن عبد الله بن مطروح المقرىء الجيلي، وأبو الثناء أحمد بن ميسرة بن أحمد بن موسى بن غنام الغمراني الحنبلي المصري الكامخي. وكانا صالحين. وكان الأول مقرئاً، حسن التلفظ بالقرآن. وكان الثاني كثير الذكر والتسبيح. حدث عنه المنذري. قرأ على الأول القرآن. وكان الشيخ أبو عمرو له كرامات، وأحوال ومقامات، وكلام حسن على لسان أهل الطريقة.

فمن ذلك قوله: الطريق إلى معرفة اللّه وصفاته: الفكر، والاعتبار بحكمه. وآياته، ولا سبيل للألباب إلى معرفة كنه ذاته. ولو تناهت الحكم الإلهية في حد العقول، وانحصرت القدر الربانية في درك العلوم. لكان ذلك تقصيرًا في الحكمة، ونقصًا في القدرة، لكن احتجبت أسرار الأزل عن العقول، كما احتجبت سبحات الجلال عن الأبصار. فقد رجع معنى الوصف في الوصف، وعمي الفهم عن الدرك، ودار الملك في الملك، وانتهى المخلوق إلى مثله، واشتد الطلب إلى شكله "وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا" طه: 108.

فجميع المخلوقات من الذرة إلى العرش سبل متصلة إلى معرفته، وحجج بالغة على أزليته، والكون جميعه ألسن ناطقة بوحدانيته، والعالم كله كتاب يقرأ حروف أشخاصه المتبصرون على قدر بصائرهم.

ومن كلامه أيضًا: من لم يجد في قلبه زاجرًا فهو خراب. ومن عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه. ومن لم يصبر على صحبة مولاه ابتلاه بصحبة العبيد. ومن انقطعت آماله إلا من مولاه فهو عبد حقيقة. والدعوى من رعونة النفس، واستلذاذ البلاء تحقق بالرضا، وحلية العارف الخشية والهيبة. وإياكم ومحاكاة أصحاب الأحوال قبل إحكام الطريق، وتمكن الأقدام فإنها تقطع بكم. ودليل تخليطك صحبتك للمخلطين. ودليل وحشتك أنسك بالمستوحشين.

وكان يتمثل بهذه الأبيات:

يا غارس الحب بين القلب والكبد

 

هتكت بالصّد ستر الصبر والجلد

يا من تقوم مقام الموت فرقـتـه

 

ومن يحل محل الروح في الجسد

قد جاوز الحب في أعلا مراتبـه

 

فلو طلبت مزيداً منه لـم أجـد

إذا دعى الناس قلبي عنك مال بـه

 

حسن الرجاء، فلم يصدر ولم يرد

إن ترضني لم أرد ما دمت لي بدلاً

 

وإن تغيرت لم أسكن إلـى أحـد

وحكي عن الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن مرسيل الضرير، الفقيه الشافعي الزاهد رحمه اللّه تعالى، قال: كان الشيخ أبو عمرو بن مرزوق، من أوتاد مصر. كان شائع الذكر، ظاهر الكرامات. زاد النيل سنة زيادة عظيمة، كادت مصر تغرق، وأقام على الأرض، حتى كاد وقت الزرع يفوت، فضج الناس بالشيخ أبي عمرو بن مرزوق بسبب ذلك، فأتى إلى شاطىء النيل، وتوضأ منه، فنقص في الحال نحو ذراعين، ونزل عن الأرض حتى انكشفت، وزرع الناس في اليوم الثاني.

قال: وفي بعض السنين لم يطلع النيل ألبتة، وفاضت أكثر وقت زراعته. وغلت الأسعار وظن الهلاك، وضجوا بالشيخ أبي عمرو بن مرزوق، فجاء إلى شاطىء النيل، وتوضأ فيه بإبريق كان مع خادمه، فزاد النيل في ذلك اليوم. وتعاقبت زيادته إلى أن انتهت إلى حده. وبلغ الله به المنافع، وبارك في زرع الناس تلك السنة.

قرأت بخط الشيخ ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن الحنبلي قال: حكى لي الشيخ زين الدين عليّ بن نجا. قال: زرت الشيخ عثمان بن مرزوق- بمصر- فقال: يجيء أسد الدين شيركوه إلى هذه البلاد ويروح، ولا يحصل له شيء، ثم يعود يجيء ويروح، ولا يأخذ البلد، ثم يجيء فيأخذ- ما أدري قال في الثالثة أو الرابعة.- فيملك مصر، فجرى الأمر كما ذكر.

فقلت له: يا سيدي من أين لك هذا? فقال: والله يا ولدي ما أعلم الغيب وإنما لي عادة: أن أرى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أراه في بعض الجمع، فيخبرني، قلت: لعله أراد في المنام.

قال الناصح: وسمعت خادم الشيخ عثمان بن مرزوق، وكان يعرف بسيف السنة، وعليه آثار الصلاح، وقال له زين الدين بن نجا: أتعرف الأبيات التي أنشدت تلك الليلة بحضرة الشيخ عثمان بن مرزوق، فسمع وبكى. قال: نعم، قال: قلها، فقال:

فديت من واصلني مختفياً في وصـلـه

 

كنا على وعد فما كـدره بـمـطـلـه

وعاد عندي كله مشـتـغـلاً بـكـلـه

 

ما خلت أن يصلح مثلي في الهوى لمثله

وإنما جاد عليّ منعـمـاً بـفـضـلـه

 

ولم أكن أهلاً له لكنـه مـن أهـلـه

وذكر الناصح في ترجمة ولد الشيخ أبي عمرو بن مرزوق سعد- وسنذكره في موضعه إن شاء اللّه تعالى-: أن والده- يعني الشيخ: أبا عمرو- كان يذكر عنه أنه كان يقول في أفعال العباد: إنها غير مخلوقة.

وكذا حكى ابن القطيعي في تاريخه، قال: حكى لي أبو محمد بن سعيد البزار التاجر، قال: كنت بمصر ووقع بها فتنة بين والد الشيخ سعد- يعني عثمان بن مرزوق- وبين الكيزاني، وتلك الفتنة كانت سبب قدوم سعد إلى بغداد، فقلت له: ما كانت. فقال: كان عثمان بن مرزوق يقول: أفعال العباد قديمة، وكان له بمصر قبول، وبمصر يومئذ رجل آخر له قبول، يعرف بابن الكيزاني، أبو عبد الله يقول: ليست قديمة، فثارت الفتن، فقالوا: طريق الحق أن تكتب إلى بغداد في ذلك، فكتبوا إلى علماء بغداد، فأفتوهم على اختلاف مذاهبهم بحدثها، فقال سعد- يعني: ابن الشيخ عثمان بن مرزق-: الآن قد شككت في هذا الأمر، والمكتوب لا يقلد، ولا بد من المضي إلى بغداد، وأسمع مقالة العلماء، وأعود أخبر أبي بذلك، فدخل بغداد، وسمع مقالة العلماء، فمات أبوه بمصر وبلغه وفاته، فأقام ببغداد.

قلت: وذكر أبو المظفر سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان: أن أبا عبد الله بن الكيزاني كان يقول: إن أفعال العباد قديمة، فحينئذ فقد اختلف في نسبة هذا القول: هل هو إلى ابن الكيزاني، أو إلى ابن مرزوق، ولم يثبت لنا من وجه صحيح عن ابن مرزوق أنه كان يقول ذلك، ولعل ذلك ألزموه به لقوله: إن اللفظ بالقرآن غير مخلوق، وإن هذا القول يقوله طائفة من أصحابنا، وربما نسبوه إلى الإمام أحمد.

والصحيح الصريح عن أحمد: أنه كان يبدع قائل ذلك، ولعله لما التزم هذا القول الضعيف طرده في سائر الأفعال. والله أعلم بحقيقة الحال.

ثم وجدت لأبي عمرو بن مرزوق مصنفات في أصول الدين، ورأيته يقول: إن الإيمان غير مخلوق، أقواله وأفعاله، وإن حركات العباد مخلوقة، لكن القديم يظهر فيها كظهور الكلام في ألفاظ العباد.

وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى: وثمَّ جماعات منتسبون إلى الشيخ أبي عمرو بن مرزوق، ويقولون أشياء مخالفة لما كان الشيخ أبو عمرو عليه، وهذا الشيخ كان ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد، وكان من أصحاب الشيخ عبد الوهاب ابن الشيخ أبي الفرج، وهؤلاء ينتسبون إلى مذهب الشافعي، ويقولون أقوالاً مخالفة لمذهب الشافعي وأحمد، بل ولسائر أئمة المسلمين، ولشيخهم الشيخ أبي عمرو. وهذا الشيخ أبو عمرو: شيخ من شيوخ أهل العلم والدين، وله أسوة أمثاله، وإذا قال قولاً قد علم أن قول أحمد والشافعي بخلافه، وجب تقديم قول الشافعي وأحمد على قوله، مع دلالة الكتاب والسنة على قول الأئمة، فكيف إذا كان القول مخالفًا لقوله، ولقول الأئمة، وللكتاب والسنة? وذلك مثل قولهم: لا نقطع، ولا نقول قطعًا، ويقولون: نشهد أن محمدًا رسول الله، ولا نقطع ونقول: السماء فوقنا، والأرض تحتنا، ولا نقطع بذلك، ويروون في ذلك أثرًا عن علي، أو حديثًا مرفوعًا، وهو من الكذب المفترى.

قال: وأصل شبههم: أن السلف كانوا يستثنون في الإيمان، فيقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء اللّه تعالى، وعلى ذلك كان أهل الثغر- عسقلان، وما يقرب منها- فإنه كان قد سكنها محمد بن يوسف الفريابي، وكان يأمر بذلك، وكان شديدًا على المرجئة، وعامة هؤلاء القوم جيران عسقلان، ثم صار كثير منهم يستثنى في الأعمال الصالحة، فيقول: صليت إن شاء الله، وهو يخاف أن لا يكون أتى بالصلاة كما أمر، ولا تقبلت منه، فيستثنى خوفًا من ذلك.

وصنف في ذلك بعض أهل الثغر مصنفًا، وشيخهم أبو عمرو بن مرزوق، غايته أن يتبع هؤلاء، ولم يكن الرجل ولا أحد قبله من أهل العلم يمتنعون أن يقولوا: لما يعلم أنه موجود: هذا موجود قطعًا، لكن لما مات أحدث بعض أتباعه الاستثناء في كل شيء، حتى في الإخبار عن الماضي والحاضر.

وقد نقل عن بعض الشيوخ: أنه كان يستثني في كل شيء، كأنه- والله أعلم- في الخبر عن الأمور المستقبلة، لقوله تعالى "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين" الفتح: 27، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" وصاروا يمتنعون عن التلفظ بالقطع مع أنهم محقون بقلوبهم أن محمداً رسول الله ولا يشكون في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن يكرهون لفظ القطع. وهذا جهل منهم. والواجب عليهم موافقة جماعة المسلمين.

فإن قول القائل: أقطع بذلك، مثل قوله: أشهد بذلك وأجزم وأعلم بذلك وأطال الشيخ الكلام في ذلك.

توفي الشيخ أبو عمرو بن مرزوق بمصر سنة أربع وستين وخمسمائة. وقد جاوز السبعين. ودفن بالقرافة، شرقي في الشافعي رضي اللّه عنه، وقبره ظاهر يزار، رحمه اللّه.

أحمد بن صالح بن شافع بن صالح بن حاتم بن أبي عبد الله الجيلي

الحافظ أبو الفضل بن أبي المعالي بن أبي محمد، مفيد العراق. وقد تقدم ذكر أبيه وجده: ولد في ثامن عشر ذي القعدة، سنة عشرين وخمسمائة.

وقرأ القرآن بالروايات على أبي محمد سبط الخياط وغيره، وبكر به أبوه في سماع الحديث، فأسمعه من أبي غالب بن البناء، وأبي الحسين بن الفراء، والقاضي أبي بكر الأنصاري، وأبي القاسم الحريري، وأبي البدر الكرخي، وأبي الحسن بن عبد السلام، ووالده صالح بن شافع، وخلق كثير.

وطلب هو بنفسه، ولازم أبا الفضل بن ناصر الحافظ، حتى قرأ عليه كثر ما كان عنده، واختص بصحبته وكان يقتفي أثره، ويسلك مسلكه، ثم أكثر الأخذ عن أصحاب ابن البطر، وطراد، وطبقتهما.

وبالغ في الطلب حتى سمع من أصحاب ابن بيان، وابن نبهان، ثم من أصحاب ابن الحصين، وابن كادش، وطبقتهما، ولم يزل مشتغلاً بالطلب والسماع، إلى أن مات. وكتب بخطه الكثير، وحصل الأصول الحسان، ولم يحدث إلا باليسيرة لأنه مات قبل أوان الرواية.

قال ابن النجار: كان حافظًا، متقنًا، ضابطًا محققًا، حسن القراءة، صحيح النقل، ثبتًا حجة، نبيلاً ورعًا، متدينًا تقيًا، متمسكاً بالسنة على طريقة السلف. وصنف تاريخًا على السنين، بدأ فيه بالسنة التي توفي فيها أبو بكر الخطيب، وهي سنة ثلاث وستين وأربعمائة، إلى بعد الستين وخمسمائة، يذكر السنة وحوادثها، ومن توفي فيها، ويشرح أحوالهم. ومات ولم يبيضه.

وقد نقلت عنه من هذا الكتاب كثيرًا، يعني ابن النجار بهذا الكتاب: تاريخه المذيل على تاريخ بغداد.

قلت: وأنا فقد نقلت من تاريخ ابن شافع في هذا الكتاب فوائد مما وقع لي منه، فإنه وقع لي منه عدة أجزاء من منتخبه لابن نقطة.

وقد ذكره ابن نقطة في كتابه "الاستدراك" ونعتة بالحافظ. وقال: كان موصوفًا بحسن القراءة للحديث. وكان صالحًا ثقة مأمونًا. وقال في موضع آخر منه: هو متقن.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين المقدسي? فقال: كان حافظًا ثقة يقراً الحديث قراءة حسنة مبينة صحيحة بصوت رفيع إمام في السنة. وكان شاهدًا معدلاً. بلغني أنه دعي إلى الشهادة للخليفة بما لا يجوز، فامتنع من الشهادة، وطرح الطيلسان، وقال: ما لكم عندنا إلا هذا.

قال ابن النجار: أنشدني عبد الوهاب بن علي الأمين أنشدني أبو الفضل بن شافع:

في زخرف القول تزيين لباطله

 

والقول قد يعتريه سوء تعبـير

يقول: هذا مُجاج النحل تمدحـه

 

وإن تعب قلت: هذا قيء زنبور

مدحًا وذمًا وما جاوزت وصفهما

 

حسن البيان يرى الظلماء كالنور

توفي يوم الأربعاء بعد الظهر ثالث شعبان سنة خمس وستين وخمسمائة.

وكان مرضه البرسام والسرسام ستة أيام، وأسكت منها ثلاثة أيام، وشُدّ تابوته بالحبال، وصلى عليه خلق كثير. ودفن على أبيه في دكة قبر الإمام أحمد رضي الله عنه.

علي بن بردواق بن زيد بن الحسين بن سعيد بن عصمة بن حمير الكندي البغدادي

النحوي الأديب، شمس الدين أبو الحسن، ابن عم الشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد: سمع ببغداد. وقرأ وكتب الطباق بخطه على يحيى بن البنا وغيره ويغلب على ظني: أني وقفت على قراءته للهداية على الشيخ عبد القادر.

وقرأ النحو واللغة على ابن الجواليقي. ثم قدم دمشق، وأدرك شرف الإسلام بن الحنبلي وصحبه. وكان فاضلاً أديبًا، حسن الخط. كتب بخطه كثيرًا من الأدب. ومن دواوين العرب، وحظي عند السلطان نور الدين.

قرأت بخط أبي الفرج بن الحنبلي: كان عارفًا بالنحو واللغة. قيل: كان أعلم بها من ابن عمه أبي اليمن، ويقول الشعر، وهو حنبلي من أهل السنة. وكتب من الدقائق والكلام الوعظي الكثير، وطلب من شرف الإسلام أن يجلس بمدرسته للوعظ، فأذن له في ذلك، فغلبه الحياء، فلم يتمكن من الإيراد، ثم نزل وترك الوعظ.

قلت: توفي سنة خمس وستين وخمسمائة بدمشق.

ومن شعره:

هتك الدمع بصوت هـتـف

 

كلما أضمرت من سر خفيّ

يا أخلائي على الخيف، أمـا

 

تتقون الله في حث المطـيّ

وله أيضًا:

درت عليك غوادي المزن يا دار

 

ولا عفت مـنـك آيات وآثـار

دعا من لعبت أيدي الغرام بـه

 

وساعدتها صبابـات وتـذكـار

وقصد بعض الأكابر مرة فلم يصادفه، فكتب على باب داره حفرًا بسكين:

حضر الكندي مغناكم فلـم

 

يركم من بعد كد وتـعـب

لو رآكم لتجـلـى هـمـه

 

وانثنى عنكم بحسن المنقلب

محمد بن حامد بن حمد بن عبد الواحد بن علي بن أبي مسلم الأصبهاني

الواعظ الحنبلي، أبو سعيد. ويعرف بسرمس: سمع أبا مسعود محمد بن عبد الله السودرجاني، وأبا مطيع المصري، والدرني، ويحيى بن منده، وجماعة. وببغداد أبا القاسم بن السمرقندي.

وكتب بخطه، وحدث ببغداد وغيرها.

وكان من أعيان الوعاظ. وله القبول التام عند العوام.

توفي في سلخ شعبان سنة ست وستين وخمسمائة. ودفن بمقبرة برديان في جوار قبر الإمام أبي مسعود الرازي.

النفيس بن مسعود بن أبي سعد بن علي، المعروف بأبي صعوه السلامي

الفقيه أبو محمد: قرأ القرآن. وتفقه على أبي الفتح بن المنى، ووعظ.

واحتضر في شبابه، فتوفي يوم الثلاثاء تاسع شوال سنة ست وستين وخمسمائة وصلي عليه عند جامع السلطان بالجانب الشرقي. ودفن بمقبرة الإمام أحمد رضي الله عنه.

وذكره ابن الجوزي، وقال المنذري: تفقه على ابن المنى، وتكلم في مسائل الخلاف وسمع من غير واحد.

قال: و "صَعَوة" لما بفتح الصاد والعين المهملتين وبعدها تاء تأنيث- لقب لجده مسعود.

فتيان بن مباح بن حمد بن سليمان بن المبارك بن الحسين السلمي الحراني الضرير

المقرىء الفقيه أبو الكرم: قال ابن القطيعي في تاريخه: ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة على ما بلغني.

قلت: وهذا بعيد. ولعله سنة ثلاث عشرة.

قال: وقدم بغداد، وسمع الحديث من أبي البركات عبد الوهاب الأنماطي، وصالح بن شافع، وأي زيد الحموي، وغيرهم. وتفقه بمذهب الإمام أحمد، وعاد إلى بلده فأفتى ودرس به إلى أن مات. سمع منه أبو المحاسن القاضي القرشي.

قلت: كان بارعًا في علم القراءات. وله مصنف في علم التجويد.

وقال: الشيخ فخر الدين ابن تيمية في أول تفسيره، وقد ذكر شيوخه في العلم فأول ما قال: كنت برهة مع شيخنا الإمام الورع أبي الكرم فتيان بن مياح وكان طويل الباع في علم اللغة والإعراب، مبسوطًا في الإغراق فيهما، والإعراب يشق الغبار في علم القراءات، ومعاناة المعاني فهمًا، واللغات، وأحكام فهم الأحكام والوقوف على موارد الحلال والحرام. وعمه أبو الفتح بن عبدوس من شيوخه وشيوخ حران وفقهائها وعلمائها.

قال ابن القطيعي: حدث فتيان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. ودخلت حران سنة ست وستين وخمسمائة، فسألت عنه. فقالوا: توفي عن قريب رحمه الله.

قلت: وفيه أيضًا نظر فإن الشيخ فخر الدين ابن تيمية ذكر أنه لازم أبا الحسن بن عبدوس بعد موت فتيان هذا. وهذا يشعر بتقديم وفاته على وفاة ابن عبدوس، ويمكن أنه أراد أن ملازمته لابن عبدوس كانت بعد ملازمته لفتيان، لا بعد موته. والله أعلم.

عبد اللّه بن أحمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر بن الخشاب البغدادي

اللغوي النحوي، المحدث، الإمام أبو محمد بن أبي الكرم: ولد سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ظناً.

وقرأ القرآن بالروايات. وسمع الحديث من أبي القاسم الربعي، وأبي الغنائم النرسي، ويحيى بن منده. وطلب بنفسه، وقرأ الكثير على ابن الحصين، وأبي العز بن كادش وأبي غالب بن البنا، وأبي القاسم الحريري، وأبي بكر- بن عبد الباقي، وأبي القاسم بن السمرقندي، والمزرفي، وأبي الحسن بن الزاغوني، وأبي الحسين بن الفراء، وخلق من الطبقة، ولم يزل يقرأ حتى قرأ على أقرانه.

وقد عده ابن نقطة في أول استدراكه من الحفاظ الذين يعتمد على ضبطهم، وقرنه مع السلفي وأبي العلاء، وابن عساكر وأخذ اللغة والعربية عن أبي بكر بن حوامرد القطان وأبي الحسن الفصيحي، وأبي الحسن المحولي، وأبي منصور الجواليقي، وأبي السعادات بن الشجري.

وقرأ الحساب والهندسة على أبي بكر محمد بن عبد الباقي، والفرائض على أبي بكر المزرفي. وشارك في أنواع العلوم، وبرع في كثير منها.

قال ابن الجوزي: انتهى إليه معرفة النحو واللغة.

وقال الشيخ فخر الدين ابن تيمية: كثر التردد إلى مجلس شيخنا العلاّمة حجة الإسلام أبي محمد بن الخشاب لتحصيل فني النحو واللغة، وما بلغ أحد من أبناء عصره فيهما ما بلغه.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين المقدسي. فقال: كان إمامًا في عصره في علم العربية، والنحو واللغة. وكان علماء أهل عصره يستفتونه فيهما، ويسألونه عن مشكلاتها. وحضرت كثيرًا من مجالسه للقراءة عليه، ولكن لم أتمكن من الإكثار عليه لكثرة الزحام عليه. وكان حسن الكلام في السنة وشرحها.

وقال ابن النجار: كان أعلم أهل زمانه بالنحو، حتى يقال: إنه كان في درجة أبي علي الفارسي.

قال: وكانت له معرفة بالحديث واللغة، والمنطق والفلسفة والحساب والهندسة وما من علم من العلوم إلا كانت له فيه يد حسنة.

وقال ياقوت الحموي: رأيت قومًا من نحاة بغداد يفضلونه على أبي علي الفارسي.

قال: وسمع الحديث الكثير، وتفقه فيه، وعرف صحيحه من سقيمه، وبحث عن أحكامه، وتبحر في علومه.

وذكره ابن السمعاني في كتابه، فقال: له معرفة تامة بالحديث، ويقرأ الحديث قراءة سريعة، حسنة صحيحة مفهومة، ويديم القراءة من غير فتور سمع الكثير بنفسه وجمع الأصول الحسان من أي وجه اتفق له، وكان يضنّ بها.

قال: وسمعت أبا شجاع البسطامي يقول: قرأ على ابن الخشاب غريب الحديث المقتفي قراءة ما سمعت قبلها بمثلها في الصحة والسرعة، وحضر جماعة من الفضلاء لسماعها. كانوا يريدون أن يأخذوا عليه فلتة لسان، فما قدروا على ذلك.

قال ابن السمعاني: وكتبت عنه جزءًا من حديث أبي الحسن بن مخلد كان يرويه عن الربعي حدثنا بلفظه. وهذا كله وابن السمعاني إنما رآه وله نحو الأربعين سنة.

قال ابن القطيعي في تاريخه: سمعت ابن الأخضر الحافظ يقول: سمعت أبا محمد بن الخشاب يقول: إني متقن في ثمانية علوم، ما يسألني أحد عن علم منها، ولا أجد لها أهلاً.

وذكر غيره وعن ابن الأخضر، قال: دخلت عليه يومًا وهو مريض وعلى صدره كتاب ينظر فيه، قلت: ما هذا? قال: ذكر ابن جني مسألة في النحو، واجتهد أن يستشهد عليها ببيت من الشعر فلم يحضره، وإني لأعرف على هذه المسألة سبعين بيتًا من الشعر، كل بيت من قصيدة تصلح أن يستشهد به عليها.

ووصفه جماعة: بأنه كان عالماً بالتفسير والحديث والفرائض والحساب والقراءات.

قال ابن القطيعي: كان الغالب على علومه علم النحو وضروبه وأنواعه، وما يتعلق به. وانتهى إليه معرفة علوم جمة، أنهاها وشرح الكثير من علومه. وكان ضنينًا بها مع لطف مخالطة، وعدم تكبر، وإطراح تكلف، مع تشدد في السنة، وتظاهر بها في محافل علومه، ومجالس تلاميذه وأصحابه، ينتحل مذهب الإمام أحمد، وينتصر له على غيره من المذاهب، ويصرح ببراهينه وحججه على ذلك.

وذكر ياقوت الحموي قال: كان الحافظ بن ناصر ابن عمه أمَّ ابن الخشاب قال ابن الخشاب: قالت لي أمي: يا بني، ما أراك تصلي صلاة الرغائب على عادة الناس، فقلت: يا أمي، أنا أوثر من الصلوات ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذه الصلاة لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، فقالت: أسمع ذلك منك، فاسأل لي ابن عمتي: فاتفق أني لقيته، فقلت: الوالدة تسلم عليك، وتسألك عن صلاة الرغائب: هل وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه? فقال لي: فهل لا أخبرتها بحقيقة ذلك. فقلت: قد أبت إلا أن أخبرها عنك، فقال: سلم عليها، وقل لها: أنا أسنّ منها، فإنها أحدثت في زمني وعصري. وقد مضت برهة ولا أرى أحداً يصليها. وإنما وردت من الشام، وتداولها الناس حتى أجروها مجرى ما ورد من الصلوات المأثورة.

ولابن الخشاب تصانيف، منها كتاب "المرتجل في شرح الجمل" للزجاجي وقد ترك فيه أبوابًا من وسط الكتاب لم يشرحها، وكتاب "الرد على ابن نادستاد في شرح الجمل"، وكتاب "الرد على أبي زكريا التبريزي في تهذيب إصلاح المنطق لابن السكيت"، وكتاب "أغلاط الحريري في مقاماته"، وشرح اللمع لابن جني إلى باب النداء في ثلاث مجلدات، وشرح مقدمة الوزير ابن هبيرة في النحو في أربع مجلدات. ويقال: إنه وصله عليها بألف دينار. وله جواب المسائل الاسكندرانية في الاشتقاق.

ويقال: إنه كان ضيق العطن في تصانيفه لا يتمها، وأن كلامه كان أجود من قلمه.

وكان ابن الخشاب يكتب خطًا حسنًا، ويضبط ضبطًا متقنًا. فكتب كذلك كثيرًا من الأدب والحديث وسائر الفنون، وحصل من الكتب والأصول وغيرها ما لا يدخل تحت الحصر، ومن خطوط الفضلاء وأجزاء الحديث شيئًا كثيرًا.

وذكر ابن النجار: أنه لم يمت أحد من أهل العلم وأصحاب الحديث إلا وكان يشتري كتبه كلها، فحصلت أصول المشايخ عنده.

وذكر عنه: أنه اشترى يومًا كتبًا بخمسمائة دينار ولم يكن عنده شيء، فاستمهلهم ثلاثة أيام، ثم مضى ونادى على داره، فبلغت خمسمائة دينار، فنقد صاحبها وباعه بخمسمائة دينار ووفي ثمن الكتب وبقيت له الدار. ولما مرض أشهد عليه بوقف كتبه فتفرقت وبيع أكثرها ولم يبقَ إلا عشرها، فتركت في رباط المأمونية وقفًا.

وقرأ عليه الخلق الكثير الحديث والأدب، وانتفعوا به وتخرج به جماعة.

وسمع منه كبار الأئمة. وروى عنه خلق من الحفاظ وغيرهم.

وكان الحافظ أبو محمد بن الأخضر يقول في روايته عنه: حدثنا حجة الإسلام أبو محمد بن الخشاب. وكذلك يقول الشيخ موفق الدين المقدسي في تصانيفه حين يروي عن ابن الخشاب. وكان ثقة في الحديث والنقل، صدوقًا حجة نبيلاً.

وذكر ابن الجوزي: أنه كان يذكر عنه نوع تفريط في الدين، وأنه كان قليل الفقه، بحيث إنه سئل عن رفع اليدين في الصلاة ما هو? فقال: هو ركن، فضحك منه. وكان - سامحه اللّه- قليل المبالاة بحفظ قاموس العلم والمشيخة بحيث إنه كان يلعب بالشطرنج على قارعة الطريق مع العوام، ويمازح السفهاء، ويقف في الشوارع على حلق المشعبذين وأصحاب اللهو، واللعابين بالقرود والذباب من غير مبالاة. وإذا عوتب على ذلك يقول: إنه يندر منهم نوادر لا يكون أحسن ولا ألطف منها، ومع ذلك فكان لا يخلو كمه من كتب العلم.

وكان رؤساء زمانه وزراء وقته يودون مجالسته، ويتمنون محاضرته فلا يفعل.

قال مسعود بن البادر: كنت يومًا بين يدي المستضيء، فقال لي: كل من نعرفه قد ذكرنا بنفسه، ووصل إليه برنا، إلا ابن الخشاب، فأخبره فاعتذرت عنه بعذر اقتضاه الحال، ثم خرجت فعرفت ابن الخشاب ذلك، فكتب إليه هذين البيتين:

ورد الورى سلسال جودك فارتووا

 

فوقفت دون الورد وقـفة حـائم

ظماَن أطلب خفة مـن زحـمة

 

والورد لا يزاد غـير تـزاحـم

قال ابن البادر: فأخذتها منه فعرضتها على المستضيء، فأرسل إليه بمائتي دينار وقال: لو زادنا زدناه. وكان متبذلاً في لباسه ومطعمه ومشربه، ولم يكن له زوجة ولا جارية.

ويقال: إنه كان بخيلاً مقترًا على نفسه. وكان يعتم العمة، فتبقى معتمة أشهرًا حتى تتسخ أطرافها من عرقه، فتسود وتتقطع من الوسخ، وترمي عليها العصافير ذرقها، وكان إذا رفعها عن رأسه ثم أراد لبسها تركها على رأسه كيف اتفق، فتجيء عذبتها تارة من تلقاء وجهه، وتارة عن يمينه، وتارة عن شماله، فلا يغيرها. فإذا قيل له في ذلك يقول: ما استوت العمة على رأس عاقل قط.

وكان رحمه الله ظريفاً مزاحاً ذا نوادر.

فمن نوادره: أن بعض أصحابه سأله يومًا، فقال: القفا يمد أو يقصر. فقال: يمد ثم يقصر.

ومنها: أنه لما صنف الكمال الأنباري كتاب "الميزان" في النحو عرض عليه، فقال: احملوا هذا الميزان إلى المحتسب ففيه عين.

ومنها: أنه كان يومًا في داره في وقت القيلولة والحر الشديد وقد نام، إذ طرق عليه الباب طرقًا مزعجًا، فانتبه فخرج مبادرًا، وإذا رجلان من العامة، قال: ما خطبكما? فقالا: نحن شاعران، وقد قال كل واحد منا قصيدة وزعم أنها أجود من قصيدة صاحبه. وقد رضينا بحكمك، فقال: ليبدأ أحدكما.

قال: فأنشد أحدهما قصيدته وهو مصغ إليه، حتى فرغ منها، وهم الآخر بالإنشاد، فقال له ابن الخشاب: على رسلك، فشعرك أجود. فقال: كيف خبرت شعري ولم تسمعه. فقال: لأنه لا يكون شيء أبخس من شعر هذا.

ومنها: أن بعض المعلمين كان يقرأ علية شيئًا من الأدب، فجاء فيه قول العجاج:

أطربا وأنت قـنّـسْـري

 

وإنما يأتي الصبيّ الصبيُّ

فقرأ المعلم: وإنما يأتي الصبيَّ الصبيُّ، فقال ابن الخشاب: هذا عندك في الكتاب وفقك الله. فأما عندنا فلا، فاستحى المعلم.

ومنها: ما حكاه ابن الأخضر قال: كنت يومًا عنده- وعنده جماعة من الحنابلة- فسأله مكي القراد: عندك كتاب الخيال. فقال: يا أبله، ما تراهم حولي? ومنها: أنه كان ببغداد رجل يقال له: العتابي نحوي، وكان يدعي من علم النحو فوق ما عنده، فاجتمع ابن الخشاب مرة بابن القصار اللغوي عند قدومه من مصر، فقال ابن الخشاب: ما رأيت من عجائب مصر. قال: رأيت أشياء ذكرها. ثم قال: ورأيت فيها حمارًا عتابيًا، فقال ابن الخشاب: ماذا عجب فإن عندنا ببغداد عتابى حمار.

ولابن الخشاب شعر كثير حسن فمنه ما ألغزه في الكتاب:

وذي أوجه لكنـه غـير بـائح

 

بسر، وذو الوجهين للسر مظهر

تناجيك بالأسرار أسرار وجهـه

 

فتسمعها، ما دمت بالعين تنظر

وله لغز في الشمعة:

صفراء لا من سقم مسهـا

 

كيف وكانت أمها الشافية?

عارية باطنها مـكـتـس

 

فاعجب لها عارية كاسية

ومنه- وأنشده ابن القطيعي- في المديح:

تلقاه إما عالماً أو متعلـمـاً

 

يومي حجاج أو عجاج الهبا

فمجادل يهدي غوياً مشغبـاً

 

ومجدل يرثي كميا محربـا

وينسب إليه قصيدة طويلة في الألغاز والعويص في جميع أنواع العلوم. قيل: إنه كتبها إلى بعض فضلاء عصره ممتحنًا له ومعجزًا، وأظنه ابن الدهان.

ومما ينسب إليه قصيدة نونية، منها:

واذكر إذا قمت يوم العرض منتفضاً

 

من التراب بلا قطـن ولا كـفـن

وجىء بالنار قد مد الصراط عـلـى

 

حافاتها تتلظى فعـل مـغـتـبـن

وتنشر الصحف فيها كل محتـقـب

 

من المخازي وما قدمت من حسـن

قد كنت تنسى وتلك الصحف محصية

 

ما كنت تأتي، ولم تظلم ولم تـخـن

هناك إن كنـت قـدمـت مـدخـرًا

 

تُسقى من الحوض ماء غير ذي أسن

عند الجزاء تعض الكـف مـن نـدم

 

على تخطيك في سر وفي عـلـن

لا تركنن إلى الدنيا ففـي جـدث

 

يكون دفنك بين الطين واللـبِـن

 

واستن بالسلف الماضي وكن رجلاً

 

مبرأ من دواعي الغي والفـتـن

 

ودع مذاهب قوم أحدثـت إثـمـا

 

فيها خلاف على الآثار والسنـن

 

 

 

 

 

 

 

قال ابن الجوزي: مرض ابن الخشاب نحوًا من عشرين يومًا، فدخلت عليه قبل موته بيومين، وقد يئس من نفسه، فقال لي: عند الله أحتسب نفسي.

وتوفي يوم الجمعة ثالث رمضان سنة سبع وستين وخمسمائة. وصلي عليه على باب جامع السلطان يوم السبت. ودفن بمقبرة الإمام أحمد قريبًا من بشر الحافي رضي الله عنهما.

وحدثني عبد الله الجبائي العبد الصالح قال: رأيته في النوم بعد موته بأيام، ووجهه يضيء، فقلت له: ما فعل اللّه بك. قال: غفر لي قلت: وأدخلك الجنة. قال: وأدخلني الجنة، إلا أنه أعرض عني، فقلت له أعرض عنك? فقال: نعم وعن جماعة من العلماء تركوا العمل. سامحه اللّه وغفر له.

مكي بن محمد بن هبيرة البغدادي

الأديب أبو جعفر: كان فاضلاً عارفًا بالأدب. نظم "مختصر الخرقي" وقرىء عليه مرات.

توفي بنواحي الموصل سنة سبع وستين وخمسمائة. ذكره الحافظ الذهبي.

قلت: وأظنه أخا الوزير أبي المظفر. وكان يلقب فخر الدولة. وكان خرج من بغداد بعد موت الوزير وكان للوزير ولدان.

أحدهما: عز الدين محمد. وكان فاضلاً كبير الشأن، ناب عن والده في الوزارة. قبض عليه، وقتل بعد موت والده سنة إحدى وستين.

والآخر: شرف الدين ظفر، ناب عن والده في الوزارة أيضًا. وكان أديبًا بارعًا له نظم حسن جداً. قبض عليه، وقتل في صفر سنة اثنتين وستين.

ومن نظمه:

أخلف الغيث مواعيد الخزامى

 

فقف الأنضاء تستقي الغماما

وأبحني ساعة من عـمـري

 

نملأ الدار شكاة وسـلامـا

وخُذ اليمنة من أعلا الحمـى

 

تلق بالفور حميماً وحمـامـا

أصف الأشواق في تلك الربى

 

وأعاطي الترب سقياً والتثاما

أحمد بن محمد بن شُنيف بن محمد البغدادي الدارقزي

المقرىء أبو الفضل: قرأ القران بالروايات على أبي طاهر بن سوار، وثابت بن بندار، وأبي منصور الخياط، وغيرهم.

وسمع الحديث منهم، ومن أبي غالب القزاز، وعلي بن نبهان، ويحيى بن منده الحافظ. وتفقه في المذهب وحصل منه طرفًا صالحًا. وأقرأ بالروايات جماعة. وحدث وطال عمره، وأضر في آخر وقته، وتفرد بعلو الإسناد في القراءات.

قال القطيعي: كان من أهل الدين والصلاح.

وقال ابن النجار: كان شيخًا فاضلاً متدينًا، صدوقًا أمينًا.

توفي يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرم سنة ثمان وستين وخمسمائة، وله ست وتسعون سنة. ودفن بمقبرة باب حرب رحمه الله.

الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن سهل بن سلمة بن عثكل بن حنبل بن إسحاق الهمداني

المقرىء المحدث، الحافظ الأديب اللغوي الزاهد أبو العلاء، المعروف بالعطار شيخ همدان: ولد بكرة يوم السبت رابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.

وقرأ القرآن بالروايات على أبي علي الحداد وغيره بأصبهان، وعلى أبي العز القلانسي بواسط، وببغداد على البارع الدباس، وأبي بكر المزرفي وغيرهم.

وسمع الحديث من عبد الرحمن الدوني سنة خمس وتسعين، وهو أول سماعه ثم سمع بأصبهان من أبي عليّ الحداد، وأكثر عنه ولازمه مدة. وسمع بخراسان من أبي عبد الله الفراوي وغيره.

وارتحل إلى بغداد، فسمع عن أبي القاسم بن بيان، وأبي علي بن نبهان، وأبي علي بن المهديَ، وأبي طالب اليوسفي، وابن الحصين، وخلق كثير.

ودخل بغداد مرة أخرى فأسمع ابنه، ثم مرة أخرى بعد الثلاثين وخمسمائة، فأكثر بها، ثم دخلها بعد الأربعين، وحدث بها، وأقرأ بها القرآن.

قرأ عليه ابن سكينة وغيره، ثم عاد إلى همدان، وعمل داراً للكتب وخزانة وقف جميع كتبه فيها وكان قد حصّل الأصول الكثيرة، والكتب الكبار الحسان بالخطوط المعتبرة، وانقطع إلى إقراء القرآن، ورواية الحديث إلى آخر عمره وحدث بأكثر مسموعاته.

وسمع منه الكبار والأئمة الحفاظ ورووا عنه، منهم: ابن عساكر، ومحمد بن محمود الحمامي الواعظ، وأبو المواهب بن صصري، وعبد القادر الرهاوي، ويوسف بن أحمد الشيرازي وسمع منه خلق كثير.

وآخر من روى عنه ابن المقيروري عنه إجازة.

قال ابن السمعاني في حقه: حافظ متقن، ومقرىء فاضل، حسن السيرة، مرضي الطريقة، عزيز النفس، سخي بما يملك، مكرم للغرباء، يعرف القراءات والحديث والأدب معرفة حسنة، سمعت منه.

وذكره ابن الجوزي في طبقات الأصحاب التي في آخر المناقب، وفي التاريخ، وقال فيه: كان حافظًا متقناً، مرضي الطريقة سخيًا. وانتهت إليه القراءات والتحديث.

وذكر في آخر كتابه "التلقيح": أن أبا العلاء كان هو محدث عصره ومقرئه.

وقال الحافظ عبد القادر الرهاوي: شيخنا الحافظ أبو العلاء أشهر من أن يعرف بل تعذر وجود مثله في أعصار كثيرة على ما بلغنا من سيرة العلماء والمشايخ. أربى على أهل زمانه في كثرة السماع، مع تحصيل أصول ما سمع وجودة النسخ، وإتقان ما كتب بخطه. فإنه ما كان يكتب شيئًا إلا متقنًا معرباً.

وبرع على حفاظ عصره في حفظ ما يتعلق بالحديث من الأنساب والتواريخ والأسماء والكنى، والقصص والسير ولقد كنا يومًا في مجلسه، وقد جاءته فتوى في أمر من أمر عثمان رضي الله عنه، فأخذ الفتوى وكتب فيها من حفظه- ونحن جلوس- درجًا طويلاً يذكر فيه عثمان رضي الله عنه ونسبه ومولده ووفاته وأولاده، وما قيل فيه من شعر، وغير ذلك مما يتعلق به.

وله التصانيف الكثيرة في أنواع من علوم الحديث والزهديات والرقائق وغير ذلك.

ومن جملة ما صنف "زاد المسافر" نحو من خمسين مجلدة. وكان إمامًا في القرآن وعلومه، وحصل من القراءات المسندة ما أنه صنف العشرة والمفردات. وصنف الوقف والابتداء والتجويد والمئات والعدد، ومعرفة القراء. وهو نحو من عشرين مجلدًا، واستحسنت تصانيفه. وكتبت ونقلت إلى خوارزم وإلى الشام.

وبرع عنده جماعة كثيرة في القراءات. وكان إذا جرى ذكر القراء يقول: فلان مات عام كذا، وفلان مات في سنة كذا، وفلان يعلو إسناده على فلان بكذا.

وكان إمامًا في النحو واللغة، سمعت أن من جملة ما حفظ في اللغة كتاب "الجمهرة" وخرج له تلامذة في العربية أئمة يقرأون بهمدان. وبعض أصحابه رأيته.

وكان من محفوظاته كتاب "الغريبين للهروي" إلى أن قال: وكان عفيفاً من حب المال، مهينًا له، باع جميع ما ورثه. وكان من أبناء التجار فأنفقه في طلب العلم حتى سافر إلى بغداد وأصبهان مرات ماشيًا يحمل كتبه على ظهره.

سمعته يقول: كنت أبيت ببغداد في المساجد، وآكل خبز الدخن.

وسمعت أبا الفضل بن نبهان الأديب يقول: رأيت الحافظ أبا العلاء في مسجد من مساجد بغداد يكتب وهو قائم على رجليه لأن السراج كانت عالية، ثم نشر الله تعالى ذكره في الآفاق، وعظم شأنه في قلوب الملوك وأرباب المناصب الدنيوية والعلمية والعوام، حتى إنه كان يمر بهمدان، فلا يبقى أحد رآه إلا قام، ودعا له حتى الصبيان واليهود. وربما كان يمضي إلى بلده مشكان فيصلي بها الجمعة، فيتلقاه أهلها خارج البلد: المسلمون على حدة، واليهود على حدة ويدعون له إلى أن يدخل البلد.

وكان يفتح عليه من الدنيا جمل فلم يدخرها، بل ينفقها على تلامذته. وكان عليه رسوم لأقوام. وما كان يبرح عليه ألف دينار همدانية أو أكثر من الدين مع كثرة ما كان يفتح عليه. وكان يطلب لأصحابه من الناس، ويعز أصحابه ومن يلوذ به ولا يحضر دعوة حتى يحضر جماعة أصحابه، وكان لا يأكل من أموال الظلمة، ولا قبل منهم مدرسة قط ولا رباطًا، وإنما كان يقرىء في داره ونحن في مسجده سكان، وكان يقرىء نصف نهاره الحديث، ونصفه القرآن والعلم.

وكان لا يخشى السلاطين، ولا تأخذه في اللّه لومة لائم، ولا يمكن أحد أن يعمل في مجلسه منكرًا ولا سماعًا.

وكان ينزل كل إنسان منزلته، حتى تآلفت القلوب على محبته، وحسن الذكر له في الآفاق البعيدة، حتى أهل خوارزم، الذين هم معتزلة مع شدته في الحنبلة.

وكان حسن الصلاة، لم أرَ أحدًا من مشايخنا أحسن صلاة منه. وكان مشددًا في أمر الطهارة، لا يدع أحدًا يمس مداسه.

قلت: هذه زلة من عالم.

قال: وكانت ثيابه قصارًا، وأكمامه قصارًا، وعمامته نحو من سبعة أذرع، وكانت السنة شعاره ودثاره، اعتقادًا وفعلاً، بحيث إنه كان إذا دخل مجلسه رجل، فقدم رجله اليسرى، كلفه أن يرجع فيقدم اليمنى، ولا يمس الأجزاء إلا على وضوء، ولا يدع شيئًا قط إلا مستقبل القبلة تعظيمًا لها، إلى أن قال: سمعت من أثق به يحكي. قال: رأى السلفي طبقة بخط الحافظ، فقال: هذا خط أهل الإتقان، وسمعته يحكي عنه أنه ذكر له، فقال: قدمه دينه. قال: وسمعت من أثق به يحكي عن أبي الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي، أنه قال للحافظ أبي العلاء، لما دخل نيسابور: ما دخل نيسابور مثلك.

وسمعت الحافظ أبا القاسم علي بن الحسن بن هبة الله يقول- وذكر رجلاً من أصحابه سافر في طلب الحديث-: إن رجع ولم يلقَ الحافظ أبا العلاء ضاعت سَفْرَته.

وقد روى عنه الحافظ أبو القاسم. وقال القاسم بن عساكر الحافظ: سمعت التاج المسعودي يقول: سمعت أبا العلاء الهمداني يقول لرجل استأذنه في الرحلة: إن عرفت أحدًا أعرف مني، فحينئذ آذن لك أن تسافر إليه، إلا أن تسافر إلى ابن عساكر، فإنه حافظ كما يجب.

وقرأت بخط الشيخ ناصح الدين بن الحنبلي: أما حرمة الحافظ أبي العلاء، ومكانته في العامة والخاصة فمشهورة، وكراماته كذلك.

ومن نوادر الحافظ رحمه الله تعالى: أنه كان يمشي في اليوم الواحد ثلاثين فرسخاً.

حدثني الإمام طلحة بن مظفر العلثي قال: بيعت كتب ابن الجواليقي في بغداد، فحضرها الحافظ أبو العلاء الهمداني، فنادوا على قطعة منها: ستين دينارًا، فاشتراها الحافظ أبو العلاء بستين دينارًا، والإنظار من يوم الخميس إلى يوم الخميس. فخرج الحافظ، واستقبل طريق همدان، فوصل فنادى على دار له، فبلغت ستين دينارًا. فقال: بيعوا. قالوا: تبلغ أكثر من ذلك. قال: بيعوا. فباعوا الدار بستين دينارًا فقبضها، ثم رجع إلى بغداد. فدخلها يوم الخميس، فوفى ثمن الكتب. ولم يشعر أحد بحاله إلا بعد مدة.

توفي رحمه اللّه ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الأولى سنة تسع وستين وخمسمائة.

ذكره الحافظ بن النجار عن الحافظ أبي جعفر بن الحمامي الواعظ.

وذكر مكي وابن الجوزي: أنه توفي ليلة الخميس لتسع عشرة بقيت من جمادى الأولى.

قال ابن الجوزي: وبلغني: أنه رئي في المنام في مدينة جميع جدرانها من الكتب، وحوله كتب لا تحد، وهو مشتغل بمطالعتها. فقيل له: ما هذه الكتب. قال: سألت اللّه تعالى أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا، فأعطاني.

ورأى له شخص آخر: أن يدين خرجًا من محراب مسجده، فقال: ما هذه اليدان? فقال: هذه يدا آدم بسطهما ليعانق أبا العلاء الحافظ. قال: وإذا بأبي العلاء قد أقبل. قال: فسلمت عليه، فردّ علي السلام. وقال: يا فلان: أرأيت ابني أحد حين قام على قبري يلقنني. أما سمعتهم يقولون حتى صحت على الملكين فما قدرا أن يقولا لي شيئًا، ورجعا رضي الله عنه.

دهبل بن علي بن منصور بن إبراهيم بن عبد الله، المعروف بابن كاره البغدادي

الحريمي، الخباز أبو الحسن: ولد سنة خمس وتسعين وأربعمائة.

وسمع من الحسين بن علي بن البُسري، وأبي غالب القزاز، وأبي علي بن المهدي، وابن بيان، وابن نبهان وغيرهم.

وذكره ابن السمعاني في كتابه.

وقال الشيخ موفق الدين المقدسي: كان فقيهًا من فقهاء أصحابنا، وكان يحضر في حلقة الفقهاء في جامع المنصور يوم الجمعة. وكان شيخَا صالحًا، أتى بكتاب "الجراح" ليحيى بن آدم.

وقال أبو المحاسن القرشي: كان فقيهًا حسنًا، فاضلاً زاهدًا، صادقًا ثقة، وذكر غيره: أنه أضر بآخره. وقال ابن نقطة: هو ثقة صالح. قال ابن القطيعي: كان فقيهًا حنبليًا ثقة. حدث، وسمع منه جماعة.

وقال المنذري: تفقه على مذهب الإمام أحمد، وسمع من غير واحد، وحدث.

قلت: روى عنه ابن الأخضر، وجماعة. توفي في يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من محرم سنة تسع وستين وخمسمائة، ودفن بمقبرة باب حرب.

و "دهبل" بفتح الدال المهملة والباء الموحدة بينهما هاء ساكنة.

عبد الصمد بن بديل بن الخليل الجيلي المقرىء، أبو محمد

ذكره ابن القطيعي، فقال: قدم بغداد، ونزل باب الأزج، وقرىء عليه القرآن بالروايات الكثيرة، ورواها عن أبي العلاء الحسن بن أحمد الهمداني.

قلت: وقد سمع من أبي العلاء الحديث.

قال: وكان عالمًا ثقة ثبتًا، فقيهًا مفتيًا. وكان اشتغاله بالفقه على والدي رحمه الله. وناظر ودرس وأفتى، وكتب إلي- وأنا مسافر- كتابًا ذكر فيه ما أحببت ذكره لبركته: الله الله، كن مقبلاً، مديمًا على شؤونك، مشتغلاً بما أنت بصدده، ولا تكن مضيعًا، أنفاسًا معدودة، وأعمارًا محسوبة، واجعل ما لا يعنيك دبر أفنك، واغمض عينيك عما ليس من حظها، واطلب من ريحانة ما حل لك، ودع ما حرم عليك. وبذلك تغلب شيطانك. وتحوز مطالبك والسلام.

توفي رحمه الله سنة تسع وستين وخمسمائة ودفن بمقبرة الإمام أحمد بالقرب من قبر بشر الحافي. قال "وبديل" بفتح الباء.

وذكره ابن النجار، فقال: صحب القاضي أبا يعلى بن أبي خازم، وتفقه عليه.

وكان خصيصًا به قرأ عليه جماعة القرآن. وكان مقرئاً مجوداً، وفقيهًا فاضلاً، صالحًا متدينًا. وأنه توفي يوم السبت سلخ ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. كذا نقله عن تميم بن البندنيجي.

عبد الرحمن بن النفيس بن الأسعد الغياثي، الفقيه المقرىء أبو بكر، ويعرف بالأعز البغدادي:

كان في ابتداء أمره يغني، وله صوت حسن، ثم تاب وحسنت توبته.

وقرأ القران في زمن يسير، وتعلم الخط في أيام قلائل، وحفظ كتاب الخرقي وأتقنه. وقرأ مسائل الخلاف على جماعة من الفقهاء. وكان ذكيًا جدًا، يحفظ في يوم واحد ما لا يحفظه غيره في شهر.

وسمع من عبد الوهاب الأنماطي، وسعد الخير الأنصاري، وعسكر بن أسامة النصيبي. وتكلم في مسائل الخلاف، وسافر إلى الشام، وسكن دمشق مدة، وَأمَّ بالحنابلة في جامعها، ثم توجه إلى ديار مصر، فاستوطنها إلى حين وفاته، وحدث. وكان فقيهًا فاضلاً، قارئاً مجودًا، مليح التلاوة، طيب النغمة.

قال أبو بكر محمد بن علي بن زيد بن اللتي عنه: كان قوياً في دين الله متمسكاً بالآثار، لا يرى منكرًا، ولا يسمع به إلا غيّره، لا يحابي في قول الحق أحدًا.

قال: وصحبته وسمعت عليه، معتقدًا في السنة، وقرأت عليه أبوابًا من الخرقي.

قال: وخرج من بغداد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.

وقيل: إنه توفي بمصر بعد سنة ستين وخمسمائة. رحمه اللّه تعالى.

روى عنه أبو الجود حاتم بن سنان بن إبراهيم الحبلي أناشيد.

يحيى بن نجاح بن مسعود بن عبد الله اليوسفي

المؤدب الأديب الشاعر أبو البركات: سمع من أبي العز بن كادش وغيره.

قال ابن الجوزي: سمع الحديث الكثير، ثم قرأ النحو واللغة. وكان غزير الفضل، يقول الشعر الحسن. وقال ابن القطيعي: كان من أهل الأدب والعلم، وفيه فضل، وله خط حسن، وشعر رقيق، سمع منه جماعة من الطلبة. وكان حنبلي المذهب، حسن الاعتقاد.

قال: وأنشدنا أبو البقاء الفقيه قال: أنشدنا أبو البركات يحيى بن نجاح اليوسفي لنفسه:

أقلا منك ذا الـجـفـا أم دلال

 

كل يوم يروعني منـك حـال

أعذول يغريك أم غره المعشوق

 

أم هكـذا يتـيه الـجـمـال?

نظرة كنـت يوم ذاك، فـإنـي

 

صرت في القلب عثرة لا تقال

أنا عرضت مهجتي يوم سلـع

 

للهوى، فالغرام داء عـضـال

عبثاً تقـتـل الـنـفـوس ولا

 

تحسب، إلا أن الدمـاء حـلال

من عجيب أن لا يطيش لها سهم

 

ولم تدر قط كيف النـضـال?

لي قلب قد استراح من العـذل

 

وسـمـع تـكـده الـعـذال

وهي قصيدة طويلة.

توفي رحمه الله يوم السبت لإحدى عشرة خلت من شوال، سنة تسع وستين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد. كذا ذكره القطيعي.

وقال ابن الجوزي: توفي في أواخر شوال.

و "اليوسفي" نسبة إلى ولاء بيت ابن يوسف. وكان جده مسعود مولى الشيخ الأجل، أبي منصور محمد بن عبد الملك بن يوسف، رحمه اللّه تعالى.

حامد بن محمود بن حامد بن محمد بن أبي عمرو الحراني

الخطيب الفقيه الزاهد، أبو الفضل، المعروف بابن أبي الحجر، ويلقب تقي الدين، شيخ حران وخطيبها، ومفتيها ومدرسها: ولد سنة ثلاث عشرة وخمسمائة بحران، فيما قرأته بخط الإمام أبي العباس ابن تيمية، وذكر أنه نقله من خط أحمد بن سلامة بن النجار الحراني الزاهد.

ورحل إلى بغداد، وسمع بها من عبد الوهاب الأنماطي الحافظ، ويحيى بن حبيش الفارقي، وعمر بن عبد الله بن علي الحربي وغيرهم، وتفقه بها، وبرع وناظر، ولقي بها الشيخ عبد القادر، ولازمه، فرآه الشيخ يومًا يمشي على سجادته، على بساط للشيخ، فقال له الشيخ عبد القادر: كأني بك، وقد دست على بساط السلطان. كذا ذكره أبو عبد الله بن حمدان الفقيه.

وقال ناصح الدين بن الحنبلي رضي الله عنه: حدثني ولده إلياس- يعني: ولد أبي الفضل حامد- قال: خرج والدي مع الشيخ عبد القادر في زيارة، وكان معه جماعة، وانفرد والدي عنه، ورفع ثوبه على قصبة، فقال الشيخ عبد القادر: من هذا. فقالوا: الفقيه حامد الحراني، فقال: هذا يكون له تعلق بالملوك، وكان كما قال.

وذكره ابن الجوزي في تاريخه، فقال: صديقنا. قدم بغداد. وتفقه وناظر، وعاد إلى حران، وأفتى، ودرس. وكان ورعًا، به وسوسة في الطهارة.

وذكر ابن القطيعي في تاريخه نحوًا من ذلك، وقال: كان تاليًا للقرآن، كتبت عنه. وكان ثقة.

وقال الشيخ فخر الدين ابن تيمية في أول تفسيره، وبعد رجوعي إلى حران: كنت كثير المباحثة لشيخنا الإمام البارع أبي الفضل حامد بن محمود بن أبي الحجر رحمه الله في مشكل الآيات، وحل ما فيها من الإشكالات.

وكان رحمه الله إذا شرع في التفسير والتذكير شبيهًا بالجواد المفرط، والجواد القطقط، يوسع المسامع هدير شقاشقه، ويزعزع المسامع زجر رواشقه، هذا مع ما كان قد منحه الله من الرشاقة، وعسولة المنطق واللباقة.

وقال الشيخ ناصح الدين بن الحنبلي: كان شيخ حران في وقته. بنى نور الدين محمود المدرسة في حران لأجله، ودفعها إليه، ودرس بها، وتولى عمارة جامع حران، فما قصر فيه، قيل: إنه راح إلى الروم، وتولى نشر الخشب بنفسه.

وكان نور الدين محمود، يقبل عليه، وله فيه حسن ظن. وكان عنده وسواس في الطهارة.

ورحل إلى بغداد، ونزل بمدرسة الشيخ عبد القادر، وسمع درسه، وكان من أصحابه. وجاء إلى دمشق في حوائج إلى نور الدين، ونزل عندنا في المدرسة، وأضافه والدي.

وقال ابن حمدان: كان شيخ حران، وخطيبها ومدرسها، ولأجله بنيت المدرسة النورية بحران. وله ديوان خطب. وقيل: إن أكثرها كان يرتجلها إذا صعد إلى المنبر، فلما ولاه السلطان نور الدين الشهيد، قال: بشرط أن تترك المظالم والضمانات، وتورث ذوي الأرحام فأجابه إلى ذلك. وكان ولده الفقيه إلياس إذا غاب عن المدرسة يومًا، لا يعطيه خبزه، ويقول: هو كالمستأجر.

قال: ولم يأخذ على نظره في الجامع، وأوقافه شيئًا، حتى إن غلامه اشترى تجارة كما اشتراه العوام من تجارة خشب الجامع، فلم يأكل ما خبز في بيته. وسيرته في الورع والزهد مشهورة بحران بين أهلها.

قلت: أخذ عنه العلم جماعة من أهل حران، منهم: الخطيب فخر الدين ابن تيمية، وأبو الفتح نصر اللّه بن عبدوس، وغيرهما.

وسمع منه الحديث بحران جماعة من الطلبة والرحالين، منهم: أبو المحاسن عمر بن علي القرشي الدمشقي، سنة ثلاث وخمسين، وأبو الحسن بن القطيعي، سنة ست وستين.

وروي عنه في تاريخه، وقال: توفي لسبع خلون من شوال سنة سبعين وخمسمائة بحران. وكذا ذكر ابن الجوزي: أنه توفي بحران سنة سبعين.

وقرأت بخط الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى، قال: نقلت من خط الزاهد أحمد بن سلامة بن النجار: توفي الفقيه حامد بن محمود بن أبي الحجر- وكان من أهل العلم والبراعة والفصاحة- سنة تسع وستين وخمسمائة، ثم قال الشيخ تقي الدين: عندي في هذا نظرة لأن الشيخ الفخر ذكر أنه كان يذاكره بعد رجوعه إلى حران، وذكر الشيخ فخر الدين ابن تيمية في كتابه "ترغيب المقاصد" أن شيخه حامد بن أبي الحجر اختار: أن الفاسق تثبت له ولاية النكاح.

المبارك بن الحسن بن طراد الباماوردي الفرضي، أبو النجم بن أبي السعادات، المعروف بابن المقابلة:

ولد سنة خمس وخمسمائة تقريبًا.

وسمع من طلحة العاقولي سنة عشر، وهو أقدم سماع وجد له، ومن القاضي أبي الحسين بن الفراء، وأبي نصور القزاز، والقاضي أبي بكر، وابن الحصين، وأبي الفضل عبد الملك بن يوسف، وأبي غالب الماوردي وغيرهم.

قال ابن الجوزي: كان عارفاً بعلم الفرائض، والمواقيت.

وذكره ابن القطيعي، وقال: كتبت عنه. وكان ثقة.

قال: وكان أعلم أهل زمانه بالفرائض، والحساب، والدور، حسن العلم بالجبر والمقابلة، وغامض الوصايا والمناسخات، حنبلي المذهب، أمَّارًا بالمعروف، شديدًا على أهل البدع، عارفًا بمواقيت الشمس والقمر.

وتوفي ليلة السبت لعشر بقين من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ودفن بمقبرة الطبري، بقرية الزاويان، ظاهر بغداد. رحمه الله تعالى.

محمد بن عبد الباقي بن هبة الله بن حسين بن شريف المجمعي، الموصلي أبو المحاسن:

ذكره ابن القطيعي، فقال: أحد فقهاء الحنابلة المواصلة. ورد بغداد، وتفقه على القاضي أبي يعلى محمد بن محمد بن محمد بن الفراء، وسمع بها الحديث والأدب، كان تاليًا لكتاب الله، جمع كتابًا اشتمل على طبقات الفقهاء من أصحاب أحمد.

قلت: وله مصنف في شرح غريب ألفاظ الخرقي.

قال: وكان بالموصل عمر الملا، مقدمًا في بلده، فاتهمه بشيء من ماله. وكان خصيصًا به، وضربه إلى أن أشفي، ثم أخرجه إلى بيته وبقي أيامًا يسيرة.

وتوفي في رجب- أو شعبان- سنة إحدى وسبعين وخمسمائة بالموصل رحمه الله.

وعمر هذا، كان يظهر الزهد والديانة، وأظنه كان يميل إلى المبتدعة. وقد تبين بهذه الحكاية أيضًا: ظلمه وتعديه.

علي بن عساكر بن المرحب بن العوام، البطائحي، المقرىء النحوي أبو الحسن الضرير:

ولد سنة تسع وثمانين وأربعمائة- أو سنة تسعين- على الشك منه. وقرأ بالروايات على أبو العز القلانسي، وأبي عبد الله الدباس البارع، وسبط الخياط، وأبي بكر المزرفي، وأبي سعد الطيوري، وأبي طالب بن يوسف، وأبي الحسين بن الفراء.

وقرأ الأدب على أبي البركات عمر بن إبراهيم الزيدي بالكوفة.

وسمع الحديث من ابن الحصين، وأبي الحسين بن الزاغواني، وأبي بكر بن عبد الباقي، وأبي منصور القزاز، والمزرفي، وأبي القاسم السمرقندي، وغيرهم.

وكان من أئمة القراء وصنف في القراءات عدة مفردات، وكان بارعًا في العربية، ثقة جليلاً صالحًا. قال ابن النجار: كان إمامًا كبيرًا في معرفة القراءات، ووجوهها وعللها وطرقها وضبطها وتجويدها، وحسن الأداء والإتقان والصدق والثقة. وكانت له معرفة تامة بالنحو. وكان متدينًا، جميل السيرة، مرضي الطريقة. انتهى.

وقال الشيخ موفق الدين المقدسي عنه: كان مقرىء بغداد في وقته، وكان عالمًا بالعربية، إمامًا في السنة. قرأ عليه القرآن جماعة من الكبار، منهم: عبد العزيز بن دلف، وأبو الحسن بن الجمري. وحدث عنه جماعة، منهم: الحافظ بن الأخضر، وعبد الغني المقدسي، وعبد القادر الرهاوي، وأحمد بن البندنيجي، والشيخ موفق الدين، والشهاب بن راجح، وغيرهم.

وروى عنه بالإجازة: الخليفة الناصر العباسي، وقرأ عليه القرآن أيضًا: الوزير ابن هبيرة، وأكرمه ونوه باسمه. وكان الوزير قد قرأ بالروايات على رجل يقال له: مسعود بن الحسين الحنبلي، وادعى أنه قرأ على ابن سوار، وأسند الوزير القراءات عنه عن ابن سوار في كتاب "الإفصاح" فحضر البطائحي دار الوزير وابن شافع يقرأ عليه. فلما انتهى إلى قوله: وأما رواية عاصم فإنك قرأت بها على مسعود بن الحسين. قال: قرأت بها على ابن سوار. وكان البطائحي قاعدًا في غمار الناس لأنه لم يكن حينئذ معروفًا، ولا له ما يتجمل به. فقام وقال: هذا كذب. ورفع صوته، ثم خرج. وبلغ الوزير الخبر، فطلبه وطلب مسعودًا وحاققوه. فتبين كذبه، وأنه لم يدخل بغداد إلا بعد موت ابن سوار بكثير، وأحضر البطائحي نسخة من المستنير بخط ابن سوار، فقوبل بخطها الخط الذي مع مسعود، ويدعي أنه خط ابن سوار، فبان الفرق بينهما.

وقال البطائحي: هو خط مزور بخط أبي رويح الكاتب. وكان خطه شبيهًا بخط ابن سوار. فأهان الوزير مسعودًا، ومنعه من الصلاة بالناس، قال له: لولا أنك شيخ لنكلت بك. ثم قرأ الوزير على البطائحي، وأسند عنه القراءات، وعلاّ قدره.

وذكر مضمون هذه الحكاية ابن النجار عن أحمد بن البندنيجي وكان شاهداً للقصة. وصار للبطائحي بعد ذلك اتصالاً بالدولة، ويدخل بواطن دار الخلافة. وكان ضريرًا يحفي شاربه. ووقف كتبه بمدرسة الحنابلة بباب الأزج.

وتوفي ليلة الثلاثاء ثامن عشر شعبان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وصلى عليه من الغد إسماعيل بن الجواليقي بجامع القصر، ودفن بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

مسلم بن ثابت بن القاسم، بن أحمد بن النحاس البزاز

البغدادي المأموني، الفقيه أبو عبد الله بن أبي البركات. ويعرف بابن جُوالق بضم الجيم: ولد سنة أربع وتسعين وأربعمائة.

وسمع من أبي علي بن نبهان، وتفقه على أبي الخطاب الكلوذاني وناظر وتطلس.

ذكره ابن القطيعي، وقال: سمع منه جماعة من الطلبة، وكتبت عنه. وكان صحيح السماع.

قلت: روى عنه ابن الأخضر. توفي يوم الأحد عشرين ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، ودفن بمقبرة باب حرب.

أحمد بن محمد بن المبارك بن أحمد بن بكروس بن سيف الدينوري

ثم البغدادي، أبو العباس بن أبي بكر بن أبي العز. ويعرف أيضًا بابن الحمامي. الفقيه الزاهد العابد: قرأ بالروايات على جماعة. سمع من ابن كادش وأبي بكر المزرفي. وتفقه على أبي بكر الدينوري. وكان رفيق ناصح الإسلام أبي الفتح بن المنّي في سماع الدرس على الدينوري. وله مدرسة بدرب القيار ببغداد بناها. وكان يدرس بها: تفقه عليه جماعة منهم: الشيخ فخر الدين ابن تيمية، وحدث. روى عنه الشيخ موفق الدين.

وقرأت بخط ناصح الدين بن الحنبلي: كان فقيهًا زاهدًا، عابدًا مفتيًا.

وسمعته يتكلم في حلقه شيخنا ابن المنى، وعليه من نور العبادة وهدى الصالحين ما يشهد له.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين. فقال: كان فقيهًا، صاحب مسجد ومدرسة يتكلم فيها في مسائل الخلاف ويدرس. وكان يتزهد. وكان متزوجًا بابنة ابن الجوزي، وما علمنا منه إلا الخير.

توفي يوم الثلاثاء خامس صفر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. وكان يومه مشهودًا.

ورأى رجل النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بعد موت أحمد بن بكروس وهو يقول: مات عابد الناس. وشاع هذا المنام في الناس. قرأته بخط ابن الحنبلي وكان أبوه أبو بكر محمد رجلاً صالحًا كثير الحج. سمع الحديث في كبره على جماعة.

ولأبي العباس ولد اسمه محمد، يكنى أبا بكر. سمع من أبيه وعمه على زمن ابن البطي، ويحيى بن بندار، وطبقتهم. وكان فقيهًا صالحًا. وتوفي شابًا سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.

صدقة بن الحسين بن الحسن بن بختيار بن الحماد البغدادي

الفقيه الأديب، الشاعر المتكلم، الكاتب المؤرخ أبو الفرج: ولد سنة سبع وسبعين وأربعمائة. وقرأ بالروايات. وسمع الحديث من أبي السعادات المتوكلي، وأبي الوفاء بن عقيل الإمام، وأبي الحسن الزاغوني، وأبي علي المبارك، وغيرهم. وتفقه على ابن عقيل، ثم من بعده على ابن الزاغوني، وبرع في الفقه، فرعه وأصوله.

وقرأ علم الجدل والكلام، والمنطق والفلسفة، والحساب، ومتعلقاته من الفرائض وغيرها. وكتب خطًا حسناً صحيحًا، وقال الشعر المليح، وأفتى وناظر، وانقطع بمسجده بالبحرية شرقي بغداد يؤم الناس فيه، وينسخ وبفتي، ويتردد إليه الطلبة يقرأون عليه فنون العلم، وبقي على ذلك نحوًا من سبعين سنة، حتى توفي.

وممن قرأ عليه من أصحابنا: الوزير أبو المظفر بن يونس.

وحدث وسمع منه جماعة، وروى عنه أبو المعالي بن شافع، والفقيه يعيش بن مالك بن ريحان. وله مسائل مفردة من أصول الدين، وجزء سماه "ضوء الساري، إلى معرفة الباري".

قال ابن النجار: وله مصنفات حسنة في أصول الدين. وقد جمع تاريخًا على السنين، بدأ فيه من وقت وفاة شيخه ابن الزاغوني، سنة سبع وعشرين وخمسمائة، مذيلاً به على تاريخ شيخه، ولم يزل يكتب فيه إلى قريب من وقت وفاته، يذكر فيه الحوادث، والوفيات. وقد نسخ بخطه كثيرًا للناس من سائر الفنون. وكان قوته من أجرة نسخه، ولم يطلب من أحد شيئًا، ولا سكن مدرسة، ولم يزل قليل الحظ، منكسر الأغراض، متنغص العيش، مقترًا عليه أكثر عمره.

وكان الوزير ابن رئيس الرؤساء، سأل عن مسألة في الحكمة. فقيل له: إن صدقة الناسخ، له يد قوية في ذلك، فأنفذها إليه. فكتب فيها جوابًا حسنًا شافيًا، استحسنه الوزير، وسأل عنه حاله. فأخبر بفقره، فأجرى له ما يقوته، وعلمت الجهة "بنفشا" بحاله- يعني جهة الخليفة- فصارت تفتقده في بعض الأوقات، بما يكون بين يديها من الأطعمة الفاخرة والحلوى، فيعجز عن أكله، فيعطيه لمن يبيعه له، فكان ربما شكى حاله لمن يأنس به، فيشنع عليه من له فيه غرض، ويقول: هو يعترض على الأقدار، وينسبه إلى أشياء، الله أعلم بحقيقتها.

قال: وحكى لي بعض أصحابنا، قال: دخل بعض الناس على صدقة، وإلى جانبه مركن، وعليه خرقة مبلولة، قد اجتمع عليها الذباب، فقال له: ما هذا المركن. قال: فيه حلوى السكر يابسة، قد نقعتها في الماء لتلِين، وأقدر على أكلها لذهاب أسناني، وأعجبك أنه لما كانت لي أسنان صحاح قوية لم يقدرني القدر على التمر، فلما كبرت، وذهبت أسناني، رزقت هذه الحلوى اليابسة، لأزداد بنظري إليها، وعجزي عن أكلها حسرة، فكان الناس ينسبونه بهذا الكلام، وبما كان يعلم من العلوم القديمة إلى أشياء، لعله بريء منها.

قلت: يشير بذلك ابن النجار إلى الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، فإنه حط عليه في تاريخه حطًا بليغًا، وذكر له أشعارًا رديئة، تتضمن الحيرة والشك، وكلمات تتضمن الاعتراض على الأقدار، وقال: هذا من جنس اعتراضات ابن الرواندي، ونسبه أيضًا إلى تعاطي فواحش، وإلى المسألة من غير حاجة، وأنه خلف ثلاثمائة دينار.

وقال: لما كثر عثوري على هذا منه، وعجز تأويلي له، هجرته سنين، ولم أصل عليه حين مات والشيخ أبو الفرج رحمه الله ثقة فيما ينقل وإذا لبث أو اشتهر عن أحد مثل هذه الأمور، فهاجره وذامه معيب فيما يفعل.

وقال ابن القطيعي: كان بينه وبين ابن الجوزي مباينة شديدة وكل واحد يقول في صاحبه مقالة، الله أعلم بها.

قال!: سمعت الوزير بن يونس- ومجلسه حفل بالعلماء- يثني على صدقة، وينكر على ابن الجوزي قدحه فيه، بقوله: صليت إلى جانب صدقة، فما سمعته يقرأ. وقال: الواجب أن يسمع نفسه، لا مَن إلى جانبه، وأين حضور قلب ابن الجوزي من سماع قراءة غيره? ثم من جعل همته إلى تتبع شخص، إلى هذا الحد في الصلاة، دل بفعله على عداوته، واللّه يغفر لهما.

قلت: هذا من أسهل ما أنكره ابن الجوزي عليه، ثم إنه قال: كنت أتأمله إذا قام إلى الصلاة، فأكون في أوقات إلى جانبه، فلا أرى شفتيه تتحرك أصلاً، لم يقل: لم أسمعه يقرأ.

وأما الفتيا التي عرفه الوزير بسببها، فقد ذكرها ياقوت الحموي في كتابه قال: جرى بين الوزير أبي الفرج ابن رئيس الرؤساء وزير المستضيء مسألة في العلم: هل هو واحد، أم أكثر. وكان عنده جماعة من أهل العلم، كابن الجوزي وغيره، فسألهم عن ذلك? فكل كتب بخطه: إن العلم واحد، فلما فرغوا، قال: ترى ههنا من هو قيم بهذا العلم غير هؤلاء. فقال له بعض الحاضرين: ههنا رجل يعرف بصدقة الناسخ، يعرف هذا الفن معرفة لا مزيد عليها، فنفذ بالفتوى، وفيها خطوط الفقهاء، وقال: انظر في هذه، وقل ما عندك، فلما وقف عليها فكر طويلاً، متعجبًا من اتفاقهم على ما لا أصل له، ثم أخذ القلم، وكتب: العلم علمان: علم غريزي، وعلم مكتسب.

فأما الغريزي: فهو الذي يدرك على الفور، من غير فكرة، كقولنا: واحد وواحد، فهذا يعلم ضرورة أنه اثنان.

وعلم مكتسب: وهو ما يدرك بالطلب، والفكرة والبحث، أو كلامًا هذا معناه، وأنفذ الخط إلى الوزير. فلما وقف عليه، أعجب به، وقال: أين يكون هذا الرجل? فعرف حاله وفقره، فاستدعاه إليه، وتلقاه بالبشر، وخلع عليه خلعة حسنة، وأعطاه أربعين دينارًا، ففرح فرحًا عظيمًا، وقال: يا مولاي، قد حضر لي بيتان. قال: أنشدهما، فقال:

ومن العجائب والعجائب جـمة

 

شكر بطيء عن ندى متسـرع

ولقد دعوت ندى سواك فلم يجب

 

فلأشكرن ندى أجاب وما دعى

فاستحسن ذلك، وما زال يبره إلى أن مات، سامحه الله.

توفي صدقة يوم السبت ثالث عشر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وصلى عليه من الغد برحبة الجامع، ودفن بباب حرب.

وقيل: إنه توفي يوم الأحد، رابع عشر.

وذكر ابن الجوزي عمن حدثه: أنه رئي له منامات غير صالحة، وأنه عريان، وأنه أخبر عن نفسه أنه مسجون مضيق عليه، وأنه لم يغفر له، فالله تعالى يسامحه ويتجاوز عنه.

وذكر ابن النجار عن علي الفاخراني الضرير، قال: رأيت صدقة الناسخ في المنام، فقلت له: ما فعل اللّه بك. قال: غفر لي بعد شدة، فسألته عن علم الأصول. فقال: لا تشتغل به، فما كان شيء أضر عليّ منه، وما نفعني إلا خمس قصيبات- أو قال: تميرات- تصدقت بها على أرملة. قلت: هذا المنام حق، وما كانت مصيبته إلا من علم الكلام. ولقد صدق القائل: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح. وبسبب شبه المتكلمين والمتفلسفة، كان يقع له أحيانًا حيرة وشك، يذكرها في أشعاره، ويقع له من الكلام والاعتراض ما يقع.

وقد رأيت له مسألة في القران، قرر فيها: أن ما في المصحف ليس بكلام الله، حقيقة، وإنما هو عبارة عنه، ودلالة عليه، وإنما يسمى كلام الله مجازًا.

قال: ولا خلاف بيننا، وبين المخالفين في ذلك، إلا أن عندنا: أن مدلوله هو كلام الله الذي هو الحروف والأصوات، وعندهم مدلول الكلام، الذي هو المعنى القديم بالذات.

أحمد بن أبي غالب بن أبي عيسى بن شيخون الأبرودي الحبابيني أبو العباس

الفقيه الضرير، كذا نسبه ابن النجار: وقال ابن الجوزي: أحمد بن عيسى بن أبي غالب، من قرية بدجيل، يقال لها: الحبابين.

دخل بغداد في صباه، وحفظ القرآن، وقرأه بالروايات على أبي محمد سبط الخياط، وسمع منه الحديث، ومن سعد الخير الأنصاري، ومن جماعة دونهما.

وقرأ الفقه على أبي العباس، أحمد بن بكروس، وحصل منه طرفًا صالحًا، ولما مات ابن بكروس، خلفه في مسجده ومدرسته. وكان صالحًا. متدينًا. ومات شاباً لم يرو شيئًا. ذكر ذلك ابن النجار.

وقال ابن الجوزي: قرأ القرآن وسمع الحديث، وتفقه وناظر، وكان فيه دين.

قال ابن النجار: قرأت في كتاب أبي بكر عبد اللّه بن علي المارستاني بخطه قال: دخلت على أحمد الحبابيني عائدًا، فأنشدني متمثلاً:

سيبكي عليّ باكيَ العين بعد موتـه

 

ويبكي علي باكي البكاء إلى الحشر

فنفسي أعِدِّي فضل زاد من التقـى

 

فإنك في الدنيا ورجلاك في القبـر

توفي يوم الجمعة عاشر رجب سنة أربع وسبعين وخمسمائة، وصلى عليه يومئذ بجامع القصر. ودفن بمقبرة الإمام أحمد عن نيف وأربعين سنة رحمه الله تعالى.

المظفر بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء أبو منصور ابن القاضي أبي يعلى ابن القاضي أبي خازم ابن القاضي الكبير أبي يعلى:

ولد سنة ست وثلاثين وخمسمائة.

وسمع الحديث، واشتغل بالفقه أصولاً وفروعاً. وبرع وناظر وتأدب، وقال الشعر الجيد.

ومن شعره:

لست أنسى من سليمى قولـهـا

 

يوم جد البين منـي وبـكـت

قطع اللـه يد الـدهـر لـقـد

 

قرطست إذ بالنوى شملي رمت

فجرى دمعي لمـا سـمـعـت

 

ووعت أذناي منها مـا وعـت

يا لها من قولة عن نـاظـري

 

نومة طول حياتي قـد نـفـت

ومن شعره أيضاً:

يا ربة الطرف الكحيل الذي

 

يرمي مني الأكباد بالنبـل

وربة الخد الأسـيل الـذي

 

يفعل فعل الصارم المجلي

هويتكم والقلب ذو صـحة

 

واليوم قد أصبح ذا خبـل

كان خليَّا فارغاً فانـثـنـى

 

بكم عن العالم في شغـل

عوفيتم من سقم حـل بـي

 

ولا رأتكم مقلتي مثـلـي

لا تقتلوا عبدًا أسـيرًا غـدا

 

وهو لكم أطوع من نعـل

والله لو جئت ومن دونكـم

 

نار ثوت تعمل في الجزل

وقلتم: طأها، ووطئي لهـا

 

يرضيكم أقحمتها رجلـي

توفي رحمه اللّه في عنفوان شبابه، يوم الجمعة لخمس عشرة خلت من شوال سنة خمس وسبعين وخمسمائة. ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب.

محمد بن أبي غالب بن أحمد بن مرزوق بن أحمد الباقداري

البغدادي الضرير المحدث، الحافظ أبو بكر: ولد بباقدار، قرية من قرى بغداد. وقدم بغداد في صباه، فتلا على جماعة.

وسمع الحديث من أبي محمد سبط الخياط، وأبي بكر بن الزاغوني، وابن الطلاية، وأبي الوقت، وابن ناصر الحافظ، وطبقتهم. وكثر السماع عليهم، وعلى من بعدهم.

وحدث، وسمع منه أبو الحسن علي بن عمر الزيدي الحافظ، وغيره.

وذكره ابن الدبيثي الحافظ، فقال: انتهى إليه معرفة رجال الحديث وحفظه. وعليه كان المعتمد فيه. وقال أبو الفتوح نصر بن الحصري الحافظ: كان آخر من بقي من حفاظ الحديث الأئمة.

قال الدبيثي: سمعت غير واحد من شيوخنا يذكرون أبا بكر الباقداري، ويصفونه بالحفظ ومعرفة الرجال والمتون، مع كونه ضريرًا مقصورًا، إلا أنه كان حفظة، حسن الفهم. بلغني: أن ابن ناصر كان يراجعه في أشياء، ويصير إلى قوله.

وقال الحافظ عبد العظيم المنذري: كان أحد حفاظ بغداد، المشهورين بمعرفة الرجال، والمتقدم مع ضرره، حدث وخرج.

قال الحافظ أبو بكر الباقداري: روى أبو بكر بن أبي داود عدة أحاديث، يقول فيها: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا سعد حدثنا الأعمش، بأسانيد متصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكنت لا أدري من إسحاق بن إبراهيم، ولا سعد? فأمعنت النظر، وأجدت التفتيش فلم أجده إلا فيما قرئ على المبارك بن أبي نصر البزاز -وأنا أسمع- قيل له: حدثكم عبد الله بن أحمد حدثنا أحمد بن علي الحافظ قال: حدثنا ذكر إسحاق بن إبراهيم الشيرازي: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن الحسين المحالمي- إملاء- حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف. حدثنا أحمد بن إبراهيم البردعي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الشيرازي، حدثنا جدي سعد بن الصلت، حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر من غير خوف ولا مطر. فقيل لابن عباس: لِمَ فعل ذلك. قال: كي لا يحرج أمته". وجمع أبو بكر في هذا جزءًا.

قلت: إسحاق هذا يعرف بشاذان، وهو إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله النهشلي الفارسي، وهو ابن بنت سعد بن الصلت قاضي فارس. روى عن جده أبي أمه سعد بن الصلت، وأبي داود الطيالسي، والأسود بن عامر.

قال ابن أبي حاتم: كتب إلى أبي، وإليَّ، وهو صدوق.

توفي أبو بكر الباقداري لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وهو في سن الكهولة. ودفن بالشونيزية، بتربة مقبرة أبي القاسم الجنيد، وهو والد عجيبة مسندة العراق.

المبارك بن علي بن الحسين بن عبد الله بن محمد الطباخ البغدادي

نزيل مكة المكرمة، وإمام الحنابلة بالحرم، المحدث الحافظ أبو محمد: سمع الكثير ببغداد من أبي سعد بن الطيوري، وأبي العز بن كادش، وابن الحصين، وأبي بكر المزرفي، وابن غالب بن البنا، والقاضي أبي الحسين بن الفراء، وأبي منصور القزاز، وأبي القاسم بن السمرقندي، وأبي الحسين بن الزاغوني، وبهرام بن بهرام بن فارس البيِّع، وأبي بكر اللفتواني الأصبهاني، وغيرهم.

وعنى بالطلب. وسمع الكثير. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه. وكان صالحًا دينًا ثقة، وهو كان حافظ الحديث بمكة في زمانه، والمشار إليه بالعلم بها.

وحدث، وسمع منه خلق من القدماء، منهم: ابن السمعاني، وسمع منه جماعة من أصحابنا، منهم: أبو القاسم عبيد الله بن الفراء، وأبو العباس أحمد بن محمد بن الفراء، وأبو الفتح بن عبدوس الحراني، والوزير ابن يونس، وأبو عبد الله الأرتاحي، وغيرهم.

وتوفي في ثامن شوال سنة خمس وسبعين وخمسمائة بمكة. وكان يوم جنازته مشهودًا رحمه الله.

إسماعيل بن موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر بن الحسن بن محمد بن الجواليقي

الأديب ابن الأديب، أبو محمد بن أبي منصور: ولد في شعبان سنة اثني عشرة وخمسمائة.

وسمع من أبي القاسم بن الحصين، وأبي بكر الأنصاري، وأبي الحسين بن الفراء، وأبي العز بن كادش، وأبي غالب بن البنا، وأبي القاسم بن السمرقندي وغيرهم.

وقرأ القرآن والأدب على أبيه، وكان عالمًا باللغة والعربية والأدب. وله سمت حسن. وقام مقام أبيه في دار الخلافة.

قال ابن القطيعي: سمعت ابن الجوزي يقول: ما رأينا ولدًا أشبه أباه مثله حتى في مشيه وأفعاله.

وتوفي يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وسبعين وخمسمائة. وصلى عليه من الغد بجامع القصر. ودفن بمقبرة الإمام أحمد رضي الله عنه.

وقال المنذري: هو أحد الفضلاء النساك، سمع من غير واحد، وحدث.

وقال الدبيثي: شيخ فاضل، له معرفة بالأدب، وقور، حسن الطريقة واختص بخدمة الخلفاء في أيام المستضيء.

سمع منه عمر القرشي، والمبارك بن أبي شتكين، وخلق كثير.

وقال ابن النجار: كان من أعيان العلماء بالأدب، صحيح النقل، كثير المحفوظ، حجة ثقة نبيلاً، مليح الخط. قرأ الأدب على أبيه حتى برع فيه. وكانت له حلقة بجامع القصر الشريف، يقرىء فيها الأدب كل جمعة. وكان يكتب أولاد الخلفاء، ويقرئهم الأدب، وكان على منهاج أبيه في حسن السمت، والديانة والنزاهة والعفة، وقلة الكلام، والرواية.

روى لنا عنه ابن الأخضر، وأثنى عليه ثناءً كثيرًا.

أحمد بن أبي الوفاء، عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الصمد بن محمد بن الصائغ البغدادي

الفقيه الإمام أبو الفتح، نزيل حران: ولد ببغداد سنة تسعين وأربعمائة. قاله ابن القطيعي عنه.

وقال أبو المحاسن القرشي عنه: سنة سبعين.

ولزم أبا الخطاب الكلوذاني، وخدمه وتفقه عليه. وسمع منه، ومن أبي القاسم ابن بيان، وسافر إلى حلب وسكنها. ثم استوطن حران إلى حين وفاته. وكان هو المفتي والمدرس بها.

وقرأ عليه الفقه جماعة، منهم: الشيخ فخر الدين ابن تيمية. وحدث بحلب وبحران.

سمع منه جماعة من أصحابنا ومن غيرهم، منهم: أبو الفتح بن عبدوس، والشيخ العماد المقدسي، والبهاء عبد الرحمن المقدسي، ومحمود بن الصقال، وأبو الحسن بن الصقال، وأبو الحسن بن القطيعي. وروى عنه في تاريخه.

قال: وأنشدني أبو الخطاب الكلوذاني لنفسه:

أنا شيخ وللمشايخ بالآداب

 

علم يخفى على الشبـان

فإذا ما ذكرتني فـتـأدب

 

فهو قرض يرد بالميزان

وروى عنه ابن صصري في معجمه، وابن الأستاذ، وغيرهما.

توفي رحمه الله بحران سنة ست وسبعين وخمسمائة، فيما ذكره ابن القطيعي.

وذكر الذهبي في تاريخه: أنه مات سنة خمس وسبعين.

علي بن محمد بن المبارك بن أحمد بن بكروس

البغدادي، الفقيه، أبو الحسن، أخو أبي العباس أحمد السابق ذكره: ولد يوم الإثنين ثالث رجب سنة أربع وخمسمائة.

وسمع الحديث من ابن الحصين، والمزرفي، وأبي القاسم بن السمرقندي، وأبي غالب الماوردي، وأبي الحسن علي بن محمد الهروي، وزاهر بن طاهر الشحامي، وغيرهم.

وتفقه في المذهب، وبرع، وأفتى وناظر، ودرس بمدرسة أخيه آخرًا، وصنف في المذهب، وله كتاب "رؤوس المسائل"، وكتاب "الأعلام".

وحدث، وسمع منه جماعة، منهم: أبو الحسن بن القطيعي. وروى عنه في تاريخه.

ولزم بيته في آخر عمره لمرض حصل له، إلى أن توفي يوم الإثنين ثالث ذي الحجة، سنة ست وسبعين وخمسمائة، ودفن بمقبرة الإمام أحمد، رضي اللّه عنه.

علي بن أبي المعالي المبارك- وقيل: أحمد بن أبي الفضل بن أبي القاسم بن الأحدب الوراق الدارقزي، ثم المحولي، الفقيه أبو الحسن، المعروف بابن غريبة:

وقال ابن النجار: رأيت نسبه بخط ابن مشق علي بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم، أبو الحسن بن أبي المعالي بن أبي الفضل.

ولد في منتصف رمضان سنة ست وخمسمائة.

وسمع الكثير من أبي القاسم بن الحصين، سمع منه المسند بكماله، ومن القاضي أبي بكر الأنصاري، والقاضي أبي الحسين بن الفراء، وأبي غالب بن الفراء، وأبي القاسم بن السمرقندي.

وسمع بمرْو من الخطيب أبي الفتح الكشميهني، وغيرهم.

وتفقه في المذهب على أبي القاسم بن قثامي، وأبي الفضل بن سيف، وقرأ الفرائض على القاضي أبي بكر. وكان ثقة، صحيح السماع، ذا عقل وتجربة، ولاه الوزير ابن هبيرة المظالم، يرفعها إليه. وانقطع في آخر عمره بالمحوّل، إلى أن مات، وأفلج قبل موته بشهر، وحدث، وسمع منه جماعة.

قال ابن النجار: كان فقيهًا، فاضلاً، حسن الكلام في مسائل الخلاف. وكان يكتب خطًا رديئًا.

وسمع منه من أصحابنا: أبو الفرج عبد الرحمن بن الحنبلي، وابن القطيعي، وابن الغزال، وروى عنه ابن الجوزي حكايات عدة.

وتوفي يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بالمحول، وحمل على أعناق الرجال، فدفن بمقبرة الإمام أحمد، رضي الله عنه بباب حرب.

دلف بن عبد الله بن محمد بن عبد اللّه بن عمر بن التبان الأزجي، الفقيه أبو الخير:

سمع من ابن ناصر، وسعد الخير الأنصاري، وعبد الصبور الهروي، وأبي حفص الحربي وغيرهم. وصحب الشيخ عبد القادر، وتفقه عليه، ثم خرج من بغداد، ودخل خراسان، وأقام بنيسابور، فقرأ على محمد بن يحيى الفقيه، وسمع بها من أبي البركات عبد اللّه بن محمد الفزاري.

ودخل خوارزم، ومضى إلى سمرقند، وسمع بها من أبي المعالي محمد بن نصر المديني، وأبي القاسم محمود بن علي النسفي، وحدث هناك.

وروى عنه أبو سعد بن السمعاني في ذيله حكايات، وروى عنه أبو المظفر بن السمعاني في مشيخته، وأبو بكر الفرغاني خطيب سمرقند، وذكر أنه سمع منه في صفر سنة سبع وسبعين وخمسمائة.

كرم بن بختيار بن علي البغدادي، الرصافي الزاهد أبو الخير

وقيل: أبو علي: ولد في حدود سنة أربع وتسعين وأربعمائة.

وسمع من أبي القاسم بن الحصين. وحدث، وسمع منه جماعة، منهم: ابن القطيعي.

وقال الناصح بن الحنبلي: سمعت منه جزءًا بقراءة الشيخ طلحة العلثي، قال: وزرته يومًا، وهو مضطجع على جنبه، والفقيه ابن فضلان- يعني: شيخ الشافعية- عنده يزوره، فأخذ بيد الشيخ كرم يقبلها تبركًا. وكان زاهدًا، منقطعًا بالرصافة.

وقال القطيعي: كان زاهدًا، ورعًا، سريع الدمعة، كثير العبادة. وفي بعض الأوقات تصدر منه كلمات على خاطر الحاضر عنده.

وقال الدبيثي: كان أحد الشيوخ الموصوفين بالصلاح.

وتوفي يوم الأربعاء سادس ذي الحجة سنة تسع وسبعين وخمسمائة، ودفن بمقبرة الإمام أحمد، في دكة بشر الحافي. وكان حنبليًا.

إسماعيل بن نباتة الفقيه، الملقب وجيه الدين:

قال ناصح الدين بن الحنبلي: سمع درس عمي الإمام بهاء الدين عبد الملك بن شرف الإسلام لما قدم من خراسان، وعلق عنه من تعليق أبي الفضل الكرماني، ثم سمع درس والدي، وحفظ "الهداية" لأبي الخطاب، حفظًا متقنًا، وحفظ أصول الفقه للبستي، وحفظ كثيرًا من مسائل التعليق. وكان يدرس القرآن كثيرًا، ويقوم به من نصف الليل. وكان يصلي الفجر على نهر بردى بحضرة القلعة، ويصلي العصر على عين بعلبك، وبالعكس، وربما قرأ في طريقه القرآن- أو كتاب "الهداية"- الشك مني.

قال: ولما قدمت من بغداد سنة ست وسبعين، وتكلمت في المسألة فرح بي. ومات قبل الثمانين وخمسمائة، ودفن بالجبل، جوار دير الحوراني. رحمه الله.

عبد الله بن علي بن محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء، القاضي أبي القاسم ابن القاضي أبى الفرج ابن القاضي أبي خازم، ابن القاضي أبي يعلى:

ولد ليلة الإثنين رابع عشر ذي الحجة سنة سبع وعشرين وخمسمائة.

وأسمعه أبوه الكثير في صباه من أبي منصور القزاز، وأبي منصور بن خيرون، وعبد الخالق بن البدن، وأبي سعد الزوزني، وأبي البدر الكرخي، وأبي الحسن بن عبد السلام، وأبي الفضل الأرموي، وأبي محمد سبط الخياط.

وسمع هو بنفسه من ابن ناصر الحافظ، وأبي بكر بن الزاغوني، وسعيد بن البناء، وخلق من أصحاب القاضي، وابن البطر، وطراد، وطبقتهم. وبالغ في السماع والإكثار، حتى سمع من جماعة من المتأخرين.

وكتب بخطه، وحصل الكتب، والأصول الحسان الكبيرة، وتفقه، وكتب في الفتاوى مع أئمة عصره، وشهد عند أبي الحسن بن الدامغاني من سنة خمس وخمسين وكانت داره مجمعًا لأهل العلم، يحضرها المشايخ، ويقرأ عليهم وتحضر الناس منزله للسماع، وينفق عليهم بسخاء نفس، وسعة صدر. وحدث باليسير.

سمع منه ابن عمه أبو العباس أحمد، وأبو الحسن الزيدي، وابن الأخضر. وروى عنه. وكان يصفه كثيرًا بالسخاء وسمعة النفس، والبذل والعطاء. وحسن الخلق، ولطف المعاشرة.

وروى عنه ابن القطيعي في تاريخه. وأجاز للخليفة الناصر، وخرجوا له عنه في كتاب "روح العارفين".

وقرأت بخط الشيخ ناصح الدين بن الحنبلي، قال: سمعت عليه كتاب "صحيح الترمذي " بسماعه من الكروخي، بقراءة الشيخ طلحة العلثي، وأجزاء أخر. وكان جميلاً جليلاً، محترمًا وفاضلاً، ومن أعيان العدول ببغداد.

ومن تصانيفه "الروض النضر في حياة أبي العباس الخضر" وكانت عنده كتب جليلة أصيلة على مذهب الإمام أحمد. وخط الإمام أحمد كان أيضًا عنده. حكاه الشيخ طلحة في غالب ظني. وكان في سنة ثلاث وسبعين قد علاه الشيب الكثير. وكنت لا أشبع من النظر إلى جمال وجهه، وحسن أطرافه، وسكينة عليه. ولزمه دين كثير. وحمل منه الهم الغزير.

وقال ابن القطيعي: جمع بين حسن الرأي والسمت، وعارف بأحكام الشريعة، من الشهادة والقضاء، مهيب المجلس، لم يزل منزله محلاً لقراءة الحديث وتدريس الفقه بحضرة الشيوخ، وجماعة أصحاب الحديث، معروف بالكرم والإفضال. وله الأصول الحسنة والفوائد الجمة.

وسمع الحديث عاليًا ونازلاً، وجمع وصنف أنواعًا من العلوم. وحمله بذل يده، وكرم طبعه على أنه استدان ما لا يمكنه الوفاء، فغلبه الأمر حتى باع معظم كتبه، وخرج عن يده أكثر أملاكه، واختفى في بيته لما فدعه من الديون. وبلغ به الحال إلى أن اغتيل في شهادة على امرأة بتعريف بعض الحاضرين، وأنكرت المرأة المشهود عليها ذلك الإشهاد. وكان ذلك سببًا لعزله عن الشهادة، فهو عدل في روايته، ضعيف في شهادته.

وتوفي رحمه الله يوم الجمعة يوم عيد الأضحى سنة ثمانين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد عند آبائه. وأبوه القاضي أبو الفرج على ابن القاضي أبي خازم.

حدث بإجازته من العاصمي، وأبي الفضل بن خيرون، وابن الطيوري، وغيرهم.

وسمع منه ابنه هذا، وأبو العباس القطيعي الفقيه، والحسين بن مهجل غيرهم، وتوفي في ليلة الأحد ثاني عشر رمضان سنة ست وأربعين وخمسمائة.

ووهم ابن السمعاني في نسبته، فقال: هو علي بن عبيد الله بن محمد بن الحسين وذكره في موضع آخر على الصواب، وقال: سمع الحسين بن طلحة، فمن دونه. كتبت عنه أحاديث. وعمه القاضي أبو محمد عبد الرحيم ابن القاضي أبي خازم. سمع من القاضي أبيه، وعمه أبي الحسين، وأبي الحصين، وأبي العز بن كادش، وأسعد بن صاعد النيسابوري، وغيرهم، وحدث.

كتب عنه ابن القطيعي، وقال: سألته عن مولده. فقال: سنة تسع خمسمائة.

وتوفي ليلة الجمعة عشرين ذي الحجة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. ودفن عند آبائه، وله عدة أولاد سمعوا الحديث أيضًا.

عبد الرحمن بن جامع بن غنيمة بن البنا البغدادي، الأزجي الميداني الفقيه الزاهد أبو الغنائم. ويسمى أيضًا غنيمة:

ولد سنة خمسمائة تقريبًا.

وسمع الحديث من ابن أبي طالب اليوسفي، وابن الحصين، سمع عليه المسند كله، والقاضي أبي بكر بن عبد الباقي، وأبي السعادات المتوكلي، والحسين بن عبد الملك الخلال وغيرهم. وتفقه على أبي بكر الدينوري. وقرأ الخلاف على أسعد المنهني وغيره. وبرع وأفتى وناظر ودرس بمسجده. وكان عارفًا بالمذهب صالحًا تقياً.

قال ابن الدبيثي: كان شيخًا صالحًا، فقيهًا مناظرًا على مذهب الإمام أحمد.

وقال ابن النجار: كان فقيهًا فاضلاً، ورعًا زاهدًا، مليح المناظرة، حسن المعرفة بالمذهب والخلاف.

وقال الشيخ موفق الدين عنه: كان فقيهًا من أصحابنا، وتولى مدرسة ابن بكروس بعد موته. ومضينا إليه مع الشيخ أبي الفتح- يعني ابن المنى- على عادة فقهاء بغداد وتكلمت يومئذ في مسألة قتل المسلم بالذمي. وكان يسكن بالميدان من باب الأزج ولذلك قيل في نسبه، الميداني: سمع منه عمر بن علي القرشي، وابن الدبيثي، وابن القطيعي.

وحدث عنه الشيخ موفق الدين، والبهاء عبد الرحمن المقدسيان، والموفق بن صديق، وعمر بن شخانه الحرانيان، وابن الأخضر، وأحمد بن البندنيجي، وابن الغزال الواعظ. وأجاز للخليفة الناصر.

وتوفي ليلة الإثنين ثامن شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه اللّه تعالى.

علي بن عكبر بن عبد الله، أبو الحسين الضرير المقرىء الأزجي الفقيه:

قرأ القرآن، وسمع الحديث الكثير من ابن ناصر، وابن البطي، وغيرهما. وتفقه على أبي حكيم النهرواني. وقرأ عليه القرآن جماعة، وكان يحفظ طرفاً من المذهب. وكان من أهل الدين والصلاح. ذكره ابن النجار عن أبي العباس بن الفراء، وأنه قال: توفي ليلة الأربعاء عاشر شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. ودفن بباب حرب إلى جانب شيخه أبي حكيم. رحمهما الله تعالى.

عبد المغيث بن زهير بن علوي الحربي، المحدث الزاهد، أبو المعز بن أبي حرب:

ولد سنة خمسمائة تقريبًا.

وسمع من أبي القاسم بن الحصين، وأبي العز بن كادش، وأبي غالب، وأبي عبد الله بن أبي علي بن البناء، وأبي الحسين بن الفراء، والمزرفي، والقاضي أبي بكر الأنصاري، وهبة اللّه الجريري، وأبي القاسم السمرقندي، وأبي منصور القزاز، وعبد الوهاب الأنماطي، وزاهر الشحامي، وخلق كثير، وعنى بهذا الشأن.

وقرأ بنفسه على المشايخ، وكتب بخطه، وحصل الأصول، ولم يزل يسمع حتى سمع من أقرانه. وتفقه على القاضي أبي الحسين بن الفراء.

وكان صالحًا متدينًا، صدوقًا أمينًا، حسن الطريقة، جميل السيرة، حميد الأخلاق مجتهدًا في اتباع السنة والآثار، منظوراً إليه بعين الديانة والأمانة. وجمع وصنف وحدث، ولم يزل يفيد الناس إلى حين وفاته، وبورك له حتى حدث بجميع مروياته وسمع منه الكبار.

قال الدبيثي: عني بطلب الحديث وسماعه، وجمعه من مظانه. فسمع الكثير وقرأ عليه الشيوخ. وكتب وحصل الأصول، وخرج وصنف. وكان ثقة صالحًا. صاحب طريقة حميدة. وحدث بالكثير وأفاد الطلبة. سمعنا منه، وكتبنا عنه. ونعم الشيخ كان.

وروى عنه ابن السمعاني في كتابه شعرًا، وقال عنه: رفيقنا.

وروى عنه الشيخ موفق الدين، والحافظ عبد الغني، والبهاء عبد الرحمن المقدسيون.

وقدم دمشق، وحدث بها سنة ثمان وثلاثين.

قرأت بخط ناصح الدين بن الحنبلي: سمعت من عبد المغيث طبقات أصحاب الإمام أحمد لأبي الحسين ابن القاضي بسماعه منه، بقراءة طلحة العلثي ببغداد. وكان - يعني عبد المغيث- حافظًا زاهدًا ورعًا. كنت إذا رأيته خُيّل إليّ أنه أحمد بن حنبل، غير أنه كان قصيرًا.

وقال الحافظ المنذري عنه: اجتهد في طلب الحديث، وجمعه، وصنف وأفاد، وحدث بالكثير. حدثنا عنه الفقيه أبو عبد الله أحمد بن صديق بحران.

وقال ابن القطيعي: كان أحد المحدثين مع صلابته في الدين، واشتهاره بالسنة، وقراءة القرآن. وجرت بينه وبين صاحب المنتظم- يعني: أبا الفرج بن الجوزي- نفرة كان سببها الطعن على يزيد بن معاوية. كان عبد المغيث يمنع من سبه. وصنف في ذلك كتابًا، وأسمعه. وصنف الآخر كتابًا سماه ة الرد على المتعصب العنيد، المانع من ذم يزيد" وقرأته عليه. ومات عبد المغيث وهما متهاجران.

قلت: هذه المسألة وقع بين عبد المغيث وابن الجوزي بسببها فتنة، ويقال: إن عبد المغيث تتبع أبا الحسن بن البنا، فقيل: إنه صنف في منع ذم يزيد ولعنه، وابن الجوزي صنف في جواز ذلك. وحكى فيه: أن القاضي أبا الحسن صنف كتابًا فيمن يستحق اللعن، وذكر منهم يزيد، وذكر كلام أحمد في ذلك. وكلام أحمد إنما فيه لعن الظالمين جملة، ليس فيه تصريح بجواز لعن يزيد معينًا.

وقد ذكر القاضي في المعتمد: نصوص الإمام أحمد في هذه المسألة، وأشار إلى أن فيها خلافًا عنه.

وقرأت بخط يحيى بن الصيرفي الفقيه الحراني، قال: حكى لي: أنه كان يومًا في زيارة قبر الإمام أحمد- يعني الشيخ عبد المغيث- وأن الخليفة الناصر، وافاه في ذلك اليوم عند قبر الإمام أحمد، فقال له: أنت عبد المغيث الذي صنف مناقب يزيد. فقال: معاذ الله أن أقول: إن له مناقب، ولكن من مذهبي: أن الذي هو خليفة المسلمين إذا طرأ عليه فسق لا يوجب خلعه. فقال: أحسنت يا حنبلي، واستحسن منه هذا الكلام، وأعجبه غاية الإعجاب.

قال ابن الصيرفي: ولقد حكى لي شيخنا محب الدين أبو البقاء: أن الشيخ جمال الدين بن الجوزي كان يقول: إني لأرجو من الله سبحانه أن أجتمع أنا وعبد المغيث في الجنة. قال: وهذا يدل على أنه كان يعلم أن الشيخ عبد المغيث من عباد الله الصالحين، فرحمة اللّه عليهما.

قلت: ووقع أيضاً تنازع بين عبد المغيث وابن الجوزي في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فصنف عبد المغيث تصنيفين في إثبات ذلك، تبعًا لأبي علي البرداني.

ورد عليه ابن الجوزي في كتاب سماه "آفة أصحاب الحديث، والرد على عبد المغيث". وكان عبد المغيث قد حفر لنفسه قبرًا خلف هدف الإمام أحمد الذي هو مدفون فيه.

فقال ابن الجوزي: لا يجوز ذلك لأنها بقعة مسبلة، فلا يجوز تحجيرها، ولأن تلك البقعة لا تخلو من دفين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كسر عظم الميت ككسره حياً".

فقال عبد المغيث: حفرت فلم أجد عظمًا.

فقال ابن الجوزي: تلك بليت، وبقي رضاضها المحترم، ولا يجوز نبشها.

قال: ولأنك إذا وضعت في هذا القبر تكون رجلاك عند رأس أحمد إذ ليس بينهما إلا الهدف، وهذا سوء أدب. أما علمت أن المروذي قال: ادفنوني بين يديه، كما كنت أجلس بين يديه? قال: فلم يلتفت إلى ما قلت، ومر مع هواه.

قلت: إذا بلي الميت، فلم يبق له عظم ولا أثر، فظاهر المذهب: جواز نبش قبره والدفن فيه، خلاف ما قاله ابن الجوزي.

وصنف عبد المغيث: "الانتصار لمسند الإمام أحمد" أظنه ذكر فيه: أن أحاديث السند كلها صحيحة. وقد صنف في ذلك قبله أبو موسى. وبذلك أفتى أبو العلاء الهمداني، وخالفهم الشيخ أبو الفرج بن الجوزي.

وللشيخ عبد المغيث مصنف في حياة الخضر في خمسة أجزاء. وله كتاب "الدليل الواضح في النهي عن ارتكاب الهوى الفاضح" يشتمل على تحريم الغناء وآلات اللهو وذكر فيه: تحريم الدُّفّ بكل حال، في العرس وغيره.

وأجاب عن حديث "أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف" بأن معناه: أعلنوه إعلانًا يبلغ ما يبلغ صوت الدف لو ضرب به لتمحوا سنة الجاهلية من نكاح البغايا المستتر به.

وأجاب عن حديث الجاريتين اللتين كانتا تُغنيان في بيت عائشة، بأنهما لم يكونا مكلفتين لصغرهما.

قال: وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على تسميته "مزمار الشيطان" وربما أشار إلى أنه منسوخ. وهذا مذهب ضعيف.

وللشيخ عبد المغيث قصيدة في السنة رواها عنه ابن الدبيثي، يقول فيها:

أفق أخا اللب من سكر الحياة فـقـد

 

آن الرحيل وداعي الموت قد حضرا

هل أنت إلا كآحاد الـذين مـضـوا

 

بحسرة الفوت لما استيقن الخـبـرا

وأنت تحرص فيما أنـت تـاركـه

 

إن كنت تعقل يوماً حقق النـظـرا

أيام عمرك كـنـز لا شـبـيه لـه

 

وأنت تشري الحصبـاء والـمـدرا

توفي رحمه الله ليلة الأحد ثالث عشر محرم سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وصلى عليه الخلق الكثير من الغد بالحربية. ودفن بدكة قبر الإمام أحمد مع الشيوخ الكبار. رحمهم اللّه تعالى.

وذكر ابن النجار في ترجمة داود بن أحمد الضرير الظاهري: أنه سمعه يقول: سمعت يعقوب بن يوسف الحربي يقول: رأيت عبد المغيث بن زهير الحربي في المنام بعد موته، فقلت له: ما فعل اللّه بك? فقال:

العلم يحيي أناساً في قبورهم

 

والجهل يلحق أحياء بأموات

نصر بن فتيان بن مطر النهرواني، ثم البغدادي، أبو الفتح الفقيه الزاهد، المعرف بابن المنّي

ناصح الإسلام، وأحد الأعلام، وفقيه العراق على الإطلاق: قال ابن القطيعي: ورأيت في أكثر مسموعاته: يكتب له أبو الفتح عبد اللّه بن هبة الله، المعروف بفتيان بن مطر.

قال: وسألته عن مولده? فقال: سنة إحدى وخمسمائة. وهذا أصح مما قاله المنذري: أنه ولد- ظنًا- قبل سنة خمسمائة.

وسمع الحديث من أبي بكر بن الدنف سنة إحدى عشرة، ومن القاضي أبي بكر بن عبد الباقي، وعبد الوهاب الأنماطي، وأبي الحسن بن الزاغواني، وأبي منصور القزاز، وأبي القاسم بن الحصين، وأبي نصر اليونارتي، وأبي غالب بن البنا، وأبي عبد الله البارع، والحسين بن عبد الملك الخلال، والأرموي، وابن ناصر، وأبي الوقت، وغيرهم.

وتفقه على أبي بكر الدينوري، ولازمه حتى برع في الفقه، وتقدم على أصحابه، وأعاد له الدرس. وصرف همته طول عمره إلى الفقه، أصولاً وفروعًا، مذهبًا وخلافًا، واشتغالاً وإشغالاً، ومناظرة. وتصدر للتدريس والاشتغال والإفادة، وطال عمره، وبَعُدَ صيتُه، وقصده الطلبة من البلاد، وشدت إليه الرحال في طلب الفقه، وتخرج به أئمة كثيرون.

قرأت بخط الإمام ناصح الدين بن الحنبلي وقد ذكر شيخه ابن المني، فقال: رحلت إليه فوجدت مسجده بالفقهاء والقراء معمورًا، وكل فقيه عنده من فضله وإفضاله مغمورًا، فأنخت راحلتي بربعه، وحططت زاملة بغيتي على شرعه، فوجدت الفضل الغزير، والدين القويم المنير، والفخر المستطيل المستطير، والعالم الخبير، فتلقاني بصدر بالأنوار قد شرح، منطق بالأذكار قد ذكر ومدح، وبباب إلى كل باب من الخيرات قد شرع وفتح. فتح الله عليه. حفظ القراَن العظيم وهو في حداثة من سنه. ولاحت عليه أعلام المشيخة، فرجح منه على كل فن بفضل اللّه ومَنَه.

قال لي المهذب بن قيداس: كنا نسمي شيخك شيخ صبي- يعني في صباه- لعقله ووقاره، وتركه اللعب. ثم قال: لم ينقل عنه: أنه لعب ولا لها، ولا طرق باب طرب، ولا مشى إلى لذة ومشتهى.

حدثني شيخنا الإمام ناصح الإسلام بن المنيّ قال: حصل لي من ميراث والدي عشرون دينارًا، فاشتريت بها شيئًا وبعته فأربحت، فخفت أن تحلو لي التجارة فأشتغل بها، فنويت الحج فحججت، وتجردت للحلم، فسمعت درس الشيخ أبي بكر الدينوري صاحب الشيخ أبي الخطاب الكلوذاني قال: فتفقه به ومال الفقهاء من أصحاب شيخه إلى الاشتغال عليه. ودرس بعد موت شيخه.

قال لي: تقدمت في زمن أقوام ما كنت أصلح أن أقدم مداسهم. وقال لي رحمه الله: ما أذكر أحدًا قرأ عليّ القرآن إلا حفظه، ولا سمع درسي الفقه إلا انتفع. ثم قال: هذا حظي من الدنيا.

قال ابن الحنبلي: أفتى ودرس نحوًا من سبعين سنة، ما تزّج ولا تسرى، لا ركب بغلة ولا فرسًا، ولا ملك مملوكًا، ولا لبس الثياب الفاخر إلا لباس التقوى. وكان أكثر طعامه يشرب له في قدح ماء الباقلاَّ. وكان إذا فتح عليه بشيء فرقه بين أصحابه. وكان لا يتكلم في الأصل. ويكره من يتكلم فيه، سليم الاعتقاد، صحيح الانتقاد في الأدلة الفروعية. وكنا نزور معه في بعض السنين قبر الإمام أحمد.

وسمعت الشيخ الإمام جمال الدين بن الجوزي وقد رآه يقول له: أنت شيخنا.

وأضرَّ بعد الأربعين سنة، وثقل سمعه. وكان تعليقه الخلاف على ذهنه، وفقهاء الحنابلة اليوم في سائر البلاد يرجعون إليه، وإلى أصحابه.

قلت: وإلى يومنا هذا الأمر على ذلك. فإن أهل زماننا إنما يرجعون في الفقه من جهة الشيخ والكتب إلى الشيخين: موفق الدين المقدسي، ومجد الدين ابن تيمية الحراني.

فأما الشيخ موفق الدين: فهو تلميذ ابن المني. وعنه أخذ الفقه.

وأما ابن تيمية: فهو تلميذ تلميذه أبي بكر محمد بن الحلاوي. وقد جمع بعض فضلاء أصحابه له سيرة طويلة. وهو أبو محمد عبد الرحمن بن عيسى البزوري الواعظ. وقفت على بعضها مما ذكره فيها.

قال: وكان رحمه اللّه كثير الذكر والتلاوة للقرآن لا سيما في الليل، مُكرِمًا للصالحين، مُحِبًّا لهم، ليس فيه تيه الفقهاء، ولا عجب العلماء. إن مرض أحد من تلامذته ومعارفه عاده، أو كانت لهم جنازة شيعها ماشيًا غير راكب، على كبر السن، وضعف البِنْية. زاهدًا في الدنيا، يقنع منها بالبلغة، وإذا جاءه فتوح أو جائزة من بيت المال وزعها بين أصحابه، وإن ناله منها شيء أعاده عليهم في غضون الأيام.

قال: ولقد حدثني من أثق به من أصحابنا: أنه جاءته صلة من بعض الصدور نحو أربعين دينارًا، ففرقها في يومه بين أهله وأصحابه، وما أخذ منها شيئًا. فلما كان آخر النهار قال لي: لو كنا عزلنا من ذاك الذهب قيراطين للحمام? وكان قوته كل يوم قرصين وربما لم يغنهما. وقال لي بعض أصحابه: إنه يستفضل منهما بعض الأيام ما يدفعه إلى السقا.

وكان معظم إدامه: أن يشتري له برغيف ماء الباقلاّ. وما رأيته جعل عليه دهنًا قط، راضيًا بذلك مع قدرته.

وكان يخدم نفسه بنفسه، لا يثقل على أحد من أصحابه، ولا يكلفهم شيئًا. اللهم إلا أن يعتمد على يد أحدهم في الطريق. ولقد كنا عنده يومًا جماعة من أصحابه، فأوذن بالصلاة، فنهض بنفسه فاستقى الماء للتطهير، وما ترك أحداً منا ينوبه في ذلك، ولقد قدمت له نعله يوماً، فشق عليه، وجعل يقول: إيش هذا. إيش هذا? مثلك لا نسامحه في هذا.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين المقدسي. فقال: شيخنا أبو الفتح كان رجلاً صالحًا، حسن النية والتعليم. وكانت له بركة في التعليم. قل مَن قرأ عليه إلا انتفع، وخرج من أصحابه فقهاء كثيرون منهم من ساد. وكان يقنع بالقليل، وربما يكتفي ببعض قرصة، ولم يتزوج وقرأت عليه القراَن. وكان يحبنا ويجبر قلوبنا، ويظهر منه البشر إذا سمع كلامنا في المسائل. ولما انقطع الحافظ عبد الغني عن الدرس لاشتغاله بالحديث، جاء إلينا، وظن أن الحافظ انقطع لضيق صدره.

وذكر ابن الجوزي في المنتظم: أن المستضيء في أول خلافته جعل للشيخ أبي الفتح حلقة بالجامع، ثم بعد مدة أمر ببناء دكة له في جامع القصر، وجلس فيها للمناظرة سنة أربع وسبعين. وله تعليقة في الخلاف كبيرة معروفة.

وقرأ عليه الفقه خلق كثير. قد ذكر أعيانهم ابن البزوري في سيرته على حروف المعجم.

فمن أكابرهم وأعلامهم من الشاميين: الشيخ موفق الدين المقدسي، ورحل إليه إلى بغداد، والحافظ عبد الغني، وأخوه الشيخ العماد، والبهاء عبد الرحمن، والشهاب بن راجح، وناصح الدين بن الحنبلي.

ومن أكابر البغداديين: أبو بكر بن الحلاوي، والفخر إسماعيل، وقاضي القضاة أبو صالح نصر بن عبد الرزاق، وأبو محمد عبد المنعم بن أبي نصر الباجسرائي، وابن أخيه أبو عبد الله محمد بن مقبل بن المنيّ.

ومن الحرانيين: الشيخ فخر الدين ابن تيمية، والموفق بن صديق، ونجم الدين ابن الصقيل.

وممن قرأ عليه: السيف الآمدي الأصولي، ثم تحول شافعيًا. وحدث، وسمع منه جماعة.

وروى عنه الشيخ موفق الدين، وبهاء الدين عبد الرحمن المقدسيان، وابن القطيعي في تاريخه.

قال جامع سيرته: دخلت عليه يوم الأحد خامس ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين، فقال لي: رأيت في المنام منذ أيام كأن حلقة كبيرة في وسط الرحبة، وفيها أولاد المحتشمين. وكان في وسطها رجل يقول:

واعلموا أن النوى قـد كـدرت

 

صفو الليالي، فاحذروا أن تندموا

قال: فالتفت إلى بعض أصحاب الشيخ، وقلت له: هذا المنام كأنه ينعي إلى الشيخ نفسه، فعاش الشيخ بعد ذلك تمام ثلاثة- أو أربعة- أشهر كما هو ظاهر.

قال: وابتدأ به المرض بعد نصف شعبان. وكان مرضه الإسهال. وذلك من تمام السعادة لأن مرض البطن شهادة. ولما ازداد مرضه أقبل الناس إلى عيادته من الأكابر والعلماء، والتلامذة والأصحاب.

فحدثني صاحبه أبو محمد إسماعيل بن علي الفقيه، وهو الذي تولى تمريضه قال: قال لي الشيخ يوم الخميس ثاني رمضان: أي فخر، آخر تعبك معي يوم الأحد? قال: وهكذا كان. فإنه توفي يوم السبت رابع شهر رمضان، ودفناه يوم الأحد- يعني خامس رمضان- سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.

قال: ونودي في الناس بموته، فانثال من الخلائق والأمم عدد يفوت الإحصاء.

فازدحم الناس، وخيف من الفتن، فنفذ الولاة الأجناد والأتراك بالسلاح، وفتح له جامع القصر، وازدحم الناس ازدحامًا هائلاً، وحمله أصحابه وغلمانه.

وحكى لي بعضهم: أنهم في حال حمل سريره لم يبق في رجل أحد منهم مداس إلا وشد. لفرط الزحام. فلما فرغوا من دفنه أعيدت إليهم لم يفقدوا منها شيئًا. وقدم الشيخ الصالح سعد بن عثمان بن مرزوق المصري إمامًا في الصلاة عليه، بعدما اجتهد المماليك والأتراك والأجناد في إيصاله إلى عند نعشه. وكان الناس قد ازدحموا على الشيخ سعد أيضًا يتبركون به، حتى خيف عليه الهلاك. وكانت جنازته قد قدمت إلى عند المنبر والشباك.

وحدثني أبو عبد الله محمد بن طنطاش البزار قال: لما وصل الشيخ سعد إلى جنازة الشيخ أمسك عن التكبير، وأطال الوقوف حتى سكن الناس وسكتوا، وهدأت الأصوات، بحيث لم يسمع سوى التكبير، ثم كبر فأعجب الناس ما فعل فلما صلى عليه عاد الزحام الخصام والاحتشاد في أبواب الجامع، على وجه ما شوهد مثله إلا ما شاء الله.

وذكروا: أنه كان أوصى أن يدفن في دار بعض أهله جنب مسجده، فحمل إلى الموضع، ودفن فيه، وفتح موضع في المسجد إلى قبره لزيارة الناس.

وقال ابن القطيعي: حضر جنازته قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني، ودفن بداره الملاصقة لمسجده ثم قطع موضع قبره من الدار، وأدخل إلى مسجده بالمأمونية رأس درب السيدة. رحمه الله تعالى.

وذكر جامع سيرته، قال: حدثني الحافظ أبو بكر محمد بن عثمان الحازمي، وكتبه لي بخطه، قال: رأيت الشيخ الإمام الفقيه أبا الفتح بن المني في المنام بعد موته، وكأنه في موضع كبير والمع، وهو فرحان مسرور، وعليه ثياب بيض شديدة البياض، وعلى رأسه طرحة، فجعلت أسلم عليه وأكلمه. وكان بيننا ثَمَ ستر كبير. وكلام هذا معناه لم أحفظه.

قال صاحب سيرته: ورأيته أنا في المنام، فسلمت عليه، فالتفت إليَّ كالمعتب وكأنه يقول لي: استبشر بقدومي. وما زالوا من صلاة المغرب يضربون بالصَّوالي. ولو رأيت الجمع الذي كان. وكلامًا آخر لم أفهمه. رضي اللّه عنه.

قال: ورثاه رفيقنا النجم عبد المنعم بن علي بن الصقال الحراني، أحد أصحابه، وأملاه عليَّ من لفظه:

إلام يشجيك ذكر الربع والطلل

 

ويستخف بهاك الفنج في المقل

 

فإن دعاك دَدِدٌ لبيت دعـوتـه

 

مدلهاً غير منقاد إلى الـعـذل

 

ذر الهوى فعطاياه معاطـبـه

 

وجده بالمنى شر من البخـل

 

ولا تُصِخْ لقريض بعدها أبـدًا

 

وإن توحد في مدح وفي غزل

 

ما لم تَرْثَ قوافيه التي جـمـعـت

 

صفاتُه الغربين: العلم والـعـمـل

ومن غدا ناصر الإسـلام يحـرسـه

 

بهمة لم يقصر عن سـمـا زُحَـل

وطال ما خدم الرحمن معـتـكـفـاً

 

على العبادة لا ينصاغ لـلـكـسـل

إن روق الليل جافى الحبر مضجعه

 

يتلو بدمع غزير واكـف هـطـل

أو أتحف الجو أنوار الـضـيا ابـن

 

ذكا غدا لتدريس علم واسع جـلـل

وإن بدا مشكل في الشرع متعـلـق

 

أتى به ظاهرًا حقاً علـى عـجـل

واهاً لما حاز من علم وكم قـدمـت

 

إلى خصائصه مهمـا مـن رجـل

فيشهد الفضل مبـذولاً لـطـالـبـه

 

ويدرك الفضل في أحلى من العسل

فما انثنى عمره المحروس عن زلل

 

واعتناقه الخير عن قول وعن عمل

حتى أفاد صحاباً كـلـهـم بـطـل

 

يوم الجدال عريق الأصل في الجدل

إن تأته تلق ليثـاً فـي عـرينـتـه

 

ذا همة غير نزاع إلى الـفـشـل

يريك قس أياد مـن فـصـاحـتـه

 

ويحسن القول في الأحكام والعلـل

يفرقون جموع الخـصـم فـي دعة

 

تفريق شمل جموع الكفر سيف علي

 

 

 

 

 

 

أخبرنا أحمد بن عبد الكريم البعلي، حدثنا عبد الخالق بن علوان، حدثنا أبو محمد بن قدامة قال: قرأت على شيخنا أبي الفتح نصر بن فتيان، أخبركم الإمام أبو الحسن بن الزاغوني، حدثنا أبو القاسم بن البسري، أنبأنا الإمام أبو عبد اللّه بن بطة، حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، حدثنا موسى بن عبد الرحمن بن العلاء، حدثنا عطاء بن مسلم عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي مريم، قال: "رأيت على عليّ بن أبي طالب بردًا خلقًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن لي إليك حاجة. قال: وما هي? قلت: تطرح هذا البرد وتلبس غيره، فقعد وطرح البرد على وجهه، وجعل يبكي، فقلت: لو علمت أن قولي يبلغ هذا منك ما قلته. فقال: إن هذا البرد كسانيه خليلي. قلت: ومن خليلك? قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه. إن عمر ناصَحَ الله تعالى فنصحه".

اجتمع في هذا الإسناد خمسة من أئمة الحنابلة: أبو بكر بن أبي داود، وابن بطة، وابن الزاغوني، وابن المني، والشيخ موفق الدين. رضي الله عنهم أجمعين.

علي بن محمد بن علي بن الزيتوني، الفقيه أبو الحسن البغدادي. المعرف بالبراندسي

و "براندس" قرية من قرى بغداد: قال ابن القطيعي: سألته عن مولده? فقال: ما أعلم، ولكنني ختمت القرآن سنة ثمان وخمسمائة.

قال: وسمع من ابن الحصين. وذكر عبد المغيث: أنه سمع جميع مسند الإمام أحمد منه، وسمع من القاضي أبي الحسين بن الفراء وغيرهما. وتفقه وناظر، وأفتى ودرس.

قلت: ولما بنى الوزير ابن هبيرة مدرسته بباب البصرة ولاّه تدريسها، فكان يدرس بها. وحدث، وسمع منه غير واحد.

قال ابن القطيعي: كتبت عنه. وكان قليل الرواية، ثقة صالحًا.

قال: وسمعته يقول: استيقظت من منامي وأنا أنشد هذين البيتين، ولا أعلم قد قيلا قبلي، أو أنشدتهما لنفسي، إلا أني لم أسمعهما من أحد، وهما هذان:

ليت السباع لنا كانت مجاورة

 

وليتنا لا نرى ممن نرى أحدا

إن السباع لتهدي في مواطنها

 

والناس ليس بهاد شرهم أبدا

قال ابن القطيعي: وهذان البيتان في العزلة للخطابي، بإسناده عن الربيع عن الشافعي أنه أنشدهما. ولفظه "ليت الكلاب".

وأنشدهما أبو بكر بن المرزبان عن أبي بكر العنبري "إن السباع، وإننا لا نرى" وزادهما ثالثًا:

فاهرب بنفسك واستأنس بوحدتها

 

تلقى السعود إذا ما كنت منفردًا

قلت: وهذه في العزلة لابن أبي الدنيا.

قال ابن القطيعي: وفي سنة اثنين وسبعين، عملت دعوة للصوفية والعلماء على اختلاف مذاهبهم، فمنهم من أكل وانصرف، ومنهم من حضر السماع، وكان البراندسي ممن عجز عن الخروج مع من أكل وانصرف، فأقام وأغلق الباب دونه، وحضر السماع، فحيث علم أهل باب البصرة تخلفه دون جميع أصحابه كابن الجوزي، وابن عبد القادر، قالوا فيه الشعر. وهجره جماعة من عوامهم. فأنشدني الشيخ أبو عبد الله الخياري لنفسه فيه:

أيها الشيخ، من ينافق خلوة

 

يظهر الله ذلك الفعل جلوة

كنت تفتي أن الـسـمـاع حـرام

 

كيف حل السماع يوم الـدعـوة?

عشت ما عشت بين زهد ونـسـك

 

وتسميت فـي الـشـريعة قـدوة

ثم خلعت العذار في اللهو والرقص

 

وبين البلـى وبـينـك خـطـوة

كنت حقاً لو رقص الطفل حوقلت

 

وأنكرت بـارتـعـادٍ وسـطـوة

كيف جاز الجلـوس بـين حُـداة

 

لم يفت في سماعهم غير قهـوة?

لا تبهرج فلـيس عـنـدك عـذر

 

يلزم القوم ما أتـوا بـك عـنـوة

إنما أنت حين خبرت أن الرقـص

 

من بعـده صـحـاح وكـسـوة

ودجاج وبـط حـثـك الـبـخـل

 

فلا تعتـر بـقـولـك شـقـوة

ودع الآن شغـلـك بـالـفـقـه

 

وخذ في لـبـاس دلـق وركـوة

 

 

 

 

 

قال: وسمعت ابن الجوزي يقول: دخل البراندسي الدعوة وأكل، وأراد الانصراف معنا، فأغلق الباب دونه. وما علم حقيقة ما يجري، وحصل هناك، لا أنه اختار هذا.

وتوفي يوم الثلاثاء لست عشرة خلت من ربيع الأول، سنة ست وثمانين وخمسمائة، ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب. رحمه اللِّه تعالى.

وقد ذكره المنذري الحافظ في وفياته، فيمن توفي سنة ست وثمانين، فقال: وفي السادس عشر من شهر ربيع الأول توفي الفقيه الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن علي المقرىء الضرير، ودفن عند قبلة جامع المنصور. ومولده سنة ثمانين وأربعمائة تفقه على مذهب الإمام أحمد، وسمع من ابن الحصين، وإسماعيل بن السمرقندي، وأبي غالب بن البنا، وغيرهم وحدث، وأقرأ، فخالف ما ذكره ابن القطيعي في مدفنه، فالله تعالى أعلم بالصحيح من ذلك.

وأما قوله: إن مولده سنة ثمانين وأربعمائة فغلط محض فإنه على قوله يكون قد جاوز المائة بست سنين، فأين آثار ذلك من تفرده عن أقرانه بالسماع من الشيوخ. ثم قد سبق أن القطيعي سأله عن مولده. فذكر ما يدل على أنه قبل الخمسمائة بنحو سنتين. وهذا هو الصحيح. ووصفه بأنه ضرير، ولم يصفه القطيعي بذلك.

نجم بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد بن علي

لشيرازي الأصل، الدمشقي الأنصاري، الشيخ نجم الدين أبو العلاء بن شرف الإسلام ابن الشيخ أبي الفرج، شيخ الحنابلة بالشام في وقته: قرأت بخط ولده ناصح الدين عبد الرحمن: أنه ولد سنة ثمان وتسعين وأربعمائة. وأفتى ودرس وهو ابن نيف وعشرين سنة، إلى أن مات، وعاش هنيًا مرفهًا، لم يَلِ ولاية من جهة سلطان، وما زال محترماً معظمًا، ممتعًا قويًا.

قال لي قبل أن يموت بسنة: رأيت الحق عز وجل في منامي، فقال لي: يا نجم أما علمتك وكنت جاهلاً. قلت: بلى يا رب، قال: أما أغنيتك وكنت فقيرًا. قلت: بلى يا رب، قال: أما أمت سواك وأحييتك. وجعل يعدد النعم، ثم قال: قد أعطيتك ما أعطيت موسى بن عمران.

ولما مرض مرض الموت، رآني وقد بكيت، فقال: إيش بك. فقلت: خير، فقال: لا تحزن عليّ أنا ما توليت قضاء، ولا شحنكية، ولا حبست، ولا ضربت، ولا دخلت بين الناس، ولا ظلمت أحدًا، فإن كان لي ذنوب، فبيني وبين الله عز وجل. ولي ستون سنة أفتى الناس، واللّه ما حابيت في دين الله تعالى.

وكان يقول قبل موته بسنين: سَنَتي سنة ست وثمانين، إلى أن دخلت سنة ست وثلاثين، فقال: هذه سنتي، فقلنا: كيف تقول هذا? قال: هي سنة أبي وجدي لأن أباه مات سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وجده مات سنة ست وثمانين وأربعمائة، وكان الأمر كما قال.

قال: وكان الشيخ الموفق وأخوه أبو عمر، إذا أشكل عليهما شيء سألا والدي.

قال: وخرج له أبو الحسين سلامة بن إبراهيم الحداد شيخه، وسمعناها عليه بقراءته.

وذكر الحافظ المنذري في وفياته: أن له إجازة من أبي الحسن بن الزاغوني وغيره.

قال: وتوفي ثاني عشري ربيع الآخر، سنة ست وثمانين وخمسمائة، ودفن بسفح قاسيون.

وقاد غيره: شيعه خلائق. وقد سبق ذكر أخي بهاء الدين عبد الملك. وكان له أيضًا عدة إخوة.

منهم: الشيخ سديد الدين عبد الكافي بن شرف الإسلام.

قال ناصح الدين: كان فقيهًا متطهرًا، ووعظ في شبابه، وكان يذكر الدرس في الحلقة، مستندًا إلى خزانة أبيه، وكان صيتًا، وربما خطب في الإملاكات المعتبرة.

وكان شجاعًا شديداً، مات بعد الثمانين والخمسمائة، وقبره تحت مغارة الدم.

ومنهم: الشيخ شمس الدين عبد الحق بن شرف الإسلام.

قال الناصح: كان فقيهًا عاقلاً، عفيفًا، حسن العشرة، كثير الصدقة، رحيم القلب. سافر في طلب العلم، وقرأ كتاب "لهداية" على الشيخ أحمد الحراني الحنبلي، دخل بلاد العجم، ورأى أئمة خراسان، وعاد إلى دمشق، وصحب أخاه، والذي يسمع درسه ويعيد له وهو بين يديه كالحاجب. ومات ودفن بسفح قاسيون.

ومنهم: الشيخ شرف الدين محمد بن شرف الإسلام.

كان فقيهًا، فرضيًا، يعرف الغزوات، ويعبر المنامات، ويتجر، ولا يداخل الملك.

وتوفي ودفن بالباب الصغير.

ومنهم: الشيخ عز الدين عبد الهادي بن شرف الإسلام.

كان فقيهًا واعظًا، شجاعًا، حسن الصوت بالقرآن، شديدًا في السنة، شديد القوى، يحكى له حكايات عجيبة، في شدة قوته.

منها: أنه بارز فارسًا من الإفرنج، فضربه بدبوس فقطع ظهره وظهر الفرس فوقعا جميعًا، وكان في صحبة أسد الدين شيركوه إلى مصر، وشاهده جماعة رفع الحجر الذي على بئر جامع دمشق، فمشى به خطوات ثم رده إلى مكانه، وله أخبار في هذا الباب غريبة، وبنى مدرسة بمصر، ومات قبل تمامها، وتوفي بمصر.

ومما وقفت عليه من فتاوى نجم الدين بن عبد الوهاب بن الحنبلي: أن من أراد أن يحلف بالطلاق، فقال لامرأته: علي الطلاق ثلاث بتات، وأراد أن يقول: إن لم أتحول من الدار، ثم تفكر في ضرر التحويل، فسكت على قوله بتات، إعراضًا عن اليمين بالكلية، لا أراده لوقوع الطلاق: أنه إذا لم يقصد بذلك الإيقاع، بل قصد التعليق، ثم سكت عقيب ذكر الطلاق، لا قاصدًا له، بل أراد إبطال اليمين، فإنه يدين في ذلك فيما بينه وبين الله، ولا يلزمه الطلاق في الباطن.

وبمثل هذا صرح صاحب المحرر فيه، وهو قول مالك والليث بن سعد. وحكى عن الشافعي أيضًا، ولا أعلم في ذلك نصًا لأحمد، ولا لأحد من متقدمي أصحابنا.

وقياس نصوص أحمد وأصوله: أنه لا يدين في ذلك، بحيث أنه يمتنع وقوع الطلاق به. ولو وجد شرطه الذي أراد تعليقه عليه، فإن المنصوص عن أحمد، في مواضع متعددة من كلامه: أن الحلف بالطلاق ليس بيمين، وليس حكمه حكم سائر الأيمان، وإنما هو طلاق معلق بشرط، ولو قصد بتعليقه الحض والمنع، وحينئذ فينبغي أن يكون حكم هذا حكم من طلق، وقال: نويت تعليق الطلاق بشرط.

والمذهب في ذلك عند القاضي ومن اتبعه من أصحابنا: أنه يدين في ذلك، ولا يقع به الطلاق في الباطن إلا بوجود الشرط. وهل يقبل منه في الحكم. خرجوه على روايتين.

ونص أحمد في رواية مهنا: على أنه لا يدين، كقول أبي حنيفة وأصحابه، وتأوله القاضي على أنه أراد أنه لا يقبل منه في الحكم. وهو تأويل بعيد.

فعلى ظاهر رواية مهنا: يقع الطلاق في الحال، وإن أراد الحلف به، ثم تركه.

وعلى المذهب عند القاضي وأصحابه: ينبغي أن لا يقع الطلاق حتى يوجد الشرط الذي أراد أن يحلف عليه، كما لو أراد تعليق الطلاق بشرط يأتي لا محالة، ثم بدا له أن يترك تعليقه، فإن هذا التعليق يمين على أشهر الوجهين للأصحاب، بل أومأ إليه أحمد. وقد حكى عنه صريحًا. فيكون تعليق الطلاق عنده كله يسمى يمينًا، وحكمه حكم الطلاق، لا حكم الأيمان، فيلزم من قال بالشرط: أنه إذا أراد اليمين بالطلاق، فتلفظ بالطلاق، ثم قطع بقية كلامه: أنه لا تطلق امرأته بذلك، ولو وجد الشرط أن يقول ههنا في التعليق بما يأتي: لا محالة كذلك. وهو في غاية البعد.

وقد استوفينا الكلام على هذا في كتابنا المسمى ب "الكشف والبيان عن مقاصد النذور والأيمان" وباللّه التوفيق.

عبد الله بن عمر بن أبي بكر المقدسي

الفقيه الإمام أبو القاسم سيف الدين: ولد سنة سبع وخمسين وخمسمائة بقاسيون.

ورحل إلى بغداد، وسمع بها من جماعة. وتفقه وبرع في معرفة المذهب والخلاف والمناظرة. وقرأ النحو على أبي البقاء، وحفظ الإيضاح لأبي علي، وقرأ العروض. وله فيه تصنيف.

قال الحافظ الضياء: اشتغل بالفقه والخلاف والفرائض والنحو، وصار إمامًا عالمًا، ذكيًا فطنًا، فصيحًا مليح الإيراد، حتى إني سمعت بعض الناس يقول عن بعض الفقهاء أنه قال: ما اعترض السيف على مستدل إلا ثلم دليله. وكان يتكلم في المسألة غير مستعجل بكلام فصيح، من غير توقف ولا تتعتع.

وكان رحمه اللّه حسن الخَلق والخُلق، أنكر منكرًا ببغداد، فضربه الذي أنكر عليه، وكسر ثنيته. ثم إنه مكّن من ذلك الرجل، فلم يقتص منه.

قال: وسافرت معه إلى بيت المقدس، فرأيت منه من ورعه وحسن خلقه ما تعجبت منه.

قال: وشهدنا غزاة مع صلاح الدين، فجاء ثلاثة فقهاء، فدخلوا خيمة أصحابنا فشرعوا في المناظرة، وكان الشيخ موفق الدين والبهاء حاضرين، فارتفع كلام أولئك الفقهاء، ولم يكن السيف حاضرًا، ثم حضر فشرع في المناظرة، فما كان بأسرع من أن انقطعوا من كلامه.

وسمعت البهاء عبد الرحمن يقول: كان أبو القاسم عبد اللّه بن عمر فيه من الذكاء والفطنة ما يدهش أهل بغداد. وكان يحفظ درس الشيخ إذا ألقي عليه مرة أو مرتين. وكنت أنا أتعب حتى أحفظه. وكان مبرزًا في علم الخلاف. وكان ورعًا، يتعلم من العماد، ويسلك طريقه.

وسئل عنه الشيخ موفق الدين. فقال: سافر إلى بغداد صغيرًا، وسمع بها كثيراً، وتفقه بها وصار فقيهًا حسنًا، حسن الكلام في المناظرة، فصيح اللسان، حسن الخط. وقرأ في العربية. وشرع هو والمحب أبو البقاء في تصنيف كتاب فيها ثم قدم الشام، وخرج إلى الغزاة معنا، ثم سافر إلى حران، وتوفي بها شابًا رحمه الله تعالى في حياة أبيه.

توفي بحران في شوال سنة ست وثمانين وخمسمائة.

ورثاه سليمان بن النجيب بقوله:

على مثل عبد الله يفترض الحزن

 

وتسفح آماق ولم يغتمض جفـن

عليه بكى الدين الحنيفي واكتـفـا

 

كما قد بكاه الفقه والذهن والحسن

وهي طويلة.

ورثاه جبريل المصيصي المصري بقوله:

صبري لفقدك عبد الله مفقـود

 

ووجد قلبي عليك الدهر موجود

عدمت صبري لما قيل إنك في

 

قبر بحران سيف الدين مفقـود

نبكي عليك بشجو بالدماء كمـا

 

تبكي التعاليق حقاً والمسـانـيد

وللمشايخ تعديل علـيك كـمـا

 

للطير في الدوح تغريد وتعديد

وذكر باقيها. وهي ستة وعشرون بيتاً.

يحيى بن مقبل بن أحمد بن بركة بن عبيد الملك بن عبد السلام بن الحسين بن محمد بن علي بن عبد الواحد بن ثابت بن عمرو بن عامر بن داود بن إبراهيم بن محمد السجاد بن طلحة بن عبد الله التيمي القرشي البغدادي الحريمي، أبو طاهر بن أبي القاسم بن أبي نصر، المعروف بابن الصدر

وهو لقب عبد الواحد المذكور في نسبه. ويعرف أيضًا بابن الأبيض: ولد في شعبان سنة سبع عشرة وخمسمائة.

وسمع من ابن الحصين، وأبي بكر الأنصاري، وأبي منصور القزاز، وغيرهم.

وتفقه في المذهب، وناظر في حلق الفقهاء، وحدث.

قال ابن القطيعي: كتبت عنه. وكان ثقة.

قال: وتوفي يوم الإثنين في شهر شوال سنة سبع وثمانين وخمسمائة. ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب.

وقال المنذري: توفي في العشر الأخير من ذي القعدة.

قال ابن الجوزي في كتاب "الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد" حدثني أبو طاهر بن الصدر الفقيه: أن هذا الشيخ- يعني عبد المغيث الحربي- زوج رجلاً، فقال له: زوجتك بحق وكالتي بنت أخي فلان.

قال الفقيه: فلقيت المتزوج. فقلت له: ما انعقد لك عقد، ولا يحل لك قربان المرأة لأن أبا هذه المرأة له أربع بنات. وهذا العاقد ما سمى المزوجة. فعجب الناس من عدم فهمه للفقه.

نصر بن منصور بن الحسن بن جوشن بن منصور بن حميد بن ثال بن وزر بن عطاف بن بشر بن جندل بن عبيد الراعي بن الحصين بن معاوية بن جندل بن قطن بن ربيعة بن عبد الله بن الحارث بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر بن نزار النميري، الأديب الشاعر، أبو المرهف، وأبو الفتح أيضًا:

كذا نقلت نسبه من خط القطيعي. وقال: أملاه عليّ وقال لي: ولدت يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسمائة بالرافقة بقرب رقة الشام.

كان النميري من أولاد أمراء العرب. نشأ بالشام، وخالط أهل الأدب، وقال الشعر الفائق وهو مراهق. وأصابه جدري وله أربع عشرة سنة، فضعف بصره، حتى كان لا يرى إلا ما قرب منه. ثم قدم بغداد لمعالجة بصره، فآيسه الأطباء منه، فعمي. وأقام ببغداد، وسكن بباب الأزج، فحفظ القرآن العظيم. وسمع الحديث من ابن الحصين، والقاضي أبي بكر، وعبد الوهاب الأنماطي، وأبي الحسن بن الزاغوني، وأبي منصور القزاز، ويحيى بن حبيس الفارقي، وابن ناصر وغيرهم. وبالكوفة: من أبي الحسن بن غيره، وتفقه في مذهب الإمام أحمد.

وقرأ العربية والأدب على أبي منصور بن الجواليقي، وصحب العلماء والصالحين. كالشيخ عبد القادر، وغيره، ومدح الخلفاء والوزراء.

وله ديوان شعر حدث به. وكان فصيح القول حسن المعان، ذا دين وصلاح وتصلب في السنة.

قال ابن القطيعي: منع الوزير ابن هبيرة الشعراء من إنشاد الشعر بمجلسه، فكتب إليه النميري قصيدة سمعتها من لفظ النميري. فكتب الوزير على رأسها بخطه: لو كان الشعراء كلهم مثله في دينه وقوله لم يمنعوا، وإنما يقولون ما لا يحل الإقرار عليه، وهو فالصديق وما يذكر يوقف عليه، ورسومه تزاد ولا تنقص، والسلام.

وقد حدث النميري بحديثه وشعره، وسمع منه القطيعي، وغيره.

وروى عنه عثمان بن مقبل الياسري، وبهاء الدين عبد الرحمن المقدسي، وابن الدبيثي، ويوسف بن خليل وغيرهم.

وتوفي يوم الثلاثاء عشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد عند الشهداء رحمه الله.

ومن شعره، وقد سئل عن مذهبه واعتقاده فأنشد:

أحب علياً والبتول وولـدهـا

 

ولا أجحد الشيخين حق التقدم

وأبرأ ممن نال عثمان بـالأذى

 

كما أبرأ من ولاء ابن ملجـم

ويعجبني أهل الحديث لصدقهم

 

فلست إلى قوم سواهم بمنتمي

وقد روي البيت الثالث على وجه آخر.

ومن شعره وقرأته بخط السيف بن المجد الحافظ:

سبرت شرائع العلماء طرًا

 

فلم أرَ كاعتقاد الحنبـلـي

فكن من أهله سرًا وجهـرًا

 

تكن أبدًا على النهج السوي

هم أهل الحديث وما عرفنا

 

سوى القرآن والنص الجلي

ومما أنشده عنه ابن القطيعي، وقال: أنشدني لنفسه:

وكفى مؤذناً باقتراب الأجـل

 

شباب تولـى وشـيب نـزل

وموت اللذات، وهل بـعـده

 

بقاء يؤملـه مـن عـقـل?

إذا ارتحلت قرناء الـفـتـى

 

على حكم ريب المنون ارتحل

هو الموت لا تحتمي للنفـوس

 

من خطبه بالرقى والـحـيل

إذا صال كان سـواءً عـلـيه

 

مَن عز من كـل حـي وذل

فيا ويح نفسي أما تـرعـوي

 

وقد ذهب العمـر إلا الأقـل

ومن شعره أيضُا:

أذاعت بأسراري الأدمـع

 

غداة استقلوا وما ودعـوا

جزعت لما أعتز من بينهم

 

وما كنت من مؤلم أجزع

تولوا فما قرّ لي بعـدهـم

 

فؤاد، ولا جف لي مدمـع

وأقسم لا حلت عن عهدهم

 

وفوا لي بالعهد أو ضيعوا

أأحبابنا هل لعصر مضـى

 

لنا ولكم باللوى مرجـع?

كان على كبدي بـعـدكـم

 

من الشوق نار غضا تسفع

ولي مقلة منذ فارقتـكـم

 

إذا هجع الناس لا تهجـع

يؤرقني كـل بـرق أراه

 

مات نحو أوطانكم يلمـع

وكم لي من عاذل فـيكـم

 

يطيل الملام فلا أسـمـع

وقال: من شعره في الغزل:

ولما رأى وردًا بخديه يجتني

 

ويقطف أحياناً بغير اختياره

أقام عليه حارساً من جفونـه

 

وسلّ عليه مرهفاً من عذاره

ومن شعره أيضًا:

يزهدني في جميع الأنـام

 

قلة إنصاف من يصحب

وهل عرف الناس ذو نهبة

 

فأمى له فيهم مـرغـب

هم الناس ما لم تجر بهـم

 

وطلس الذباب إذا جربوا

وليتك تسلم عند البـعـاد

 

منهم، فكيف إذا يقربوا?

أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمد البغدادي، المقرىء أبو العباس، المعروف بالعراقي

نزل دمشق: قرأ القرآن على أبي محمد سبط الخياط، وسمع الحديث من محمد بن عبد الله بن سُهلون، وأبي الفتح الكروخي، وسعد الخير الأندلسي، ومهر في علم القراءات. ولقي المهذب بن منير الشاعر بحلب، وروى عنه. وقدم دمشق سنة أربعين، فسكنها إلى أن مات وتصدر للإقرار تحت النسر بالجامع، فختم عليه جماعة، وأمَّ بمسجد الخشابين، وأقام به سنين.

قال الشيخ موفق الدين: كان إمامًا في السنة، داعيًا إليها، إمامًا في القراءة. وكان دينًا، يقول شعرًا حسنًا، وشرح عبادات الخرقي بالشعر.

وقال ابن النجار: كان شيخنا فاضلاً متقنًا، طيب المحاضرة.

قلت: وكان متشددًا في السنة.

ويقال: إنه منع الحافظ عبد الغني من الاجتماع بابن عساكر الحافظ والسماع منه، وندم الحافظ على ذلك. وكان يقول: كان عندنا في الحربية قوم من المتشددين يسمون: السبعة، لا يسلمون على من سلم إلى شيعة على مبتدع. ورأيت له جزءًا في الرد على من يعير الحنابلة بالفقر وقلة المناصب.

وروى عنه الشيخ موفق الدين، والبهاء عبد الرحمن، وابن خليل.

وتوفي في شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بدمشق، وقد جاوز السبعين.

وقال الضياء: مات في جمادى الأولى سنة ست وسبعين. وهو وهم، فإن ناصح الدين بن الحنبلي: ذكر أنه زار معه القدس سنة سبع وثمانين- أو سنة ثمان- الشك منه. وذكر: أنه قرأ عليه، وسمع منه.

قال: وقال لي: قدمت من بغداد لأجل زيارة القدس، ولم يتفق لي زيارته إلى هذه المدة.

عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن سلامة السبتي البغدادي الوراق المحدث المقرىء، الزاهد أبو جعفر بن أبي المعالي بن السمين

نزيل الموصل: ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة.

وسمع الكثير من هبة الله الحريري، وأبي بكر بن عبد الباقي، وأبي منصور القزاز، وعلي بن هبة اللّه بن عبد السلام، وأبي الفضل الأرموي، وأبي الفتح الكرخي، وأبي الحسين بن الزاغوني، وأخيه أبي بكر، وابن الطلاية، وغيرهم.

وكتب بخطه الكثير لنفسه وللناس. وخرج التخاريج. وحدث بالكثير ببغداد والموصل. وكان صالحًا ثقة، دينًا صدوقًا من أهل التقشف والصلاح والنسك يأكل من كسب يده.

توفي في العشر الأخير من شهر رمضان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بالموصل. ودفن بتل توبة رحمه الله تعالى.

علي بن مكي بن جراح بن علي بن ورخز البغدادي

الفقيه الزاهد أبو الحسن: تفقه على أبي الفتح بن المنيّ، وأبي يعلى بن أبي حازم وبرع في الفقه، وأفتى وناظر. وكان زاهدًا عابدًا.

توفي يوم حادي عشرين صفر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ودفن بمقبرة باب حرب.

علي بن أبي العز بن أبي عبد اللّه الباجسرائي

الفقيه الزاهد أبو الحسن: كان يسكن بمدرسة الشيخ عبد القادر، وسمع الكثير من أبي الوقت، وابن البطي، وغيرها. وحدث باليسير.

سمع منه جماعة من الفقهاء. وكان صالحًا ورعًا، متدينًا ذا عبادة وزهد. جمع كتابًا في تفسير القرآن الكريم في أربع مجلدات.

توفي ليلة الخميس حادي عشر ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. وصلى عليه بالمصلى بباب الحلبة. ودفن بباب حرب. رحمه الله تعالى.

طغدي بن ختلغ بن عبد الله الأميري المسترشدي

البغدادي المقرىء الفرضي، أبو محمد المحدث ويسمى عبد المحسن أيضًا. نزيل دمشق: ولد سنة أربع وثلاثين وخمسمائة.

وقرأ القراَن بالروايات العشرة على أبي الحسن البطائحي. وكان ربيبه، فأحسن تربيته، وأسمعه من الأرموي، وابن ناصر الحافظ، وأبي بكر بن الزاغوني، وأبي العباس أحمد بن محمد بن المكي، وسعيد بن البنا، وأبي الوقت، وأبي القاسم هبة الله بن الحاسب، وغيرهم.

وصحب أبا الفضل بن ناصر الحافظ، وأخذ عنه علم الحديث، وأصول السنة. وقرأ الفرائض على أبي النجم بن القابلة، وبرع فيها حتى صار فيها إمامًا متوحدًا، ثم انتقل إلى دمشق وسكنها إلى حين وفاته.

وحدث ببغداد وحران ودمشق. وقرأ عليه الشيخ أبو عمر صحيح البخاري. روى عنه ابن خليل الحافظ.

قرأت بخط ناصح الدين بن الحنبلي في حقه: المحدث الحافظ الفرضي الزاهد.

كان قيمًا بمعرفة البخاري، برجاله وألفاظ غريبه، وشرح معانيه. قرأته عليه، وسمع بقراءتي جماعة كثيرة. وكان قيمًا بأصول السنة، ومقالة أصحاب الإمام أحمد وكان متعبدًا معتزلاً للناس. حضر معي فتح البيت المقدس. وقرأ عليه جماعة من أولاد الدمشقيين الحساب والفرائض. وكان لا يفارقني إلى أن حججت سنة تسع وثمانين، ورجعت من الحج فوجدته قد مات رحمه الله. ودفن في تربة عمي عبد الحق بالجبل.

قلت: وذكر المنذري: أنه توفي في المحرم سنة تسع وثمانين. وكذا ذكره الدبيثي أنه بلغهم وفاته.

وذكر القطيعي: أنه بلغهم ببغداد حين موته في ربيع الأول سنة تسع وثمانين فيكون قول ابن الحنبلي: حججت سنة تسع فيه تسامح. ومراده: أنه رجع من الحج إلى دمشق سنة تسع، فوجده قد مات. لكنه ذكر في أول كتابه: أن أول سنة حجّ سنة تسع وثمانين.

?بدل بن أبي طاهر بن شيرد شهر بن حاكاه بن عبد الله بن محمد الجيلي

الفقيه المقرىء أبو محمد. نزيل بغداد: قرأ القرآن بالروايات على أبي العلاء الهمداني. وسمع من أبي الفتح محمد بن الحسن الصيدلاني، وغيره. وسمع من محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخطيب الكشميهني المروزي.

وتفقه ببغداد على ابن بكروس، وأقرأ الناس، وحدث.

قرأت عليه بالروايات الكثيرة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن الدوري، وغيره. وسمع منه القاضي أبو العباس بن الفراء، وغيره.

وتوفي يوم الخميس رابع عشر ذي الحجة سنة تسع وثمانين وخمسمائة. رحمه الله تعالى.

محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن عبد الملك الأصبهاني الجورتاني بن الحمامي

العابد الأديب، مصلح الدين أبو عبد الله. من أهل أصبهان و "جورتان" من قراها: ولد سنة خمسمائة في رجب. وقيل: سنة إحدى وخمسمائة.

وسمع من أبي علي الحداد، وأبي نهشل عبد الصمد العنبري، وسعيد بن أبي الرجاء.

قال ابن النجار: وكان فقيهًا فاضلاً، كامل المعرفة بالأدب وأكثر أدباء أصبهان من تلامذته. وكان متدينًا، حسن الطريقة صدوقًا.

سمعت أبا عبد الله الخليلي بأصبهان يقول: كان جدي لأمي محمد بن أحمد الحنبلي المعروف بالمصلح قبل عقد الثمانين من عمره يختم القرآن في يومين. فلما جاوز الثمانين كان يختم كل يوم القراَن. وكانت قراءته بالليل قراءة تذكر وتفكر.

قال أبو عبد الله: وسمعت محمد بن محمد الخبازي المديني جارنا- وكان من أهل الخير والصلاح، تلاّءً للقرآن، ملازمًا للمسجد في أكثر أوقاته، لم تكن تفوته صلاة الجماعة إلا نادرًا يقول-: لما بلغ مصلح الدين عقد الثمانين قال: أسأل الله أن يمهلني إلى التسعين، وأن يوفقني كل يوم لختمة، فاستجيبت دعوته، فكان يختم كل يوم ختمة.

قال أبو عبد اللّه: وسمعت الحسين بن محمد بن أحمد الحمامي الحنبلي يقول: قام عمي- يعني: محمد بن أحمد المصلح- ليلة لورده قبل الوقت الذي كان يقوم فيه لورده في سائر لياليه. قال: فسمعت صوتًا من السماء- وأنا بين النائم واليقظان- أيها المصلح، ما أسرع ما قمت الليلة.

حدث المصلح بأصبهان وبغداد حين قدمها حاجًا. وسمع منه أبو المحاسن القرشي، ومات قبله لخمس عشرة سنة، والشريف الزيدي علي بن أحمد.

وروى عنه من أهل بغداد أحمد البندنيجي، ويوسف بن سعيد المقرىء وغيرهما.

قال ابن النجار: سمعت أبا البركات بن الرويدشتي بأصبهان يقول: توفي محمد بن أحمد بن الحنبلي- يعرف بالحمامي- أستاذ الأئمة في يوم الأربعاء ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة تسعين وخمسمائة.

قال: وذكر لنا سبطه: أنه دفن بداره، ثم نقل إلى باب درية رحمه الله تعالى.

وقال المنذري: ليلة الحادي عشر. وكذا ذكره ابن نقطة، وقال: ليلة الثلاثاء حادي عشر.

قال المنذري: وتوفي قبله بيسير ولده أبو بكر أحمد. وكان سمع سعيد بن أبي رجاء وغيره.

قلت: وكان يلقب أمين الدين.

محمد بن عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طلحة نصر بن أحمد بن محمد بن جعفر البرمكي الهروي الإشْكِيْذَبَانِي، المحدث أبو عبد الله، ويقال: أبو الفتح

نزيل مكة، وإمام حطيم الحنابلة بها: ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.

وسمع بهمدان من أبي الوقت، وأبي الفضل أحمد بن سعد بن حمّان، وأبي المحاسن هبة الله بن أحمد بن محمد بن السماك. وببغداد من أبي المعالي بن النحاس، وأبي المعمر بن الهاطر، وابن البطي، وخلق كثير وبمصر من أبي الطاهر إسماعيل بن قاسم الزيات. وبالإسكندرية من الحافظ السلفي. وحدث بمكة، ومصر والإسكندرية، وأقام بمكة في اَخر عمره، وأمَّ بها في موضع الحنابلة سنين.

وحدث عنه أبو البناء حامد بن أحمد الأرتاحي.

قال ناصع الدين بن الحنبلي: كان رجلاً صالحًا، سمعت منه بقراءته جزءًا بمكة.

وكان في عزمي أنني أدخل اليمن، وقد هيأت هدية لصاحبها من طرف دمشق، فاستشرته، فقال: أنت أعلم. ثم قال: قرأنا ههنا جزءًا من أيام، فجاء فيه عن بعض السلف علامة قبول الحج: أن الإنسان ينصرف عن مكة في طالب للدنيا، فزهدت في اليمن، ورجعت عن ذلك العزم. قال: وذلك سنة تسع وثمانين.

قال المنذري: سمع منه والدي سنة تسعين. فإما أنه توفي في هذه السنة، أو بعدها بيسير.

قال و "الإشكيذباني" بكسر الهمزة وسكون الشين المعجمة وكسر الكاف وسكون الياء آخر الحروف وفتح الذال المعجمة وبعدها باء موحدة مفتوحة وبعد الألف نون.

وذكره الفارسي في تاريخه، وقال: كان رجلاً صالحًا: توفي سنة إحدى وتسعين بمكة.

وذكر المنذري ممن توفي سنة تسعين: الشيخ الأجل إمام الحرم مكي بن نابت - بالنون- بن زهرة الحنبلي الفزاري بمصر ليلة السابع من شهر ربيع الآخر، ولم يزد على ذلك.

إسماعيل بن أبي سعد بن علي بن إبراهيم بن محمد بن شاه شاه البنا الأصبهاني، المحدث أبو الحسن، يعرف بطاهريته:

سمع الكثير، وحصل الأصول. حدث ببغداد، قدمها حاجًا عن فاطمة الجوزدانية، وفاطمة بنت محمد بن أحمد البغدادي.

سمع منه أبو الفتوح بن الحصري، وأحمد بن طارق، وعبد الرحمن بن الغزال وكان شيخًا صالحًا صدوقًا.

توفي في صفر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. رحمه الله تعالى.

عبد المؤمن بن عبد الغالب بن محمد بن طاهر بن خليفة بن محمد بن حمدان الشيباني البغدادي الوراق

الفقيه أبو محمد: ولد في ربيع الآخر سنة سبع عشرة وخمسمائة، ذكره القطيعي عنه.

وسمع ببغداد من القاضي أبي بكر بن عبد الباقي، وأبي القاسم بن السمرقندي، وابن الطلاية، وأبي الحسن، وأبي بكر بن الزاغوني، والأرموي.

وسمع بهمدان من أبي الخير الباغبان، وغيره، وحدث.

وسمع منه ابن القطيعي، وقال: كان له صلاح ودين وافر.

وروى عنه ابن الدبيثي، وابن خليل الحافظ، فقال: أنبأنا الإمام أبو محمد عبد المؤمن الفقيه الحنبلي، وأجاز لمحمد بن يعقوب بن أبي الدبية.

قال ابن القطيعي: توفي في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.

قال: وكتب إليَّ ابن شريك: أنه توفي ليلة العيد، سنة إحدى وتسعين.

قلت: وكذا ذكر المنذري: أنه توفي يوم عرفة، سنة إحدى وتسعين.

وذكر ابن النجار عن ابن الدبيثي: أنه توفي يوم الإثنين ثامن ذي الحجة، سنة إحدى وتسعين، وعن غيره: أنه دفن بباب حرب.

علي بن هلال بن خميس الواسطي الفاخراني الضرير، الفقيه أبو الحسن، ويلقب بمعين الدين:

ذكره المنذري، فقال: تفقه على مذهب الإمام أحمد، وسمع من أبي الحسين عبد الحق بن عبد الخالق، وأبي الفتح صدقة بن الحسين الناسخ، وخديجة بنت أحمد النهرواني، وغيرهم، وحدث.

وهو منسوب إلى "الفاخرانية": قرية من سواد واسط.

توفي في حادي عشر ذي الحجة، سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، ودفن بباب حرب. رحمه الله تعالى.

حامد بن محمد بن حامد الصفار الأصبهاني

الفقيه المحدث، الإمام محب الدين أبو عبد الله: سمع أباه أبا جعفر محمد، وأبا طاهر محمد بن أبي نصر الهروي بهاجر، وأبا الخير الباغبان، ومسعود الثقفي والرستمي، وعبد الجليل كوتاه، وجماعة بأصبهان وبهمدان أبا زرعة المقدسي، وأبا العلاء العطار.

وقدم بغداد حاجًا سنة ثمان وثمانين، وسمع بها من جماعة. وقرأ على ابن الجوزي مناقب الإمام أحمد له، وحدث باليسير.

كتب عنه أبو عبد الله محمد بن النفيس الرزاز.

ذكره ابن النجار، وقال: كان فقيهًا، حنبليًا فاضلاً، وله معرفة بالحديث والأدب.

وذكر أبو الفرج بن الحنبلي: أنه لقيه بأصبهان، وقال: كان فقيهًا على مذهب الإمام أحمد، عارفًا بالمذهب والخلاف، محدثًا، ووصفه بالمروءة التامة.

سعد بن عثمان بن مرزوق بن حميد بن سلام القرشي

المصري المولد البغدادي الدار، الفقيه الزاهد أبو الحسين ابن الشيخ أبي عمرو المتقدم ذكره: خرج من مصر قديمًا، واستوطن بغداد. وقد سبق في ترجمة أبيه سبب قدومه إلى بغداد، وتفقه بها في المذهب على أبي الفتح بن المني، ولازم درسه. وسمع من أبي محمد بن الخشاب وغيره، وحصل له القبول التام منّ الخاص والعام، وكان ورعاً زاهدًا عابداً.

قرأت بخط ناصح الدين بن الحنبلي في حقه: كان مشتغلاً بحفظ كتاب الوجهين والروايتين، تصنيف القاضي أبي يعلى. وكان من الزهد، والصلاح، والتطهير، والتورع في المأكول على صفة تعجز كثيرًا من المجتهدين في العبادة.

وكان يمشي مطرق الرأس، يلتقط الأوراق المكتوبة، حتى اجتمع عنده من ذلك شيء كثير، فيحمله بحمال إلى الشاطىء فيتولى غسله، ويرسله مع الماء. وكان لا يستقضي أحدًا حاجة إلا أعطاه أجره، ولو أشعل له سراجاً.

وذاكرته في خلوة في القول بخلق أفعال العباد، فأقر به، ولم يكن على ما ذكره من مذهب والده في ذلك، فسررت بذلك.

ورأى رجل في بغداد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: لولا الشيخ سعد نزل بكم بلاء، أو كما قال.

ثم سعى الشيخ سعد إلى الجمعة وما عنده خبر بهذا المنام، فانعكف الناس به يتبركون به وازدحموا، فرموه مرات، وكأن مناديًا ينادي في قلوب الناس، وهو يقول: أعوذ باللّه من الفتنة، إيش بي? إيش بالناس? حتى ضرب الناس عنه وخلص منهم.

وقال القادسي: هو أحد الزهاد الأبدال الأوتاد، ومن تشد إليِه الرحال، ومن كان لله عليه إقبال الصائم في النهار، القائم في الظلام.

قدم بغداد. وسكن برباط الشيخ عبد القادر، وما كان يقبل من أحد شيئًا، ولا يغشى باب أحد من السلاطين. كان ينفذ له في كل عام شيء من ملك له بمصر يكفيه طول سنته.

حكى لي والدي، قال: كنت أتردد إليه كثيراً، فأتيته يوماً، فهجس في نفسي أن لي مدة أتردد إليه، وما حلف عليّ قط، ولا قدم لي شيئًا، فما استتممت كلامي حتى قال لي: أيْ أحمد، واللّه ما أرضى لك طعامي، لأنه طعام شقي، فال: وأخذني من الوجد شيء عظيم، ثم دخل ليخرج لي من الزاد. فقلت: لو أخرج إلي رغيف فضله، لأنتغِض به لأقوام، فقال عجلا من داخل البيت: أي: شيخ أحمد، بل رغيفان. قال: فزاد تحيري ودهشتي. وكان الشيخ مسعد كثير البكاء والخشوع.

قال ابن النجار: كان عبدًا صالحاً مشهوراً بالعبادة والمجاهدة والورع، والتّقشف، والقناعة، والتعفف، وكان خشن العيش، مخشوشنا، كثير الانقطاع عن الناس. وكان على غاية من الوسوسة، والمبالغة في الطهارة.

قال ابن النجار: حدثني سعيد بن يوسف بن سعيد المقرىء، قال: سمعت سعد المصري الزاهد يقول: تجشأت مرة، فصعد إلى حلقي شيء من الجشأ، فغسلت حلقي ثلاث مرات، وابتلعته، ثم غسلت فمي ثلاث مرات أخر وأبصقه.

قلت: سامحه اللّه تعالى، هذه زلة فاحشة.

قال المنذري: كان يحمل إليه ما يقتات به من مصر من جهة كانت له بها.

وقيل: إن شيخه ابن المنّي لما احتضر أوصى أن يصلى عليه الشيخ سعد، وقد تقدم أنه صلى عليه يومئذ، وأن الناس ازدحموا عليه للتبرك به، حتى كاد يهلك.

قال المنذري: توفي في سادس شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ساجداً في صلاته، ودفن من الغد.

وذكر القطيعي: أنه توفي يوم الثلاثاء، وأنه دفن بمقبرة باب الدير بالقرب من معروف الكرخي، رحمة الله عليه.

وذكر القادسي: أنه توفي يوم الثلاثاء سابع ربيع الآخر، سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ساجداً، وصلى عليه بمدرسة عبد القادر، ثم مرارَا عِدة بظاهر الحلبة، ثم حمل إلى باب حرب ليدفن به. وكان قد حفر له به قبر، فأقبل خدام أم الخليفة، واستخلصوه من العامة، وردوه إلى مقابر معروف، إلى التل المقابل لباب تربة أم الخليفة. وكان يوم موته مشهودًا، وتابوته بالحبال مشدوداً، رحمه الله.

وذكر بن النجار: أنه كان قد قرأ يوماً في الصلاة التي توفي فيها "فأما إن كان من المُقَّربين فروح وريحان وجنة نعيم" الواقعة 88، 89.

إلياس بن حامد بن محمود بن حامد بن محمد بن أبي الحجر الحراني

الفقيه المحدث تقي الدين أبو الفضل ابن الإمام أبي الفضل. وقد سبق ذكر أبيه: سمع إلياس ببغداد من أبي هاشم عيسى بن أحمد الروشابي، وشهدة، وغيرهما.

قال ناصح الدين بن الحنبلي: وكان رفيقي في درس شيخنا ابن المنّي. وسكن الموصل إلى أن توفي. وولي مشيخة دار الحديث بها. وكان حسن الطريقة، وحدث. سمع منه بدل التبريزي.

توفي في سلخ شوال سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة بالموصل. كذا ذكره غير واحد.

قال المنذري: وقيل: بل سنة ثلاث وتسعين.

مكي بن أبي القاسم عبد الله بن معالي بن عبد الباقي بن العراد البغدادي المأموني

الفقيه المحدث أبو إسحاق. ويقال: أبو الحرم أيضًا: ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة.

وسمع من ابن ناصر، والأرموي، والكروخي، وابن البطي، وهبة الله الشبلي، وسعد بن البنا، وأبي بكر بن الزاغوني، وأبي الوقت، وخلق كثير. واعتنى بهذا الشأن. قرأ على الشيوخ، وكتب بخطه. ولم يزل يقرأ ويسمع إلى آخر عمره. وهو ثقة.

وكان له مسجد كبير بالمأمونية يؤم فيه، ويقرأ الحديث على المشايخ. وكان يقرأ أيضًا بجامع القصر. وهو ثقة صحيح السماع. وقد نسبه القطيعي إلى التساهل والتسامح.

وذكر عن عبد الرزاق: أنه وجد بخطه طبقة أنكرها. ووثقه ابن نقطة، وقال: إنما تكلم فيه شيخنا ابن الحضري، لأنه قال: كان يكتب سماع أقوام كانوا يتحدثون إلى جانب حلقته. فأما سماعه فصحيح.

وقال الفارسي: كان صالحًا خيرًا دينًا. وقد تكلم فيه أصحاب الحديث. وقد روى عنه ابن خليل، وقال: أنبأنا أبو الحرم مكي بن أبي القاسم الفقيه الحنبلي.

وقرأت بخط أبي الحسن علي بن أحمد الزيدي الحافظ الزاهد. وقد سمع منه جزءًا الشيخ الإمام العالم الحافظ أبو إسحاق مكي.

وروى عنه البلداني. وأجاز لابن أبي الدينة.

وتوفي ليلة الجمعة سادس محرم سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. ودفن من الغد بباب حرب مجاورًا قبر بشر. رحمه الله تعالى.

عبد الوهاب بن عبد القادر بن أبي صالح الجيلي

ثم البغدادي الأزجي، الفقيه الواعظ، سيف الدين أبو عبد اللّه بن القدوة الزاهد أبي محمد. وقد سبق ذكر والده: وأما هو: فولد في ثاني شعبان سنة اثنين وعشرين وخمسمائة.

وذكر أبو شامة: أنه سمع من ابن الحصين، وابن السمرقندي وسنُّه يحتمل السماع من ابن السمرقندي، والحضور من ابن الحصين. لكن لم أرَ أحدًا من أهل بلده ذكروا ذلك، وهم أعلم بحاله. ولو كان ذلك صحيحًا لقدموا هذين على بقية شيوخه. ولكن ذكر ابن القادسي: أنه سمع من ابن الحصين، وابن الزاغوني، وأبي غالب بن البنا، وغيرهم.

وأسمعه والده في صباه من أبي غالب بن البنا، وأبي منصور القزاز، وأبي الفضل الأرموي، وأبي الحسن بن صرما، وسعيد بن البنا، وأبي الوقت وغيرهم.

وقرأ الفقه على والده حتى برع فيه، ودرس نيابة عن والده بمدرسته وهو حي، وقد نيف على العشرين من عمره. ثم استقل بالتدريس بها بعده، ثم نزعت منه لابن الجوزي لأجل عبد السلام بن عبد الوهاب، ثم ردت إليه بعد قبض ابن يونس.

قال ابن القادسي: كان فقيهًا مجودًا، زاهدًا واعظًا، وله قبول حسن. وتولى المظالم للناصر سنة ثلاث وثمانين. وكان كيسًا ظريفًا من ظرفاء أهل بغداد متماجنًا. ولم يكن في أولاد أبيه أفقه منه. كان فقيهًا فاضلاً، حسن الكلام في مسائل الخلاف. له لسان فصيح في الوعظ، وإيراد مليح مع عذوبة ألفاظ، وحدة خاطر، وكان ظريفًا لطيفًا، مليح النادرة، ذا مزح ودعابة وكياسة. وكانت له مروءة وسخاوة. وجعله الخليفة الناصر على المظالم. وكان يوصل إليه حوائج الناس. ذكر ذلك ابن النجار.

وذكر غيره: أنه يرسل به من الديوان إلى الشام، وأن الخليفة الناصر بنى رباط الخلاطية له. وكان له القبول التام عند العامة أيضًا.

قال ناصح الدين بن الحنبلي: قال الشيخ طلحة- يعني العلثي-: قلمه سديد في الفتوى.

قال أبو شامة: قيل له يومًا في مجلس وعظه: ما تقول في أهل البيت. قال: قد أعموني. وكان أعمش. أجاب عن بيت نفسه. وقيل له يومًا: بأي شيء تعرف المُحقَّ من المُبْطِل? قال: بليمونة. أراد: من تخضب يزول خضابه بليمونة.

وقال ابن البزوري: وعظ يومًا، فقال له شخص: ما سمعنا بمثل هذا. فقال: لا شك يكون هَذَيَان. وكان له نوادر كثيرة.

وحدث، وسمع منه جماعة، منهم: ابن القطيعي.

وروى عنه ابن الدبيثي، وعبد الرحمن بن الغزال الواعظ، وابن خليل، وأجاز لمحمد بن يعقوب بن أبي الدينة. وتوفي ليلة الأربعاء خامس عشرين شوال سنة ثلاث تسعين وخمسمائة وصلى عليه من الغد بمدرسة والده. وحضر خلق كثير. ودفن مقبرة الجلبة عند عبد الدائم الواعظ الذي تنسب المقبرة إليه. رحمه اللّه تعالى.

طلحة بن مظفر بن غانم بن محمد العلثي

الفقيه الخطيب المحدث الفرضي النضار، المفسر الزاهد، الروع العارف، تقي الدين أبو محمد: نقلت هذه الترجمة له من خط الشيخ ناصح الدين بن الحنبلي. قال: نشأ في العلث، وهي قرية من قرى بغداد. وحفظ الكتاب العزيز. وقرأ على علي البطائحي، والبرهان بن الحصري، غيرهما.

وقرأ الفقه على ناصح الإسلام أبي الفتح بن المنّي، فصار معيدًا عليّ وعلى غيري. يعني: أنه كان يعيد لهم دروس الشيخ.

قال: وانتفعنا به كثيرًا. وسمع الحديث الكثير. وقرأ صحيح مسلم في ثلاث جالس. وكان يقرأ كتاب "الجمهرة" على ابن القصار، فمن سرعة قراءته وفصاحتها قال ابن القصار: هذا طلحة يحفظ هذا الكتاب. قالوا: لا. وكان يقرأ الحديث فيبكي. ويتلو القرآن في الصلاة ويبكي. وكان متواضعًا لطيفًا، أديبًا في مناظرته، لا يسفه على أحد، فقيرًا مجردًا، ويرحم الفقراء، ولا يخالط الأغنياء.

حدثني الشيخ: أن ناصح الإسلام بن المنّي، زار رجلاً من أرباب الدنيا. قال: وكنت معه يعتمد على يدي، فرأيت في زاوية الدار صحن حلواء، فاشتهته نفسي، وخرجنا ولم يقدمه لنا. فنمت تلك الليلة، فرأيت في منامي حلواء حضرت إليّ، فأكلت منها حتى شبعت، فأصبحت ونفسي لا تطلب الحلواء.

قال: وكان يقرأ عليه القرآن والفقه والحديث في جامع العلث.

وقاك الحافظ المنذري: تفقه ببغداد على أبي الفتح بن المني، وأبي الفرج بن الجوزي. وسمع بها من أبي الفتح محمد بن عبد الباقي، ويحيى بن ثابت بن بندار، وأحمد بن المبارك المرقعاتي، وعبد الحق بن عبد الخالق، وشهدة، وتجنى الوهبانية وجماعة كثيرة.

وقرأ بلفظه على الشيوخ. وكان حسن القراءة. وانقطع في اَخر عمره إلى العبادة، وتعليم العلم.

قلت: وسمع على أحمد بن المقرب الكرخي أيضًا. وعني بالحديث، ولازم أبا الفرج بن الجوزي. وقرأ عليه كثيرًا من تصانيفه، فكان أديبًا شاعرًا فصيحًا، واشتهر اسمه، ورزق القبول من الخلق، وكثر أتباعه، وانتفع به الناس.

وروى عنه يوسف بن يوسف بن خليل، وغيره.

وروى عنه ابن الجوزي في تاريخه حكاية، وقال: حدثني طلحة بن مظفر الفقيه: أنه ولد عندهم بالعلث مولود لستة أشهر، فخرج له أربعة أضراس.

قال المنذري: توفي في ثالث عشر ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بزاويته بالعلث. ودفن هناك رحمه اللّه.

و "العَلْث": ناحية قريبة من الحضيرة من نواحي دجيل. وهي بفتح العين المهملة وسكون اللام وبعدها ثاء مثلثة.

وخلف الشيخ ثلاثة أولاد وهم أبو الفرج عبد الرحمن. وكان قدوة صالحًا عالمًا. ومكارم، ومظفر. وكلهم سمعوا الحديث وحدثوا.

محمود بن أحمد بن ناصر البغدادي الحرمي، الحذاء أبو البركات

ويقال: أبو الثناء: سمع من ابن الطلاية، وعبد الخالق بن يوسف، وغيرهما. وتفقه في المذهب. وأقرأ الفقه، وحدث.

توفي في ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ببغداد. رحمه الله.

عبد الله بن يونس بن أحمد بن عبيد الله بن هبة الله البغدادي الأزجي

الفقيه الفرضي الأصولي المتكلم الوزير، وزير الخليفة الناصر جلال الدين أبو المظفر بن أبي منصور بن أبي المعالي: كان والده وكيلاً لأم الخليفة الناصر. وكان ذا صدقات وإفضال على العلماء.

سمع من ابن الحصين، وأبي منصور القزاز، وحدث. وحج في آخر عمره، فتمتع عملاً بالمذهب. وعاد ولزم بيته. ونابه ولده هذا.

وتوفي في محرم سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. وشيعه الأعيان. ودفن بالمدائن إلى جانب قبر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

وأما ولده هذا أبو المظفر: فإنه اشتغل بالعلم، ورحل في طلبه إلى همدان، وقرأ بها ببعض الروايات على الحافظ أبي العلاء.

وسمع الحديث من المتأخرين، مثل أبي الوقت، وأبي بكر بن الزاغوني ونصر العكبري، وابن البطي، وغيرهم.

وتفقه في المذهب على أبي حكيم النهرواني، ثم على صدقة بن الحسين. وقرأ عليهما القرآن، وعلى صدقة الأصول والكلام. واختلف إلى جماعة من العلماء في طلب فنون جمة من العلوم، وبرع في علم الفرائض والحساب والأصلين والهندسة. صنف كتابًا في أوهام أبي الخطاب الكلوذاني في الفرائض والوصايا، وكتابًا في أصول الدين والمقالات. وحدث به في ولايته الأخيرة. وسمعه منه الفضلاء. ولم يتم سماعه. وسمع منه الحديث عبد العزيز بن دلف، وأبو الحسن بن القطيعي، وبالغ في مدحه والثناء عليه.

وقال جمع: فيه خصال، الخصلة منهن تكون في الرجل، فيكون من الكاملين إذ كان الله رزقه حفظ القراَن، والعلم بالحلال والحرام، الفرائض والكتاب والحساب، والعلم بالنحو، والسنَة والأخبار، وأعطاه من شرف الأخلاق، وكرم الأعراق، والمجد المؤثل، والرأي المحصل، والفضل والنجابة، والفهم والإصابة، والقريحة الصافية، والمعرفة بكل فضل وفضيلة، والسمو إلى كل درجة رفيعة نبيلة من محمود الخصال، والفضل والكمال ما يطول شرحه.

ثم ذكر تنقله في الولايات حتى ولاه الخليفة الوزارة في شوال سنة ثلاث وثمانين وجلس الخليفة له وخواص الدولة لخلعته. ثم ركب إلى الديان وبين يديه جميع أرباب الدولة: قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني، والنقيبان، وجميع الأمراء.

وذكر غيره: أنه كان يومًا وعثًا ذا وجل، وهم مشاة بين يديه. وكان قاضي القضاة قد توقف في قبول شهادة ابن يونس، فلم يقبلها إلا بكُرْه. حتى صار من شهوده. فكان يمشي في ذلك اليوم ويعثر، ويقول: لعن اللّه طول العمر. ومات القاضي رحمه الله في آخر تلك السنة.

وفي سنة أربع وثمانين أرسل الخليفة الناصر الوزير ابن يونس مع عسكر عظيم لمحاربة السلطان طغرل بن أرسلان، فلقيهم طغرل بقرب همدان فتفرق عسكر الوزير، وثبت وبيده سيف مشهور ومصحف، فلم يقدموا عليه، حتى أخذ بعض خواص السلطان بعنان دابته وقادها إلى خيمته، ثم أنزله وأجلسه، فجاء إليه السلطان في خواصه ووزيره، فلزم معهم قانون الوزارة، ولم يقم لهم فعجبوا من فعله. وكلمهم بكلام خشن، وقال لهم: أمير المؤمنين لما بلغه عبثكم في البلاد، وخروجكم عن الأوامر الشرعية أمر بمجاهدتكم، فاحترموه وأكرموه، وبقي عندهم مدة. وكان في تلك المدة يسرد الصيام، ويديم التهجد والتلاوة، ويحافظ على الجماعات في الفرائض. ثم نقلوه معهم إلى بعض بلاد أذربيجان فتلطف في التخلص منهم، حتى خلص. وسار إلى الموصل. وكان الخليفة قد استوزر في هذه المدة غيره. وكان هذا الوزير الجديد قد بعث إلى أقطار البلاد في إهلاك ابن يونس. فلما وصل إلى الموصل، خرج أميرها وسأله المقام ليقبض عليه، فانفلت منه، ونزل في سفينة وبعض حواشيه، وانحدروا ليلاً إلى تكريت، ففعل به من في قلعتها كما في صاحب الموصل، فتفلت منهم أيضًا، ووصل إلى بغداد، فانتقل إلى بعض سفنها، وتنكَر، ووصل إلى بيته بباب الأزج. ثم شاع خبره، فطلبه الخليفة إلى داره. ولم يزل في هذه المدة يدرس القرآن، ويدارس الفقه ويتحفظ ما كان نسيه من أنواع العلوم. ثم ولاه الخليفة سنة خمس وثمانين أمر المخزن والديوان، ثم جعله أستاذ الدار سنة سبع وثمانين، وفي ولايته هذه عقد المجلس لقاضي القضاة العباسي، وأحضر القضاة والعلماء، أفتوا وأثبتوا فسقه لقضية كان قد حكم فيها، وعزله، وبقي على ولايته إلى رجب سنة تسعين، فعزل وقبض عليه. وذلك في ولاية ابن القصاب الوزارة.

وكان ابن القصاب رافضيًا خبيثًا. وكان الناصر يميل إلى الشيعة، فسعى في القبض على ابن يونس ونفي الشيخ أبا الفرج إلى واسط وبقي ابن يونس معتقلاً إلى سنة ثلاث وتسعين، فأخرج في سابع عشر صفر ميتًا. ودفن بالسرداب رحمه الله وسامحه.

وقد ذكر ابن النجار: أنه لم يكن في ولايته محمودًا. وقد علمت أن الناس لا يجتمعون على حمد شخص ولا ذمه.

وأما أبو شامة فبالغ في ذمه والحط عليه بأمور لم يقم عليها حجة. وإنما قال: ويقال: إنه فعل كذا. ومثل هذا القدح لا يكفي في مستنده. ويقال كذا.

وكذلك ابن القادسي في تاريخه يذمه كثيرًا. وقد ذكر: أنه إذا آباه فصار ذا غرض معه.

وأما ابن الدبيثي فقال: كان فيه فضل، وحسن سمت ووقار. وذكر: أنه لما عزل في المرة الأخيرة أقام بمنزله.

وذكر ابن القادسي: أنه لما قبض عليه استفتى عليه أنه كان تسبب إلى كسر عسكر الخليفة، وقتلهم ونهبهم، وأظهر موت الحليفة وهو حي. فكتب ابن فضلان كلاماً مضمونه: إباحة دم من فعل هذا. وكتب ابن الجوزي: أنه يلزمه غرامة ما خان فيه وتقام عليه السياسة الرادعة. وذكر: أنه بعد القبض عليه في داره نقل إلى محبس ضنك وَعْر بالتاج. وقيل: إنه ضيق عليه وقيد.

قال: وكان فقيهًا أصوليًا جَدَلياً، عالمًا بالحساب والفرائض، والهندسة والجبر والمقابلة. وصنف كتابًا في الأصول. وكان يقرأ عليه كل أسبوع، ويحضره جماعة من العلماء، إلا أنه شان أفعاله بسوء أعماله بأغراضه الفاسدة، والحسد الذي كان معه، والطرائق التي كانت غير مرضية، فأبغضه الناس وسبُّوه وكان فيه سودنة وجنون.

قال: وتوفي في يوم الثلاثاء سابع عشر صفر سنة ثلاث وتسعين. ودفن بالسرداب بدار الخلافة.

?الحسن بن مسلم بن الحسن. ويقال أبي الحسن بن أبي الجود الفارسي، ثم الحوري، الزاهد أبو علي، زاهد وقته: أصله من "حوراء": قرية من قرى دجيل من سواد بغداد، ثم انتقل منها إلى قرية يقال لها: الفارسية من نهر عيسى. وكان يكتب في الإجازة: الفارسي، ثم الحوري.

ولد سنة أربع وخمسمائة.

وقرأ القرآن وتفقه في المذهب. وسمع الحديث من أبي البدر الكرخي وغيره. وصحب الشيخ عبد القادر، ثم اشتغل بالعبادة والانقطاع إلى الله عز وجل.

وكان كثير البكاء، دائم العبادة على منهاج السلف، ذا كرامات. ويقال: إنه كان يختم كل يوم وليلة ختمة.

ذكره ابن الدبيثي، فقال: كان رجلاً صالحًا كثير العبادة، منقطعاً إلى الاشتغال بالخير. قد قرأ القرآن، وتفقه. وسمع الحديث، ولم يزل على طريقة حميدة، روى عن الكرخي، ونعم الرجل كان.

وقرأت بخط أبي الفرج بن الحنبلي الدمشقي قال: سمعت الشيخ طلحة- يعني العلثي- يقول للشيخ: حسن هذا عشرون سنة ما رئي نائمًا أو مضطجعاً.

قال: وكان مشهوراً، تزوره العامة والخاصة، وزرناه في قريته الفارسية، وبتنا عنده، وتحدث معنا، وفرح بنا. وقال- وقد خضنا في أخبار الصفات-: قال بعض مشايخنا: أخبار الصفات صناديق مقفلة، مفاتيحها بيد الرحمن.

وذكره أبو شامة: فقال: كان من الأبدال، لازمًا لطريق السلف. أقام أربعين سنة لم يكلم أحدًا. كذا قال. وهو بعيد جدًا من حاله. وذكر من بعض كراماته من تسخير السباع له. وليس تحته كبير أمر.

قال: وسمع قاضي المارستان، وابن الحصين، وابن الطيوري، وغيرهم كذا قال. ولم يذكر هذا ابن نقطة، ولا الدبيثي، ولا القطيعي، ولا المنذري. فما أدري من أين له هذا. نعم كان في زمنه رجل يقال له: الحسن بن عبد الرحمن بن الحسن الفارسي الصوفي، من صوفية رباط الزوزني، روى عن القاضي أبي بكر وغيره، فلعله اشتبه عليه وهذا توفي بعد الحسن بن مسلم بسنتين، سنة ست وتسعين.

ثم رأيت ابن القادسي ذكر: أن الحسن هذا سمع من قاضي المارستان. قال: وكان أحد الزهاد الأوتاد، والأبدال العباد، الموصوفين بالتقى والسداد، يصوم النهار ويقوم الليل، بقي أربعين سنة لم يكلم فيها أحدًا، كثير الاجتهاد في العبادة، كثير البكاء غزير الدمعة رقيق القلب له الفراسة الصائبة.

حدثني والدي قال: كنت عنده وعنده شخص وهما يتحادثان في الزراعة، فقلت في نفسي: هذا زاهد، وهو يتكلم في حديث الدنيا?! فالتفت إليّ عاجلاً، وقال: أي أحمد، ما نصل إلى الآخرة إلا بالدنيا. وهذه الحكاية تردُّ قوله: إنه كان لا يتكلم أربعين سنه.

وحدث الحسن بن مسلم، وسمع منه جماعة، وروى عنه ابن خليل وغيره.

وتوفي في يوم الأحد حادي عشر المحرم سنة أربع وتسعين وخمسمائة بالقادسية. ودفن من الغد برباط له بها.

وقيل: توفي يوم عاشوراء. وقيل: يوم ثاني عشر المحرم. والأول الأصح. وهو الذي ذكره ابن نقطة والدبيثي والقادسي والمنذري.

?سلامة بن إبراهيم بن سلامة الحداد القباني الدمشقي

المحدث أبو الخير. ويلقب تقي الدين: سمع من أبي المكارم عبد الواحد بن هلال، وابن الموازيني، وغيرهما من مشايخ دمشق. وعني بالحديث، وكتب بخطه، وقرأ وخرج التخاريج للشيوخ، وأمَّ بحلقة الحنابلة بجامع دمشق. وكان ثقة صالحًا فاضلاً. وابن نقطة الحافظ يعتمد على خطه، وينقل عنه في استدراكه.

قرأت بخط أبي الفرج بن الحنبلي عنه: كان حسن السمت، يحفُّ شاربه، ويقصر ثوبه، ويأكل من كسب يده، يعلم القبابين، ويعتمد عليه في تصحيحها إلى أن مات.

قال: قال لي القاضي ابن الزكي: تعجبني طريقة أبي الخير- يعني: سلامة.

روى عنه ابن خليل في معجمه، فقال: أخبرنا الإمام أبو الخير قراءة عليه من لفظه..

وتوفي في سابع عشرين ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وخمسمائة. ودفن بسفح قاسيون. رحمه اللّه تعالى.

محمد بن عبد الملك بن إسماعيل بن عبد الملك بن إسماعيل بن علي الأصبهاني

الواعظ أبو عبد اللّه: ولد سنة إحدى- أو اثنتين- وثلاثين وخمسمائة.

وسمع من إسماعيل بن علي الحمامي، والحسن الرستمي، وعبد الجليل بن محمد الحافظ، وأبو الخير الباغبان، ومسعود الثقفي.

وسمع ببغداد من أحمد بن محمد العباسي، وهبة الله بن الشبكي. وكان له قبول كثير عند أهل بلده. وقدم بغداد غير مرة، وأملى بجامع القصر عشر مجالس، كتبت عنه.

سمع منه ابن القطيعي، وابن النجار، وقال: كان شيخًا فاضلاً، متدينًا صدوقًا.

قال!: وأخبرني ولده عبد المعز الواعظ بأصبهان: أن أباه توفي ليلة الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة خمس وتسعين وخمسمائة بأصبهان. رحمه الله.

عبد العزيز بن ثابت بن طاهر البغدادي المأموني الشمعي الخياط

المقرىء، الفقيه الزاهد أبو منصور. ويلقب تاج الدين: قرأ القرآن، وسمع الحديث الكثير من أبي المكارم البادرائي، وأبي الحسن بن يوسف، وابن الخشاب، وشهدة، وأكثر عن المتأخرين بعدهم.

وقرأ الفقه على الشيخ أبي الفتح بن المنّي. وكتب بخطه الكثير من الحديث وغيره. وكان يقرىء الناس القراَن، ويؤم بمسجده بالشمعية: محلة ببغداد.

قرأ عليه خلق كثير، وحدث باليسير من رواياته لأنه مات في أول سن الكهولة.

قال ابن النجار: كان صالحًا ورعًا، متدينًا كثير العبادة، آثار الصلاح لائحة على وجهه.

وقال أبو الفرج بن الحنبلي: كان رفيقنا في سماع درس ابن المنّي، وبلغ من الزهد والعبادة إلى حد يِقال به تمسك بغداد. وكان لطيفًا في صحبته خرجنا نزور قبر الإمام أحمد. ثم عدلنا إلى الشط، فنزل الفقهاء يسبحون في الشط، فقالوا للشيخ أبي منصور: انزل معنا، فنزع ثوبه، ونزل يسبح معهم، ولعبوا في الماء، فعمل مثلهم، فقال له بعض الفقهاء: أين الشيخ محمد النعال يبصرك? فقال: يا مسكين، الحقّ تعالى يبصرنا. فطاب بعض الجماعة بقوله.

قال ابن النجار: توفي يوم الأربعاء التاسع والعشرين من شعبان سنة ست وتسعين وخمسمائة. ودفن بباب حرب. رحمه الله.

تميم بن أحمد بن أَحمد بن كرم بن غالب بن قتيل البنديجي

ثم البغدادي الأزجي، المفيد أبو القاسم بن أبي بكر بن أبي السعادات: ولد سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة تقريبًا قاله ابن القطيعي.

وقال المنذري: سنة أربع أو خمس.

وقال ابن النجار: قرأت بخطه قال: ولدت في رجب سنة أربع وأربعين وخمسمائة.

وسمع الكثير من أبي بكر بن الزاغوني، وأبي الوقت، وأبي حكيم النهرواني، والشيخ عبد القادر، والوزير ابن هبيرة، والقاضي أبي يعلي بن أبي خازم بن الفراء، أبي محمد بن المادح، والمبارك بن خضير، وأحمد بن المقرب، وابن البطي والكروخي وخلق كثير من هذه الطبقة، وممن بعدهم.

وكتب بخطه كثيرًا لنفسه وللناس، وأفاد أهل البلد، ومواليدهم، والغرباء كثيرًا.

وكان يعتني بحفظ أسماء الشيوخ، ومعرفة مروياتهم، ومواليدهم ووفياتهم. حدث باليسير لأنه مات قبل الشيخوخة.

سمع منه ابن النجار، وتكلم فيه هو وشيخه ابن الأخضر، وأجاز للحافظ المنذري.

توفي يوم السبت ثالث جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وخمسمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه الله.

عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد اللّه بن عبد الله بن حمادى بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه

القرشي التيمي البكري البغدادي، الحافظ المفسر، الفقيه الواعظ، الأديب جمال الدين أبو الفرج، المعروف بابن الجوري، شيخ وقته، وإمام عصره.

واختلف في هذه النسبة، فقيل: إن جده جعفر نسب إلى فرضه من فرض البصرة، يقال لها: جوزة.

وفرضة النهر: ثلمته التي يستقي منها، وفرضة البحر: محط السفن. ذكر هذا غير واحد.

قال المنذري: هو نسبة إلى موضع يقال له: فرضة الجوز.

وذكر الشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش: أنه منسوب إلى محلة بالبصرة تسمى محلة الجوز.

وقيل: بل كانت بداره في واسط جوزة، لم يكن بواسط جوزة سواها.

واختلف أيضاً في مولده، فقيل: سنة ثمان وخمسمائة.

وقال القادسي: ذكره الشيخ عن أخيه أبي محمد: أنه أخبره بذلك.

وقيل: سنة تسع. وقيل: سنة عشر.

ووجد بخطه: لا أحقق مولدي، غير أنه مات والدي في سنة أربع عشرة وقالت الوالدة: كان لك من العمر نحو ثلاث سنين. فعلى هذا: يكون مولده سنة إحدى عشرة، أو اثني عشرة.

وقال ابن القطيعي: سألته عن مولده. فقال: ما أحق القت، إلا أنني أعلم أني احتلمت في سنة وفاة شيخنا ابن الزاغوني: وكان توفي سنة سبع وعشرين.

قلت: وهذا يؤذن أن مولده بعد العشرة.

ووجد بخطه تصنيف له في الوعظ، ذكر: أنه صنف سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وقال: ولي من العمر سبع عشرة سنة.

قال ابن القطيعي: وحكي لي أنه كان يسمى المبارك إلى سنة عشرين وخمسمائة. وقال: سماني وأخواي شيخنا ابن ناصر: عبد اللّه، وعبد الرحمن، وعبد الرازق.

وإنما كنا نعرف بالكنى.

وكان مولده ببغداد بدرب حبيب. فلما توفي والده- وهو صغير- كفلته أمه وعمته. وكان أهله تجارًا في النحاس، فلهذا يوجد في بعض سماعاته القديمة: ابن جوزي الصفار. ولما ترعرع حملته عمته إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر، فاعتنى به أسمعه الحديث. وقد قيل: إن أول سماعاته سنة ست عشرة وخمسمائة.

وحفظ القراَن وقرأه على جماعة من أئمة القراء. وقد قرأ بالروايات في كبره بواسط على ابن الباقلاني. وسمع بنفسه الكثير، وقرأ وعني بالطلب.

قال في أول مشيخته: حملني شيخنا ابن ناصر إلى الأشياخ في الصغر، وأسمعني العوالي، وأثبت سماعاتي كلها بخطه، وأخذ لي إجازات منهم. فلما فهمت الطلب كنت ألازم من الشيوخ أعلمهم، وأوثر من أرباب النقل أفهمهم، فكانت همتي تجويد العُدد لا تكثير العدد. ولما رأيت من أصحابي من يؤثر الاطلاع على كبار مشايخي ذكرت عن كل واحد منهم حديثًا. ثم ذكر في هذه المشيخة له سبعة وثمانين شيخاً.

وقد سمع من جماعة غيرهم، لكنه اقتصر على أكابر الشيوخ ومواليهم، فمنهم ابن الحصين، والقاضي أبو بكر الأنصاري، وأبو بكر المزرفي، وأبو القاسم الحريري، وعلي بن عبد الواحد الدينوري، وأبو السعادات المتوكلي، وأبو غالب بن البنا، وأخوه يحيى، وأبو عبد اللّه البارع، وأبو الحسن علي بن أحمد الموحد، وأبو غالب الماوردي، و الحسن بن الزاغوني، وأبو منصور بن خيرون، وأبو القاسم السمرقندي، وعبد الوهاب الأنماطي، وعبد الملك الكروخي، وأبو القاسم عبد اللّه بن محمد الأصبهاني خطيبها، وأبو سعد الزوزني، وأبو سعد البغدادي، ويحيى بن الطراح، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن، وأبو القاسم علي بن معلى العلوي الهروي الواعظ، وأبو منصور القزاز، وعبد الجبار بن إبراهيم بن عبد الوهاب بن مندة. وتفرد بالرواية عن طائفة منهم، كالمتوكل والدينوري.

وسمع الكتب الكبار، كالمسند، وجامع الترمذي، وتاريخ الخطيب. وله فيه فوات جزء واحد.

وسمع صحيح البخاري على أبي الوقت، وصحيح مسلم بنزول، وما لا يحصى من الأجزاء وتصنيف ابن أبي الدنيا وغيرها. ووعظ وهو صغير جداً.

قال: حملني ابن ناصر إلى أبي القاسم العلوي الهروي في سنة عشرين، فلقنني كلمات من الوعظ، وجلس لوداع أهل بغداد مستندًا إلى الرباط الذي عند السور في الحلبة، ورقاني يومئذ المنبر، فقلت الكلمات، وحرز الجمع بخمسين ألفاً. ثم صحب أبا الحسن بن الزاغوني، ولازمه، وعلق عنه الفقه والوعظ.

وذكر القادسي: أنه تفقه على أبي حكيم، وأبي يعلى بن الفراء.

وكذا ذكر ابن النجارة أنه بعد وفاة ابن الزاغوني قرأ الفقه والخلاف والجدل والأصول على أبي بكر الدينوري، والقاضي أبي يعلى الصغير، وأبي حكيم النهرواني. وصار مفيد المدرسة.

وقرأ الأدب على أبي منصور الجواليقي. ولما توفي ابن الزاغوني في سنة سبع وعشرين طلب حلقته، فلم يعطها لصغره فإنه كان في ذلك العام قد احتلم كما تقدم فحضر بين يدي الوزير، وأورد فصلاً في المواعظ، فأذن له في الجلوس في جامع المنصور.

قال: فتكلمت فيه، فحضر مجلسي أول يوم جماعة من أصحابنا الكبار من الفقهاء، منهم عبد الواحد بن سيف، وأبو علي بن القاضي، وأبو بكر بن عيسى، وابن قثامي وغيرهم. ثم تكلمت في مسجد معروف، وفي باب البصرة، وبنهر المعلى، فاتصلت المجالس، وقوي الزحام، وقوي اشتغالي بفنون العلوم. وسمعت على أبي بكر الدينوري الفقه، وعلى أبي منصور بن الجواليقي اللغة. تتبعت مشايخ الحديث، وانقطعت مجالس أبي علي الراذاني- يعني الذي أخذ حلقة شيخه ابن الزاغوني- واتصلت مجالسي لكثرة اشتغالي بالعلم.

واشتهر أمر الشيخ أبو الفرج من ذلك الوقت، وأخذ في التصنيف والجمع. وقد كان بدأ بالتصنيف من قبل ذلك.

وذكر: أنه سرد الصوم مدة، واتبع الزهاد، ثم رأى أن العلم أفضل من كل نافلة فانجمع عليه، ونظر في جميع الفنون، وألف فيها. وكانت أكثر علومه يستفيدها من الكتب، ولم يحكم ممارسة أهلها فيها، وعظم شأن الشيخ في ولاية الوزير ابن هبيرة. وكان يتكلم عنده في داره كل جمعة. ولما ولي المستنجد الخلافة خلع عليه خلعة مع الشيخ عبد القادر، وغيره من الأكابر، وأذن له في الجلوس بجامع القصر.

قال: فتكلمت. وكان يحزر جمع مجلسي على الدوام بعشرة آلاف، وخمسة عشر ألفاً.

قال: وظهر أقوام يتكلمون بالبدع ويتعصبون في المذاهب، فأعانني الله سبحانه وتعالى عليهم. وكانت كلمتنا هي العليا. وكان الشيخ رحمه الله يظهر في مجالسه مدح السنة، والإمام أحمد وأصحابه، ويذم من يخالفهم، يصرح بمذاهبهم في مسائل الأصل، لا سيما في مسألة القرآن. وكلامه في كتبه الوعظية في ذلك كثير جداً.

وقال يومًا على المنبر: أهل البدع يقولون: ما في السماء أحد، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبيّ، ثلاث عورات لكم.

وقدم مرة إلى بغداد واعظ يقال له: البروي، فتعصب في كلامه على الحنابلة كثيراً، فلم تطل مدته حتى هلك. وكان في تلك الأيام قد غدا ساع أسود للشيعة، - خرجوا للقائه، فانبط ووقع ميتًا، فضاقت صدورهم لذلك، فجلس الشيخ عقيب ذلك، وقال في أثناء كلامه: كم أبرق مبتدع بأصحاب أحمد وأرعد فحظي يومًا له وهو بالعيش الأرغد، وأما أنت يا أبعد، فإن أردت أن تموت، وإن أردت أن تحرد. مات البروي وانبط الأسود.

ومن كلامه في بعض المجالس: من مبلغ أحمد بن حنبل، إن زرع كيف أقول ما لم يقل سنبل?.

وقيل له مرة: قلّل من ذكر أهل البدع مخافة الفتن، فأنشد:

أتوب إليك يا رحمن مـمـا

 

جنيت، فقد تعاظمت الذنوب

وأما من هوى ليلى وتركي

 

زيارتها، فإنـي لا أتـوب

وقال له قائل: ما فيك عيب إلا أنك حنبلي، فأنشد:

وعيرني الواشون أني أحبهـا

 

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

ثم قال: أهذا عيبي، ولا عيب في وجه نقط صحنه بالخال. وأنشد:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

 

بهن فلول من قراع الكتائب

وكتب إليه رجل في رقعة: والله، ما أستطيع أراك، فقال أعمش وشمس، كيف يراها. ثم قال: إذا خلوت في البيت غرست الدُّرَّ في أرض القراطيس، إذا جلست للناس دفعت بدرياق العلم سموم الهوى أحميكم عن طعام البدع، وتأبون إلا التخليط، والطبيب مبغوض.

وكان الشيخ أبو الفرج معيدًا عند الشيخ أبي حكيم النهرواني. وكان قد قرأ عليه الفقه أيضًا والفرائض بالمدرسة التي بناها ابن السمحل بالمأمونية. وكان لأبي حكيم مدرسة بباب الأزج فلما احتضر أسندها إلي أبي الفرج فأخذها جميعاً بعده.

وفي خلافة المستضيء قوي اتصال الشيخ أبي الفرج وصنف له الكتاب الذي سماه "المصباح المضيء في دولة المستضيء" وصنف كتابًا آخر لما خطب للمستضيء بمصر، وانقطع أثر العبيديين عنها، سماه: "النصر على مصر" وعرضه علبه، وحضر عنده، ثم أذن له في سنة ثمان وستين أن يجلس للوعظ في باب بدر بحضرة الخليفة، وأعطاه مالاً.

قال الشيخ: فأخذ الناس أماكن من وقت الضحى للمجلس بعد العصر وكانت هناك دكاك فأكريت، حتى إن الرجل كان يكتري موضعاً لنفسه بقراطين وثلاثة.

قال: وكنت أتكلم أسبوعًا، وأبو الخير القزويني أسبوعًا، وجمعي عظيم وعنده عدد يسير. ثم شاعَ أن أمير المؤمنين لا يحضر إلا مجلسي، وذلك في الأشهر الثلاثة.

قال: ثم تقدم إليَّ بالجلوس بباب بدر يوم عرفة، فحضر الناس من وقت الضحى. وكان الحرّ شديدًا، والناس صيام.

قال: ومن أعجب ما جرى أن حمالاً حمل على رأسه دار بونة من وقت الظهر إلى وقت العصر ظلل بها من الشمس عشرة أنفس، فأعطوه خمس قراريط، واشتريت مراوح كثيرة بضعف ثمنها، وصاح رجل يومئذ: قد سرق مني الآن مائة دينار في هذه الزحمة، فوقع له أمير المؤمنين بمائة دينار.

قال: وفي هذه السنة عقدت المجلس بجامع المنصور يوم عاشوراء، وحضر من الجمع ما حرز بمائة ألف، وجرى في سنة تسع مثل ذلك أيضاً.

قال: وسألني أهل الحربية أن أعقد عندهم مجلسًا للوعظ ليلة. فوعدتهم ليلة الجمعة سادس ربيع الأول- يعني سنه تسع- وانقلبت بغداد، وعبر أهلها عبورًا زاد على نصف شعبان زيادة كبيرة، فعبرت إلى باب البصرة فدخلتها بعد المغرب، فتلقاني أهلها بالشموع الكثيرة، وصحبني منها خلق عظيم فلما خرجت من باب البصرة رأيت أهل الحربية قد أقبلوا بشموع لا يمكن إحصاؤها، فأضيفت إلى شموع أهل باب البصرة، فحزرت بألف شمعة. وما رأيت البرية إلا مملوءة بالأضواء. وخرج أهل المحال والنساء والصبيان ينظرون وكان الزحام في البرية كالزحام بسوق الثلاثاء، فدخلت الحربية وقد امتلأ الشارع وأكريت الرواشين من وقت الضحى. ولو قيل: إن الذين خرجوا يطلبون المجلس وسعوا في الصحراء بين باب البصرة والحربية مع المجتمعين في المجلس كانوا ثلاثمائة ألف، ما أبعد القائل.

قال: وفي هذا الشهر ختن الوزير رئيس الرؤساء أولاده وعمل الدعوة العظيمة وأنفذ إلي أشياء كثيرة، وقال: هذا نصيبك لأني علمت أنك لا تحضر مكانًا يغنى فيه. ثم إن الشيخ أبا الفرج بنى مدرسة بدرب دينار، ودرس بها سنة سبعين. وذكر أول يوم تدريسه بها أربعة عشر درسًا من فنون العلم.

قال: وفي هذه السنة انتهى تفسيري في القرآن في المجلس على المنبر، إلى أن تم، فسجدت على المنبر سجدة الشكر، وقلت: ما عرفت أن واعظًا فسر القرآن كله في مجلس الوعظ منذ نزل القرآن، ثم ابتدأت في ختمة أفسرها على الترتيب والله قادر على الإنعام والإتمام، والزيادة من فضله.

قال: وتقدم إليَّ بالجلوس تحت المنظرة في رجب، فتكلمت يوم الخميس خامس رجب بعد العصر، وحضر السلطان، وأخذ الناس أماكنهم من بعد صلاة الفجر، وأكريت دكاكين، فكان موضع كل رجل بقيراط، حتى إنه اكترى دكاناً لثمانية عشر رجلاً بثمانية عشر قيراطًا، ثم جاء رجل فأعطاهم ستة قراريط حتى جلس معهم. وكان الناس يقفون يوم مجلسي من باب بدر إلى باب النوبي كأنه العيد، ينظر بعضهم بعضًا، وينظرون قطع المجلس.

قال: وفي شعبان سلمت إلى المدرسة التي للجهة "بنفشا" وكانت قد سلمتها إلى أبي جعفر بن الصباغ، فبقي المفتاح معه أيامًا، ثم استعادت منه المفتاح، وسلمته إلي من غير طلب كان مني، وكتبت في كتاب الوقف: إنها وقف على أصحاب أحمد، وأسندتها إليّ، ثم كتبت على حائطها: اسم الإمام أحمد، وأنها مفوضة إلى ناصر السنة ابن الجوزي. وتقدم إليّ بذكر الدرس فيها. وحضر قاضي القضاة وحاجب الباب، وفقهاء بغداد وخلعت عليّ خلعة، وخرج الدعاة بين يدي والخدم، ووقف أهل بغداد من باب النوبي إلى باب المدرسة كما يكون في العيد وأكثر. وكان على باب المدرسة ألوف، وألقيت يومئذ دروسًا كثيرة من الأصول والفروع وكان يومًا مشهودًا لم ير مثله، ودخل على قلوب أهل المذاهب غم عظيم. وتقدم ببناء دكة لنا في جامع القصر. فانزعج لهذا جماعة من الأكابر، وقالوا: ما جرت عادة الحنابلة بدكة، فبنيت، فجلست فيها يوم الجمعة ثالث رمضان.

وذكر بعض أصحاب أبي حنيفة في الإفطار بالأكل- يعني ناسيًا- واعترضت عليه يومئذ، وازدحمت العوام حتى امتلأ صحن الجامع، ولم يمكن الأكثرين حصول النظر إلينا، وحفظ الناس بالرجالة، خوفًا من فتنة، وما زال الزحام على حلقتنا كل جمعة. ثم ذكر مجالسه سنة إحدى وسبعين بباب بدر، وحضور الخليفة عنده غير مرة، وازدحام الناس من نصف الليل. وكان يعظ هو وأبو الخير القزويني.

قال: وبعث إليّ بعض الأمراء من أقارب أمير المؤمنين: والله، ما أحضر أنا ولا أمير المؤمنين غير مجلسك، وإنما تلمحنا مجلس غيرك يومًا وبعض يوم آخر.

قال: حدثني بعض خدم الخليفة: أن الخليفة حضر يومًا المجلس متحاملاً لمرض حصل له، ولولا شدة محبتك لما حضر، لما كان اعتراه من الألم.

وحدثني صاحب المخزن، قال: كتب إليّ أمير المؤمنين في كلام كنت ذكرته: هل وقع ما ذكره فلان بالفرض? فكتب أمير المؤمنين: ما علي ما ذكره فلان مزيد.

قال: وكان الرفض في هذه الأيام قد كثر، فكتب صاحب المخزن إلى الخليفة: إن لم تُقَوَِّ يدَ ابن الجوزي لم يطق دفع البدع. فكتب الخليفة بتقوية يديّ، فأخبرت الناس ذلك على المنبر، وقلت: إن أمير المؤمنين، قد بلغه كثرة الرفض، وقد خرج توقيعه بتقوية يديّ في إزالة البدع، فمن سمعتموه من العوام ينتقص الصحابة فأخبروني حتى أنقض داره، وأخلده الحبس، فإن كان من الوعاظ حفرته إلى المثال، فانكفّ الناس.

قال: وتكلمت يوم عرفة بباب بدر، فكان مجلسًا عظيمًا، تاب فيه خلق كثير، وقطعت شعور كثيرة، وكان السلطان حاضرًا، ثم في يوم عاشوراء سنة اثنين وسبعين، تكلمت بباب بدر، وامتلأ المكان من السحرَ، وطلع الفجر وليس لأحد طريق، فرجع الناس وامتلأت الطرق بالناس قيامًا، يتأسفون على فوت الحضور، وقام من يتكلم في المجلس، فبعث أمير المؤمنين فكتبت ظلامته.

قال: وفي جمادى الآخرة عبرت إلى جامع المنصور، فوعظت فيه بعد العصر، واجتمع الناس، فحرز الجمع مائة ألف، ورجعنا إلى نهر معلَّى والناس ممتدون من باب البصرة كالشراك إلى الجسر. وكان يومًا مشهودًا. ثم ذكر مجالسه في هذه السنة، قريبًا مما تقدم بباب بدر.

قال: وكان يوم المجلس تغلق أبواب المكان بعد الظهر لشدة الزحام، فإذا جئت بعد العصر فتح لي، وزاحم معي من يمكنه أن يزاحم.

قال: وفي رمضان، تقدم إليَّ بالجلوس في دار ظهير الدين صاحب المخزن، وحضر أمير المؤمنين، وأذن للعوام في الدخول، وتكلمت فأعجبهم، حتى قال ظهير الدين: قد قال أمير المؤمنين: ما كان هذا الرجل آدمي لما يقدر عليه من الكلام، وذكر مجالسه سنة ثلاث وسنة أربع بنحو ما تقدم.

قال: وتكلمت يوم عاشوراء سنة أربع تحت منظرة باب بدر وأمير المؤمنين حاضر، فقلت: لو أني مثلت بين يدي السدة الشريفة، لقلت: يا أمير المؤمنين. كن للّه سبحانه مع حاجتك إليه، كما كان لك مع غناه عنك، إنه لم يجعل أحدًا فوقك، فلا ترضى أن يكون أحد أشكر له منك. فتصدق أمير المؤمنين يومئذ بصدقات، وأطلق محبوسين.

قال: وتقدم أمير المؤمنين في هذه السنة بعمل لوح ينصب على قبر الإمام أحمد، ونقضت السترة جميعها، وبنيت بآجر مقطوع جديد، وبني لها جانبان، وبني اللوح الجديد، وفي رأسه مكتوب: هذا ما أمر بعمله سيدنا ومولانا أمير المؤمنين الإمام المستضيء بالله. وفي وسطه مكتوب: هذا قبر تاج السنة، وحيد الأمة، العالي الهمة، العالم العابد، الفقيه الزاهد. زاد القطيعي: الورع المجاهد، العامل بكتاب الله، وسنة رسول الله.

قال: واستعظم كثير من الناس أمره بكتابة الإمام أحمد على لوحة، فإن عادة الخلفاء لا يقال لغير الخليفة: إمام الإمام أبي عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمه الله. وكتب تاريخ وفاته، وآية الكرسي.

قال: وتكلمت في جامع المنصور هذه الأيام. فبات ليلته في الجامع خلق كثير. وختمت الختمات. واجتمع الناس بكثرة. فحرز الجمع بمائة ألف. وتاب خلق كثير. وقطعت شعورهم، ثم نزلت فمضيت إلى قبر أحمد. فتبعني خلق كثير حرزوا بخمسة آلاف.

قال: وبني للشيخ أبي الفتح بن المني دكة في موضع جلوسه في الجامع. فتأثر أهل المذاهب من ذلك، وجعل الناس يقولون لي: هذا بسببك، فإنه ما ارتفع هذا المذهب عند السلطان حتى مال إلى الحنابلة إلا بسماع كلامك، فشكرت اللّه تعالى على ذلك. ولقد قال لي صاحب المخزن: ما يخرج إليَّ شيء من عند السلطان فيه ذكرك، إلا ويثني عليك، وقال له يومًا بختاج الخادم: أنت تتعصب لفلان? فقال له: واللّه ما يتعصب له سيدك إلا بقدر ما تتعصب له خمسين مرة، وما يعجبه كلام غيره.

وكان الوزير ابن رئيس الرؤساء يقول: ما دخلت قط على الخليفة إلا أجري ذكر فلان، يعنيني.

قال الشيخ: وصار لي اليوم خمس مدارس، ومائة وخمسين مصنفًا في كل فن وقد تاب على يدي أكثر من مائة ألف، وقطعت أكثر من عشرة آلاف طائلة، ولم ير واعظ مثل جمعي، فقد حضر مجلسي الخليفة والوزير، وصاحب المخزن، وكبار العلماء والحمد لله على نعمه.

وذكر في هذه السنة: أنه تكلم يومًا بحضرة الخليفة، وحكى له موعظة شيبان للرشيد، قال: وقلت له في كلامي: يا أمير المؤمنين، إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك.

قال ابن القطيعي: سمعت من أثق به. قال: لما سمع أمير المؤمنين المستضيء ابن الجوزي ينشد تحت داره:

ستنقلك المـنـايا عـن ديارك

 

وَيُبْدِلُكَ الـردى دارًا بـدارك

وتترك ما عنيت بـه زمـانًـا

 

وتنقل من غناك إلى افتقـارك

فدود القبر في عينيك يرعـى

 

وترعى عين غيرك في ديارك

فجعل المستضيء يمشي في قصره ويقول: أي والله: وترعى عين غيرك في ديارك ويكررها ويبكي حتى الليل.

وحاصل الأمر: أن مجالسه الوعظية لم يكن لها نظير، ولم يسمع بمثلها. وكانت عظيمة النفع، يتذكر بها الغافلون، ويتعلم منها الجاهلون، ويتوب فيها المذنبون، ويسلم فيها المشركون. وقد ذكر في تاريخه: أنه تكلم مرة، فتاب في المجلس على يده نحو مائتي رجل، وقطعت شعور مائة وعشرين منهم.

وقال في آخر كتاب القصاص، والمذكرين له: ما زلت أعظ الناس وأحرضهم على التوبة والتقوى، فقد تاب على يدي إلى أن جمعت هذا الكتاب أكثر من مائة ألف رجل: وقد قطعت من شعور الصبيان اللاهين أكثر من عشرة آلاف طائلة. وأسلم على يدي أكثر من مائة ألف.

قال: ولا يكاد يُذكر لي حديث إلا ويمكنني أن أقول: صحيح، أو حسن أو محال. ولقد أقدر على أن أرتجل المجلس كله من غير ذكر محفوظ، وربما قرئت عندي في المجلس خمسة عشرة آية، فآتي على كل آية بخطبة تناسبها في الحال.

وقال سبطه أبو المظفر: أقل ما كان يحضر مجلسه عشرة آلاف، وربما حضر عنده مائة ألف، وأوقع الله له في القلوب القبول والهيبة. وكان زاهدًا في الدنيا، متقللاً منها، وسمعته يقول على المنبر في آخر عمره: كتبت بإصبعيّ هاتين ألفي مجلدة، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني.

قال: وكان يختم القرآن في كل سبعة أيام، ولا يخرج من بيته إلا إلى الجامع للجمعة وللمجلس. وما مازح أحدًا قط، ولا لعب مع صبي، ولا أكل من جهة لا يتيقّن حِلهَا. وما زال على ذلك الأسلوب حتى توفاه الله تعالى.

وقال ابن القطيعي: انتفع الناس بكلامه، فكان يتوب في المجلس الواحد مائة وأكثر في بعض الأيام. وكان يجلس بجامع المنصور يومًا أو يومين في السنة. فتغلق المحال، ويحرز الجمع بمائة ألف.

قرأت بخط الإمام ناصح الدين بن الحنبلي الواعظ في حق الشيخ أبي الفرج: اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع في غيره. وكانت مجالسه الوعظية جامعة للحسن والإحسان باجتماع ظراف بغداد، ونظاف الناس، وحسن الكلمات المسجعة والمعاني المودعة في الألفاظ الرائجة، وقراءة القرآن بالأصوات المرجعة، والنغمات المطربة، وصيحات الواجدين، ودمعات الخاشعين، وإنابة النادمين، وذل التائبين، والإحسان بما يفاض على المستمعين، من رحمة أرحم الراحمين. ووعظ وهو ابن عشر سنين إلى أن مات، ولم يشغله عن الاشتغال بالعلم شاغل، ولا لعب ولا لها، ولا سافر إلا إلى مكة. ولقد كان فيه جمال لأهل بغداد خاصة، وللمسلمين عامة، ولمذهب أحمد منه ما لصخرة بيت المقدس من المقدس. حضرت مجالسه الوعظية بباب بدر عند الخليفة المستضيء، ومجالسه بدرب دينار في مدرسته ومجالسه بباب الأزج على شاطىء دجلة، وسمعت عليه مناقب الإمام أحمد، وبعثت إليه من دمشق، فنقل سماعي بخطه وسيره إليَّ، حضرت معه في دعوتين. فكان طيب النفس على الطعام. وكانت مجالسه أكثر فائدة من مجالسته.

وذكره الحافظ ابن الدبيثي في ذيله على تاريخ ابن السمعاني، فقال: شيخنا الإمام جمال الدين بن الجوزي صاحب التصانيف في فنون العلم: من التفاسير، والفقه، والحديث، والوعظ، والرقائق، والتواريخ، وغير ذلك. وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه. والوقوف على صحيحه من سقيمه. وله فيه المصنفات من المسانيد والأبواب والرجال. ومعرفة ما يحتج به في أبواب الأحكام والفقه، وما لا يحتج به من الأحاديث الواهية الموضوعة. والانقطاع والاتصال. وله في الوعظ العبارة الرائقة. والإشارات الفائقة. والمعاني الدقيقة. والاستعارة الرشيقة.

وكان من أحسن الناس كلامًا. وأتمهم نظامًا، وأعذبهم لسانًا، وأجودهم بيانًا.

وبورك له في عمره وعمله. فروى الكثير، وسمع كالناس منه أكثر من أربعين سنة، وحدث بمصنفاته مرارًا.

قال: وأنشدني بواسط لنفسه:

يا ساكن الدنيا تـأهـب

 

وانتظر يوم الفـراق

وأعدَّ زاداً للـرحـيل

 

فسوف يحدى بالرفاق

وابك الذنوب بـأدمـع

 

تنهل من سحب المآقي

يا من أضاع زمـانـه

 

أرضيت ما يفنى بباق

قال: وأنشدني:

إذا رضيت بميسور مـن الـقـوت

 

أصبحت في الناس حرًا غير ممقوت

يا قوت نفسي إذا ما در خلقـك لـي

 

فلست آسـى عـلـى درّ وياقـوت

وقال الموفق عبد اللطيف: كان ابن الجوزي لطيف الصورة، حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات والنغمات، لذيذ المفاكهة. يحضر مجلسه مائة ألف أو يزيدون. لا يضيع من زمانه شيئًا، يكتب في اليوم أربعة كراريس، ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلدًا إلى ستين.

وله في كل علم مشاركة، لكنه كان في التفسير من الأعيان، وفي الحديث من الحفاظ، وفي التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كافٍ. وأما السجع الوعظي فله فيه ملكة قوية، إن ارتجل أجاد، وإن روى أبدع.

وله في الطب كتاب "اللقط" مجلدان. وكان يراعي حفظ صحته، وتلطيف مزاجه وما يفيد عقله قوة، وذهنه حِدّة. جُل غذائه الفراريج والمزاوير. ويعتاض عن الفاكهة بالأشربة والمعجونات. ولباسه أفضل لباس: الأبيض الناعم المطيب.

ونشأ يتيمًا على العفاف والصلاح. وله ذهن وقّاد، وجواب حاضر، ومجون لطيفة، ومداعبات حلوة، لا ينفك من جارية حسناء.

وذكر غير واحد: أن الشيخ أبا الفرج تشرب حب البلاد، فسقطت لحيته، فكانت قصيرة جدًا. وكان يخضبها بالسواد إلى أن مات. وصنف في جواز الخضاب بالسواد مجلدًا.

وذكره ابن البزوري في تاريخه، وأطنب في وصفه، وقال: أصبح في مذهبه إمامًا يشار إليه، ويعقد الخنصر في وقته عليه. ودرس بعدة مدارس، وبنى لنفسه مدرسة بدرب دينار، ووقف عليها كتبه. وبرع في العلوم، وتفرد بالمنثور والمنظوم، وفاق على أدباء عصره، وعلا على فضلاء دهره. وله التصانيف العديدة. سئل عن عددها. فقال: زيادة على ثلاثمائة وأربعين مصنفًا. منها ما هو عشرون مجلدًا ومنها ما هو كراس واحد. ولم يترك فنًا من الفنون إلا وله فيه مصنفًا. كان أوحد زمانه، وما أظن الزمان يسمح بمثله.

قال: وكان إذا وعظ اختلس القلوب وتشققت النفوس دون الجيوب.

وذكره العماد الكاتب في الخريدة، وابن خلكان والحموي، وابن النجار، وأبو شامة وغيرهم، وأثنوا عليه مع أن اشتهاره بالعلوم والفضائل يغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره. فلقد بلغ ذكره مبلغ الليل، وسارت بتصانيفه الركبان إلى أقطار الأرض، وانتفع الناس بها انتفاعًا بينًا.

قال ابن النجار- بعد ذكره نبذة من أسماء مصنفاته-: من تأمل ما جمعه بان له حفظه وإتقانه، ومقداره في العلم. وكان رحمه الله مع هذه الفضائل والعلوم الواسعة ذا أوراد وتأله، وله نصيب من الأذواق الصحيحة، وحظ من شرب حلاوة المناجاة. وقد أشار هو إلى ذلك. ولا ريب أن كلامه في الوعظ والمعارف ليس بكلام ناقل أجنبي مجرد عن الذوق، بل كلام مشارك فيه.

وقد ذكر ابن القادسي في تاريخه: أن الشيخ كان يقوم الليل ويصوم النهار. وله معاملات. ويزور الصالحين إذا جن الليل، ولا يكاد يفتر إذا جن الليل، ولا يكاد يفتر عن ذكر اللّه. وله في كل يوم وليلة ختمة يختم فيها القرآن.

كذا قال. وهذا بعيد جدًا. مع اشتغاله بالتصانيف.

قال: ورأى رب العزة في منامه ثلاث مرات. ومع هذا فللناس فيه- رحمه اللّه- كلام من وجوه.

منها: كثرة أغلاطه في تصانيفه. وعذره في هذا واضح، وهو أنه كان مكثرًا من التصانيف، فيصنف الكتاب ولا يعتبره، بل يشتغل بغيره. وربما كتب في الوقت الواحد من تصانيف عديدة. ولولا ذلك لم يجتمع له هذه المصنفات الكثيرة. ومع هذا فكان تصنيفه في فنون من العلوم بمنزلة الاختصار من كتب في تلك العلوم، فينقل من التصانيف من غير أن يكون متقنًا لذلك العلم منا جهة الشيوخ والبحث، ولهذا نقل عنه أنه قال: أنا مُرتب، ولست بمصنف.

ومنها: ما يوجد في كلامه من الثناء، والترفع والتعاظم، كثرة الدعاوى. ولا ريب أنه كان عنده من ذلك طرف، والله يسامحه.

ومنها- وهو الذي من أجله نقم جماعة من مشايخ أصحابنا وأئمتهم من المقادسة والعلثيين- من ميله إلى التأويل في بعض كلامه، واشتد نكرهم عليه في ذلك. ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف، وهو وإن كان مطلعًا على الأحاديث والآثار في هذا الباب، فلم يكن خبيرًا بحل شبهة المتكلمين، وبيان فِسادها. وكان معظمًا لأبي الوفاء بن عقيل يتابعه في أكثر ما يجد في كلامه وإن كان قد ورد عليه في بعض المسائل. وكان ابن عقيل بارعًا في الكلام، ولم يكن تام الخبرة بالحديث والآثار. فلهذا يضطرب في هذا الباب، وتتلون فيه آراؤه. وأبو الفرج تابع له في هذا التلون.

قال الشيخ موفق الدين المقدسي: كان ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة. وكان صاحب قبول. وكان يدرس الفقه ويصنف فيه. وكان حافظًا للحديث. وصنف فيه، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة، ولا طريقته فيها. انتهى.

وكان رحمه الله تعالى إذا رأى تصنيفًا وأعجبه صنف مثله في الحال، وإن لم يكن قد تقدم له في ذلك الفن عمل لقوة فهمه، وحِدَّة ذهنه، فربما صنف لأجل ذلك الشيء ونقيضه بحسب ما يتفق له من الوقوف على تصانيف من تقدمه. وقد كان شيخه ابن ناصر يثني عليه كثيرًا. ولما صنف أبو الفرج كتابه المسمى ب "التلقيح" وله إذْ ذاك نحو الثلاثين من عمره، عرضه على ابن ناصر، فكتب عليه: قرأ عليَّ هذا الكتاب جامعه الشيخ الإمام العالم الزاهد أبو الفرج، فوجدته قد أجاد تصنيفه، وأحسن تأليفه، وجمعه ولم يسبق إلى مثل هذا الجمع فقد طالع كتبًا كثيرة، وأخذ أحسن ما فيها من الياقوت واللؤلؤ، فنظمه عقدًا زان به التصانيف، التي تجمعت من التواريخ، ومعرفة الصحابة وأسمائهم وكناهم وأعمارهم، وأبان عن فهم وعلم غزير مع اختصار يحض على الحفظ والعمل بالعلم، فنفعه الله بعلمه، ونفع به، وبلغه غاية العمرة لينفع المسلمين، وينصر السنة وأهلها، ويدحض البدع وحزبها.

قال الشيخ أبو الفرج: ولقد كنت أرُدّ أشياء على شيخنا أبي الفضل بن ناصر، فيقبلها مني.

وحدثني أبو محمد عبد العزيز بن الأخضر عن شيخنا أنه كان يقول عني: إذا قرأ عليّ فلان استفدت بقراءته، وأذكرني ما قد نسيته.

وأما تصانيفه فكثيرة جداً. وقد تقدم عنه أنه ذكر أنها مائة وأربعون، أو مائة وخمسون وزيادة على ثلاثمائة وأربعين. وقد قيل: أكثر من ذلك.

قال الإمام أبو العباس ابن تيمية في أجوبته المصرية: كان الشيخ أبو الفرج مفتيًا كثير التصنيف والتأليف. وله مصنفات في أمور كثيرة، حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف. ورأيت بعد ذلك له ما لم أره.

قال: وله من التصانيف في الحديث وفنونه ما لم يصنف مثله. قد انتفع الناس به.

وهو كان من أجود فنونه: وله في الوعظ وفنونه ما لم يصنف مثله.

ومن أحسن تصانيفه: ما يجمعه من أخبار الأولين، مثل "المناقب" التي صنفها، فإنه ثقة، كثير الاطلاع على مصنفات الناس، حسن الترتيب والتبويب قادر على الجمع والكتابة. وكان من أحسن المصنفين في هذه الأبواب تمييزًا فإن كثيرًا من المصنفين فيه لا يميز الصدق فيه من الكذب.

وكان الشيخ أبو الفرج فيه من التمييز ما ليس في غيره. وأبو نعيم له تمييز وخبرة، لكن يذكر في الحلية أحاديث كثيرة موضوعة. فهذه المجموعات التي يجمعها الناس في أخبار المتقدمين من أخبار الزهاد ومناقبهم، وأيام السلف وأحالهم، مصنفات أبي الفرج أسلم فيها من مصنفات هؤلاء، ومصنفات أبي بكر البيهقي أكثر تحريرًا لحق ذلك من باطله من مصنفات أبي الفرج فإن هذين كان لهما معرفة بالفقه الحديث، والبيهقي أعلم بالحديث، وأبو الفرج أكثر علومًا وفنونًا.

قال ابن القطيعي في تاريخه: ناولني ابن الجوزي كتابًا بخطه فيه فهرست التصانيف لي، وأظن ابن القطيعي زاد فيها أشياء أخر.

قال أبو الفرج: أول ما صنفت وألفت- ولي من العمر نحو ثلاث عشرة سنة-: "ثبت التصانيف المتعلقة بالقرآن وعلومه"، كتاب "المغني، في التفسير، أحد وثمانون جزءًا، كتاب "زاد المسير في علم التفسير" أربع مجلدات، كتاب "تيسير البيان في تفسير القرآن" مجلد، كتاب "تذكرة الأريب في تفسير الغريب" مجلد، و "غريب الغريب" جزء، كتاب "نزهة العيون النواظر في الوجوه والنظائر" مجلد. واختصرت من هذا الكتاب كتابًا يسمى ب "الوجوه النواضر في الوجوه والنظائر" مجلد، كتاب "الإشارة إلى القراءة المختارة" أربعة أجزاء، كتاب "تذكرة المنتبه في عيون المشتبه" جزء، كتاب "فنون الأفنان في عيون علوم القرآن" مجلد، كتاب "ورد الأغصان في فنون الأفنان" جزء، كتاب "عمدة الراسخ في معرفة المنسوخ والناسخ" خمسة أجزاء "المصفا بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ" جزء، "ثبت التصانيف في أصول الدين" كتاب "منتقد المعتقد" جزء، كتاب "منهاج الوصول إلى علم الأصول خمسة أجزاء"، كتاب "بيان غفلة القائل بقدم أفعال العباد" جزء، "غوامض الإلهيات" جزء، "مسلك العقل" جزء، "منهاج أهل الإصابة"، "السرّ المصون" مجلد، "دفع شبه التشبيه " أربعة أجزاء "الرد على المتعصب العنيد"، "ثبت التصانيف في علم الحديث والزهديات"، كتاب "جامع المسانيد بألخص الأسانيد"، كتاب "الحدائق" أربعة وثلاثون جزءًا، كتاب "نفى النقل" خمسة أجزاء، كتاب "الحدائق" أربعة وثلاثون جزءاً كتاب "نفي النقل" خمسة أجزاء كتاب "المجتبى" مجلد كتاب "النزهة" جزآن كتاب "عيون الحكايات" مجلد كتاب "ملتقط الحكايات" ثلاثة عشر جزءاً كتاب "إرشاد المريدين في حكايات السلف الصالحين " مجلد، كتاب "روضة الناقل" جزء، كتاب "غرر الآثر" ثلاثون جزءًا كتاب "التحقيق في أحاديث التعليق" مجلدان، كتاب "المديح" سبعة أجزاء، كتاب "الموضوعات من الأحاديث المرفوعات" مجلدان، كتاب "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية" مجلدان، كتاب "الكشف لمشكل الصحيحين" أربع مجلدات، كتاب "الضعفاء والمتروكين" مجلد، كتاب "إعلام العالم بعد رسوخه بحقائق ناسخ الحديث ومنسوخه" مجلد، كتاب "أخبار أهل الرسوخ في الفقه والتحديث بمقدار المنسوخ من الحديث" جزء، كتاب "السهم المصيب جزآن "أخاير الذخائر" ثلاثة أجزاء "الفوائد عن الشيوخ " ستون جزءًا، "مناقب أصحاب الحديث" مجلد، "موت الخضر" مجلد "مختصرة" جزء، "المشيخة" جزء، "المسلسلات" جزء، "المحتسب في النسب" مجلد، "تحفة الطلاب" ثلاثة أجزاء، "تنوير مدلهم الشرف" جزء، "الألقاب" جزء. إلى هنا.

زاده ابن القطيعي: كتاب "فضائل عمر بن الخطاب" مجلد "فضائل عمر بن عبد العزيز" مجلد، "فضائل سعيد بن المسيب" مجلد، "فضائل الحسن البصري" مجلد، "مناقب الفضيل بن عياض" أربعة أجزاء، "مناقب بِشْر الحافي" سبعة أجزاء، "مناقب إبراهيم بن أدْهَم" ستة أجزاء، "مناقب سفيان الثوري" مجلد، "مناقب أحمد بن حنبل" مجلد، "مناقب معروف الكرخي" جزآن. "مناقب رابعة العدوية" جزء، "مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن" مجلد، "صفوة الصفوة" خمس مجلدات، "منهاج القاصدين" أربع مجلدات "المختار من أخبار الأخيار" مجلد، "القاطع لمحال للحجاج بمحال الحجاج " جزء، "عجالة المنتظر، لشرح حال الخضر" جزء. كتاب "النساء وما يتعلق بآدابهن " مجلد، كتاب "علم الحديث المنقول في أن أبا بكر أمَّ الرسول" جزء كتاب "الجوهر"، كتاب "المغلق "، "ثبت ما يتعلق بالتاريخ " "تلقيح فهوم أهل الأثر، في عيون التواريخ والسير" مجلد، كتاب "المنتظم، في تاريخ الملوك والأمم" عشر مجلدات، كتاب "شذور العقود، في تاريخ المعهود" مجلد، كتاب "طرائف الظرائف، في تاريخ السوالف" جزء، "مناقب بغداد" مجلد، "ثبت المصنفات في الفقه" "الإنصاف في مسائل الخلاف" كتاب "جنة النظر، وجنة النظر" وهي التعليقة الوسطى، كتاب "معتصر المختصر في مسائل النظر" وهي دون تلك، كتاب "عمد الدلائل، في مشتهر المسائل" وهي التعليقة الصغرى، كتاب "المذهب في المذهب"، "مسبوك الذهب" مجلد، كتاب "النبذة" جزء، كتاب "العبادات الخمس" جزء، كتاب "أسباب الهداية لأرباب البداية" مجلد كتاب "كشف الظلمة عن الضياء في رد دعوى" كتاب "رد اللوم والضيم في صوم يوم الغيم" "ثبت المصنفات في علم الوعظ" كتاب "اليواقيت في الخطب" مجلد، "المنتخب في النوب" مجلد، "منتخب المنتخب" مجلد، "مصنفاته في الوعظ" أكثر من مائة مجلدة قاله ابن القادسي، "منتخب المنتخب" مجلد، "نسيم الرياض" مجلد، "اللؤلؤ" مجلد، "كنز المذكر" مجلد، كتاب "الأزج" مجلد، كتاب "اللطائف" مجلد، كتاب "كنوز الرموز" مجلد، كتاب "المقتبس" مجلد، "زين القصص" مجلد، "موافق المرافق" مجلد، "شاهد ومشهود" مجلد، "واسطات العقود من شاهد ومشهود" مجلد، "اللهب" جزآن، "المدهش" مجلدان، "صبا نجد" جزء، "محادثة العقل" جزء، "لقط الجمان" جزء، "معاني المعاني" جزء، "فتوح الفتوح" مجلد، "التعازي الملوكية" جزء، "العقد المقيم" جزء كتاب "إيقاظ الوسنان من الرقدات بأحوال الحيوان والنبات" جزآن، "نكث المجالس البدرية" جزآن، "نزهة الأديب" جزاَن، "منتهى المنتهى، مجلد "تبصرة المبتدىء" عشرون جزءًا، كتاب "الياقوتة" جزآن، كتاب "تحفة الوعاظ " مجلد، "ثبت تصانيف في فنون ذم الهوى" مجلدان، "صيد الخاطر" خمسة وستون جزءًا، كتاب "أحكام الإشعار، بأحكام الإشعار" عشرون جزءًا، كتاب "القصاص، والمذكرين" كتاب، "تقويم اللسان" مجلد كتاب "الأذكياء" مجلد، "الحمقى" مجلد، "تلبيس إبليس" مجلدان، "لقط المنافع في الطب" مجلدان، "الشيب والخضاب" مجلد، "أعمار الأعيان" جزء، "الثبات عند الممات" جزرآن، "تنوير الغبش، في فضل السود والحبش" مجلد، "الحث على حفظ العلم، وذكر كبار الحفاظ " جزء، "إشراف الموالي " جزآن، كتاب "إعلام الأحياء، بأغلاط الأحياء"، كتاب "تحريم المحل المكروه" جزء، كتاب "المصباح المضيء لدعوة الإمام المستضيء" مجلد. كتاب "عطف العلماء على الأمراء، والأمراء على العلماء" جزء، كتاب "النصر على مصر" جزء، "المجد العضدي" مجلد، "الفجر النوري" مجلد، "مناقب الستر الرفيع" جزء، "ما قلته من الأشعار" جزء، "المقامات " مجلد، "من رسائلي" جزء، "الطب الروحاني" جزء.

فهذا ما نقله ابن القطيعي من خطه، وقرأهَ عليه، وزاد فيه. ومع هذا، فلأبي الفرج تصانيف كثيرة غير ما ذكر في هذا الفهرست، كأنه صنفها بعد ذلك.

فمنها: كتاب "بيان الخطأ والصواب عن أحاديث الشهاب" ستة عشر جزءًا، كتاب "الباز الأشهب المنقض على من خالف المذهب" وهو تعليقه في الفقه كبير، كتاب "الوفا بفضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم" مجلدان، كتاب "النور في فضائل الأيام والشهور" مجلد، "تقريب الطريق الأبعد، في فضائل مقبرة أحمد"، كتاب "مناقب الإمام الشافعي"، كتاب "العزلة" كتاب "الرياضة"

كتاب "منهاج الإصابة في محبة الصحابة" "فنون الألباب" "الظرفاء والمتحابين" "تقويم الأسنان" "مناقب أبي بكر" مجلد "مناقب عليّ" مجلد "فضائل العرب" مجلد، "درة الإكليل في التاريخ" أربع مجلدات. ذكره سبطه، "الأمثال" مجلد، "المنفعة في المذاهب الأربعة" مجلدان، "المختار من الأشعار" عشر مجلدات، "رؤوس القوارير" مجلدان، "المرتجل في الوعظ " مجلد كبير، "نسيم الرياض" مجلد، "ذخيرة الواعظ" أجزاء، "الزجرُ المخوف"، "الأنس والمحبة" "المطرب الملهب" "الزند الوري في الوعظ الناصري"، جزآن، "الفاخر في أيام الإمام الناصر" مجلد، "المجد الصلاحي" مجلد، "لغة الفقه" جزآن. وقيل: إن له غيره، عقد الخناصر في "ذم الخليفة الناصر" وكتاب في ذم عبد القادر، "غريب الحديث" مجلد، "ملح الأحاديث" جزآن "الفصول الوعظية على حروف المعجم"، "سلوة الأحزان" عشر مجلدات "المعشوق في الوعظ"، "المجالس اليوسفية في الوعظ " كتبها لابنه يوسف، "الوعظ المقبري" جزء، "قيام الليل" ثلاثة أجزاء، "المحادثة" جزء، "المناجاة" جزء، "زاهر الجواهر في الوعظ " أربعة أجزاء، "كنز المذكر" "النحاة الخواتيم" جزآن، "المرتقى لمن اتقى" وتصانيف أخر غير هذه.

وسمعت أن له حواشي على صحاح الجوهري، وما أخذ عليها. واختصر فنون ابن عقيل في بضعة عشر مجلدًا.

قال الحافظ الذهبي: ما علمت أن أحدًا من العلماء، صنف ما صنف هذا الرجل.

ومن لفظ كلامه الحسن في المجالس، قال: قال يومًا وقد طوب أهل مجلسه: فهمتم. فهمتم. وقام إليه سائل، فقال: كيف أصادق من ذا وقته. فقال: ماذا وقته.

وقال يومًا: شهوات الدنيا أنموذج، والأنموذج يعرض ولا يقبض.

وقال مرة: من وقف على صراط الاستقامة، وبيده ميزان المراقبة، ومحك الورع يستعرض أعمال النفس، ويرد البهرج إلى كير التوبة، سلم من رد الناقد يوم التنقيض.

وقال يومًا: بقايا الشهوات، في سوق الهوى متبهرجات، يمسكن ثياب الطبع، فإن خرج الزاهد من بيت عزلته خاطر بذنوبه.

وسأله رجل يومًا: أيما أفضل، أُسَبِّحُ، أمْ أستَغْفر. فقال: الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور.

وقال في حديث "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين": إنما طالت أعمار الأوائل لطول البادية، فلما شارف الركب بلد الإقامة. قيل: حُثّوا المطي.

ومن كلامه الحسن: من قنع طاب عيشه. ومن طمع طال طيشه.

وقال لصاحب له: أنت في أوسع العذر من المتأخر عني لثقتي بك، وفي أضيقه من شوقي إليك.

وسأله سائل فأجاب، فقال السائل: ما فهمت، فأنشد:

عليَّ نصب المعاني في مناصبها

 

فإن كبت دونها الأفهام لم أُلَـمِ

وسئل: وكيف ضرب عمر بالدرَّة الأرض. فقال: الخائن خائف، والبريء جريء.

وذكر الوفاء، فقال: ما أعرف الوفي. وما فيّ.

وتاب على يده يومًا بعض الخدم، فقال: لما عدم آلة الشهوة صلح لصحبة الملوك. فخرج الخادم على وجهه، فقال: من يعطيه قصة يوصلها? وقال: الدنيا دار الإله، والمتصرف في الدار بغير أمر صاحبها لصّ.

وقيل له: إن فلانًا وصى عند موته. فقال: يا مفرطين ما تطينون سطوحكم إلا في كانون.

وسأله سائل: أيجوز أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي? فقال: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها. فلا تشغلها بالملاهي ملاهي.

قال يومًا في قول فرعون: "وَهذهِ الأَنهَارُ تَجْرِي مِنْ تحْتي" الزخرف: 51، ويحه. افتخر بنهر ما أجراه، ما أجراه.

وقرىء بين يديه "تتجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ الْمَضَاجِعِ" السجدة: 116 فقال: لا تحلوا، رزمة رفيعة، فما عندنا مشترى.

وسئل يومًا: ما تقول في الغناء. فقال: أقسم بالله لهوَ لَهْوٌ. وقال: ما عَزّ يوسف إلا بترك ما ذل به ما عز.

وقال: ما نفشت غنم العيون النواظر في زروع الوجوه النواضر إلا وأغير على السرح.

وقال: المتعرض للنبلة أبله.

وقرىء بين يديه يومًا "كل مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ" الرحمن: 26. فقال: والله هذا توقيع بخراب البيوت.

وقال يومًا في مناجاته: إلهِي لا تعذب لسانًا يخبر عنك، ولا عينًا تنظر إلى علوم تدل عليك ولا قدماً تمشي إلى خدمتك ولا يداً تكتب حديث رسولك. فبعزتك لا تدخلني النارة فقد علم أهلها أني كنت أذبّ عن دينك.

ومنه: ارحم عبرة ترقرق على ما فاتها منك. وكبدًا تحترق على بعدها عنك.

إلهي، علمي بفضلك يطمعني فيك، ويقيني بسطوتك يؤيسني منك، وكلما رفعت ستر الشوق إليك، أمسكه الحياء منك. إلهي، لك أذل، وبك أذل، وعليك أدُل، وأنشد:

أحيى بذكرك ساعة وأموت

 

لولا التعلل بالمنى لفنـيت

وللشيخ أبي الفرج أشعار حسنة كثيرة. قال أبو شامة: قيل: إنها عشر مجلدات، فمما أنشده عنه القطيعي:

ولمـا رأيت ديار الـصـفـا

 

أقوت من إخوان أهل الصفاء

سعيت إلى سد بـاب الـوداد

 

وأحزن قلبي وفاة الـوفـاء

فلما اصطحبنا وعاشرتـكـم

 

علـمــت أن رأيي ورائي

قال: وأنشدنا لنفسه:

يا صاحبي، هذه رياح أرضهم

 

قد أخبرت شمائل الشـمـائل

نسيمهـم سـحـيري الـريح

 

ما تشبهـه روائح الأصـائل?

ما للصبا مولعة بذي الصـبـا

 

أو صبا فوق الغرام القـاتـل

ما للهوى العذري في ديارنـا

 

أين العذيب من قصور بابـل

لا تطلبوا ثاراتنا يا قـومـنـا

 

ديارنا في أذرع الـرواحـل

لله در العيش في ظـلالـهـم

 

ولي وكم أسار في المفاصـل

واطربي إذا رأيت أرضـهـم

 

هذا وفيها رميت مقـاتـلـي

يا درة الشيخ سقيت أدمـعـي

 

ولا ابتليت بالهوى مسـائلـي

ميلك عن زهو وميلي عن أسى

 

ما طرب المخمور مثل الثاكل

قال: وأنشدنا لنفسه:

سلام على الدار التي لا نزورهـا

 

على أن هذا القلب فيها أسيرهـا

إذا ما ذكرنا طيب أيامـنـا بـهـا

 

توقد في نفس الذكور سعـيرهـا

رحلنا وفي سر الفـؤاد ضـمـائر

 

إذا هب نجدي الصبا يستثـيرهـا

سحت بعدكم تلك العين دموعـهـا

 

فهل من عيونْ بعدها تستعيرهـا.

أتنسى رياض الروض بعد فراقها

 

وقد أخذ الميثاق منك غـديرهـا

يجعده مـر الـشـمـال وتـارة

 

يغازله كر الصبـا ومـرورهـا

ألا هل إلى شم الخزامى وعرعـر

 

وشيخ بوادي الأثل أرض تسيرها

ألا أيها الركب العراقي بـلـغـو

 

رسالة محزون حواه سطـورهـا

إذا كتبت أنفاسه بعـض وجـدهـا

 

على صفحة الذكرى محاه زفيرها

ترفق رفيقي، هل بدت نار أرضهم

 

أم الوجد يذكي نـاره ويثـيرهـا

أعد ذكرهم فهو الشفـا وربـمـا

 

شفى النفس أمر ثم عاد يضيرهـا

ألا أين أيام الوصال التي خـلـت

 

وحيث خلت حلت وجا مريرهـا

سقى الله أيامًا مـضـت ولـيالـيا

 

تضوع رياها وفاح عـبـيرهـا

قال: وأنشدنا لنفسه:

إذا جزت بالفور عرج يمينـاً

 

فقد أخذ الشوق منا يمـينـا

وسلم علـى بـانة الـواديين

 

فإن سمعت أوشكت أن تبينا

ومل نحو غصن بأرض النقى

 

وما يشبه الأيك تلك الغصونا

وصح في مغانيهم: أين هم?

 

وهيهات أموا طريقاً شطونا

وروّ ثرى أرضهم بالدمـوع

 

وخل الضلوع على ما طوينا

أراك يشوقـك وادي الأراك

 

أللدار تبكي أم الظاعـينـا?

سقى الله مرتعنا بالـحـمـى

 

وإن كان أورث دآء دفـينـا

وعاذله فوق داء الـمـحـب

 

رويدًا رويدًا بنا قد بـلـينـا

لمن تعذلين أمـا تـعـذرين

 

فلو قد تبعت دفعت الأنـينـا

إذا غلب الحب ضاع العتـاب

 

تعبت وأتعبت لو تعلمـينـا

وما ينسب إليه من الشعر:

تملكوا واحـتـكـمـوا

 

وصار قلـبـي لـهـم

تصرفوا في ملـكـهـم

 

فلا يقـال: ظـلـمـوا

إن واصلوا محـبـهـم

 

أو قطعوا فـهـم هـم

أصبـر لـمـا شـاءوا

 

وإن ساء الذي قد حكموا

يا أرض سلع خـبـري

 

وحدثـينـي عـنـهـم

يا ليت شعري إذْ حـدوا

 

أأنجدوا أم اتـهـمـوا

تشتاقهـم أرض مـنـى

 

وتشـكـيهـم زمـزمُ

أخبرنا أبو الفتح الميدومي- بمصر- أخبرنا أبو الفرج الحراني- سماعًا- قال: قرىء على الإمام أبي الفرج بن الجوزي- وأنا أسمع- لنفسه:

يا نادباً أطلال كل نـادي

 

وباكياً في إثر كل حادي

مستلب القلب بحب غادة

 

غدت فإن البيت بالفؤادي

مهلاً فما اللذات إلا خدع

 

كأنها طيف خيال غادي

أين المحب الحبيب بعـدا

 

وانذرا من بعد بالبعـاد

فكل جمع فإلى تـفـرق

 

وكل باق فإلـى نـفـاد

مواعظ بليغة فيا لـهـا

 

مواعظ واربة الـزنـاد

قرأ على الشيخ أبي الفرج العلم جماعة، منهم طلحة العلثي ومنهم أبو عبد الله ابن تيمية خطيب حران. وذكر في أول تفسيره أنه قرأ عليه كتابه "زاد المسير" في التفسير قراءة بحث ومراجعة.

وسمع الحديث وغيره من تصانيفه منه خلق لا يحصون كثرة من الأئمة والحفاظ والفقهاء وغيرهم.

وروى عنه خلق، منهم ولده الصاحب محيي الدين، وسبطه أبو المظفر الواعظ، والشيخ موفق الدين، والحافظ عبد الغني وابن الدبيثي، وابن القطيعي، وابن النجار، وابن خليل، وابن عبد الدائم، والنجيب عبد اللطيف الحراني. وهو خاتمة أصحابه بالسماع.

وروى عنه آخرون بالإجازة. آخرهم الفخر علي بن البخاري. وقد نالته محنة في آخر عمره رحمه الله. وحديثها يطول.

وملخصها: أن الوزير ابن يونس الحنبلي الذيَ قدمنا ترجمته كان في ولايته قد عقد مجلسًا للركن عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلي، وأحرقت كتبه. وكان فيها من الزندقة وعبادة النجوم ورأى الأوائل شيء كثير، وذلك بمحضر من ابن الجوزي وغيره من العلماء، وانتزع الوزير منه مدرسة جده، وسلمها إلى ابن الجوزي.

فلما ولي الوزارة ابن القصاب- وكان رافضيًا خبيثًا- سعى في القبض على ابن يونس، وتتبع أصحابه، فقال له الركن: أين أنت عن ابن الجوزي فإنه ناصبي ومن أولاد أبي بكر، فهو من أكبر أصحاب ابن يونس، وأعطاه مدرسة جدي، وأحرقت كتبي بمشورته. فكتب ابن القصاب إلى الخليفة الناصر وكان الناصر له ميل إلى الشيعة ولم يكن- له ميل إلى الشيخ أبي الفرج، بل قد قيل: إنه كان يقصد أذاه، وقيل: إن الشيخ ربما كان يعرض في مجالسه بذم الناصر، فأمر بتسليمه إلى الركن عبد السلام، فجاء إلى دار الشيخ وشتمه، وأغلظ عليه وختم على كتبه وداره، وشتت عياله.

فلما كان في أول الليل حمل في سفينة وليس معه إلا عدوه الركن، وعلى الشيخ غلالة بلا سراويل وعلى رأسه تخفيفة فأحدر إلى واسط. وكان ناظرها شيعياً. فقال له الركن: مكني من عدوي لأرميه في المطمورة، فزبره، فقال يا زنديق، ارميه بقولك، هات خط الخليفة، والله لو كان من أهل مذهبي لبذلت روحي. ومالي في خدمته، فعاد الركن إلى بغداد.

قال ابن القادسي: لما حضروا واسط جمع الناس، وادعى ابن عبد القادر على الشيخ: أنه تصرف في وقف المدرسة، واقتطع من مالها كذا وكذا، وكذب فيما ادعاه، وأنكر الشيخ، وصدق وبر، أفرد للشيخ دار بدرب الديوان، وأفرد له من يخدمة، وبقي الشيخ محبوسًا بواسط في دار بدرب الديوان، وعلى بابها بواب. كان بعض الناس يدخلون عليه، ويستمعون منه، ويملي عليهم. كان يرسل أشعارًا كثيرة إلى بغداد. وأقام بها خمس سنين يخدم نفسه بنفسه، ويغسل ثوبه ويطبخ، ويستقي الماء من البئر، ولا يتمكن من خروج إلى حمام ولا غيره وقد قارب الثمانين. ويقال: إنه بقي خمسة أيام في السفينة حتى وصل إلى واسط لم يأكل فيها طعامًا.

وذكر عنه أنه قال: قرأت بواسط مدة مقامي بها كل يوم ختمة، ما قرأت فيها سورة يوسف من حزني على ولدي يوسف.

والذي ذكره أبو الفرج بن الحنبلي عن طلحة العلثي: أن الشيخ كان يقرأ في تلك المدة ما بين المغرب العشاء ثلاثة أجزاء أو أربعة من القرآن. وبقي على ذلك من سنة تسعين إلى سنة خمس وتسعين، فأفرج عنه، وقدم إلى بغداد وخرج خلق كثير يوم دخوله لتلقيه، وفرح به أهل بغداد فرحًا زائدًا، ونودي له بالجلوس يوم السبت، فصلى الناس الجمعة، وعبروا يأخذون مكانات موضع المجلس عند تربة أم الخليفة. فوقع تلك الليلة مطر كثير ملأ الطرقات، فأحضر في الليل فراشون وروز جارية، فنظفوا موضع الجلوس وفرشوا فيه دقاق الجص والبواري، ومضى الناس وقت المطر إلى قبر معروف تحت الساباط، حتى سكن المطر، ثم جلس الشيخ بكرة السبت وعبر الخلق، وحضر أرباب المدارس والصوفية ومشايخ الربط، وامتلأت البرية حتى ما كان يصل صوت الشيخ إلى آخرهم.

وكان السبب في الإفراج عن الشيخ: أن ولده محيي الدين يوسف ترعرع وأنجب، وقرأ الوعظ ووعظ، وتوصل وساعدته أم الخليفة، وكانت تتعصب للشيخ أبي الفرج فشفعت فيه عند ابنها الناصر، حتى أمر بإعادة الشيخ، فعاد إلى بغداد، وخلع عليه، وجلس عند تربة أم الخليفة للوعظ، وأنشد:

شقينا بالنوى زمناً فـلـمـا

 

تلاقينا كأنا مـا شـقـينـا

سخطنا عندما جنت الليالـي

 

فما زالت بنا حتى رضينـا

سعدنا بالوصال وكم شقـينـا

 

بكاسات الصدود وكم فَنِينـا

فمن لم يحيى بعد الموت يوماً

 

فإنا بعدما متـنـا حـيينـا

ولم يزل الشيخ على عادته الأولى في الوعظ، ونشر العلم وكتابته إلى أن مات.

قال سبطه أبو المظفر: جلس جدي يوم السبت سابع شهر رمضان- يعني سنة سبع وتسعين وخمسمائة- تحت تربة أم الخليفة المجاورة لمعروف الكرخي. وكنت حاضرًا، فأنشد أبياتًا قطع عليها المجلس، وهي هذه.

اللـه أسـأل أن يطـول مـدتـي

 

وأنال بالإنعام مـا فـي نـيتـي

لي همة في العلم ما من مثلـهـا

 

وهي التي جَنت النحول هي التي

حلفت من الفلق العظيم إلى المنى

 

دعيت إلى نيل الكمال فـلـبَّـت

كم كان لي من مجلس لو شبهـت

 

حالاته لتشـبـهـت بـالـجـنة

اشتاقه لـمـا مـضـت أيامـه

 

عللاً تعـذر نـاقة إن حـنـت

يا هل لليلات بـجـمـع عـودة

 

أم هل إلى وادي منى من نظرة?

قد كان أحلى من تصاريف الصبي

 

ومن الحمام مغنـياً فـي الأيكة

فيه البديهات التي مـا نـالـهـا

 

خلق بغير مخـمـر ومـبـيت

برجـاحة وفـصـاحة ومـلاحة

 

تقضي لها عدنان بـالـعـربـية

وبــلاغة وبـــراعة ويراعة

 

ظن النباتي أنهـا لـم تـنـبـت

وإشارة تبكي الجنيد وصـحـبـه

 

في رقة ما نالـهـا ذو الـرمة

قال أبو شامة: هذه الأبيات أظنها كان نظمها في أيام محنته، إذْ كان محبوسًا بواسط فمعانيها دالة على ذلك. والله أعلم.

ثم قال أبو المظفر: ثم نزل عن المنبر، فمرض خمسة أيام، وتوفي ليلة الجمعة بين العشائين في داره يقطتفنا.

قال: وحكت لي والدتي أنها سمعته يقول قبل موته: إيش أعمل بطواويس? يرددها. قد جئتم لي هذه الطواويس. وحضر غسله شيخنا ضياء الدين بن سكينة وضياء الدين بن الجبير وقت السحر. واجتمع أهل بغداد، وغلقت الأسواق، وجاء أهل المحال، وشددنا التابوت بالحبال، وسلمناه إليهم، فذهبوا به إلى تحت التربة مكان جلوسه، فصلى عليه ابنه أبو القاسم عليه اتفاقاً لأن الأعيان لم يقدروا على الوصول إليه، ثم ذهبوا به إلى جامع المنصور، فصلوا عليه، وضاق بالناس. وكان يومًا مشهوداً لم يصل إلى حفرته عند قبر الإمام أحمد بن حنبل إلى وقت صلاة الجمعة.

وكان في تموز، وأفطر خلق كثير ممن صحبه، رموا أنفسهم في خندق الطاهرية في الماء، وما وصل إلى حفرته من الكفن إلا القليل، ونزل في الحفرة والمؤذن يقول: الله أكبر، وحزن الناس عليه حزنًا شديدًا، وبكوا عليه بكاءً كثيرًا، وباتوا عند قبره طول شهر رمضان يختمون الختمات بالقناديل والشموع والجماعات.

قال: ورآه تلك الليلة المحدث أحمد بن سلمان الحربي على منبر من ياقوت مُرصَّع بالجوهر، والملائكة جلوس بين يديه، والحق تعالى حاضر يسمع كلامه.

قلت: وأنبأني أبو الربيع علي بن عبد الصمد بن أحمد بن أبي الجيش عن أبيه قال: قال عفيف الدين معتوق القليوبي: رأيت فيما يرى النائم قائلاً يقول:

لعمرك قد أوذي وعطل منبـر

 

وأعيى على المستفهمين جواب

قال: فانتبهت من نومي، فقلت: ترى أي شيء قد جرى. فجاءنا الخبر وقت العصر بموت الشيخ ابن الجوزي، فقلت:

ولم يبق من يرجى لإيضاح مشكل

 

وأصبح ربع العلم وهو خـراب

ثم قال أبو المظفر: أصبحنا عملنا عزاه، وتكلمت فيه، وحضر خلق عظيم، وأنشد القادري العلوي:

الدهر عن طمع يغـرّ ويخـدع

 

وزخارف الدنيا آلَدنية تطـمـع

وأعنة الآمال يطلقهـا الـرجـى

 

طمعاً وأسياف المنية تـقـطـع

والموت آتٍ، والـحـياة مـريرة

 

والناس بعضهم لبعـض يتـبـع

واعلم بأنك عن قـلـيل صـائر

 

خبرًا فكن خبرًا بخير يسـمـع

لعُلاَ أبي الفرج الذي بعد التقـى

 

والعلم يوم حواه هذا المجـمـع

خبرٌ، عليه الشرع أصبح والهِـاً

 

ذا مقلة حرًا عـلـيه تـدمـع

مَن للفتاوى المشكلات وحلّـهـا

 

من ذا لخرق الشرع يوماً يرفع?

من للمنابر أن يقوم خطـيبـهـا

 

ولرد مسألة يقول فـيسـمـع?

من للجدال إذا الشفاه تقلـصـت

 

وتأخر القوم الهزبر المصقـع?

من للدياجي قائمـاً ديجـورهـا

 

يتلو الكتاب بمقلة لا تـهـجـع

أجمال دين محمد، مات التـقـى

 

والعلم بعدك، واستحم المجمـع

يا قبره جادتـك كـل غـمـامة

 

هطـالة ركـانة لا تـقـلــع

قيل الصلاة مع الصلاة فِتْه بـه

 

وانظر به يا رمل ماذا يصـنـع

يا أحمد أخذ أحمد الثانـي الـذي

 

ما زال عندك مدافعاً لا يرجـع

أقسمت لو كشف الغطا لـرأيتـم

 

وفد الملائك حوله تـتـسـرع

ومحمد يبـكـي عـلـيه واَلـه

 

خير البرية والبـطـين الأنـزع

وذكر تمام القصيدة.

قال: ومن العجائب: أنا كنا جلوسًا عند قبره بعد انفضاض العزاء، وإذا بخالي محي الدين يوسف قد صعد من الشط، وخلفه تابوت، فعجبنا وقلنا: ترى من مات في الدار. وإذا بها خاتون أم ولد جدي، والدة محيي الدين، وعهدي بها في ليلة الجمعة التي مات فيها جدي في عافية، قائمة ليس بها مرض، فكان بين موتها وموته يوم وليلة، وعدّ الناس ذلك من كراماته لأنه كان مغري بها في حال حياته، وأوصى جدي أن يكتب على قبره:

يا كثير العفو عمن كثـر الـذنـب لـديه

 

جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرم يديه

أنا ضيف وجزاء الضيف إحسـان إلـيه

 

 

فرحمه اللّه تعالى وغفر له، ورحم سائر علماء المسلمين.

قال أبو المظفر: وكان له من الأولاد الذكور ثلاثة، أولهم: أبو بكر عبد العزيز. وهو كبر أولاده، تفقه على مذهب أحمد. وسمع أبا الوقت، وابن ناصر، والأرموي، وجماعة من مشايخ والده.

وسافر إلى الموصل، ووعظ، وحصل له القبول التام، فيقال: إن بني الشهرزوري حسدوه، فدسُوا إليه من سقاه السم، فمات بالموصل سنة أربع وخمسين في حياة والده.

والثاني: أبو القاسم علي. كتب الكثير. وسمع من ابن البطي وغيره. وكانت طريقته غير مرضية، وهجره أبوه سنين.

توفي سنة ثلاثين وستمائة. وله ثمانون سنة.

وأبو محمد يوسف، أستاذ دار المستعصم. وسنذكره إن شاء الله في موضعه من هذا الكتاب.

ومما يذكر من مناقب الشيخ أبي الفرج: ما ذكره هو في تاريخه في ترجمة مرجان الخادم. وكان قد قرأ القراَن وشيئًا من الفقه، وتزهد. وله مكانة عند الخليفة، إلا أنه كان يتعصب على الحنابلة فوق الحد، حتى إن الوزير ابن هبيرة عمل بمكة حطيمًا يصلي فيه إمام الحنابلة فمضى مرجان وقلعه من غير إذن الخليفة.

قال أبو الفرج: وناصبني دون الكل، وبلغني: أنه كان يقول: مقصودي قلع المذهب. فلما مات الوزير ابن هبيرة سعى إلى الخليفة، فقال: عنده كتب من كتب الوزير، فقال الخليفة: هذا محال فإن فلانًا كان عند أحد عشر دينارًا لأبي حكيم، وكان حشريًا، فما فعل فيها شيئًا، حتى طالعنا. قال: فنصرني الله عليه ودفع شره.

قال: وحدثني سعد الله البصري- وكان رجلاً صالحًا. وكان مرجان حينئذ في عافية- قال: رأيت مرجان في المنام ومعه اثنان، كل واحد قد أخذ بيد، فقلت إلى أين. قالا: إلى النار، قلت: لماذا? قالا: كان يبغض ابن الْجوزي.

قال: ولما قويت عصبته لجأت إلى اللّه تعالى ليكفيني شره، فما مضت إلا أيام حتى أخذه السلال، فمات في ذي القعدة سنة ستين بعد ابن هبيرة بأشهر.

أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم الميدوي- بفسطاط مصر- أخبرنا عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا أبو الفرج بن الجوزي الحافظ، أخبرنا القاضي أبو القاسم عبد اللّه بن محمد بن عبد الله الأصبهاني سنة عشرين وخمسمائة، أخبرنا عبد الرزاق عن موسى بن شمة سنة سبع وخمسين وأربعمائة، أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المقرىء، أخبرنا أبو يعلى الموصلي، وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز قالا: حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة وهشيم وحماد بن سلمة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث".

أخرجه البخاري عن آدم عن شعبة، ومسلم عن يحيى عن هشيم، كلاهما عن عبد العزيز. وبه قال ابن الجوزي.

وأنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الواحد الدينوري، أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر القزويني، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان، حدثنا أبو القاسم البغوي حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة، حدثني أبو حمزة، سمعت ابن عباس يقول: "إن وفد عبد القيس، لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله، قال: أتدرون ما الإيمان بالله? قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس منا المغنم".

أخرجه البخاري عن علي بن الجعد، ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن غندر، كلاهما عن شعبة.

ذكر شيء من فتاويه وفوائده: ذكر: أنه استفتى في زمن المستضيء في إقامة الجمعة بجامع ابن المطلب ببغداد، قال: فلم أرَ جوازه لأن الجمعة إنما جعلت لتكون علمًا للإسلام بكثرة الجموع، وإظهار ما يكبت المشركين، فإذا كان في كل محل جمعة، صارت كصلاة الظهر.

قال: وأجاز ذلك بعض من ينسب إلى الفقه، وعلل بأن كل محلة صارت منقطعة عن غيرها للخراب الذي استولى على الأرض، فأشبهت القرى، قال: ولا أرتضي هذا التعليل.

قلت: وهذا يقتضي اتفاقهم على أنه مع اتصال العمارة لا يجوز ذلك، لكن هذا مع عدم الحاجة.

وذكر أنه استفتى في رجل من الفقهاء، قال: إن عائشة قاتلت عليًا رضي الله عنهما. فصارت من البغاة. كان قد خرج توقيع المستضيء بتعزيره.

قال: فقلت- بعدما قال الفقهاء عليه- هذا رجل ليس له علم بالنقل، وقد سمع أنه قد جرى قتال، ولعمري أنه قد جرى قتال، ولكن ما قصدته عائشة ولا علي، إنما أثار الحرب سفهاء الفريقين، ولولا علمنا بالسير. لقلنا مثل ما قال وتقرير مثل هذا أن يقر بالخطأ بين الجماعة، فيصفح عنه.

قال: فكتب إلى الخليفة بذلك، فوقع: إذا كان قد أقر بالخطأ، فيشترط عليه أن لا يعاود، ثم أطلق.

وذكر في كتابه "تلبيس إبليس" إنكار الذكر بالليل على المآذن، ونحوها، فإنه قال: قد رأيت من يقوم بليل كثير على المنارة، فيعظ ويذكر، ويقرأ سورة من القرآن بصوت مرتفع، فيمنع الناس من نومهم، ويخلط على المتهجدين قراءتهم، وكل ذلك من المنكرات.

هبة الله بن عبد الله بن هبة الله بن محمد السامري، ثم البغدادي الحريمي

ثم الأزجي، الفقيه الواعظ أبو غالب بن أبي الفتح: سمع من أبي البدر الكرخي، سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. ومن سعد الخير الأنصاري، ويوسف بن عمر الحربي. وتفقه في المذهب، وأفتى، وتكلم في المسائل، ووعظ. وكان مقيمًا بمدرسة أبي حكيم، ولازم أبا الفرج بن الجوزي.

قال القادسي: كان فقيهًا مجودًا، واعظًا، خيرًا، ديّنًا، وحدث. وسمع منه ابن القطيعي، وروى عنه ابن خليل في معجمه.

وتوفي ليلة الخميس ثاني عشر محرم، سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد، قريبًا من بشر الحافي، رضي اللّه عنهم أجمعين.

حماد بن هبة الله بن حماد بن الفضل الفضيلي

الحراني التاجر السفار المحدث المؤرخ أبو الثناء: ولد في ربيع الأول سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحران. وسمع ببغداد من أبي القاسم بن السمرقندي، وأبي بكر بن الزاغوني، وسعيد بن البنا، وجماعة.

وبهراة من مسعود بن محمد بن غانم، وعبد السلام بن أحمد بكيرة. وبمصر من ابن رفاعة السعدي، وبالإسكندرية من الحافظ السلفي، وغيرهم.

وجمع تاريخًا لحران، وحدث به فيما ذكره ابن الدبيثي.

وقيل: إنه لم يكمله، وجمع جزءًا فيمن اسمه حماد، وله شعر جيد، وحدث ببغداد ومصر والإسكندرية وحران.

روى عنه الشيخ موفق الدين، وعبد القادر الرهاوي، والعلم السخاوي المقرىء، والحافظ الضياء، وابن عبد الدائم، والنجيب الحراني، وغيرهم.

وتوفي يوم الأربعاء، ثاني عشرين ذي الحجة، سنة ثمان وتسعين وخمسمائة بحران، ودفن بها. رحمه اللّه.

أخبرنا أبو الفتح الميدومي- بمصر- أخبرنا أبو الفرج الحراني، أخبرنا حماد بن هبة اللّه بحران، أخبرنا إسماعيل بن أحمد بن عمر الحافظ، أخبرنا محمد بن هبة اللّه الطبري، أخبرنا هلال الحفار، أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، حدثني محمد بن محمد بن سليمان صاحب البصري، حدثني أبو عمران السلمي، قال: أنشدني أبو نواس:

ألا رُبَّ وجهٍ في التراب عتـيق

 

ألا رب رَامي في التراب رفيق

أرى كل حي هالكاً وابن هالـك

 

وذو حسب في الهالكين عـريق

فقل لمقيم الدار: إنك ظـاعـن

 

إلى سفر نائي المحل سـحـيق

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشـفـت

 

له عن عدو في ثـياب صـديق

محمد بن عثمان بن عبد الله بن عمر بن عبد الباقي بن العكبري البغدادي الطفري

الفقيه المحدث، الواعظ أبو عبد الله: ذكره ابن النجار، وقال: جارنا بالطفرية.

حفظ القرآن في صباه، وقرأه بالروايات على أبي بكر بن الباقلاني الواسطي، وعلى عبد الله بن بكران الداهري. وتفقه على مذهب أحمد بن حنبل، وقرأ العربية على أبي البركات الأنباري، وأبي محمد بن الخشاب، وصحب شيخنا أبا الفرج بن الجوزي، وقرأ عليه شيئًا من مصنفاته في الوعظ وغيره.

وسمع الحديث من أبي العباس أحمد بن محمد المرقعاتي، وعبد الحق بن عبد الخالق بن يوسف، وشهدة الكاتبة، ومن خلق كثير دونهم، وكتب بخطه كثيرًا من الكتب والأجزاء، وكان يعقد مجلس الوعظ بجامع ابن بهليقا في كل جمعة، فبقي على ذلك مدة طويلة، ثم انقطع في بيته، لا يخرج منه إلا إلى الجمعة والجماعة، وكان يكثر الجلوس في المقابر، سمعت منه. وكان يسمع بقراءتي على مشايخنا، وكان صدوقًا متدينًا عفيفًا، قليل المخالطة للناس، محبًا للخلوة والانزواء، فقيهًا فاضلاً، في المحفوظ للأحاديث، وحكايات السلف ويعرف طرفًا صالحًا من الحديث، وقد جمع معجمًا لشيوخه الذين سمع منهم في خمسة أجزاء، ثم روى عنه حديثًا عن شهدة، ثم قال: ذكر أن مولده في سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.

وتوفي ليلة الإثنين ثامن عشر جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وخمسمائة. وصلينا عليه من الغد، ودفن بالجديدة من باب أبرز، رحمه الله تعالى.

قرىء على أبي الفتح الميدومي- بمصر، وأنا أسمع- أخبركم أبو الفرج الحراني، قال: أنشدنا أبو عبد اللّه محمد بن عثمان بن عبد اللّه العكبري الواعظ، من لفظه وحفظه، قال: أنشدني شيخي ابن الباقلاني المقرىء الواسطي:

كتبي لأهل العلم مبذولة

 

أيديهم مثل يدي فـيهـا

متى أرادوها بـلا مـنة

 

عارية فليستعـيروهـا

حاشاي أن أكتمها عنهموا

 

بُخْلاً كما غيري يخفيها

أعارنا أشياخنا كتبـهـم

 

وسنة الأشياخ نحـييهـا

وقد روى هذه الأبيات ابن السمعاني عن ابن الباقلاني، قال: أنشدني خميس الجوزي لنفسه.

علي بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاري الدمشقي، الفقيه الواعظ المفسر زين الدين أبو الحسن بن رضي الدين أبي طاهر، المعروف بابن نجية

نزيل مصر، سبط الشيخ أبي الفرج الشيرازي الحنبلي: ولد بدمشق سنة ثمان وخمسمائة، فيما ذكره ابن نقطة والمنذري وغيرهما.

وقال ناصح الدين بن الحنبلي: إنه ولد سنة عشر.

وسمع بدمشق من أبي الحسن علي بن أحمد بن قيس. وسمع درس خاله شرف الإسلام عبد الوهاب. وتفقه به، وسمع التفسير منه، وأحب الوعظ وغلب عليه، فاشتغل به.

قال ناصح الدين: قال لي: حفظني خالي مجلس وعظ، وعمري يومئذ عشر سنين ثم نصب لي كرسيًا في داره، وأحضر لي جماعته، وقال: تكلم، فتكلمت، فبكى. قال: وكان ذلك المجلس يذكر بعضه وهو ابن تسعين، وكان بطيء النسيان. وكان أسماء الفصول الذي يحفظ مجلدة. كان لا يخطب في مجلسه، إنما يدعو عقيب القراء، ثم يقرأ مقرىء آيات من القران فيفسرها، ويوسع في ذكره، ثم يذكر فصولاً وعنده من كلام العرب والعجم، فيلقن من الفصول ما يختار.

وبعثه نور الدين محمود بن زنكي رسولاً إلى بغداد سنة أربع وستين وخمسمائة وخلع عليه هناك أهبة سوداء، فكانت عنده يلبسها في الأعياد. وسمع هناك الحديث من سعد الخير بن محمد الأنصاري كثيرًا. وصاهره على ابنته فاطمة، ونقلها معه إلى مصر، وانتقلت كتب سعد الخير إليه. ومن عبد الصبور بن عبد السلام الهروي وعبد الخالق بن يوسف وغيرهم. واجتمع هناك بالشيخ عبد القادر وغيره من الأكابر، ووعظ بجامع المنصور.

قال ناصح الدين: سمعته يقول: أول مجلس جلسته في بغداد في جامع المنصور، فنزلت سحرًا إلى الجامع متنكرًا، حتى أرى هيئة المجلس وأسمع ما يقال، وإذا رجل أعمى قد جلس على درج المنبر، فذكر من الفصول من كلام التميمي وابن عقيل وغيرهما جميع ما قد حررته للمجلس، وتعبت عليه. قال: فأصابني هَمٌّ، وما بقي لي زمن أحفظ غير ذلك، فاستخرت الله تعالى، ثم جلست وتكلمت، وذكرت حكاية طاب بها المجلس.

قال: وسمعته يقول: أول ما دخلت بغداد جاءني الشيخ أبو الفضل بن شافع وتعصب لي، فدخل عليّ الشيخ أبو الفرج بن الجوزي مهنئاً بالسلامة، وتحدثنا، فقال لي: تحفظ شيئًا من شعر ابن الكيزاني? فأنشدته له:

رأتني خاضباً شيبي

 

فسمتني أبا العيب

فظهر الغيظ في وجهه، ثم قام فذهب. فقال ابن شافع: إيش عملت? هذا أول من جاءك من الحنابلة لقيته بما يكره، فقلت: كيف. قال: هو يخضب، فقلت: والله ما علمت، ولا حضرني من شعر ابن الكيزاني إلا هذا. ثم عاد ابن نجية وانتقل إلى مصر من قبل دولة صلاح الدين، وأقام بها إلى أن مات. وكان يعظ بها بجامع القرافه مدة طويلة. وله فيها وجاهة عظيمة عند الملوك.

وقال ناصح الدين: كان ذا رأي صائب. وكان صلاح الدين- يعني ابن يوسف بن أيوب- يسميه عمرو بن العاص، ويعمل برأيه.

وقال أبو شامة: كان صلاح الدين يكاتبه، ويحضر مجلسه هو وأولاده: العزيز، وغيره. وكان له جاه عظيم، وحرمة زائدة.

وقال ناصح الدين: كان أهل السنة بمصر لا يخرجون عما يراه لهم زين الدين - يعني ابن نجية- وكثير من أرباب الدولة. وقال له الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين: إذا رأيت مصلحة في شيء فاكتب إليّ بها، فأنا ما أعمل إلا برأيك.

وقضيته مع عمارة اليمنى ومن وافقه على السعي من إعادة دولة العبيديين معروفة. وهو عبد الصمد الكاتب وهبة الله بن كامل القاضي وابن عبد القوي داعي الدعاة وعمارة الشاعر، وغيرهم من الجند والأعيان. وكانا قد عينوا خليفة ووزيرًا، وتقاسموا الدور، واتفقوا على استدعاء الفرنج إلى مصر، ليشتغل بهم صلاح الدين، ويخلو لهم الوقت ليتم أمرهم ومكرهم، فأدخلوا في الشورى معهم زين الدين ابن نجية، فأظهر لهم أنه معهم، ثم جاء إلى صلاح الدين فأخبره، وطلب منه ما لابن كامل من الحواصل والعقار، فبذله له، وأمره بمخالطتهم، وتعريف شأنهم، فصار يعلمه بكل متجدد. ويقال: إن القاضي الفاضل استراب من بعض أولئك الجماعة، فأحضر ابن نجا الواعظ، وأخبره الحال. فطلب منه كشف الأمر، فأخبره بأمرهم، فبعثه إلى صلاح الدين، فأوضح له الأمر. فطلب صلاح الدين الجماعة وقررهم، فأقروا، فصلبهم بين القصرين.

ولما كان السلطان صلاح الدين في الشام سنة ثمانين كتب إليه الشيخ زين الدين كتابًا يشوقه إلى مصر، ويصف محاسنها. فكتب إليه السلطان كتابًا بإنشاء العماد الكاتب، يتضمن تفضيل الشام على مصر. وفي آخره:

ونحن لا نجفوا الوطن كما جفوته

 

وحب الوطـن مـن الإيمـان

ولما فتح صلاح الدين القدس كان معه، وتكلم أول جمعة أقيمت فيه على كرسي الوعظ. وكان يومًا مشهودًا.

وذكر أبو شامة: أن الشهاب الطوسي لما دخل مصر كان يجري بينه وبين زين الدين العجائب من السباب ونحوه، فإن الطوسي كان أشعريًا، وهذا حنبلي. وكلاهما واعظ.

قال: وجلس ابن نجية يومًا في القرافة بالجامع، فوقع عليه وعلى جماعة ممن عنده السقف، فعمل الطوسي خطبة، وذكر فيها قوله تعالى "فخرَّ عليهم السَّقْفُ مِنْ فَوْقهم" النحل: 26،. وجاء يومًا كلب يشق الصفوف، فقال ابن نجية: هذا من هناك، وأشار إلى مكان الطوسي.

وذكر ناصح الدين بن الحنبلي: أن ابن نجا نشأ له ولد حسن الصورة. فلما بلغ أخذ في سبيل اللهو، فدعا عليه، فمات. فحضر الناس والدولة لأجله، فلما وضعوا سريره في المصلى نصبوا للشيخ كرسيًا إلى جانبه، فصعد عليه، وحمد الله تعالى، وقال: اللهم إن هذا ولدي بلغ من العمر تسع عشرة سنة، لم يجهر عليه فيها قلم إلا بعد خمس عشرة سنة، بقي له ثلاث سنين، نصفها نوم، بقي عليه سنة ونصف، قد أساء فيها إليّ وإليك. فأما جنايته عليّ، فقد وهبتا له. بقي الذي لك فهبه لي. فصاح الناس بالبكاء فنزل وصلى عليه.

قال: وكان زين الذين كريمًا. وله سماط يؤكل عنده، وتوسعة في النفقة.

وقال ابن المظفر سبط ابن الجوزي: كان ابن نجية قد اقتنى أموالاً عظيمة وتنعم تنعمًا زائداً، بحيث أنه كان في داره عشرون جارية للفراش، كل جارية تساوي ألف دينار. وأما الأطعمة فكان يعمل في داره ما لا يعمل في دور الملوك. وتعطيه الملوك والخلفاء أموالاً عظيمة كثيرة. قال: ومع هذا مات فقيرًا، كفنه بعض أصحابه.

والذي ذكره ناصح الدين بن الحنبلي: أن ابن نجا ضاق صدره في آخر عمره من دين عليه، وأن الملك العزيز عثمان لما عرف ذلك أعطاه ما يزيد على أربعة آلاف دينار مصرية.

قال وقال لي: ما احتجت في عمري إلا مرتين.

قال ناصح الدين: قال لي: والدي زين الدين سعد بدعاء والدته، كانت صالحة حافظة تعرف التفسير.

قال زين الدين. كنا نسمع من خالي التفسير، ثم أجيء إليها، فتقول: إيش فسر أخي اليوم. فأقول: سورة كذا وكذا، فتقول: ذكر قول فلان، وذكر الشيء الفلاني. فأقول: لا، فتقول: ترك هذا، وسمعت والدي يقول: كانت تحفظ كتاب "الجواهر" وهو ثلاثون مجلد، تأليف والدها الشيخ أبي الفرج، وأقعدت أربعين سنة في محرابها.

حدث الشيخ أبو الحسن بن نجا ببغداد، ودمشق، ومصر والإسكندرية وغيرها، وسمع منه خلق كثير، وحكى عنه الحافظ السلفي في معجم شيوخ بغداد.

وروى عنه الحافظ عبد الغني، وابن خليل، والضياء المقدسي، وأبو سليمان بن الحافظ عبد الغني، وعبد الغني بن سليمان، وخطيب مردا، وجماعة، وأجاز للمنذري، وأحمد بن أبي الخير سلامة، ومحمد بن أبي الدبية.

وتوفي في شهر رمضان- قال المنذري: في سابعه، وقال ابن نقطة: في ثامنه- سنة تسع وتسعين وخمسمائة بالشارع، ظاهر القاهرة، ودفن من الغد بسفح المقطم. وقال ناصح الدين بن الحنبلي: مات بعد الستمائة. وهو وهم فإنه كان يكتب هذه التواريخ من حفظه. وقد بعد عهده بها.

قال: ودفن بتربة سارية، بجوار عز الدين ابن خاله، عن وصية منه. وكان يوم دفنه مشهوراً لكثرة الخلق. وذكر: أنه سمع منه كثيراً.

إبراهيم بن محمد بن أحمد بن الصقال الطيبي، ثم البغدادي الأزجي الفقيه الإمام أبو إسحاق

مفتي العراق، ويلقب موفق الدين: ولد في خامس عشر شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة، كذا ذكره القطيعي عنه.

وقال المنذري: في نصف شوال.

وسمع من ابن الطلاية، وابن ناصر، وأبي بكر بن الزاغوني، وأبي الوقت، وأحمد بن عبد الله بن مرزوق، وأبي علي بن شاتيل، وأبي المعمر الأنصاري، وسعيد بن البنا، وعبد الخالق بن يوسف، وأحمد بن محمد العباسي النقيب، وغيرهم. وسمع من أبي عبد اللّه الحسني بن إبراهيم بن الحسين بن جعفر الجوزقاني الهمداني. قدم عليهم بغداد سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وكتابًا جمعه وسماه "الترغيب".

وقرأ الفقه على القاضي أبي يعلى بن أبي خازم، وأبي حكيم النهرواني، ويقال: إنه قرأ على أبي الفتح بن المنّي أيضًا، وبرع في الفقه مذهبًا وخلافًا وجدالاً، وأتقن علم الفرائض، والحساب، وشدا طرفًا من العربية، وكتب خطًا حسنًا، ودرس، وأفتى وناظر. وكان من أكابر العدول، وشهود الحضرة، وأعيان المفتيين المعتمد على فتاويهم وأقوالهم في المجالس والمحافل، متين الديانة، حسن المعاشرة، طيب المفاكهة.

قال القادسي: كان خيرًا صالحًا، حسن الطريقة، جميل السيرة، بعيد المثال، وإياه عني الصرصري بقوله في قصيدته اللامية المعرفة، في مدح الإمام أحمد وأصحابه:

ومن يتبع المنى أوحـد وقـتـه

 

أبا الفتح والصقال في الفقه ينبل

حدث، وسمع منه ابن القطيعي، وروى عنه ابن الدبيثي، والحافظ الضياء، وابن النجار.

توفي آخر يوم الإثنين، ثاني ذي الحجة، سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وصلي عليه من الغد عند المنظرة بباب الأزج، وحمل على الرؤوس، ودفن بباب حرب، وشيعه خلق عظيم. رحمه اللّه.

وقيل: كانت وفاته في مستهل ذي الحجة.

و "الطيبي" منسوب إلى بلدة قديمة بين واسط، والأهواز تسمى الطيب.

محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المقدسي

الزاهد أبو بكر، ويلقب جمال الدين، ابن أخي البهاء عبد الرحمن، الآتي ذكره إن شاء الله تعالى: ولد سنة ثلاث وستين وخمسمائة.

وسمع الحديث بدمشق: ودخل مع أخيه بغداد، وأقام بها مدة، واشتغل وحصل فنوناً من العلم، ثم عاد.

وكان فقيهًا زاهدًا، ورعًا، كثير الخشية والخوف من الله تعالى، حتى كان يعرف بالزاهد، وكان يبالغ في الطهارة، وَأمَّ بدمشق بمسجد دار البطيخ، وهو مسجد السلالين.

حدث مدة، وحج في آخر عمره، ثم توجة إلى القدس، فأدركه أجله بنابلس سنة سبع وتسعين وخمسمائة. رحمه الله تعالى.

عبيد الله بن علي بن نصر بن حُمرة بن علي بن عبيد الله البغدادي التيمي المعروف بابن المارستانية، الأديب، الفقيه المحدث، المؤرخ أبو بكر. ويلقب فخر الدين:

كان يذكر أنه من ولد أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه، ويذكر شيئًا متصلاً إليه. وقد قرأت بخطه في نسبه: المحمدي، ولا أدري إلى ما هذه النسبة.

ذكر أنه ولد في سنة إحدى وأربعين وخمسمائة.

وسمع الحديث من أبي المظفر بن الشبلي، وابن البطي، ويحيى بن ثابت بن بندار، وعبد الحق بن عبد الخالق، وشهدة، وأبي الفتح بن شاتيل.

وقرأ كثيرًا على المشايخ المتأخرين بعدهم، وكتب بخطه، وحصل الأصول وعنى بهذا الفن، وطلب العلم في صباه، فتفقه في المذهب.

وقرأ الأدب. وكان أديبًا، فاضلاً فصيحًا، مليح العبارة، بليغًا، حسن التصنيف، ذكر ذلك ابن النجار وغيره.

وقال أبو المظفر سبط بن الجوزي: أحد الفضلاء المعروفين بجمع الحديث، والطب، والنجوم، وعلوم الأوائل، وأيام الناس. وصنف كتابًا سماه "ديوان الإسلام، في تاريخ دار السلام" قسمه ثلاثمائة وستين كتابًا، إلا أنه لم يشتهر، وصنف سيرة الوزير ابن هبيرة.

وقال ابن النجار: كان قد قرأ كثيرًا من علم الطب، والمنطق والفلسفة. وكانت بينه وبين عبيد اللّه بن يونس صداقة ومصاحبة، فلما أفضت إليه الوزارة اختص به، وقوي جاهه، وبنى دارًا بدرب الشاكرية، وسماها: دار العلم، وجعل فيها خزانة كتب، ووقفها على طلاب العلم. وكانت له حلقة بجامع القصر، يقرأ فيها الحديث يوم الجمعة، ويحضر عنده الناس، فيسمعون منه، ورتب ناظرًا على أوقاف المارستان العضدي، فلم تحمد سيرته، فقبض عليه وسجن في المارستان مدة مع المجانين مسلسلاً، وبيعت دار العلم بما فيها من الكتب مع سائر أمواله وقبضت، وبقي معتقلاً مدة، ثم أطلق، فصار يطب الناس، ويدور على المرضى في منازلهم، وصادف قبولاً في ذلك، فأثرى، وعاد إلى حالة حسنة، وحصل كتبًا كثيرة، ثم إنه انتدب للتوجه في رسالة من الديوان، فخلع عليه خلعة سوداء: قميص وعمامة، وطرحة، وأعطى سيفًا وأركب مركوبًا جميلاً، وتوجه إلى تفليس في صفر سنة تسع وتسعين إلى الأمير أبي بكَر بن إيلد كزين البهلوان، زعيم تلك البلاد، فأدركه أجله هناك.

قلت: القبض عليه إنما كان بعد عزل ابن يونس والقبض عليه، وتتبع أصحابه، وفي تلك الفتنة كانت محنة ابن الجوزي أيضًا كما تقدم. وبالغ ابن النجار في الحط عليه بسبب ادعائه النسب إلى أبي بكر الصديق، وبسبب أنه روى عن مشايخ لم يدركهم كأبي الفضل الأرموي.

قال: واختلق طباقًا على الكتب بخطوط مجهولة، تشهد بكذبه وبزوره، وجمع مجموعات في فنون من التواريخ وأخبار الناس، من نظر فيها ظهر له من كذبه وقبحه وتهوره ما كان مخفيًا عنه، وبان له تركيبه الأسانيد على الحكايات والأشعار الأخبار، إلى أن قال: قد حدث بكثير مما اختلقه، وعن جماعة لم يلقهم.

سمع منه الغرباء، ومن لا يعرف طريقة الحديث. ورأيته كثيراً، ولم أكتب عنه شيئًا.

قال: وقد نقلت في هذا الكتاب من خطه وقوله وروايته أشياء، العهدة عليه في صحتها فإني لا أطمئن إلى صحتها، ولا أشهد بحقيقة بطلانها. ثم قال: قرأت على أبي عبد الله الحنبلي بأصبهان عن معمر بن عيد الواحد بن الفاخر القرشي ونقلته من خطه. قال: أنشدني أبو بكر عبيد اللّه بن علي بن علي بن نصر بن حمزة التيمي لنفسه:

أفردتني بالهـمـوم

 

ذات دل ونـعـيم

أودعت قلبي سقاماً

 

والحشا نار الجحيم

ليس لي شغل سواها

 

من خليل وحمـيم

هي داء للمعـافـى

 

ودواء للـسـقـيم

شغلت قلبي بأمـر

 

مقعد فيها مـقـيم

قلت: العجب أنه تبرأ وتنزه عن الرواية عنه نفسه، ثم روى عن اثنين عنه. ولقد بالغ في الحط عليه، وزاد في ذلك اعترافه بأنه نقل عنه في هذا الكتاب أشياء، ولعله لا يبين في بعضها أو كثير منها أنها من جهته. وقد وقفت على كتابه الذي جمعه في سيرة ابن هبيرة، فلم أجد فيه ما ينكر بل غالب ما نقل فيه من الحكايات عن الوزير من كلامه قد نقله ابن الجوزي وغيره.

وكذلك بلغ ابن الدبيثي في تاريخه في الحط عليه، وقال: إنه ادعى الحفظ وسعة الرواية عمّن لم يلقه لم يوجد بعد. وتابعه على ذلك المنذري. وهذا غير صحيح فإن أقدم من ادعى السماع منه الأرموي. هو كان موجوداً في حياته، وسماعه منه ممكن. نعم ينبغي أن يقال: لم يصح سماعه منه، أو لم يعرف، ونحو ذلك.

ومن مبالغته في الحط قال أبو شامة: هذا غلوٌّ من قائله. وهو كما قال. ولا ريب أنه مطعون فيه من جهتين: من جهة ادعائه النسب إلى أبي بكرة فإن هذا أنكره الناس كلهم عليه، واشتهر إنكاره، حتى قال بعضهما:

دع الأنساب لا تعرض لْـتَـيْم

 

فأين الهجن من ولد الصمـيم

لقد أصبحت مـن تـيم دَعِـيَّا

 

كَدعوى حيص بيص إلى تميم

ومن جهة ادعائه سماع ما لم يسمع، فإذ هذا صحيح عنه.

قال ابن نقطة: سألت أبا الفتوح الحصري عنه بمكة. فقال: سامحه اللّه. كان صديقي. وكان يكرمني. وكان غير ثقة.

حدثني علي بن أحمد الشريف الزيدي أنه استعار منه مغازي الأرموي فردها إليه وقد طبق عليها السماع على كل جزء، ولم يسمعها.

قال ابن نقطة: وكان شيخنا ابن الأخضر الحافظ ينهى أن يقرأ أحد على شيخ بطبقة تكون بخطه أو بخط أبي بكر بن سوار. ذكر حكايتين عن أبي الحسين عبد الحق بن عبد الخالق أنه كذبه، وقال: إنه سمع لنفسه منه أجزاء لم يقرأها عليه. وأما ما نسبوه إليه من تركيب الأسانيد، وتصرفه بالكذب في تصانيفه، حتى إن ابن الدبيثي قال: لو تم كتابه "ديوان الإسلام" لظهرت فضائحه. فهذا أمر لم يثبت عنه. وقد ذكر ابن نقطة: أنه رأى بعض تاريخه، ولم يذكر فيه طعنًا. والله أعلم.

وقال ابن القادسي عنه: كان خطيبًا، بليغًا شاعرًا، حافظًا محدثًا، فصيحًا.

سافر، وسمع الحديث من أمم لا تحصى واستشهدهم. وصنف عدة مصنفات في التواريخ وغيرها. وله "تاريخ مدينة السلام" على وضع كتاب الخطيب. وهو كتاب نفيس، وقد ذكر فيه أقوامًا، ذكر أنهم لا يعرفون. وقد عظمهم هو ووصفهم.

وقد طعن أصحاب الحديث عليه وجرحوه، منهم شيخنا ابن الجوزي، وعبد العزيز بن الأخضر.

وحدث ببغداد. وروى عن أبي الوقت، وقرأ على أبي محمد بن الخشاب.

قال أبو المظفر السبط: كان ابن المارستانية هو الذي قرأ كتب عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر يوم أحرقت. كان يقرأ الكتاب، ويقول: يا عامة، هذا عبد السلام يقول: من بخّر زحل بكذا وكذا. وقال: يا إلهي يا علة العلل، نال ما أراد، فيلعنه الناس ويضجون بذلك. فلما خلع على ابن المارستانية، وأرسل إلى تفليس، خرج من دار الوزير وبين يديه الحجاب، وأرباب الدولة فوقف له عبد السلام وتقدم إليه، وقال له سرًّا فيما بينهما: الساعة من بخر زحل أنا أو أنت? فقال: أنا.

وتوفي ابن المارستانية في رجوعه من تفليس بموضع يعرف بخرج بند ليلة الأحد غرة ذي الحجة سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ودفن هناك. سامحه اللّه.

وقال القادسي: توفي بحرختيد في سلخ ذي القعدة. وقيل: توفي في صفر. وهو وَهْم.

و "حُمره" في نسبه بضم الحاء المهملة وسكون الميم وفتح الراء المهملة. كذلك قيده ابن النجار، وابن نقطة، والمنذري وغيرهم.

ورأيت بخطه "حمزة" وفوق الزاي نقطة. ولا يلتفت إلى ذلك.

وقيل له: ابن المارستانية لأن أبويه كانا قيّمي المارستان التنستي ببغداد.

نصر الله بن عبد العزيز بن صالح بن محمد عبد عثمان بن عبدوس الحراني

الفقيه الزاهد، شمس الدين أبو الفتح. أحد شيوخ حران وفقهائها: أخذ العلم بها عن جماعة كأبي الحسن بن عبدوس، وأبي الفضل حامد بن أبي الحجر، وأبي الكرم فتيان بن ميَّاح.

ورحل إلى بغداد، وسمع درس أبي الفتح بن المنّي. وسمع بها الحديث من أبي الفتح بن البطي، وأبي الفضل بن شافع، وفوارس بن موهوب بن الشباكية، والمبرّد بن الطباخ، وغيرهم. ثم عاد إلى حران.

قال أبو الفرج بن الحنبلي: لقيته بدمشق وحران. وكان فقيهًا صالحًا، ينقل المذهب جيدًا. وكان ينكر المنكر، ضربه مظفر بن زين الدين على الإنكار، ثم ندم واستغفر منه، وأحسن القاضي الفاضل ظنه به.

وكان أبيض قصيرًا جدًا. وشعر لحيته أحمر. وحكى لي. أنه يأخذ اللحمة من المقلى، فيضعها في فيه، ولا يتضرر بذلك.

وقال أبو عبد اللّه بن حمدان: كان رجلاً صالحًا، فقيهًا فاضلاً. وهو شيخ شيخنا ناصح الدين عبد القادر بن أبي الفهم.

أنكر مرة على مظفر الدين صاحب أربل لما كانت له حران، وأراق له خمرًا، فأحضره، وقال: أتعرفني. قال: نعم، بالظلم والفسق، أو معنى ذلك. فهم بضربه، فأشير عليه: أن لا يفعل لأجل العامة وميلهم إليه.

وله كتاب "تعليم العوم ما السنة في السلام?" وسبب تصنيفه له: أنه لما قدم أبو المعالي بن المنجا قاضيًا على حران أمر المؤذنين بالجهر بالتسليمتين في الصلاة وكانوا إنما يجهرن بالأولى خاصة. فرد عليه أبو الفتح في هذا الكتاب، وبيَّن أن المذهب إنما هو الجهر بالأولى خاصة. وذكر نصوص أحمد وأصحابه في ذلك، والأحاديث والآثار الدالة عليه، وبالغ في الإنكار عليه، وحدث به غير مرة بحران، وسمعه منه ابن أبي الفهم وغيره.

وسمع منه الحديث أحمد بن سلامة النجار، وغيره.

قال ابن الحنبلي: مات ابن عبدوس قبل الستمائة بآمد. رحمه الله.

آخر الجزء الأول، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني، وأوله: ترجمة الشيخ الإمام العالم الحافظ تقي الدين أبو محمد، حافظ الوقت عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله.

/بسم اللّه الرحمن الرحيم

وصلَّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

وفيات المائة السابعة

من سنة 601- إلى سنة 700 ه

عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر الجماعيلي

المقدسي، الحافظ الزاهد أبو محمد: ويلقب تقي الدين حافظ الوقت ومحدثه، ولد بجماعيل- من أرض نابلس من الأرض المقدسة- سنة إحدى وأربعين وخمسمائة.

قال الحافظ الضياء: أظنه في ربيع الآخر من السنة؛ لما حدثتني والدتي قالت: الحافظ أكبر من أخي الموفق بأربعة أشهر، ومولد الموفق في شعبان من السنة المذكورة.

وقال المنذري: ذكر عنه أصحابه ما يدل على أن مولده سنة أربع وأربعين وخمسمائة.

وكذا ذكر ابن النجار في تاريخه: أنه سأل الحافظ عبد الغني عن مولده? فقال: إما في سنة ثلاث أو في سنة أربع وأربعين وخمسمائة.

قال الحافظ: والأظهر أنه في سنة أربع. وقدم دمشق صغيراً بعد الخمسين، فسمع بها من أبي المكارم بن هلال، وأبي المعالي بن صابر، وأبي عبد اللّه بن حمزة بن أبي جميل القرشي وغيرهم. ثم رحل إلى بغداد سنة إحدى وستين، هو والشيخ الموفق، فأقاما ببغداد أربع سنين. وكان الموفق ميله إلى الفقه، والحافظ عبد الغني ميله إلى الحديث. فنزلا على الشيخ عبد القادر. وكان يراعيهما وبحسن إليهما، وقرأ عليه شيئاً من الحديث والفقه.

وحكى الشيخ الموفق: أنهما أقاما عنده نحواً من أربعين يوماً، ثم مات، وأنهما كانا يقرآن عليه كل يوم درسين من الفقه، فيقرأ هو من "الخرق" من حفظه، والحافظ من كتاب "الهداية".

قل الضياء: وبعد ذلك اشتغلا بالفقه والخلاف علي ابن المنّي وصارا يتكلمان في المسألة ويناظران. وسمعا من أبي الفتح بن البّطي وأحمد بن المقري الكرخي، وأبي بكر بن النقور وهبة اللّه بن ا!سن بن هلال الدقاق، وأبي زرعة، وغيرهم. ثم عادا إلى دمشق.

ثم رحل الحافظ سنة ست وستين إلى مصر والإسكندرية وأقام هناك مدة، ثم عاد، ثم رجع إلى الإسكندرية سنة سبعين. وسمع بها من الحافظ السلفي وأكثر عنه، حتى قيل: لعله كتب عنه ألف جزء، وسمع من غيره أيضاً.

وسمع بمصر من أبي محمد بن برِّي النحوي وجماعة، ثم عاد إلى دمشق، ثم سافر بعد السبعين إلى أصبهان. وكان قد خرج إلها، وليس معه إلا قليل فلوس فسهّل اللّه له من حَمله وأنفق عليه حتى دخل أصبهان، وأقام بها مده، وسمع بها الكثير، وحصل الكتب الجيدة، ثم رجع.

وسمع بهمدان من عبد الرزاق بن إسماعيل القرماني، والحافظ أبي العلاء، وغيرهما.

وبأصبهانْ من الحافظين: أبي موسى المديني، وأبي سعد الصائغ وطبقتهما.

وسمع بالموصل من خطيبها أبي الفضل الطوسي. وكتب بخطه المتقن ما لا يوصف كثره. وعاد إلى دمشق. ولم يزل ينسخ ويصنف، ويحدث ويفيد المسلمين، ويعبد اللّه، حتى توفاه اللّه على ذلك.

وقد جمع فضائل الحافظ وسيرته الحافظ ضياء الدين في جزأين. وذكر فيها: أن الفقيه مكي بن عمر بن نعمة المصري جمع فضائله أيضاً.

قال الحافظ الضياء: كان شيخنا الحافظ لا يكاد أحد يسأله عن حديث إلا ذكره له وبيَّنه، وذكر صحته أو سقمه. ولا يسأل عن رجل إلا قال: هو فلان ابن فلان الفلاني، ويذكر نسبه، وأنا أقول: كان الحافظ عبد الغني المقدسي أمير المؤمنين في الحديث.

قال: وسمعت شيخنا الحافظ عبد الغني يقول: كنت يوماً بأصبهان عند الحافظ أبي موسى. فجرى بيني وبين بعض الحاضرين منازعة في حديث. فقال: هو في صحيح البخاري فقلت: ليس هو فيه. قال: فكتب الحديث في رقعة ورفها إلى الحافظ أبي موسى يسأله عنه. قال: فناولني الحافظ أبو موسى الرقعة وقال: ما تقول، هل هذا الحديث في البخاري، أم لا? قلت: لا. قال: فخجل الرجل وسكت.

قال: وقد رأيت فيما يرى النائم- وأنا بمدينة مَرْو- كأن الحافظ عبد الغني جالس والإِمام محمد بن إسماعيل البخاري بين يديه يقرأ عليه من جزء، أو كتاب وكان الحافظ يرد عليه شيئاً أو ما هذا معناه.

قال: وسمعت أبا طاهر بن إسماعيل بن ظفر النابلسي يقول: جاء رجل إلى الحافظ- يعني: عبد النبي- فقال: رجل حلف بالطلاق أنك تحفظ مائة ألف حديث، فقال: لو قال أكثر لصدق.

قال الضياء: وشاهدت الحافظ غير مرة بجامع دمشق يسأله بعض الحاضرين وهو على المنبر، اقرأ لنا أحاديث من غير أجزاء فيقرأ الأحاديث بأسانيدها عن ظهر قلبه.

وسمعت أبا سليمان بن الحافظ يقول: سمعت بعض أهلنا يقول: إن الحافظ سئل: لم لا تقرأ الأحاديث من غير كتاب? فقال: إنني أخاف العجب.

وسمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن الحافظ، قال: سمعت علي بن فارس الزجاج العلثي الشيخ الصالح، قال: لما جاء الحافظ من بلاد العجم، قلت: يا حافظ، ما حفظت بعد مائة ألف حديث. فقال: بلى، أو ما هذا معناه.

قال: وسمعت أبا محمد عبد العزيز بن عبد الملك الشيباني- بمرو- يقول: سمعت التاج الكندي- يعني: أبا اليمن- يقول: لم يكن بعد الدارقطني مثل الحافظ عبد الغني.

وسمعت أبا الثناء محمود بن همام الأنصاري يقول: سمعت التاج الكندي يقول: لم يرَ الحافظ- يعني: عبد الغني- مثل نفسه.

قلت: وذكر ابن النجار عن يوسف بن خليل، قال: قال تاج الدين الكندي: رأيت ابن ناصر والحافظ أبا العلاء الهمداني وغيرهما من الحفاظ. ما رأيت أحفظ من عبد الغني المقدسي.

ثم قال الضياء: سمعت أبا العز مفضل بن علي الخطيب الشافعي، قال: سمعت بعض الأصحاب يقول: إن أبا نزاز- وهو الإمام ربيعة بن الحسن اليمني الشافعي- قال: قد رأيت الحافظ السلفي، والحافظ أبا موسى- وكان الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد أجفظ منهما- قال: وشاهدت في فضائل الحافظ الإِمام الفقيه مكي بن عمر المصري، سمعت أبا نزار ربيعة بن الحسن الصنعاني يقول: قد حضرت الحافظ أبا موسى، وهذا الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد، فرأيت عبد الغني أحفظ منه.

قلت الضياء: وأنشدنا إسماعيل بن ظفر قال: أنشدنا أبو نزار ربيعة بن الحسن في الحافظ عبد الغني:

يا أصدق الناس في بَدْو وفي حضر

 

وأحفظ الناس فيم قالت الـرُسـل

إن يحسدوك فلا تعبأ بـقـائلـهـم

 

هم الغثاء وأنت السيد الـبـطـل

قال: وأنشدنا:

إن قيس علمك في الورى بعلومهم

 

وجدوك سحباناً وغيرك بـاقـل

قال: وشاهدت بخط الحافظ أبي موسى المديني على كتاب "تبيين الإصابة لأوهام حصلت في معرفة الصحابة" الذي أملاه الحافظ عبد الغني، وقد سمعه عليه أبو موسى، وأبو سعد الصائغ، وأبو العباس بن نبال برك، وخلق كثير، يقول أبو موسى عفا الله عنه: قل من قَدِم علينا من الأصحاب يفهم هذا الشأن كفهم الشيخ الإِمام ضياء الدين أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، زاده الّله توفيقاً. وقد وفق لتبيين هذه الغلطات، ولو كان الدارقطني وأمثاله في الإحياء لَصَوَّبوا فعله، وقَل من يفهم في زماننا لما فهم زاده الله علماً وتوفيقاً.

قال الضياء: وكل من رأينا في زماننا من المحدثين ممن رأى الحافظ عبد الغني، وجرى ذكر حفظه ومذكراته، قال: ما رأينا مثله، أو نحو هذا.

قال: وسمعت الحافظ- أو من يحكى عنه- قال: لما قدمت على السلفي سألني عن أشياء، وقال: من هو محمد بن عبد الرحمن الذهبي?. فقلت: المخلص.

وسمعت الحافظ يقول: كنت عند ابن الجوزي يوماً، فقال وزيره: أبن محمد الغساني? فقلت: إنما هو وزيره، فقال: أنتم أعرف بأهل بلدكم، وحكى حكاية عن بعض من سلف في هذا المعنى.

ذكره ابن النجار في تاريخه، فقال: حدث بالكثير، وصنف تصانيف حسنة في الحديث. وكان غزير الحفظ، من أهل الإتقان والتجويد، قيماً بجميع فنون الحديث، عارفاً بقوانينه، وأصوله وعلله، وصحيحه، وسقيمه، وناسخه ومنسوخه وغريبه، وشكله، وفقهه، ومعانيه، وضبط أسماء رواته، ومعرفة أحوالهم.

وكان كثير العبادة، ورعاً متمسكاً بالسنة على قانون السلف، ولم يزل بدمشق يحدث وينتفع به الناس إلى أن تكلم في الصفات والقرآن بشيء أنكره عليه أهل التأويل مش الفقهاء، وشنعوا به عليه، وعقد له مجلس بدار السلطان حضره القضاة والفقهاء، غ صر على قوله، وأباحوا إراقة دمه، فشفع فيه جماعة إلى السلطان من الأمراء والأكراد، وتوسطوا أمره على أن يخرج من دمشق إلى ديار مصر، فأخرج إلى مصر، وأقام بها خاملاً إلى حين وفاته.

وسمعت يوسف بن خليل بحلب يقول عن عبد الغني: كان ثقة، ثبتاً، ديناً مأموناً، حسن التصنيف، دائم الصيام، كثير الإيثار. كان يصلي كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، دعي إلى أن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فأبى، فمنع من التحديث بدمشق، فسافر إلى مصر، فأقام بها إلى أن مات.

وقرأت بخط السيف بن المجد: قال أبو الربيع سليمان بن إبراهيم الأسعردي: سمعت عبد القادر الرهاوي الحافظ يقول للحافظ عبد الغني: سمعت وسمعنا، وحفظت، ونسينا.

وقال أبو الثناء محمود بن همام: سمعت أبا عبد الله محمد بن أميرك الجويني المحدث، يقول: ما سمعت السلفي يقول لأحد: الحافظ، إلا لعبد الغني المقدسي.

وقال الحافظ الضياء: كان رحمه الله مجتهداً على طلب الحديث، وسماعه للناس من قريب وغريب، فكان كل غريب يأتي يسمع عليه، أو يعرف أنه يطلب الحديث يكرمه ويبره، ويحسن إليه إحساناً كثيراً، وإذ صار عنده طالب يفهم شيئاً، أمره بالسفر إلى المشايخ بالبلاد، وأحيى الله به حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فمن سمع حديثاً من أصحابنا كان يَسُبُّه، ومن كان من غير أصحابنا كان طلبهم حسداً له؛ لما يرون من حرصه وكثرة طلبه.

قال: وسمعت الإمام الحافظ أبا إسحاق إبراهيم بن محمد العراقي، يقول: ما رأيت الحديث في الشام كله، إلا ببركة الحافظ عبد الغني؛ فإنني كل من سألته يقول: أول ما سمعت عليه، وهو الذي حرضني، وذكر جماعة من المحدثين ثم ذكر عنه أنه كان يفضل الرحلة للسماع على الغزو، وعلى سائر النوافل.

قال: وكان رحمه الله؛ يقرأ الحديث يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع دمشق، وليلة الخميس بالجامع أيضاً ويجتمع خلق كثير، وكان يقرأ ويبكي، ويبكي الناس بكاءً كثيراً، حتى إن من حضر مجلسه مرة، لا يكاد يتركه، لكثرة ما يطيب قلبه، وينشرح صدره فيه. وكان يدعو بعد فراغه دعاءً كثيراً.

وسمعت شيخنا أبا الحسن علي بن نجا الواعظ بالقرافة يقول على المنبر: قد جاء الإمام الحافظ، وهو يريد أن يقرأ الحديث، فاشتهى أن تحضروا مجلسه ثلاث مرات، وبعدها أنتم تعرفونه، ويحصل لكم الرغبة فجلس، أول يوم وكنت حاضراً بجامع القرافة، فقرأ الأحاديث بأسانيدها عن ظهر قلبه، وقرأ جزءاً، ففرح الناس بمجلسه فرحاً كثيراً، فقال ابن نجا: قد حصل الذي كنت أريده في أول مجلس.

وسمعت بعض من حضر مجلسه بمصر بمسجد المصنع، يقول: إن الناس بكوا حتى غشي على بعضهم، قال: وقال بعض المصريين: ما كنا إلا مثل الأموات حتى جاء الحافظ، فأخرجنا من القبور.

وسمعت الإمام أبا الثناء محمود بن همام الأنصاري يقول: سمعت الفقيه نجما- هو الإمام العالم نجم بن الإمام عبد الوهاب بن الإمام أبي الفرج الحنبلي يقول وقد حضر مجلس الحافظ-: يا تقي الدين، والله لقد جملت الإسلام، وأقسم والله، لو أمكنني ما فارقت مجلساً من مجالسك.

قال الضياء: سأل خالي الإمام موفق الدين عن الحافظ، فكتب بخطه، وقرأه عليه: كان جامعاً للعلم والعمل. وكان رفيقي في الصبا، وفي طلب العلم وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة، وعداوتهم إليه؛ وقيامهم عليه، ورزق العلم، وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يعمر حتى يبلغ غرضه في روايتها، ونشرها، رحمه الله تعالى.

قال الضياء: وسمعت الإمام الزاهد إبراهيم بن محمود بن جوهر البعلي يقول: سمعت العماد- يعني: أخا الحافظ- يقول: ما رأيت أحداً أشد محافظة على وقته من الحافظ عبد الغني.

قال الضياء: كان شيخنا الحافظ رحمه الله، لا يكاد يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة؛ فإنه كان يصلي الفجر، ويلقن الناس القرآن، وربما أقرأ شيئاً من الحديث، فقد حفظنا منه أحاديث جمة تلقيناً، ثم يقوم يتوضأ، فيصلي ثلاثمائة ركعة بالفاتحة والمعوذتين إلى قبل وقت الظهر، ثم ينام نومة يسيرة إلى وقت الظهر، ويشتغل إما للتسميع بالحديث، أو بالنسخ إلى المغرب، فإن كان صائماً أفطر بعد المغرب، وإن كان مفطراً صلَى من المغرب إلى عشاء الآخرة، فإذا صلَّى العشاء الآخرة، نام إلى نصف الليل أو بعده، ثم قام كأن إنساناً يوقظه، فيتوضأ ويصلَّي لحظة كذلك، ثم توضأ وصلَّى كذلك، ثم توضأ وصلَّى إلى قرب الفجر، وربما توضأ في الليل سبع مرات أو ثمانية، أو أكثر فقيل له في ذلك، فقال: ما تطيب لي الصلاة إلا ما دامت أعضائي رطبة، ثم ينام نومة يسيرة إلى الفجر، وهذا دأبه، وكان لا يكاد يصلَّي صلاتين مفروضتين بوضوء واحد.

قال: وسمعت الحافظ أبا عبد الله محمد بن محمد بن غانم بأصبهان يقول: كان الحافظ عبد الغني عندنا، وكان يقول لي: تعال حتى نحِافظ على الوضوء لكل صلاة.

قال الضياء: وكان يستعمل السواك كثيراً، حتى كأن أسنانه البرد.

وسمعت أبا الثناء محمود بن سلامة الحراني التاجر بأصبهان غير مرة يقول: كان الحافظ عبد الغني نازلاً عندي بأصبهان وما كان ينام من الليل إلا القليل، بل يصلَّي ويقرأ ويبكي، حتى ربما منعنا النوم إلى السحر.

سمعت الحافظ يقول: أضافني رجل بأصبهان، فلما قمنا إلى الصلاة، كان هناك رجل لم يصل، فقيل: هو شمسي- يعني: يعبد الشمس- فضاق صدري، ثم قصت بالليل أصلي والشمسي يستمع، فلما كان بعد أيام جاء إلى الذي أضافني. وقال: إن الشمسي يريد أن يسلم، فمضيت إليه فأسلم، وقال من تلك الليلة: لما سمعتك تقرأ القرآن، وقع الإسلام في قلبي.

قال: وكان الحافظ لا يرى منكراً إلا غيره بيده أو لسانه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، ولقد رأيته مرة يهريق خمراً، فجبذ صاحبه السيف، فلم يخف من ذلك وأخذه من يده، وكان رحمه الله قوياً في بدنه، وفي أمر الله، وكثيراً ما كان بدمشق ينكر المنكر، ويكسر الطنابير والشبابات.

وسمعت أبا بكر بن أحمد بن محمد الطحان، قال: كان بعض أولاد صلاح الدّين قد عملت لهم طنابير، وحملت إليهم، وكانوا في بعض البساتين يشربون، فلتي الحافظ الطنابير تحمل إليهم، فكسرها ودخل المدينة فلما خرج منها لحقه قوم كثير بعصي، ومعه رجل، فلحقوا صاحبه، وأسر الحافظ فقال لهم الرجل: أنا ما كسرت شيئاً، هذا الذي كسر، قال: فإذا رجل يركب فرساً، فترجل عن الفرس، وجاء إلي وقبل يدي، وقال: يا شيخ، الصبيان ما عرفوك.

وسمعت بعض أصحابنا يحدث عن الأمير درباس المهراني، أنه كان دخل مع الحافظ إلى الملك العادل، فلما قضى الملك كلامه مع الحافظ، جعل يتحدث مع بعض الحاضرين في أمر ماردين وحصارها، وكان حاصرها قبل ذلك، فسمع الحافظ كلامه، فقال: إيش هذا? وأنت بعد تريد قتال المسلمين، ما تشكر الله فيما أعطاك إماماً? قال: وسكت الملك العادل، فما أعاد ولا بدى، ثم قام الحافظ وقمت معه، فلما خرجنا، قلت له: إيش هذا? نحن كنا نخاف عليك من هذا الرجل: ثم تعمل هذا العمل? فقال: أنا إذا رأيت شيئاً لا أقدر أصبر.

وسمعت أبا بكر بن أحمد الطحان قال: كان في دولة الأفضل بن صلاح الدين قد جعلوا الملاهي عند درج جيرون، فجاء الحافظ فكسر شيئاً كثيراً منها، ثم جاء فصعد المنبر يقرأ الحديث، فجاء إليه رسول من القاضي يأمره بالمشي إليه، يقول حتى يناظره في الدفّ والشبابة، فقال الحافظ: ذلك عندي حرام، وقال: أنا لا أمشي إليه، إن كان له حاجة، فيجيء هو، ثم قرأ الحديث، فعاد الرسول فقال: قد قال: لا بد من المشي إليه، أنت قد بطلت هذه الأشياء على السلطان، فقال الحافظ: ضرب الله رقبته، ورقبة السلطان. قال: فمضى الرسول، وخفنا أن تجري فتنة. قال: فما جاء أحد بعد ذلك.

قال الضياء: وكان قد وضع الله لي الهيبة في قلوب الخلق.

سمعت أبا محمد فضائل بن محمد بن علي بن سرور المقدسي، قال: سمعتهم يتحدثون بمصر: أن الحافظ كان قد دخل على الملك العادل، فلما رآه قام له، فلما كان في اليوم الثاني من دخوله عليه، إذ الأمراء قد جاءوا إلى الحافظ إلى مصر، فقالوا: آمنا بكرامتك يا حافظ، وذكروا أن العادل قال: ما خفت من أحد، ما خفت من هذا، فقلنا: أيها الملك، هذا رجل فقيه، إيش خفت من هذا? قال: لما دخل ما خيل إلي إلا أنه سبع يريد أن يأكلني، فقلنا: هذه كرامة الحافظ.

قال: وشاهدت بخط الحافظ، يذكر أنه بلغه عن العادل ذلك. قال: وما أعرف أحداً من أهل السنة رأى الحافظ إلا أحبه حباً شديداً، ومدحه مدحاً كثيراً.

سمعت أبا الثناء محمود بن سلامة الحراني بأصبهان، قال: كان الحافظ بأصبهان، يصطف الناس في السوق، فينظرون إليه.

وسمعته يقول: لو أقام الحافظ بأصبهان مدة وأراد أن يملكها، لملكها- يعني من حبهم له- ورغبتهم فيه، ولما وصل إلى مصر أخيراً كنا بها، فكان إذ خرج يوم الجمعة إلى الجامع، لا نقدر نمشي معه من كثرة الخلق يتبركون به، ويجتمعون حوله.

قال: وكان رحمه الله، ليس بالأبيض الأمهق، بل يميل إلى السمرة، حسن الشعر، كثّ اللحية، واسع الجبين، عظيم الخلق، تام القامة، كأن النور يخرج من وجهه، فكان قد ضعف بصره من كثرة البكاء، والنسخ والمطالعة. وكان حسن الخلق، رأيته وقد ضاق صدر بعض أصحابه في مجلسه، وغضب، فجاء إلى بيته وترضاه، وطيب قلبه.

وكنا يوماً عنده نكتب الحديث ونحن جماعة أحداث، فضحكنا من شيء وطال الضحك فرأيته يتبسم معنا ولا يحرد علينا. وكان سخياً جوادً كريماً لا يذَخِر ديناراً ولا درهماً. ومهما حصل له أخرجه. ولقد سمعت عنه أنه كان يخرج في بعض الليالي بقفاف الدقيق إلى بيوت المحتاجين، فيدق عليهم، فإذا علم أنهم يفتحون الباب ترك ما معه ومضى لئلا يعرفه أحد.

وقد كان يفتح له بشيء من الثياب والبرد فيعطي الناس، وربما كان عليه ثوب مرقع.

وقد أوفى غير مرة سراً ما يكون على بعض أصحابه من الدَيْن ولا يعلمهم بالوفاء.

قال الشيخ الموفق عنه: كان جواداً يؤثر بما تصل إليه يده سراً وعلانية.

وسمعت أبا الثناء محمود بن همام يحكي عن رجل كان بمسجد الوزير، فجرى بينه وبين أصحاب الموفق شيء فلم يعطوه جامكية. قال: فبقينا ثلاثة أيام ليس لنا شيء، فدخلت يوم الجمعة أصلي، وسلمت بعد العصر على الحافظ، فقال لي: اقعد، فقعدت. فلما قام مشيت معه إلى خارج الجامع، فناولني نفقة وقال: اشتر لبيتك شيئاً، ومضر فاشتريت نصف خروف مشوي وخبزاً كثيراً، وحلواء واكتريت حمالاَ، ومضيت إلى أهلي فعددت ما بقي، فإذا هو خمسة وأربعون عرهماً.

وذكر غير واحد: أنه وقع بمصر غلاء وهو بها، فكان يؤثر بعشائه عدة ليالي ويطوي.

قال: وقال لي أبو الفتح ولده: والدي يعطي الناس الكثير، ونحن لا يبعث إلي شيئاً.

وسمعته يقول: أبلغ ما سأل العبد ربه ثلاثة أشياء: رضوان الله عز وجل، والنظر إلى وجهه الكريم والفردوس الأعلى.

وسمعت خالي أبا عمر قال: قال الحافظ: يقال: من العصمة أن لا تجد، ثم قال: هي أعظم العصمة، فإنها عصمة النبي صلى الله عليه وسلم.

وسمعت أبا محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي قال: سألت الحافظ، فقلت: هؤلاء المشايخ يحكى عنهم من الكرامات ما لا يحكى عن العلماء، إيش السبب في هذا? فقال: اشتغال العلماء بالعلم كرامات كثيرة- أو قال: يريد للعلماء كرامة أفضل من اشتغالهم بالعلم- وقد كان للحافظ كرامات كثيرة.

قال الضياء: سمعت أحمد بن عبد الله بن علي العراقي، حدثني أبو محمد بن أبي عبد الله الدمياطي قال: اكتريت في مركب فرأيته غائباً، فضاق صدري فذكرت قصتا للحافظ، فكتب لي كتاباً، وقال: اتركه فيه: فإذا قضيت سفرك وخرجت منه، فخذ الكتاب ولا تتركه فيه، فمضيت وعلقته في المركب، فمضينا في سفرنا. فلما نزلنا منه وأخذنا قماشنا ولم يبقَ فيه شيء ذكرت الكتاب فأخذته منه، فمن ساعته دخل الماء فيه، وغرق.

وقال: حدثني أبو محمد فضائل بن محمد المقدسي، حدثني ابن عمي بدران بن أبي بكر بن علي بن سرور: أن الحافظ قام ليلة ليتوضأ على البركة، وماؤها مقطوع فقال: ما كنت أشتهي الوضوء إلا من البركة، ثم صبر قليلاً، فإذا الماء قد خرج من الأنبوب، فانتظر حتى فاضت البركة، ثم انقطع الماء فتوضأ، فقلت: هذه والله كرامة لك، قال لي: قل: أستغفر الله، هذا الماء لعله كان محتبساً، لا تقل هذا.

وحدثني رجل جندي بالقدس: أن الحافظ نزل عندهم بالقدس. وكان في دارهم صهريج قد نقص ماؤه قال لي الحافظ ليلة: قد ضيقنا عليكم في الماء فقلت: بل يجعل الله فيه البركة، فقال: نعم جعل الله فيه البركة. فلما كان الفجر إذا بالماء قد زاد نحو أربعة أذرع.

وسمعت أبا محمد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار المقري قال: كان لأهل بيتي في ثوب من ثياب الحافظ يدخرونه للموت، وملحفة من أثر أمه. قال: فسرق ما في بيتنا من الثياب، ففتشوا على الثوب والملحفة فلم يجدوهما، فحزنوا عليهما. فلما كان بعد مدة وجدوهما في الصندوق، وقد كانوا فتشوا قبل ذلك ولم يجدوهما.

قال الضياء: وكنت أنا وجماعة نسمع على الحافظ بالمصلى الذي جبلنا في شدة الحر، فقال: لو كنا نقوم من هذا الحر إلى المسجد، فهممنا بالقيام ولعل بعضنا قام، فإذا سحابة قد غطت الشمس، فقال: اقعدوا، فرأيت بعض أصحابنا ينظر إلى بعض، ويسردْن الكلام بينهم: إن هذه كرامة، ويقولون: ما كان يُرى في السماء سحابة. وذكر الضياء أشياء كثيرة من هذا الجنس.

قال: وسمعت الحافظ يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يمشي وأنا أمشي خلفه، أن بيني وبينه رجلاً.

قال: وسمعت أبا العباس أحمد بن عبد الله المحولي عن رجل فقيه- وكان ضريراً، - ويبغض الحافظ- فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، ومعه الحافظ ويده في يده في جامع عمرو بن العاص، وهما يمشيان، وهو يقول: يا رسول الله، حدثت عنك بالحديث الفلاني? النبي صلى الله عليه وسلم يقول: صحيح، ويقول: حدثت عنك بالحديث الفلاني? والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: صحيح حتى عددت مائة حديث. فأصبح فتاب من بغضه.

وسمعت الحافظ أبا موسى بن الحافظ عبد الغني قال: حدثني رجل من أصحابنا قال: رأيت الحافظ في النوم يمشي مستعجلاً، فقلت: إلى أين? فقال: أزور النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: وأين هو? قال: في المسجد الأقصى، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أصحابه، لما رأى الحافظ قام له النبي صلى الله عليه وسلم، وأجلسه إلى جانبه. قال: فبقي الحافظ يشكو إليه ما لقي، ويبكي ويقول: يا رسول الله، كذبت في الحديث الفلاني، والحديث الفلاني? والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: صدقت يا عبد الغني، صدقت يا عبد الغني.

ذكر تصانيفه.

كتاب "المصباح في عيون الأحاديث الصحاح" ثمانية وأربعين جزءاً، يشتمل على أحاديث الصحيحة. كتاب "نهاية المراد، من كلام خير العباد" لم يبيضه كله، في السنن، نحو مائتي جزء كتاب "المواقيت" مجلد، كتاب "تحفة الطالبين في الجهاد والمجاهدين" كتاب "الآثار المرضية، في فضائل خير البرية" أربعة أجزاء، كتاب "الروضة" أربعة أجزاء، كتاب "الذكر" جزآن، كتاب "الأسرار" جزآن، كتاب "التهجد" جزآن، كتاب "الفرج" جزآن، كتاب "الصلات من الأحياء إلى الأموات" جزآن، كتاب "الصفات" جزآن "محنة الإمام أحمد" ثلاثة أجزاء، كتاب "ذم الرياء" جزء كبير، كتاب "ذم الغيبة" جزء ضخم، كتاب "الترغيب في الدعاء" جزء كبير، كتاب "فضائل مكَة" أربعة أجزاء، كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" جزء، كتاب "فضائل رمضان" جزء، وجزء في "فضائل عشر ذي الحجة" وجزء في "فضائل الصدقة" وجزء في "فضائل الحج" وجزء في "فضائل رجب" وجزء في "وفاة النبي صلى الله عليه وسلم" وجزء في "الأقسام التي أقسم بها النبي صلى الله عليه وسلم"، وكتاب "الأربعين" وكتاب "الأربعين"، وكتاب "الأربعين من كلام رب العالمين" وكتاب "الأربعين" بسند واحد، وكتاب "اعتقاد الإمام الشافعي" جزء كبير، وكتاب "الحكايات" سبعة أجزاء، وكتاب "نية الحفاظ في تحقيق مشكل الألفاظ" في مجلدين، وكتاب "الجامع الصغير لأحكام البشير النذير" لم يتمه، وخمسة أجزاء من كتاب لم يتمه، على صفة كتاب "من صبر ظفر" وجزء "في ذكر القبور" وأجزاء أخرجها من الأحاديث والحكايات. كان يقرؤها في المجالس، تزيد على مائة جزء، وجزء في "مناقب عمر بن عبد العزيز" هذه كلها بالأسانيد.

ومن الكتب بلا إسناد: "الأحكام على أبواب الفقه" ستة أجزاء كتاب "العمدة في الأحكام" مما اتفق عليه البخاري ومسلم، جزآن، وكتاب "درر الأثر على حروف المعجم" تسعة أجزاء، كتاب "سيرة النبي صلى الله عليه وسلم" جزء كبير، كتاب "النصيحة في الأدعية الصحيحة" جزء كتاب "الاقتصاد في الاعتقاد" جزء كبير، كتاب "تبيين الإصابة لأوهام حصلت في معرفة الصحابة" الذي ألفه أبو نعيم الأصبهاني في جزء كبير، وكتاب "الكمال في معرفة الرجال" يشتمل على رجال الصحيحين وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في عشر مجلدات، وفيه إسناد ذكر محنته.

قال الحافظ الضياء: سمعت الإِمام أبا محمد عمر بن سالم بن محمد الأنصاري المعبر يقول: رأيت في النوم- يعني: قبل الفتنة التي جرت للحافظ- كأن قائلاً يقول لي: يمنع الحافظ من القراءة، ويجري على أصحابه شدة، ويمشي إلى مصر وبها يموت، وهو من الأربعة، والشيخ أبو عمر- وسمى رجلين من العراق- ولم أحفظ أسماءهما. فلما انتبهت جاءني رجل، فقال لي: الحال مثلى ما رأيت في النوم، ولم أرجع أره بعد ذلك.

وسمعت الإِمام أبا محمد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار المقدسي قال: سمعت الحافظ يقول: سألت الله تعالى أن يرزقني مثل حال الإِمام أحمد فقد رزقني صلاته قال: ثم ابتلي بعد ذلك وأوذي.

وسمعت شيخنا الإِمام أبا محمد عبد الله بن أبي الحسن الجبائي بأصبهان يقول: كان أبو نعيم الحافظ قد أخذ على الحافظ أبي عبد الله بن مَنْدَة أشياء في كتاب "معرفة الصحابة" وكان الحافظ أبو موسى المديني يشتهي أن يأخذ على أبي نعيم- يعني: في كتاب "معرفة الصحابة"- فما كان يحسن. فلما جاء الحافظ عبد الغني إلى إصبهان أشار إليه بذلك. قال: تأخذ على أبي نعيم في كتابه "معرفة الصحابة"، نحواً من مائتين وتسعين موضعاً. قال: فلما سمع بذلك الصدر عبد اللطيف بن الخُجندي طلب الحافظ عبد الغني، وأراد إهلاكه فاختفى الحافظ.

وسمعت أبا الثناء محمود بن سلامة الحراني قال: ما أخرجنا الحافظ من إصبهان إلا في أزار. وذلك أن بيت الخجندي أشاعرة، كانوا يتعصبون لأبي نعيم. وكانوا رؤساء البلد.

قلت: هذا في غاية الجهل والهوى. وإلا فما الذي يتعلق بهذا من المذاهب واختلاف المقالات?.

قال الضياء: وسمعت الحافظ يقول: كنا بالموصل نسمع الجرح والتعديل للعُقيلي، فأخذني أهل الموصل، وحبسوني، وأرادوا قتلي من أجل ذكر أبي حنيفة فيه. فجاءني رجل طويل ومعه سيف، فقلت: لعل هذا يقتلني وأستريح. قال: فلم يصنع شيئاً، ثم إنهم أطلقوني.

قال: وكان يسمع هو والإِمام ابن البرني الواعظ، فأخذ ابن البرني الكراس التي فيها ذكر أبي حنيفة فاشتالها، فأرسلوا وفتشوا الكتاب فلم يجدوا شيئاً. فهذا سبب خلاصه. والله أعلم.

قال: وكان الحافظ يقرأ الحديث بدمشق، ويجتمع الخلق عليه، ويبكي الناس، وينتفعون بمجالسه كثيراً، فوقع الحسد عند المخالفين بدمشق، وشرعوا يعملون وقتاً يجتمعون في الجامع، ويقرأ عليهم الحديث، ويجمعون الناس من غير اختيارهم. فهذا ينام، وهذا قلبه غير حاضر، فلم تشتف قلوبهم بذلك، فشرعوا في المكيدة بأن أمروا الإمام الناصح أبا الفرج عبد الرحمن بن نجم بن الحنبلي الواعظ بأن يجلس يعظ في الجامع تحت قُبة النسر بعد الجمعة وقت جلوس الحافظ. فلما بلغني ذلك قلت لبعض أصحابنا: هذه مكيدة والله، ما ذلك لحبهم الناصح وإنما يريدون أن يعملوا شيئاً. فأول ذلك: أن الحافظ والناصح أرادا أن يختلفا للوقت. ثم اتفقا على أن يجلس الناصح بعد صلاة الجمعة، ثم يجلس الحافظ بعد العصر. فلما كان بعض الأيام، والناصح قد فرغ من مجلسه. وكان قد ذكر الإِمام أحمد رحمه الله في مجلسه- فدسوا إليه رجلاً ناقص العقل من بيت ابن عساكر فقال للناصح كلاماً معناه: إنك تقول الكذب على المنبر فضرب ذلك الرجل وهرب، فأتبع، فخبئ في الكلاسة، فتصت لهم المكيدة بهذه الواقعة، فمشوا إلى الوالي، وقالوا له: هؤلاء الحنابلة ما قصدهم إلا الفتنة، واعتقادهم يخالف اعتقادنا، ثم إنهم جمعوا كبراءهم، ومضوا إلى القلعة إلى الوالي، وقالوا: نشتهي أن يحضر الحافظ عبد الغني. وكانت مشايخنا قد سمعوا بذلك، فانحدروا إلى دمشق- خالي الإمام موفق الدين؛ وأخي الإِمام أبي العباس أحمد البخاري، وجماعة الفقهاء، وقالوا: نحن نناظرهم، وقالوا للحافظ: اقعد أنت لا تجيء، فإنك حاد ونحن نكفيك. فاتفق أنهم أرسلوا إلى الحافظ من القلعة وحده فأخذوه، ولم يعلم أصحابنا بذلك، فناظروه. وكان أجهلهم يغري به فاحتدّ وكانوا قد كتبوا شيئاً من اعتقاداتهم وكتبوا خطوطهم فيه، وقالوا له: اكتب خطك، فلم يفعل، قالوا للوالي: الفقهاء كلهم قد اتفقوا على شيء وهو يخالفهم. وكان الوالي لا يفهم شيئاً فاستأذنوه في رفع منبره، فأرسلوا الأسرى فرفعوا ما قي جامع دمشق من منبر وخزانة ودرابزين، وقالوا: نريد أن لا يجعل في الجامع إلا صلاة أصحاب الشافعي، وكسروا منبر الحافظ، ومنعوه من الجلوس، ومنعوا أصحابنا من الصلاة في مقامهم في الجامع، ففاتهم صلاة الظهر. ثم إن الناصح بن الحنبلي جمع السوقة وغيرهم، وقال: إن لم يخلونا نصلَّي باختيارهم صلينا بغير اختيارهم. فبلغ ذلك القاضي- وهو كان صاحب الفتنة- فأذن لهم بالصلاة وخاف أن يصلى بغير إذنه. وكان الحنفية قد حموا مقصورتهم بالجند.

ثم إن الحافظ ضاق صدره، ومضى إلى بعلبك، فأقام بها مدة يقرأ الحديث. وكان الملك العادل في بلاد الشرق فقال أهل بعلبك للحافظ: إن اشتهيت جئنا معك إلى دمشق نؤذي من أذاك، فقال: لا، ثم إنه توجه إلى مصر، ولم يعلم أصحابنا بسفره، فبقي مدة بنابلس يقرأ الحديث.

قال الضياء: وهذا سمعته من أصحابنا. وكنت أنا في ذلك الوقت بمصر أسمع الحديث.

قلت: وقد ذكر بعض المخالفين هذه القضية على غير هذا الوجه، فقال: اجتمع الشافعية والحنفية والمالكية عند المعظم عيسى، والصارم برغش والي القلعة. وكانا يجلسان بدار العدل للنظر في المظالم. قال: وكان ما اشتهر من إحضار اعتقاد الحنابلة، وموافقة أولاد الفقيه نجم الدين الحنبلي الجماعة، وإصرار الفقيه عبد الغني المقدسي على لزوم ما ظهر به من اعتقاده، وهو الجهة والاستواء والحرف. وأجمع الفقهاء على الفتوى بكفره، وأنه مبتدع، لا يجوز أن يترك بين المسلمين، ولا يحل لولي الأمر أن يمكنه من المقام معهم. وسأل أن يمهل ثلاثة أيام لينفصل عن البلد، فأجيب

وذكر غيره: أنهم أخذوا عليه مواضع، منها قوله: ولا أنزهه تنزيهاً ينفي حقيقة النزول. ومنها قوله: كان الله ولا مكان، وليس هو اليوم على ما كان. ومنها: مسألة الحرف والصوت، فقالوا له: إذ لم يكن على ما قد كان، فقد أثبت له المكان، وإذا لم تنزهه تنزيهاً تنفي حقيقة النزول، فقد أجزت عليه الانتقال. وأما الحرف والصوت، فإنه لم يصح عن إمامك الذي تنتمي إليه فيه شيء، وإنما المنقول عنه: أنه كلام اللّه عز وجل غير مخلوق. وارتفعت الأصوات، فقال له صارم الدين: كل هؤلاء على ضلال، وأنت على الحق? قال: نعم.

ثم ذكر منعهم من الصلاة بالجامع، قال: خرج عبد الغني إلى بعلبك، ثم سافر إلى مصر، فنزل عند الطحانين، وصار يقرأ الحديث، فأفتى فقهاء مصر بإباحة دمه، وكتب أهل مصر إلى الصفي بن شكر وزير العادل: أنه قد أفسد عقائد الناس، ويذكر التجسيم على رؤوس الأشهاد، فكتب إلى والي مصر ينفيه إلى المغرب، فمات قبل وصول الكتاب.

فأما قولهم: "أجمع الفقهاء على الفتوى بكفره وأنه مبتدع" فيا للّه العجب، كيف يقع الإجماع، وأحفظ أهل وقته للسنة، وأعلمهم بها هو المخالف? وما أحسن ما قال أبو بكر قاضي القضاة الشامي الشافعي، لما عقد له مجلس ببغداد، وناظره الغزالي، واحتج عليه بأن الإِجماع منعقد على خلاف ما عملت به، فقال الشامي: إذا كنت أنا الشيخ في هذا الوقت أخالفكم على ما تقولون، فبمن ينعقد الإجماع? بك، وبأصحابك? هذا مع مخالفة فقيه الإِسلام في وقته الذي يقال: إنه لم يدخل الشام بعد الأوزاعي أفقه منه، ومعه خلق على أئمة الفقهاء، والمناظرين والمحدثين، هذا في الشام خاصة، دع المخالفين لهؤلاء المجتمعين في سائر بلاد المسلمين- بغداد ومصر وغيرهما من أمصار المسلمين- مع إجماع السلف المنعقد على موافقة هؤلاء المخالفين لهم، ولم يكن في المخالفين للحافظ من له خبرة بالسنة والحديث والآثار.

ولقد عقد مرة مجلس لشيخ الإِسلام أبي العباس ابن تيمية، فتكلم فيه بعض أكابر المخالفين، وكان خطيب الجامع، فقال الشيخ شرف الدين عبد اللّه أخو الشيخ: كلامنا مع أهل السنة، أما أنت: فأنا أكتب لك أحاديث من الصحيحين، وأحاديث من الموضوعات- وأظنه قال: وكلاماً من سيرة عنتر- فلا تميز بينهما- أو كما قال- فسكت الرجل.

وأما قولهم: لا إن بني الحنبلي، "وافقوا الجماعة"، فهذا إما أن يكون صحيحاً، أو غير صحيح، فإن كان صحيحاً، فهو تقية ونفاق منهم، وإلا فكلام بني نجم الدّين الحنبلي، وكلام أبيهم في إثبات الصوت كثير موجود، وسنذكر إن شاء اللّه مما نقله الناصح الحنبلي خاصة في إثبات الصوت ما نذكره في مواضعه.

وأما قوله: "ولا أنزهه تنزيهاً ينفي حقيقة النزول" فإن صح هذا عنه، فهو حق، وهو كقول القائل: لا أنزهه تنزيهاً ينفي حقيقة وجوده، أو حقيقة كلامه، أو حقيقة علمه، أو سمعه وبصره، ونحو ذلك.

وأما المكان: ففيه نزاع وتفصيل. وفي الصحيحين: إثبات لفظ المكان.

وأما الانتقال: ففيه جوابان.

أحدهما: لا نسلم لزومه، فإن نزوله ليس كنزول المخلوقين، ولهذا نقل عن جماعة من الأئمة: أنه ينزل، ولا يحلو منه العرش.

الثاني: أن هذا مبني على إثبات الأفعال الاختيارية، وقيامها بالذات. وفيها قولان لأهل الحديث المتأخرين من أصحابنا وغيرهم وأما إنكار إثبات الصوت عن الإِمام الذي ينتمي إليه الحافظ، فمن أعجب العجب، وكلامه في إثبات الصوت كثير جداً.

قال عبد اللّه ابن الإمام أحمد في كتاب السنة "سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم اللّه موسى لم يتكلم بصوت. فقال أبي: بلى، تكلم بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت". والمقصود ههنا: الإِشارة إلى ما وقع في حق الحافظ، من التحامل عليه، والتعصب.

وقرأت بخط الإِمام الحافظ الذهبي- رداً على ما نقل الإِجماع على تكفيره- أما قول "أجمعوا" فما أجمعوا، بل أفتى بذلك بعض أئمة الأشاعرة ممن كفروه، وكفرهم هو، ولم يبد من الرجل أكثر مما يقوله خلق من العلماء الحنابلة والمحدثين: من أن الصفات الثابت محمولة على الحقيقة، لا على المجاز، أعني أنها تجري على مواردها، لا يعبر عنها بعبارات أخرى، كم فعلته المعتزلة، أو المتأخرون من الأشعرية. هذا مع أن صفاته تعالى لا يماثلها شيء.

قال الحافظ الضياء: وجاء شاب من أهل دمشق بفتاوى من أهلها، إلى صاحب الحافظ بمصر- وهو العزيز عثمان- ومعه كتب: أن الحنابلة يقولون كذا وكذا، مه يشنعون به ويفترونه عليهم. وكان ذلك الوقت قد خرج نحو الإِسكندرية يتفرج، فقال: إن رجعنا من هذه السفرة أخرجناك من بلادنا، من يقول بهذه المقالة. فلم يرجع إلا ميتاً، فإن عدا به الفرس خلف صيد، فشب به الفرس وسقط، فخسف صدره. كذا حدثني شيخنا يوسف بن الطفيل، وهو الذي تولى غسله، وأقام ولده موضعه، وأرسلوا إلى الأفضل بن صلاح الدين- وكان بصرخد- فجاء وأخذ مصر، وذهب إلى دمشق، فلقى الحافد عبد الغني في الطريق، فأكرمه إكراماً كثيراً وبعث يوصي به بمصر.

فلما وصل الحافظ إلى مصر، تُلِقِّي بالبشر والإِكرام، وأقام بها يُسمع الحديث بمواضع منها، وبالقاهرة. وقد كان بمصر كثير من المخالفين، لكن كانت رائحة السلطان تمنعهم من أذى الحافظ لو أرادوه، ثم جاء الملك العادل، وأخذ مصر، وأكثر المخالفون عنده على الحافظ. وسمعت أن بعضهم بذل في قتل الحافظ خمسة آلاف دينار. قال: وقرأت بخط الحافظ كتبه إلى دمشق: والملك العادل اجتمعت به، وما رأيت منه إلا الجميل، فأقبل عليّ وأكرمني، وقام لي والتزمني، ودعوت له. ثم قلت: عندنا قصور، فهو الذي يوجب التقصير، فقال: ما عندك لا تقصير ولا قصور، وذكر أمر السنة، فقال: ما عندك شيء يعاب في أمر الدين ولا الدنيا، ولا بد للناس من حاسدين، وقد تقدم ذكر هيبة العادل له، واحترامه، وتعجب الناس من ذلك.

قال: ثم سافر العادل إلى دمشق، وبقي الحافظ بمصر، والمخالفون لا يتركون الكلام فيه، فلما أكثروا عزم الملك الكامل على إخراجه من مصر واعتقل في دارٍ سبع ليال، فقال: ما وجدت راحة بمصر مثل تلك الليالي.

وقال: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن عبد الغني، يقول: حدثني الشجاع بن أبي ذكرى الأمير، قال: قال لي الملك الكامل يوماً: ههنا رجل فقيه، قالوا: إنه كافر، قلت: لا أعرفه، قال: بلى، هو محدث، فقلت: لعله الحافظ عبد الغني? فقال: نعم، هذا هو، فقلت: أيها الملك، العلماء: أحدهم يطلب الآخرة، والآخر يطلب الدنيا، وأنت ههنا باب الدنيا، فهذا الرجل جاء إليك، وأرسل إليك شفاعة، أو رقعة، يطلب منك شيئاً? فقال: لا، فقلت: أيها الملك: والله هؤلاء القوم يحسدونه، فهل في هذه البلاد أرفع منك? قال: لا، فقلت: هذا الرجل أرفع العلماء، كما أنت أرفع الناس ههنا، فقال: جزاك الله خيراً كما عرفتني هذا.

ثم إني أرسلت رقعة إلى الملك الكامل أوصيه به، فأرسل إليّ: تجيء، فمضيت إليه، وإذا عنده جماعة، منهم: شيخ الشيوخ- يعني: ابن حمويه- وعز الدين الزنجاني، فقال لي الملك: نحن في أمر الحافظ، فقلت: أيها الملك القوم يحسدونه، ثم بيننا هذا الشيخ- أعني شيخ الشيوخ- وقلت: بحق كذا وكذا، هل سمعت من الحافظ كلاماً يخرج عن الإِسلام. فقال: لا والله، ما سمعت منه إلا كل جميل، وما رأيته قط، ثم تكلم ابن الزنجاني، فمدح الحافظ مدحاً كثيراً، ومدح تلامذته، وقال: أنا أعرفهم، فما رأيت مثلهم. فقلت: وأنا أقول شيئاً آخر، فقال: ما هو. فقلت: لا يصل إليه شيء يكرهه، حتى يقتل من الأكراد ثلاثة آلاف، قال: فقال: لا يؤذى الحافظ، فقلت: اكتب خطك بذاك، فكتب.

كذا؛ لقول لله كذا، وأقول كذا، لقول رسول الله كذا، حتى فرغ من المسائل التي يخالفون فيها، فلما وقف عليها الملك الكامل، قال: إيش في هذا?. يقول بقول الله عز وجل، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. قال: فخلى عنه.

ثم ذكر الضياء طرفاً من فراسته، وهي نوع من فراسته، وهي ملتحقة بنوع من كراماته.

فمنها ما قال: سمعت نصر بن رضوان بن ثروان العدوي يقول: لما كان الحافظ يجلس في الجامع بعد العصر، كان المنبر الذي يجلس عليه فيه قصر. وكان الناس يشرفون إليه، فخطر في نفسي لو كان يرفع قليلاً. وكان الحافظ على المنْبر يقرأ في جزء، فترك القراءة، فقال بعض الإخوان: نشتهي أن يعلى هذا المنبر قليلاً، فلما كان الغد زاد بعض الجماعة في رجل المنبر قليلاً.

قال: وسمعت الحافظ أبا موسى بن الحافظ قال: كنت عند والدي، وهو يذكر فضائل سفيان الثوري، فقلت في نفسي: إن والدي مثله، فالتفت إلي وقال: أين نحن من أولئك?.

وسمعت أبا موسى أيضاً يحدث عن رجل بدمياط قال!: كنت يوماً عند الحافظ فقلت في نفسي: كنت أشتهي لو أن الحافظ يعطيني الثوب الذي بلى جسده حتى أكفن فيه. فلما أردت القيام قال: لا تبرح، فلما انصرف الجماعة خلع ثوبه الذي بلى جسده وأعطانيه. قال: فبقي الثوب عندنا، وكل من مرض أو وجع رأسه تركوه عليه حتى يبرأ بإذن الله تعالى.

وسمعت أبا الرضى محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي قال: وقع لي أن أسأل الحافظ عن شيء من ذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فمضيت إليه فوجدت عنده جماعة فاستحييت أن أسأله وقعدت، فذكر ما كنت أريد أن أسأله عنه وبينه.

وسمعت أبا علي فارس بن عثمان بن عبد الله الدمشقي يذكر عن رجل عن آخر قال: خرجنا جماعة إلى الجبل، فقعدنا على النهر. فقال بعضنا: اشتهينا لو أن الحافظ- ومعه جزء يقرأ لنا فيه أخباراً، فقال آخر: ويجيء معه بحلاوة، فلم نلبث إلا والحافظ قد جاء، فقال له بعضنا: لو كنت جئت معك بشيء تقرأ لنا فيه? فأخرج جزءاً من كمه، وقال: قد جئت بالجزء والحلاوة.

وسمعت الحافظ أبا موسى يقول: قالت لي والدتي: قدمنا يوماً لوالدك طبيخاً من طبيخ فلان- لرجل سماه لي- وكان الحافظ لا يشتهي أن يأكل من طعامه، فأخذ لف ورفعها إلى فيه، ثم نظر إليه وقال: هذا من طبيخ فلان، ارفعوه، ولم يأكل منه شيئاً.

قال الضياء: فسألت خالتي رابعة بنت أحمد بن محمد بن قدامة- امرأة الحافظ- بعد ذلك عن هذه الحكاية? فحدثتني بها.

قال: وسمعت أبا محمد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار المقدسي قال: كنت يوماً عند الحافظ بالقاهرة، فدخل رجل فسلم عليه، ثم أخرج دينارين فدفعهما إلي؛ وقال: ما كان قلبي يطيب بهما، فسألت الرجل? إيش شغلك? فقال: أنا أكتب على النطرون، والنطرون بمصر ماء يجمد مثل الملح وعليه ضمان.

وسمعته يحدث عن رجل- وأثنى عليه خيراً- قال: كنت مرة قد تحرقت ثيابي، فجئت يوماً بدمشق للحافظ، فقلت: يا سيدي لك حاجة أحملها إلى الجبل? قال: نعم. خذ معك هذا الثوب، فحمله إلى الجبل. فلما صعدت، جئت بالثوب إليه، فقال: اقعد فَصِّل لك ثوبين وسراويل، ففصلت ثوبين وسراويل، وفضلت فضلة فأخذها.

سمعت الحافظ أبا موسى قال: مرض والدي رحمه الله في ربيع الأول سنة ستمائة مرضاً شديداً منعه من الكلام والقيام، واشتد به مدة ستة عشر يوماً، وكنت كثيراً ما أسأله: ما تشتهي? فيقول: أشتهي الجنة، أشتهي رحمة الله تعالى، لا يزيد على ذلك. فلما كان يوم الإثنين جئت إليه. وكان عادتي أبعث من يأتي كل يوم بكرة بماء حار من الحمام يغسل أطرافه. فلما جئنا بالماء على العادة مدَّ يده، فعرفت أنه يريد الوضوء، فوضأته وقت صلاة الفجر، ثم قال: يا عبد الله، قم فصل بنا وخفف، فقمت فصليت بالجماعة، وصلَّى معنا جالساً. فلما انصرف الناس جئت، فجلست عند رأسه وقد استقبل القبلة، فقال لي: اقرأ عند رأسي سورة يس، فقرأتها، فجعل يدعو الله وأنا أؤمن، فقلت: ههنا دواء قد عملناه تشربه? فقال: يا بنيّ ما بقي إلا الموت، فقلت: ما تشتهي شيئاً? قال: أشتهي النظر إلى وجه الله تعالى. فقلت: ما أنت عني راض? قال: بلى والله، أنا عنك راض وعن إخوتك، وقد أجزت لك ولإخوتك ولابن أختك إبراهيم.

قال: وسمعت أبا موسى يقول: أوصاني أبي عند موته: لا تضيعوا هذا العلم الذي تعبنا عليه- يعني الحديث- فقلت: ما توصي بشيء? قال: مالي على أحد شيء، ولا لأحد علي شيء. قلت: توصيني بوصية. قال: يا بني، أوصيك بتقوى الله، والمحافظة على طاعته. فجاء جماعة يعودونه فسلموا عليه فرد عليهم، وجعلوا يتحدثون، ففتح عينيه وقال: ما هذا الحديث? اذكروا الله تعالى، قولوا: لا إله إلا الله، فقالوها، ثم قاموا. فجعل يذكر الله، ويحرك شفتيه بذكره، ويشير بعينيه، فدخل رجل فسلم عليه، وقال له: ما تعرفني يا سيدي? فقال: بلى، فقمت لأُناوله كتاباً من جانب المسجد، فرجعت وقد خرجت روحه. وذلك يوم الإثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة ستمائة.

وبقي ليلة الثلاثاء في المسجد، واجتمع الغد خلق كثير من الأئمة والأمراء ما لا يحصيهم إلا الله عز وجل، ودفناه يوم الثلاثاء بالقرافة، مقابل قبر الشيخ أبي عمرو بن مرزوق في مكان ذكر لي خادمه عبد المنعم أنه كان يزور ذلك المكان، ويبكي فيه إلى أن يبل الحصى، ويقول: قلبي يرتاح إلى هذا المكان رحمه الله ورضي عنه، وألحقه بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

قلت: ووقع لابن الحنبلي في وفاته وهم، فقال: سنة خمس وتسعين وخمسمائة.

ورثاه غير واحد، منهم الإِمام أبو عبد الله محمد بن سعد المقدسي الأديب بقصيدة طويلة، أولها:

هذا الذي كنت يوم البين أحـتـسـب

 

فليقض دمعي عنك بعض ما يجـب

يا سائرين إلـى مـصـر بـربِّـكـم

 

رفقاً علي، فإن الأجر مـكـتـسـب

قالوا لساكنها: حُـييت مـن سـكـن

 

يا منية النفس، ماذا الصد والغضب?

بالشام قوم وفي بغـداد قـد أسـفـوا

 

لا البعد أخْلَق بلواهم ولا الـحـقـب

قد كنت بالكتب أحياناً تـعـلـلـهـم

 

فاليوم لا رسل تـأتـي ولا كـتـب

أُنسيتَ عهدهـم أم أنـت فـي جـدث

 

تسفى وتبكي عليك الريح والسـحـب

بل أنت في جنة تجنى فـواكـهـهـا

 

لا لغو فيها، ولا غـول ولا نـصـب

يا خير من قال بعد الصحب "حدثـنـا"

 

ومن إليه التقى والـدين ينـتـسـب

لولاك مادَ عمود الدين، وانـهـدمـت

 

قواعد الحق، واغتال الهدى عـطـب

فاليوم بعدك جمر الغيّ مـضـطـرم

 

بادي الشرار، وركن الرشد مضطرب

فلَيبكيِنَّك رسول اللـه مـا هـتـفـت

 

ورق الحمام، وتبكي العجم والعـرب

لم يفترق بكما حال، فـمـوتـكـمـا

 

في الشهر واليوم هذا الفخر والحسب

أحييت سنته من بـعـدمـا دفـنـت

 

وشِدْتها وقد انـهـدت لـهـا رتـب

وصنتها عن أباطـيل الـرواة لـهـا

 

حتى استنارت، فـلا شـك ولا ريب

ما زلت تمنحها أهلاً، وتمـنـعـهـا

 

من كان يلهيه عنها الثغر والشـنـب

قوم بأسماعهم عن سمعـهـا صـمـم

 

وفي قلوبهم من حفظـهـا قُـضـب

تنوب عن جمعها منهم عـمـائمـهـم

 

أيضاً، ويغنيهم عن عرسها اللـقـب

يا شامتـين وفـينـا مـا يسـوؤهـم

 

مستبشرين وهذا الدهر محـتـسـب

ليس الفناء بمقصور عـلـى سـبـب

 

ولا البقاء بـمـمـدود لـه سـبـب

ما مات من عز دين اللـه يعـقـبـه

 

وإنما الميت منكم مـن لـه عـقـب

ولا تـقـوض بـيت كـان يعـمـده

 

مثل العماد، ولا أودى لـه طـنـب

علا العلى بجمال الدين بعـد، كـمـا

 

تحيى العلوم بمحيي الدين والـقـرب

وتسبق الخيل تـالـيهـا، إن بـعـدت

 

وغاية السبق لا تعيى له الـنـجـب

مثل الدراري السواري شيخـنـا أبـداً

 

نجم يغور ويبقـى بـعـده شـهـب

من معشر هجروا الأوطان وانتهكـوا

 

حُمر الخطوب وأبكار العلى خطبـوا

شُمُّ العرانين ملح، لـو سـألـتـهـم

 

بذل النفوس لما هابوا بـأن يهـبـوا

بيض مفارقهم، سـود عـواتـقـهـم

 

يمشي مسابقهم من حظه الـتـعـب

نور إذا سألـوا، نـار إذا حـمـلـوا

 

سحب إذا نزلوا، أسـد إذا ركـبـوا

الموقدون ونـار الـحـرب خـامـدة

 

والمقدمون ونار الحرب تلـتـهـب

هذا الفخار، فإن تجـزع فـلا جـزع

 

على المحب، وإن تصبر فلا عجـب

قال الضياء: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمود البعلي قال: جاء قوم من التجار إلى الشيخ العماد- وأنا عنده- فحدثوه أن النور يرى على قبر الحافظ عبد الغني كل ليلة أو كل ليلة جمعة.

قال: وسمعت الحافظ أبا موسى بن الحافظ قال: حدثني صنيعة الملك هبة الله بن  علي بن حيدرة قال: لما خرجت للصلاة على الحافظ لقيني هذا المغربي- وأشار إلى رجل معه- وقال: إلى أين تروح? فقلت: إلى الصلاة على الحافظ، فجاء معي، وقال: أنا رجل غريب، ورأيت البارحة في النوم كأني في أرض واسعة، وفيها قوم عليهم ثياب بيض، وهم كثيرون، فقلت: من هؤلاء? فقيل لي: هؤلاء ملائكة السماء نزلوا لموت الحافظ عبد الغني. فقلت: وأين هو الحافظ? فقيل لي: اقعد عند الجامع حتى يخرج صنيعة الملك، فامضِ معه. قال: فلقيته واقفاً عند الجامع.

قال: وسمعت الإِمام أبا العباس أحمد بن محمد بن عبد الغني- سنة اثنتي عشرة وستمائة- قال: رأيت البارحة الكمال- يعني أخي عبد الرحيم، وكان توفى في تلك السنة- في النوم، وعليه ثوب أبيض، فقلت له: يا فلان، أين أنت? قال: في جنة عدن، فقلت: أيما أفضل: الحافظ عبد الغني، أو الشيخ أبو عمر? فقال: ما أدري. وأما الحافظ فكل ليلة جمعة ينصب له كرسي تحت العرش، ويقرأ عليه الحديث، وينثر عليه الدر والجوهر، وهذا نصيبي منه. وكان في كمه شيء، وقد أمسك بيده على رأسها.

قال: وسمعت الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن عبد الله الكردي- بحران- يقول: رأيت الحافظ في المنام، فقلت له: يا سيدي، أليس قدمِت? فقال: إن الله عز وجل بقى عليَّ وردى من الصلاة.

سمعت عبد الله بن عبد الملك بن عبد الله بن سرور يحدث عن الشيخ الزاهد عبد الرحمن عشم المقري عن وجل حدثه بمصر- وكان يبغض الحافظ- أنه رأى قائلاً يقول له في المنام: إن أراد الله بك خيراً فأِنت تكون على ما هو عليه. وقال: الحافظ عبد الغني يدخل الجنة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال: على أثر النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: وسمعت الإِمام عبد الساتر بن يوسف بن علي العجمي قال: رأيت في المنام كأن أصحابنا في الجنة وأنا معهم. قلت: مثل من? قال: مثل الشيخ أبي عمر، والموفق، والحافظ. وكأن النار قد أقبلت ولها قتام وظلام، وهي تقرب إلينا حتى كادت أن تصل إلينا، فقال قائل: يا حافظ، اخرج إليها، فخرج الحافظ- رجل طويل فيه سمرة، ووصفه بجميع صفته، قال: ولم أبصر الحافظ قط- ومعه نهر مثل نهر يزيد ثلاث مرات، فبقي يجيء منها حجارة، فتقع في ذلك النهر فتطفى، وتبقى مثل الطواحين السود.

وقد ذكر الضياء غير ذلك من المنامات المرئية له في حياته وبعد مماته. رضي الله عنه.

وقد سمع الحديث من الحافظ عبد الغني الخلقُ الكثير. وحدث بأكثر البلاد التي دخلها، كبغداد ودمشق ومصر ودمياط وإصبهان. وحدث بالإسكندرية سنة سبعين وخمسمائة.

وروى عنه خلق كثير منهم: ولداه أبو الفتح، وأبو موسى، وعبد القادر الرهاوي، والشيخ موفق الدين، والحافظ الضياء، وابن خليل، والفقيه اليونيني، ويعيش بن ريحان الفقيه، وأحمد بن عبد الدائم، وعثمان بن مكي الشارعي، وأحمد بن حامد الأرتاحي، وإسماعيل بن عزون، وعبد الله بن علاف.

واَخر من سمع منه: محمد بن مهلهل الحسيني. وآخر من روى عنه بالإجازة أحمد بن أبي الخير سلامة الحداد.

ذكر شيء من فتاوى الحافظ عبد الغني ومسائله

نقلته من خط السيف بن المجد سئل عن حديث: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة" هل هو منسوخ?.

فأجاب: بل هو محكم ثابت، لكن زيد فيه وضم إليه شروط أخر، وفرائض فرضها على عباده. وذكر قول الزهري في ذلك.

وسئل عمن كان في زيادة من أحواله، فحصل له نقص? فأجاب: أما هذا، فيريد المجيب عنه أن يكون من أرباب الأحوال وأصحاب المعاملة، وأنا أشكو إلى الله تقصيري وفتوري عن هذا وأمثاله من أبواب الخير. وأقول: وبالله التوفيق: إن من رزقه الله خيراً من عمل أو نورِ قلب، أو حالة مرضية في جوارحه وبدنه، فليحمد الله عليها، وليجتهد في تقييدها بكمالها، وشكر الله عليها، والحذر من زوالها بزلة أو عثرة. ومن فقدها فليكثر من الاسترجاع، ويفزع إلى الاستغفار والاستقالة، والحزن على ما فاته، والتضرع إلى ربه، والرغبة إليه في عودها إليها، فإن عادت، وإلا إليه ثوابها وفضلها إن شاء الله تعالى.

وسئل مرة أخرى في معنى ذلك?

فأجاب: أما فقدان ما نجده من الحلاوة واللذة، فلا يكون دليلاً على عدم القبول فإن المبتدىء يجد ما لا يجد المنتهى، فإنه ربما مَلَّت النفس وسئمت لتطاول الزمان، وكثرة العبادة. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان ينهى عن كثرة العبادة والإِفراط فيها، ويأمر بالاقتصاد، خوفاً من الملَل. وقد روى "أن أهل اليمن لما قدموا المدينة جعلوا يبكون، فقال أبو بكر رضي الله عنه: هكذا كنا حتى قست القلوب".

وسئل عن يزيد بن معاوية? فأجاب: خلافته صحيحة. قال: وقال بعض العلماء: بايعه ستون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم ابن عمر. وأما محبته: فمن أحبه فلا ينكر عليه، ومن لم يحبه فلا يلزمه ذلك؛ لأنه ليس من الصحابة الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلتزم محبتهم إكراماً لصحبهم وليس ثمَّ أمر يمتاز به عن غيره من خلفاء التابعين، كعبد الملك وبنيه. وإنما يمنع من التعرض للوقوع فيه؛ خوفاً من التسلق إلى أبيه، وسدّاً لباب الفتنة.

وقال: روى عن إمامنا أحمد: أنه قال: من قال: الإيمان مخلوق، فهو كافر ومن قال: قديم، فهو مبتدع. قال: وإنما كفر من قال بخلقه؛ لأن الصلاة من الإِيمان، وهي تشتمل على قراءة وتسبيح وذكر الله عز وجل. ومن قال بخلق ذلك كفر. وتشتمل على قيام وقعود وحركة وسكون، ومن قال بقدم ذلك ابتدع.

وسئل عن دخول النساء الحمام? فأجاب: إِذا كان للمرأة عذر فلها أن تدخل الحمام لأجل الضرورة. والأحاديث في هذا أسانيدها متقاربة. قد جاء النهي والتشديد في دخولهن. وجاءت الرخصة للنفساء والسقيمة. والذي يصح عندي: أنها إذا دخلت محن عفر فلا بأس إن شاء الله، وإن استغنت عن الدخول، وكان لها عنه عناء، فلا تدخل. وهذا رأينا في أهلنا، ومن يأخذ بقولنا. نسأل الله التوفيق والعفو والعافية.

محمد بن سعد الله بن نصر بن سعيد بن الدجاجي الواعظ، أبو نصر بن

أبي الحسن: وقد سبق ذكر والده. ولد في رجب سنة أربع وعشرين وخمسمائة.

وسمع بإفادة أبيه، وبنفسه من أبيه، وأبي جعفر السمناني، والقاضي أبي بكر، وأبي منصور القزاز، وأبي القاسم السمرقندي، وعبد الوهاب الأنماطي وغيرهم. ورحل إلى الكوفة، فسمع بها من أبي الحسن بن غبرة الحارثي.

قال ابن نقطة: كان صحيح السماع.

وقال الدبيئي: شيخ حسن، فيه فضل وتمييز.

وقال القادسي: كان صالحاً خيراً، فاضلاً واعظاً، يقرض الشعر.

وقال ابن النجار: كان من أعيان المشايخ، ووجوه وعاظ مدينة السلام، مليح الوعظ، حسن الإيراد، حلو الألفاظ، كيساً متودداً، حسن الأخلاق، متواضعاً، فاضلاً صدوقاً. وله النثر والنظم الجيد. وكان يتكلم في عزاء الخلفاء والأفاضل والأماثل. وله تقدم ومكانة. ومما ذكر له من الشعر قوله- أنشده عنه ابن النجار-:

نفس الفتى إن صلحت أحوالها

 

كانت إلى نيل التقى أحوى لها

وإن تراها سددت أقـوالـهـا

 

كانت إلى حمل العلا أقوى لها

فلو تبدّت حال من لهـا لـهـا

 

في قبره عند البلا لهـالـهـا

وله:

يقول عيسى أدميتها بالمسـير

 

رفقاً بـنـا يا هـاشـمـي

إن شئت أن تلقى الغنى والمنى

 

عج بإمام من بنـي هـاشـمِ

فقل إذ لاح سـنـا قـصـره

 

يا نوق هذا نوره هاشـمـي

قال ابن القطيعي: أنشدته هذه الأبيات:

من لم يعدك إذ مرضـت

 

فلا تعـده ولا كـرامة

فإنِ الإلـهُ أمـاتـــه

 

فقد استرحت من الملامة

وإن الإلـهُ أقـامـــه

 

فالعذر تهنيك السـلامة

فقال مرتجلاً:

وأنا على هـذا أكـون

 

مدى الحياة إلى القيامة

حدث بالكثير ببغداد وواسط والموصل. وسمع منه خلق. وروى عنه: الدبيثي، النجار، والنجيب الحراني، وأخوه عبد العزيز.

وتوفي يوم الأربعاء خامس عشر من ربيع الأول إحدى وستمائة. ونودي له بجميع محال بغداد، فاجتمع له الناس من الغد، فصلَّى عليه بجامع السلطان. ودفن بباب حرب.

أخبرنا أبو الفتح الميدومي أخبرنا أبو الفرج الحراني أخبرنا أبو نصر بن الدجاجي أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن محمد بن غيرة أخبرنا أبو الفرج محمد بن أحمد بن علان أخبرنا أبو عبد الله بن عبد الله النهرواني حدثنا محمد بن جعفر بن رباح الأشجعي حدثنا علي بن المنفر الطريفي حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان حدثنا أبي عن أبي حازم أبي هريرة قال: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من طعام ثلاثة أيام، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عبد المنعم بن علي بن نصر بن منصور بن هبة الله النميري الحراني الفقيه الواعظ، أبو محمد:

ويلقب نجم الدين. من أهل حران، رحل إلى بغداد في صباه سنة ثمان وسبعين لطلب العلم. فسمع من أبي الفتح بن شاتيل، وأبي السعادات القزاز، وغيرهما.

وتفقه على أبي الفتح بن المنى، حتى حصل طرفاً صالحاً من المذهب والخلاف. ثم عاد إلى حِران. ثم قدم بغداد مرة أخرى سنة ست وتسعين ومعه ولداه: النجيب عبد اللطيف، والعز عبد العزيز، فسمع، وأسمعهما الكثير. وقرأ على الشيوخ. وكتب وحصل وناظر في مجالس الفقهاء، وحلق المناظرين، ودرس وأفاد الطلبة، واستوطن بغداد، وعقد بها مجلس الوعظ بعدّة أماكن.

ذكر ذلك ابن النجار. وقال: كان مليح الكلام في الوعظ، رشيق الألفاظ، حلو العبارة، كتبنا عنه شيئاً يسيراً. وكان ثقة صدوقاً، متحرياً حسن الطريقة، متديناً متورعاً نزهاً عفيفاً، عزيز النفس مع فقر شديد. وله مصنفات حسنة وشعر جيد. وكلام في الوعظ بديع. وكان حسن الأخلاق، لطيف الطبع متواضعاً، جميل الصحبة.

وقال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: كان صالحاً ديناً، نزهاً عفيفاً، كيساً لطيفاً متواضعاً، كثير الحياء. وكان يزور جلى ويسمع معنا الحديث. وذكر أنه استوطن بغداد لوحشة جرت بينه وبين خطيب حران ابنّ تيمية فإنه خشي منه أن يتقدم عليه. فلما استشعر ذلك منه عاد إلى بغداد وسكنها.

قال: وحضر مجالسه بباب المشرعة. وكان يقصد التجانس في كلامه. وسمعته ينشد:

وأشتاقكم يا أهل وُدي وبينـنـا

 

كما زعم البين المُشتّ فراسخ

فأما الكرَى عن ناظري فمشرد

 

وأما هواكم في فؤادي فراسخ

وذكره الناصح ابن الحنبلي، فقال: اشتغل بالفقه. وسمع درس شيخنا ابن المنى. وتكلم في مسائل الخلاف، واشتغل بالوعظ، وفتح عليه بالنظم والنثر ورجع إلى حران، ووعظ بها مدة، ثم سافر إلى دمشق وحضر مجلسي، وسألناه أن يجلس فامتنع، وقال: ما أجلس في بلد تجلس أنت فيه. كأنه يكرمني بذلك. ثم عاد إلى بغداد.

وقال ابن القادسي: كان ديّناً، صالحاً ذا معرفة، عذب العبارة، مليح الكلام، كيساً، متواضعاً، عقد مجالس الوعظ ببغداد.

قلت: وقد سبق في ترجمة شيخه ابن المني مرثية له فيه. وكان يفتي ببغداد مع أكابر فقهائها.

قال ابن النجار: توفى يوم الخميس سادس عشر ربيع الآخر سنة إحدى وستمائة. ونودي بالصلاة عليه في البلد. فاجتمع له الناس من الغد بجامع القصر، فصلينا عليه. وكان الجمع متوافراً، ثم صلَّى عليه نوبة ثانية بالمدرسة النظامية، ودفن بباب حرب، وأظنه قارب االخمسين أو بلغها رحمه الله.

قلت: وله أخ يقال له محمود، يكنى أبا الثناء، كان فقيهاً بارعاً، رأيت له تصنيفاً، سماه "الإنبا، عن تحريم الربا"، تكلم فيه على بيع الفضة المغشوشة بالخالصة، ورأيت له سماعاً على أحمد بن أبي الوفاء الفقيه جزء ابن عرفة، وعلى حماد الحراني، وربما قيل في نسب كل منه ومن أخيه: ابن الصيقل، وابن الصقال.

محمد بن حمد بن حامد بن مُفَرِّجِ بن غياث الأنصاري

الأرتاحي المصري، أبو عبد الله بن أبي الثناء، ولد سنة سبع وخمسمائة تخميناً.

وسمع بمصر من أبي الحسن علي بن نصر بن محمد بن عفير الأراحي العابد وغيره، وبمكة: من المبارك بن الطباخ. وأجاز له أبو الحسن علي بن الحسين بن عمر الموصلي الفراء، وتفرد بإجازته، وحدث بها بشيء كثير.

قال المنذري: كتب عنه جماعة من الحفاظ، وغيرهم، من أهل البلد، والواردين عليها، وحدثوا عنها. وهو أول شيخ سمعت منه الحديث. ونعته بالشيخ الأجل الصالح أبي عبد الله محمد ابن الشيخ الأجل الصالح أبي الثناء حمد.

قال: وهو من بيت القرآن والحديث والصلاح. حدث من بيته غير واحد وأقرأ. وروى عنه ابن خليل في معجمه، ونعته بالإمام.

توفى في العشرين من شعبان سنة إحدى وستمائة بمصر. ودفن من الغد بتربتهم، بسفح جبل المقطم. رحمه الله.

وفي يوم السبت سلخ سنة إحدى وستمائة توفي يوسف بن سعيد البناء الأزجي الحنبلي، المحدث. ودفن يوم الأحد مستهل المحرم. سمع كثيراً وكتب بخطه.

جبريل بن صارم بن أحمد بن علي بن سلامة الصعبي المصري، أبو الأمانة، الأديب:

قدم بغداد سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وهو فقير. فتفقه في المذهب، وقرأ الخلاف. وصار يتكلم في المسائل مع الفقهاء، وجالس النحاة، وحصل طرفاً صالحاً من الأدب، وقال الشعر الجيد.

وسمع الحديث من أبي الفرج بن الجوزي وغيره، ومدح الخليفة الناصر بعدة قصائد، وأثرى، ونبل مقداره، واشتهر ذكره، فنفذ من الديوان في رسالة إلى الخوارزم شاه.

وسمع الحديث من مشايخ خراسان. وحصل نسخاً بما سمع. ثم عاد إلى بغداد، وقد صار له الغلمان الترك والمراكب، ولم يزل يرسل من الديوان إلى خوارزم شاه، إلى أن قبض عليه لسبب ظهر منه، فسجن بدار الخلافة، وانقطع خبره عن الناس.

روى عنه من شعره ابن القطيعي، وعلي بن الجوزي. ولم أقف على وفاته.

ومما أنشده عنه ابن القطيعي، وكناه أبا الآثار:

لا غرو إن أضحت الأيام توسعني

 

فقراً، وغيري بالإثراء مـوسـوم

فالحرف في كل حال غير منتقص

 

ويدخل الاسم تصغير وتـرخـيم

علي بن عمرو بن فارس الحداد الباجسرائي

ثم البغدادي، الأزجي الفرصْي، أبو الفرج: تفقه على أبي حكيم النهرواني وقرأ الفرائض والحساب. وكان فيه فضل ومعرفة. وتقلب في الخدم الديوانية. ذكره المنذري. وقال: توفى ليلة رابع شعبان، سنة ثلاث وستمائة، ودفن من الغد بمشهد عبيد الله بالجانب الشرقي من بغداد. رحمه الله تعالى.

عبد الحليم بن محمد بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد ابن تيمية، أبو محمد ابن الشيخ فخر الدين:

وسيأتي ذكر والده. ولد سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.

وسمع الحديث ببغداد من ابن كليب، وابن المعطوش، وابن الجوزي، وأبي أحمد ابن سكينة وغيرهم.

وأقام ببغداد مدة طويلة. وقرأ الفقه، والأصول، والخلاف، والحساب، والهندسة، والفلسفة، والعلوم القديمة، حتى برع في ذلك كله. ذكر ذلك ابن النجار. أن الحافظ ضياء الدين سمع منه جزء ابن عرفة عن ابن كليب.

وتوفى سادس شوال، سنة ثلاث وستمائة بحران. رحمه الله.

وذكر والده في كتابه "الترغيب" أن لولده عبد الحليم هذا- كتاباً سماه "الذخيرة ". وذكر عنه فروعاً في دقائق الوصايا، وعويص المسائل الدورية، ونحوها.

عبد الرزاق بن عبد القادر بن أبي صالح الجيلي البغدادي، الحلبي، المحدث الحافظ، أبو بكر ابن الزاهد أبي محمد

وقد سبق ذكر والده وأخيه، عبد الوهاب.

ولد عبد الرزاق عشية يوم الاثنين ثامن عشر ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وخمسمائة ببغداد.

وسمع الكثير بإفادة والده، وبنفسه من أبي الحسين محمد بن أحمد بن صرما، وأبي الفضل الإرموي، وابن ناصر الحافظ، وأبي بكر بن الزاغوني، وأبي الكرم الشهرزوري، وأحمد بن طاهر الميهني، وسعيد بن البناء، وأبي الوقت وطبقتهم، وعني بهذا الشأن، وحصل الأصول، وتفقه على والده. وكانت له معرفة بالمذهب، ولكن معرفته بالحديث غطت على معرفته بالفقه.

قال ابن نقطة: كان حافظاً ثقة مأموناً.

وقال الحافظ الضياء: لم أرَ ببغداد أحداً في تيقظه وتحريه مثله، وأثنى عليه الدبيثي. وغيره.

وقال ابن النجار: كان حافظاً متقناً، ثقة صدوقاً، حسن المعرفة بالحديث، فقيهاً على مذهب أبي عبد الله أحمد بن حنبل، ورعاً متديناً، كثير العبادة، منقطعاً في منزله عن الناس، لا يخرج إلا في الجمعات، محباً للرواية، مكرماً لأهل العلم، سخياً بالفائدة، ذا مروءة، مع قلة ذات يده، وأخلاق حسنة، وتواضع وكيس، وكان خشن العيش، صابراً على فقره، عزيز النفس عفيفاً، على منهاج السلف.

قال أبو شامة في تاريخه: كان زاهداً عابداً ورعاً، لم يكن في أولاد الشيخ مثله، كان مقتنعاً من الدنيا باليسير، ولم يدخل فيما دخل فيه غيره من إخوته.

قال الذهبي: حدث عنه أبو عبد الله الدبيثي، وابن النجار، والضياء المقدسي، والنجيب عبد اللطيف، والتقى البلداني، وابنه قاضي القضاة أبو صالح، وآخرون.

وتوفي ليلة السبت سادس شوال سنة ثلاث وستمائة، وحمل من الغد على الرؤوس، وصلَى عليه بالمصلى، ثم بجامع الرصافة، وبمواضع متعددة، وشيعه الخلق الكثير. وكان يوماً مشهوداً. ودفن بمقبرة الإِمام أحمد رضي الله عنه.

أخبرنا أبو الفتح الميدومي- بمصر- أخبرنا أبو الفرج الخراني، أنبأنا الحافظ أبو بكر عبد الرزاق بن عبد القادر، أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن صرما، أخبرنا أبو منصور عبد الباقي بن محمد العطار، أخبرنا أبو طاهر المخلط، قال: قرىء على أبي كريب- وأنا أسمع- حدثكم عبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، ضُرب وغُرَب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب" رواه الترمذي، والنسائي عن أبي كريب.

عبد الرحمن بن عيسى بن أبي الحسن، علي بن الحسين البزوري

البغدادي، البابصري، الواعظ، أبو محمد، وأبو الفرج... ولد سنة تسع وثلاثين وخمسمائة.

وسمع من أبي الوقت، وهبة الله بن السبكي، وأبي المظفر بن البرمكي، وأبي محمد المادح، وأبي المعالي بن النحاس وغيرهم.

وقرأ الوعظ، والفقه، والحديث، على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي. وكان خصيصاً به، ثم تهاجرا، وتباينا، إلى أن فرق الموت بينهما.

قال سبط ابن الجوزي: ثم حدثته نفسه بمضاهاة جدي، وكنى نفسه بكنيته، واجتمع إليه سفساف أهل باب البصرة، وانقطع عن جدي. ولما جاء من واسط، ما جاء إليه، ولا زاره. وتزوج صبية وهو في عشر السبعين، فاغتسل في يوم بارد، فانتفخ ذكره، فمات.

وقال القادسي: كان تلميذ شيخنا ابن الجوزي، وصحبه مدة وانتفع به، ووعظ بجامع المنصور.

قال: وسمعته يقول بعض الأيام على الكرسي: إن الثعبان لم يلدغ أبا بكر الصديق، ولم يصح ذلك، فذكرنا ذلك لشيخنا ابن الجوزي، فقال: إن هذا الحديث قد ذكره اللالكائي، وكان من سادة أهل الحديث، وأن ابن عيسى قال كلمات كتبها من عندي.

قال: وسمعته يقول: إن مشهد المستقة لم يصح أن علياً اشتراه بمستقته. وذكر قصته، وأن الرافضة وضعوا ذلك، قال: وقد صرح شيخنا ابن الجوزي بكذبه لما بان له منه.

قلت: لا ريب في وقوع العداوة بينهما.

قال: وهو منسوب إلى قرية بزور، قرية بدجيل.

وقال ابن القطيعي: رفيقنا، كان فيه دين. وأنشدني من شعره شيئاً.

وقال ابن النجار: وتفقه على مذهب الإِمام أحمد ووعظ. وكان صالحاً، حسن الطريقة، خشن العيش، غزير الدمعة عند الذكر، كتبت عنه، وهو الذي جمع سيرة ابن المنى، وطبقات أصحابه، وذكر فيها: أنه لزمه، وقرأ عليه، وكلامه فيها يدل على فصاحته ومعرفته بالفقه والأصول والجدل.

وقد ذكره الحافظ الضياء، فقال: شيخنا الواعظ، أبو محمد. ولكن ابن الجوزي وأصحابه يذمونه.

توفي ليلة الإثنين السادس من شعبان سنة أربع وستمائة، وصلي عليه من الغد بجامع المنصور، وحمله الناس كلى رؤوسهم إلى باب حرب ودفن هناك. رحمه الله تعالى.

محمد بن النفيس بن مسعود بن أبي سعد بن علي السلامي

الطحان الفقيه الأديب، أبو سعد ابن الفقيه أبي محمد، ويلقب شمس الدين: وقد سبق ذكر والده. ولد أبو سعد في ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة.

وقرأ القرآن، وسمع من أبي علي أحمد بن محمد بن أحمد الرحبي، وأبي محمد بن الخشاب النحوي، وشهده. وقرأ الفقه على ابن المنى.

وذكر القطيعي: فقال: شاب حسن الخلق والخلق، من أهل القرآن والفقه. كان يسمع معنا الحديث.

وقال ابن القادسي: كان فقيهاً حسناً، خيراً متميزاً.

وقال المنذري: حدث بشيء من تأليفه. توفى ليلة ثاني عشرين من شوال، سنة أربع وستمائة. ودفن من الغد بمقبرة الزرادين.

وكذا ذكره ابن القادسي، وزاد: ليلة الجمعة، وصلى عليه يوم الجمعة بجامع القصر. وقال ابن القطيعي: في ذي القعدة.

قرىء على أبي الفتح الميدومي- بمصر- وأنا أسمع- أخبركم أبو الفرج الحراني- سماعاً- قال: أنشدنا أبو عبد الله، وأبو سعد محمد بن النفيس، من شعره نفسه:

رِقَّ يا من قلبـه حـجـر

 

لجفون حشوها سـهـر

ولجسم مـا لـنـاظـره

 

منه إلا الرسـم والأثـر

فغرامي لو تـحـمـلـه

 

صخر رَضْوَى كاد ينفطر

إن لومـي فـي هـواك

 

لَمن شر ما يأتي به القدر

يا بديعاً جل عن شـبـه

 

ما يداني حسنك القمـر

صل ووجه الدهر مقتبل

 

فزمان الوصل مختصر

وقد كتب القطيعي عنه، وزاد بيتاً آخر، وهو:

كم رأينا وجنة فتنت

 

فمحى اَثارها الشعر

عبد الله بن أبي الحسن بن أبي الفرج الجبائي

الطرابلسي الشامي، الفقيه الزاهد أبو محمد، نزيل إصبهان. وسمي المنذري جَدَّه أبا الفضلَ، والأول أصح، قال القطيعي: سأله عن مولده. قال: سنة إحدى وعشرين وخمسمائة تقريباً.

وقال المنذري: مولده سنة تسع عشرة- أو سنة عشرين- وخمسمائة.

وقال القطيعي: سألته عن نسبه. فقال لي: نحن من قرية يقال لها: الجبة، من ناحية بشري، من أعمال طرابلس، في جبل لبنان، وكنا قوماً نصارى، فتوفى أبي ونحن صغار. وكان أبي من علماء النصارى، وهم يعتقدون فيه أنه يعلم الغيب، فلما مات نفذت إلى المعلم، فقالت والدتي: ولدي الكبير للكسب وعمارة أرضنا، وولدي الصغير يضعف عن الكسب- وأشارت إليَّ- ولنا أخ أوسط، فقال المعلم: أما هذا الصغير- يعنيني- فلا يتعلم العلم، ولكن هذا- وأشار إلى أخي- فأخذه وعلمه ليكون مقام أبي. فقدر الله أن وقعت حروب. فخرجنا من قريتنا. فهاجرت من بينهم. وكان في قريتنا جماعة من المسلمين يقرأون القرآن. فإذا سمعتهم أبكي. فلما دخلت أرض الإسلام أسلمت، وعمري أحد عشر سنة. ثم بلغني إسلام أخي الكبير. وتوفي مرابطاً. ثم اِّسلم أخي الصغير الذي كان يعلمه المعلم. ودخلت بغداد في سنة أربعين وخمسمائة.

قلت: وقد أصابه سَبى واسترق.

فذكر أبو الفرج بن الحنبلي- ونقلته من خطه- قال: كان مملوكاً، فقرأ القرآن في حلقة الحنابلة- يعني بجامع دمشق- فحفظه، وحفظ شيئاً من عبادات المذهب الحنبلي، فقام قوم إلى الشيخ زين الدين علي بن إبراهيم بن نجا الواعظ، وهو على منبر الوعظ، فقالوا: هذا الصبي قد حفظ القرآن وهو على خير، نريد أن نشتريه ويعتق، فاشترى من سيده وأعتق، وسافر عن دمشق، وطلب همدان، ولقي الحافظ أبا العلاء الهمداني، فأقام عنده. وقرأ عليه القراَن. وسمع الحديث، وصار عند الحافظ مصدراً يقرىء الناس، ويأخذ عليهم. واشتهر بالخير والعلم، ودخل العجم. وسمع الكثير، ورجع إلى بغداد، وسمع حديثها، ولقي مشايخها.

قال: ولقيته ببغداد، واستزارني إلى بيته. وقال لجماعته: أنا مملوك بيت الحنبلي. ثم سافر إلى إصبهان.

وقال الشيخ موفق الدين المقدسي: كان- يعني الجبائي- رجلاً صالحاً. وهو من "جبة" طرابلس. وسُبي من طرابلس صغيراً، ثم اشتراه ابن نجية وأعتقه، فسافر إلى بغداد، ثم إلى إصبهان. وكان يستمع معنا الحديث. انتهى.

سمع الشيخ أبو محمد ببغداد من ابن ناصر الحافظ الإِرموي، وابن الطلاية وسعيد بن البنا، ودعوان بن علي الحسني وأبي علي حمد بن شاتيل القاضي، وأبي المعمر الأنصاري وغيرهم.

وسمع بإِصبهان من أبي الخير الباغباني، ومسعود الثقفي، وغيرهما.

وتفقه ببغداد على أبي حكيم النهرواني. وأخذ عنه القطعة التي كتبها من شرح الهداية. وصحب الشيخ عبد القادر الجيلي مدة، مائلاً إلى التزهد والصلاح والخير والانقطاع، وانتفع به. وكان يحكي عنه كثيراً من أحواله وكراماته.

قال ابن النجار: كتب إليّ عبد الله بن أبي الحسن الجبائي ونقلته من خطه قال: كنت أسمع كتاب "حلية الأولياء" على شيخنا أبي الفضل بن ناصر، فرق قلبي، وقلت في نفسي: أشتهي أن أنقطع عن الخلق وأشتغل بالعبادة، ومضيت وصليت خلف الشيخ عبد القادر فلما صلى جلسنا بين يديه فنظر غلي وقال: إذا أردت الانقطاع فلا تنقطع حتى تتفقه وتجالس الشيوخ وتتأدب بهم، فحينئذ يصلح لك الانقطاع، وإلا فتمضي وتنقطع قبل أن تتفقه، وأنت فُرَيخ ما رَبشت فإن أشكل عليك شيء من أمر دينك تخرج من زاويتك، وتسأل الناس عن أمر دينك? ما يحسن بصاحب الزاوية أن يخرج من زاويته، ويسأل الناس عن أمر دينه. ينبغي لصاحب الزاوية أن يكون كالشمعة يستضاء بنوره.

قال: وكان الشيخ يوماً يتكلم في الإِخلاص والرياء والعجب، وأنا حاضو في المجلس، فخطر في نفسي: كيف الخلاص من العجب? فالتفت إلي الشيخ، وقال: إذا رأيت الأشياء من الله، وأنه وفقك لعمل الخير، وأخرجت نفسك من الشين سلمت من العجب.

يليه الجزء الثاني ...==

ج2. ذيل طبقات الحنابلة

لابن رجب الحنبلي رحمه الله

الجزء الثاني

 

قال أبو الفرج بن الحنبلي- وكتبته من خطه-: كانت حرمة الشيخ عبد الله الجبائي كبيرة ببغداد. فلما دخلت إصبهان سنة ثمانين وجدته فيها وهو عظيم الحرمة، فكان كل يوم يأتي إلى زيارتي. وبجاهه سمعت على الحافظ أبي موسى الجزء من السباعيات، فإنه كان مريضاً. وقد حجب الناس عنه، فلم يقدروا على حجب الشيخ عبد الله، فدخلنا معه، فأخذ الإذن من الحافظ أبي موسى لي في القراءة عليه. وكان إذا مشى في السوق قام له أهل السوق. وحكى لي الشيخ طلحة- يعني العلثي- أن للشيخ عبد الله- يعني الجبائي- رياضات ومجاهدات يطول ذكرها.

وحدثني الشيخ طلحة عنه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: يا رسول الله، أيثاب الرجل على قراءة القرآن. فقال: نعم. فقال: يا رسول الله، بفهم وبغير فهم? قال: بفهم وبغير فهم. قال: فقلت: يا رسول الله كلام الله بحرف وبصوت? فقال: وهل يكون كلام بغير حرف وصوت? وهل يكون كلام بغير حرف وصوت? قال: وهذا المنام عندي بخط الشيخ طلحة رحمه الله.

حدث الجبائي رحمه الله ببغداد وإصبهان. وروى عنه ابن الجوزي عدة منامات في كتبه. وقال: كان من الصالحين.

وسمع منه القطيعي وغيره ببغداد. وروى عنه ابن خليل في معجمه، سمع منه بإصبهان.

توفى في ثالث جمادى الآخرة سنة خمس وستمائة بإصبهان. ذكره ابن نقطة والمنذري. وقال القطيعي: في مستهل الشهر المذكور.

أخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الأنصاري أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أبي الحسن الجبائي- إذناً- أنبأنا أبو العباس أحمد بن أبي غالب ابن الطلاية أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن الأنماطي أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الذهبي حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا حماد بن ملمة عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة: "أن رجلاً زار أخاً له في قرية، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً. فلما أتى عليه، قال: أين تريد? قال: أردت أخاً لي في قرية كذا وكذا. قال: هل له عليك من نعمة تَرُّبُها? قال: لا، إلا أني أحببته في الله تعالى: قال: إني رسول الله إليك: أن الله قد أحبك كما أحببته فيه".

علي بن رشيد بن أحمد بن محمد بن حسيتا الحربوي

من أهل حربا الدجيل من سواد بغداد. قدم بغداد في صباه. وصحب عمه لأمه أبا المعالي سعد بن علي الحاطري. وقرأ عليه الأدب. وحفظ القرآن. وتفقه في المذهب.

وسمع الحديث من أبي الوقت، ونصر العكبري، وسعيد بن البنا، وأبي بكر بن الزاغوني، وغيرهم.

وشهد عند الحكام، وتوكل للخليفة الناصر، ورفع قدره ومنزلته، ثم عزل عن الوكالة. وكان ذا طريقة حميدة، وحسن سمت واستقامة، وعفة ونزاهة فاضلاً خيراً. يكتب خطاً حسناً على طريقة ابن مُقْلة، حدث بشيء يسير.

سمع منه إسحاق العلثي. وكان يكره الرواية. ويقل مخالطة الناس.

ذكره ابن النجار. وقال: توفي يوم السبت ثامن عشر شوال سنة خمس وستمائة، وصُلْي عليه من الغد بالمدرسة النظامية. ودفن بباب حرب. قال: وأظنه قارب السبعين، رحمه الله.

إسماعيل بن عمر بن نعمة بن يوسف بن شبيب الرومي

المصري العطار الأديب البارع، أبو الطاهر بن أبي حفص: ولد سنة إحدى وخمسين وخمسمائة تقديراً. وكان بارعاً في الأدب. له مصنفات أدبية، منها: مائة جارية، ومائة غلام، وغير ذلك. وكان بارعاً في معرفة العقاقير. ذكره المنذري وقال: رأيته، ولم يتفق لي السماع منه. وكتبت شيئاً من شعره عن الفقيه أبي الحرم مكي بن عمرو.

توفي في عشرين محرم سنة ست وستمائة بمصر. ودفن إلى جنب أبيه بسفح المقطم على جانب الخندق. وكان أبوه رجلاً صالحاً مقرئاً، وأخوه مكي هو الذي ذكر الضياء أنه جمع سيرة الحافظ عبد الغني المقدسي. وقد ذكرنا ذلك في ترجمته. وسيأتي ذكر مكي إن شاء الله تعالى.

أسعد، ويسمى محمد بن المنجا بن بركات بن المؤمل التنوخي

المقرىء، ثم الدمشقي، القاضي وجيه الدين أبو المعالي: ويقال في أبيه: أبو المنجا. في جده أبو البركات، ولد سنة تسع عشرة وخمسمائة.

وسمع بدمشق من أبي القاسم نصر بن أحمد بن مقاتل السوسي. وببغداد من أبي الفضل الإرموي، وأبي العباس المايدائي، وأبي مسكين الرضواني، والنقيب أبي جعفر أحمد بن محمد العباسي.

قال المنذري: وتفقه ببغداد على مذهب الإِمام أحمد مدة. وحصل طرفاً من معرفة المذهب.

وقال الدبيسي: ارتحل إلى بغداد وتفقه بها. وبرع في المذهب. وأخذ الفقه عن الشيخ عبد القادر الجيلي وغيره. وتفقه بدمشق على شرف الإِسلام عبد الوهاب ابن الشيخ أبي الفرج. أخذ عنه الشيخ الموفق. وروى عنه جماعة.

وقرأت بخط ناصح الدين أبي الفرج بن الحنبلي في حقه: كان رحل إلى بغداد، فقرأ على الفقيه أحمد الحربي كتاب "الهداية". وكتب خطه له بذلك، وعاد إلى دمشق. وكان رأى شرف الإِسلام جدي، وانتهى إليه، وطلب الفقيه حامد بن أبي الحجر شيخ حران قاضياً بحران من نور الدين- ونور الدين يومئذ صاحب دمشق- فأشار به، فسُيَر إلى حران قاضياً، فأقام مدة. ثم رجع إلى دمشق، فأقام مدة. ثم رجع إلى حران قاضياً.

وقال ناصح الدين أيضاً. كان أبو المعالي بن المنجا يدرس في المسمارية يوماً وأنا يوماً. ثم استقليت بها في حياته. وكان له اتصال بالدولة وخدمة السلاطين وأسنّ وكبِر، وكُفّ بصره في آخر عمره.

وله تصانيف، منها: كتاب "الخلاصة في الفقه" مجلد، وكتاب "العمدة" في الفقه أصغر منه، كتاب "النهاية في شرح الهداية" في بضعة عشر مجلداً. وفيها فروع ومسائل كثيرة غير معروفة في المذهب. والظاهر: أنه كان ينقلها من كتب غير الأصحاب، ويخرجها على ما يقتضيه عنده المذهب.

وحدث وسمع منه جماعة، منهم الحافظ المنذري، وروى عنه ابن خليل في معجمه. وابن البخاري.

وتوفى في ثاني عشرين ربيع الأول سنة ست وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأنصاري أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد المقدسي أخبرنا أبو المعالي أسعد بن المنجا التنوخي أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن عبد العزيز العباسي أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن عبد الرحمن المكي أخبرنا أبو الحسين أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن فراس المكي حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا جدي حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد عن أنس قال: "صَبَّحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فخرجوا إلينا ومعهم المساحي. فلما رأوه قالوا: محمد والخميس، ورجعوا إلى الحصن يسعون. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: الله أكبر، خربت خيبر- ثلاثاً- إنا إذا نزلنا بساحة قوم ساء صباح المنذَرين. قال: فأصبنا فيها حُمُراً، فطبخناها، فإذا منادي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر فإنها رجس".

قرأت بخط السيف بن المجد الحافظ قال: حدثني الإِمام رحمه الله- يعني الشيخ موفق الدين- حدثني القاضي أبو المعالي أسعد بن المنجا قال: كنت يوماً عند الشيخ أبي البيان- وقد جاءه ابن تميم- قال له: ويحك، الحنابلة إذا قيل لهم: من أين لكم أن القرآن بحرف وصوت? قالوا: قال الله تعالى الم، حم، كهيعص وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات"، وقال عليه الصلاة والسلام "يجمع الله الخلائق- وذكر الحديث"، وأنتم إذا قيل لكم: من أين قلتم إن القرآن معنى في النفس? قلت: قال الأخطل:

إن الكلام من الفؤاد، وإنمـا

 

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فالحنابلة أتوا بالكتاب والسنة، وقالوا: قال الله تعالى، وقال رسوله، وأنتم قلتم: قال الأخطل، شاعر نصراني خبيث. أما استحييتم من هذا القبيح? جعلتم دينكم مبنياً على قول نصراني، وخالفتم قوله الله تعالى، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كما قال.

وقد قال أبو محمد بن الخشاب النحوي: فتشت دواوين الأخطل العتيقة، فلم أجد فيها هذا البيت، فقال أبو نصر السجزي: إنما قال الأخطل "إن البيان من الفؤاد" فحرفوه، وقالوا: إن الكلام.

المبارك بن أبي شتيكين بن عبد الله النجمي السيدي البغدادي المعدل الأديب أبو القاسم:

ولد بعد الأربعين وخمسمائة بقليل.

وسمع من أبي المظفر البرمكي الخطيب، وهبة الله بن الشبلي، وأبي محمد بن الخشاب، وأبي محمد بن المادح، وابن إلبطي، وغيرهم.

وقرأ الأدب على أبي الحسن القصار. وجالس أبا محمد بن الخشاب، وغيره من أهل العلم والأدب.

وقال القادسي في تاريخه: كان فاضلاً. وشهد عند القاضي أبي القاسم الشهرزوري. وكان وكيل الخليفة الناصر بباب طراد، وبقي على ذلك إلى موته.

قال ابن نقطة: سمعت منه. وكان ثقة عالماً فاضلاً، متميزاً أديباً، حنبلي المذهب خيراً صالحاً ديناً. وروى عنه ابن خليل في معجمه.

توفي في حادي عشر صفر سنة سبع وستمائة. ذكره ابن نقطة، والمنذري، وزاد: ودفن من يومه بباب حرب.

وذكر القادسي: أنه توفى يوم السبت رابع عشر صفر. قال: وصلَّى عليه بجامع القصر جماعة من الأعيان. رحمه الله.

قال المنذري: وهو منسوب إلى ولاء خادم يقال له: نجم، مملوك السيدة أخت المستنجد بالله.

محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله جماعيلي

المقدسي، ثم الدمشقي الصالح، الزاهد العابد الشيخ أبو عمر: قال ابن أخته حافظ ضياء الدين: مولده سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بجماعيل. شاهدته بخط والده. وهاجر به والده وبأخيه الشيخ الموفق وأهلهم إلى دمشق سنة إحدى وخمسين؛ لاستيلاء الفرنج على الأرض المقدسة، فنزلوا بمسجد أبي صالح ظاهر باب شرقي، فأقاموا به مدة نحو سنتين، ثم انتقلوا إلى الجبل.

قال أبو عمر: فقال الناس: الصالحية، الصالحية، ينسبونا إلى مسجد أبي صالح، لا أنا صالحون.

قال أبو الفرج بن الحنبلي- ونقلته من خطه-: أنزلهم والدي في مسجد أبي صالح، استوخم المسجد عليهم، فمات منهم في شهر واحد قريب أربعين نفساً فأشار عليهم والدي بالانتقال إلى الجبل حيث هم الآن، فانتقلوا إليه. وكان رأياً مباركاً. حفظ الشيخ أبو عمر القراَن. قرأه بحرف أبي عمرو.

وسمع الحديث من والده، وأبي المكارم بن هلال، وأبي تميم سلمان بن الرحبي، وأبي نصر عبد الرّحيم بن عبد الخالق بن يوسف، وأبي الفتح عمر بن علي بن حمويه، أبي المعالي بن صابر، وأبي محمد عبد الله بن عبد الواحد الكناني، وأبي عبد الله حمد بن علي الحراني، وأبي الفهم عبد الرحمن بن عبد العزيز الأزدي، ويحيى بن حمود الثقفي، ومحمد بن حمزة بن أبي الصقر.

وقدم مصر، فسمع بها من الشريف أبي المفاخر سعيد بن الحسن الماموني وأبي محمد بن بري النحوي، وخرج له الحافظ عبد الحافظ عبد الغني المقدسي أربعين حديثاً من رواياته، وحدث بها.

وسمع منه جماعة، منهم: الضياء، والمنذري، وروى عنه ابن خليل، وولده أبو الفرج عبد الرحمن، قاضي القضاة، وحفظ منه مختصر الخرقي في الفقه.

وتفقه في المذهب. وقرأ النحو على ابن بري بمصر، وأظنه حفظ "اللمع" لابن جني.

وكتب بخطه كثيراً، من ذلك: "الحلية" لأبي نعيم، و "تفسير البغوي"، و "المغني" في الفقه لأخيه الشيخ موفق الدين، و "الإبانة" لابن بطة، وكتب مصاحف كثيرة لأهله، وكتب "الخرقي" للناس، والكل بغير أجرة. وكان سريع الكتابة، وربما كتب في اليوم كراسين بالقطع الكبير.

قال الحافظ الضياء: وكان الله قد جمع له معرفة الفقه، والفرائض، والنحو، مع الزهد والعمل. قال: وكان لا يكاد يسمع دعاء إلا حفظه ودعا به، ولا يسمع ذكر صلاة إلا صلاها، ولا يسمع حديثاً إلا عمل به. وكان يصلَّي بالناس في نصف شعبان مائة ركعة، وهو شيخ كبير، وكأنه أنشط الجماعة، وان لا يترك قيام الليل من وقت شبوبيته، وسافر هو وجماعة، فقام في الليل يصلَّي ويحرس الجماعة، وقلل الأكل في مرضه قبل موته، حتى عاد كالعود، ومات وهو عاقد على أصابعه يسبح.

قال: وحدثت عنه زوجته قالت: كان يقوم الليل، فإذا جاءه النوم، عنده قضيب يضرب به على رجليه، فيذهب عنه النوم.

قال: وكان كثير الصيام سفراً وحضراً.

قال ولده عبد الله: إنه في آخر عمره سرد الصوم، فلامه أهله، فقال: إنما أصوم أغتنم أيامي؛ لأني إن ضعفت عجزت عن الصوم، وإن مت انقطع عملي. وكان لا يكاد يسمع بجنازة إلا حضرها، ولا بمريض إلا عاده، ولا جهاد إلا خرج فيه. وكان يقرأ في الصلاة كل ليلة سبعاً مُرَتِّلاً، ويقرأ في النهار سُبعاً بين الظهر والعصر، فإذا صلى الفجر قرأ آيات الحرس بعد أن يفرغ من التسبيح. وكان قد كتب في ذلك كراسة، وهي معلقة في المحراب، وربما قرأ فيها خوفاً من النعاس، ثم يقرأ ويلقن إلى ارتفاع النهار، ثم يصلَّي الضحى صلاة طويلة. وكان يسجد سجدتين طويلتين، إحداهما في الليل، والآخرى في النهار، يطيل فيهما السجود، ويصلَّي بعد أذان الظهر قبل سنتها في كل يوم ركعتين، يقرأ في الأولى أول المؤمنون، وفي الثانية آخر الفرقان. وكان يصلِّي بين المغرب والعشاء أربع ركعات، يقرأ فيهن السَّجدة، ويس، وتبارك والدخان. ويصلَّي كل ليلة جمعة بين العشاءين صلاة التسبيح ويطيلها، ويصلَّي يوم الجمعة ركعتين بمائة "قل هو الله أحد" "الإخلاص: 1"، وكان يصلي في كل يوم وليلة اثنتين وسبعين ركعة نافلة، وله أوراد كثيرة. وكارْ يزور القبور كل جمعة بعد العصر، ولا ينام إلا على وضوء، ويحافظ على سمْن وأذكار عند نومه: من التسبيح، والتكبير، والتحميد، وقراءة تبارك، وغيرها من القرآن، ويقول بين سنة الفجر والفرض أربعين مرة يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت.

وكان لا يترك غسل الجمعة، ولا يخرج إلى الجمعة إلا ومعه شيء يتصدق به، وكان يحمل هَمَ أصحابه، ومن سافر منهم تفقد أهله. وكان يتفقد الأشياء النافعة، مثل النهر، والسقاية، وغير ذلك مما فيه نفع المسلمين. وكان يؤثر بما عنده لأقاربه وغيرهم، ويتصدق كثيراً ببعض ثيابه، حتى يبقى في الشتاء بجبة بغير قميص، وكثيراً من وقته بغير سراويل. وكانت عمامته قطعة بطانة، فإذا احتاج أحد إلى خرقة أو مات صغير قطع منها له. وكان يلبس الخشن وينام على الحصير. وكان ثوبه إلى نصف ساقه، وكُمّه إلى رُسْغه، ورما تصدق بالشيء وأهله محتاجون إليه.

ومكث مدة لا يأكل أهل الدير إلا من بيته. يجمع الرجال ناحية والنساء ناحية، وكان إذا جاء شيء إلى بيته فرقه على الخاص والعام.

وكان يقول: لا علم إلا ما دخل مع صاحبه القبر.

ويقول: إذا لم تتصدقوا لا يتصدق أحد عنكم، وإذا لم تعطوا السائل أنتم أعطاه غيركم.

وكان يحب اللبن المصفى بخرقة، فعمل له منه مرة فلم يأكل منه، فقيل له: فقال تركته لحبي إياه، ثم لم يأكله بعد ذلك. وكان إذا خطب تَرِق القلوب، ويبكي بعض الناس بكاءاً كثيراً. وكان له هيبة عظيمة في القلوب، حتى كان أحد الطلبة يريد أن يسأله عن شيء، فما يجسر أن يسأله، وإذا دخل المسجد سكتوا، وخفضوا أصواتهم، وإذا عَبَر في ريق والصبيان يلعبون هربوا، وإذا أمر بشيء لا يجسر أحد أن يخالفه.

وكان كثيراً ما يكتب إلى أرباب الولايات شفاعات لمن يقصده. فقال له المتولي يوماً: إنك تكتب إلينا في قوم لا نريد أن نقبل فيهم شفاعة، ونشتهي أن لا نرد رقعتك، ، فقال: أما أنا فقد قضيت حاجة قصدني، وأنتم إن أردتم أن تقبلوا ورقتي وإلا فلا، فقال : لا نردها أبداً.

واحتاج الناس في سنة إلى المطر، فطلع معهم إلى مغارة الدم، ومعه نساء من محارمه، واستسقى ودعا، فجاء المطر حينئذ، وجرت الأودية شيئاً لم يره الناس من مدة. وله كرامات كثيرة.

وذكر بعضهم، قال: جئنا مرة إلى عنده، ونحن ثلاثة أنفس جياع، فقدّم إلينا سكْرُجة فيها لبن، وكسيرات، فأكلنا وشبعنا، وأنا أنظر إليها، كأنها لم تنقص.

قال الضياء: وسمعت الإِمام محمد بن أبي بكر بن عمر يقول: دعاني الشيخ مرة، وكنت أخاف من ضرر الأكل، فابتدأني وقال: إذا قرأ الإِنسان فبل الأكل "شهد الله أنه لا إله إلا هو" "آل عمران: 18"، و "لإيلاف قريش" "قريش:1"، ثم أكل، فإنه لا يضره.

وسمعت الإِمام أبا بكر عبد الله بن الحسن بن النحاس، يقول: كان والدي يحب الشيخ أبا عمر، فقال لي يوم جمعة: أنا أصلي الجمعة خلف الشيخ، ومذهبي أن "بسم الله الرحمن الرحيم" من الفاتحة، ومذهبه أنها ليست من الفاتحة، وأخاف أن يكون في صلاتي شيء، فمضينا إلى المسجد، فوجدنا الشيخ، فسلم على والدي وعانقه، ثم قال: يا أخي، صل وأنت طيب القلب فإنني ما تركت "بسم الله الرحمن الرحيم" في نافلة، لا فريضة منذ أممت بالناس فالتفت إلي والدي وقال: احفظ.

وكان بعض الناس يرسل إلى الشيخ في كل سنة شيئاً فيقبله، فأرسل إليه مرة دينارين فردهما فتألم، ثم فكر فيهما، فوجدهما من جهة غير طيبة. قال: فبعث إليه غيرهما، فقبلهما.

قال الضياء: وسمعت أحمد بن عبد الملك بن عثمان، قال: جاء رجلان إلى الشيخ أبي عمر، فقالا له: إن قراحاً قد أخذ فلاناً وحبسه، فادع عليه، فباتا عند الشيخ، فلما كان من الغد قال: قضيت الحاجة، وإذا جنازة قراح عابرة، وأطال الضياء ترجمة الشيخ أبي عمر. وكذلك أبو المظفر سبط ابن الجوزي في المرآة. وقال: كان معتدل القامة، حسن الوجه، عليه أنوار العبادة، لا يزال مبتسماً، نحيل الجسم من كثرة الصيام والقيام.

قال: وكان إذا نزل من الجبل لزيارة القبور- أو غير ذلك- جمع الشيح من الجبل وربطه يحبل، وحمله إلى بيوت الأرامل واليتامى، ويحمل في الليل إليهم الدراهم والدقيق، ولا يعرفونه. قال: ما نهر أحداً. ولا أوجع قلب أحد. وكان يقول: أنا زاهد. ولكن في الحرام.

ولما نزل صلاح الدين على القدس كان هو وأخوه الموفق والجماعة في خيمة، فجاء العادل إلى زيارته وهو في الصلاة، فما قطعها ولا التفت إليه ولا ترك ورده.

وكان يصعد المنبر في الجبل، وعليه ثوب خام مهدول الجيب، وفي يده عصا والمنبر يومئذ ثلاث مراق. وكان يجاهد في سبيل الله، ويحضر الغزوات مع صلاح الدين.

وكان أخوه الموفق يقول عنه: هو شيخنا، ربانا وأحسن إلينا، وعلمنا وحرص علينا، وكان للجماعة كالوالد يقوم بمصالحهم، ومن غاب منهم خلفه في أهله. قال: وكان أبو أحمد قد تخلى عن أمور الدنيا وهمومها، فكان المرجع في مصالح الأهل إليه، وهو الذي هاجر بنا، وسَفَرنا إلى بغداد، وبنى الدير. فلما رجعنا من بغداد زوجنا وبنى لنا دوراً خارجة عن الدير وكفانا هموم الدنيا. وكان يؤثرنا ويدع أهله محتاجين، وبنى المدرسة والمصنع بعلو همته. وكان مجاب الدعوة، وما كتب لأحد ورقة للحمى إلا شفاه الله تعالى.

قال أبو المظفر: وكراماته كثيرة، وفضائله غزيرة، فمنها: أني صليت يوم جمعة بجامع الجبل في أول سنة ست وستمائة، والشيخ عبد الله اليونيني إلى جانبي، فلما كان في آخر الخطبة وأبو عمر يخطب نهض الشيخ عبد الله مسرعاً، وصعد إلى مغارة قريبة وكان نازلاً بها، فظننت أنه احتاج إلى الوضوء، أو آلمه شيء. فلما صليت الجمعة صعدت وراءه، وقلت له: خير، ما الذي أصابك. فقال: هذا أبو عمر، ما تحل خلفه صلاة، قلمت، ولم? قال: لأنه يقول على المنبر ما لا يصلح. قلت: وما الذي يقول? قال: قال الملك العادل وهو ظالم فما يصدق وكان أبو عمر يقول في آخر الخطبة: اللهم أصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب، فقلت له: إذا كانت الصلاة خلف أبي عمر لا تصح، فيا ليت شعري خلف من تصح? وبينا نحن في الحديث، وإذا بالشيخ أبي عمر قد دخل ومعه مئزر، فسلم وحل المئزر، وفيه رغيف وخياراتان، فكسر الجميع، وقال: بسم الله، الصلاة. ثم قال ابتداءً: قد جاء في الحديث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولدت في زمن الملك العادل كسرى" فنظر إلى الشيخ عبد الله: وتبسم، ومد يده فأكل. وقام أبو عمر فنزل. فقال الشيخ عبد الله: ماذا إلا رجل صالح.

قال أبو المظفر: وقلت له يوماً: أول ما قدمت الشام ما كان يرد أحداً في شفاعته إلى من كان، وقد كتب ورقة إلى الملك المعظم عيسى بن العادل. وقال فيها: إلى الولد الملك المعظم، فقلت له: كيف تكتب هذا والملك المعظم على الحقيقة هو الله تعالى? فتبسم ورمى بالورقة، وقال: تأملها. وإذا به لما كتب "الملك المعظم" كسر الظاء، فصار المعظِم، وقال: لا بد أن يكون يوماً قد عظم الله تعالى، فعجبت من ورعه وتحفظه في منطقه عن مثل هذا.

قال أبو المظفر: وأصابني قولنج عانيت منه شدة، فدخل عليَّ أبو عمر وبيده خروب شامي مدقوق، فقال: اسْتَفَّ هذا وكان عندي جماعة، فقالوا: هذا يزيد القولنج ويضره، فما التفت إلى قولهم. فأخذته من يده فأكلته، فبرأت في الحال.

قال: وحكى الجمال البصراوي الواعظ قال. أصابني قلنج في رمضان، فاجتهدوا في أن أفطر، فلم أفعل، وصعدت إلى قاسيون، فقعدت موضع الجامع اليوم، وإذ بالشيخ أبي عمر قد أقبل من الجبل، وبيده حشيشة، فقال: شم هذه تنفعك، فأخذتها وشممتها، فبرأت.

وقرأت بخط الناصح ابن الحنبلي: كان أبو عمر فقيهاَ زاهداً عابداً. كتب بخطه كثيراً من كتب الحديث والفقه على مذهب الإمام أحمد، وكتاب "المغني" لأخيه. وكان مع ذلك له أوراد في الصلاة والتلاوة، يقوم بها، وحج وغزا وكان شيخ جماعته، مطاعاً فيهم، محترماً عند نور الدين محمود بن زَنكِي. وزاره وبنى له في الجبل مسجداً وسقاية.

وقال غيره: له آثار جميلة، منها: مدرسته بالجبل، وهي وقف على القرآن والفقه. وقد حفظ القرآن فيها أمم لا يحصون.

وذكر جماعة: أن الشيخ أبا عمر قطب، وأقام قطب الوقت قبل موته ست سنين.

وقال أبو المظفر: كان على مذهب السلف الصّالح، حسن العقيدة، متمسكاً بالكتاب والسنة، والآثار المروية وغيرها كما جاءت، من غير طعن على أئمة الدين وعلماء قال: وأنشدني لنفسه:

أوصيكم في القول بالـقـرآن

 

بقول أهل الحق والإتـقـان

ليس بمخلوق ولا بـفـانـي

 

لكن كلام المـلـك الـدّيان

آياته مشرقة الـمـعـانـي

 

متلوة في اللفظ بالـلـسـان

محفوظة في الصدر والجنان

 

مكتوبة في الصحف بالبنـان

والقول في الصفات يا إخواني

 

كالذات والعلم مع الـبـيان

إمرارها من غير ما كفـران

 

من غير تشبيه ولا عـدوان

قال: وأنشدني لنفسه:

ألم يك ملهاة عن اللـهـو أنـنـي

 

بدا لي شيب الرأس والضعف والألم

ألمَّ بيَ الخطب الذي لـو بـكـيتـه

 

حياتي حتى ينفد الـدمـع لـم أُلـم

قال أبو المظفر: وكان سبب موته: أنه حضر مجلسي بقاسيون في الجامع، مع أخيه الموفق والعماد والجماعة. وكان قاعداً في الباب الكبير، وجرى الكلام في رؤية الله تعالى ومشاهدته، واستغرقت في ذلك، وكان وقتاً عجيباً، وأبو عمر جالس إلى جانب أخيه الموفق. فقام وطلب باب الجامع، ولم أره. فالتفت، فإذا بين يديه شخص يريد الخروج من الجامع، فصحت على الرجل: اقعد، فظن أبو عمر أنني أخاطبه، فجلس على عتبة باب الجامع الجوانية إلى أن فرغ المجلس. ثم حُمل إلى الدير. فكان آخر العهد به. وأقام مريضاً أياماً، ولم يترك شيئاً من أوراده. فلما كان عشية الإِثنين ثامن عشر ربيع الأول- يعني سنة سبع وستمائة- جمع أهله واستقبل القبلة، ووصاهم بتقوى الله ومراقبته، وأمرهم بقراءة يس وكان آخر كلامه: "إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون". "البقرة: 132".

وتوفى رحمه الله تعالى، وغسل في السحر. ومن وصل إلى الماء الذي غسل به نشف به النساء مقانعهن، والرجال عمائمهم، ولم يتخلف عن جنازته أحد من القضاة والعلماء والأمراء والأعيان وعامة الخلق. وكان يوماً مشهوداً.

ولما خرجوا بجنازته من الدير كان يوماً شديد الحر، فأقبلت غمامة فأظلت الناس إلى قبره. وكان يسمع منها دَوِيّ كدويّ النحل. ولولا المبارز المعتمد، والشجاع بن محارب، وشبل الدولة الحسامي ما وصل إلى لّبره من كفنه شيء. وإنما أحاطوا به بالسيوف والدبابيس.

وكان قبل وفاته بليلة رأى إنسان كأنه قاسيون قد وقع أو زال من مكانه فأولوه بموته.

ولما دفن رأىَ بعض الصالحين في منامه تلك الليلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من رأى أبا عمر ليلة الجمعة فكأنما رأى الكعبة، فاخلعوا نعالكم قبل أن تصلوا إليه.

ومات عن ثمانين سنة، ولم يخلف ديناراً ولا درهماً، ولا قليلاً ولا كثيراً.

وقال غيره: حزر من حضر جنازته، فكانوا عشرين ألفاً

ذكر الضياء عن عبد المولى بن محمد: أنه كان يقرأ عند قبر الشيخ سورة البقرة، وكان وحده، فبلغ إلى قوله تعالى: "لا فَارِضٌ ولا بِكَر" "البقرة: 168"، قال: فغلطت، فرد عليّ الشيخ من القبر، قال: فخفت وفزعت وارتعدت وقمت، ثم مات القارئ بعد ذلك بأيام. وهذه الحكاية مشهورة.

قال: وقرأ بعضهم عند قبره سورة الكهف، فسمعه من القبر يقول: لا إله إلا الله. وذكر له عدة منامات.

وقال أبو شامة في مذيلة: أول ما وقفت على قبره وزرته وجدت- بتوفيق الله تعالى عز وجل- رقة عظيمة، وبكاءً صالحاً. وكان معي رفيق لي، وهو الذي عرفني قبره، وجد أيضاً مثل ذلك.

قال: وأخبرني بعض أصحابنا الثقات: أنه رأى الإِمام الشافعي رحمه الله في المنام، تسأله: إلى أين تمضي? فقال: أزور أحمد بن حنبل، فأتبعته أنظر ما يصنع. فدخل داراً، فسألت: لمن هي? فقيل: للشيخ أبي عمر رحمه الله.

وقد رثاه الأديب أبو عبد الله محمد بن سعيد المقدسي بقصيدة، منها:

أبعد أن فقدت عيني أبا عـمـر

 

تضمني في بقايا العمر عمران?

ما للمساجد منه اليوم مـقـفـرة

 

كأنها بعد ذاك الجمع قـيعـان?

ما للمحاريب بعد الأنس موحشة

 

كأنَّ لم يُتْلَ فيها الدهر قـرآن?

تبكي عليه عيون الناس قـاطـبة

 

إذ كان في كل عين منه إنسـان

وكان في كل قلب منه نور هدى

 

فصار في كل قلب منه نـيران

كل حي رأينا فـهـو ذو أسـف

 

وكل ميت رآه فهـو فـرحـان

لا زال يسقى ضريحاً أنت ساكنه

 

سحائب غَيْثُها عفو وغـفـران

كم ميت ذكره حيّ، ومتـصـف

 

بالحيّ ميت، له الأثواب أكفـان

وكان والده الشيخ أبو العباس أحمد خطيب جماعيل رجلاَ صالحاً، زاهداً عابداً، صاحب كرامات، وأحوال وعبادات ومجاهدات. قرأ في رمضان خمساً وستين ختمة. كان عليه مهابة عظيمة، لا يراه أحد إلا قبَّل يده.

قال أبو الفرج بن الحنبلي: كان له قدم في العبادة والصلاح سمعت والدي يقول: لو كان نبي يبعث قي زمان الشيخ أحمد بن محمد بن قدامه كان هو. وقد حدث وروى عنه ولداه: أبو عمر؛ والموفق.

وكان مولده سنة إحدى وتسعين وأربعمائة.

وتوفى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. ودفن بسفح جبل قاسيون. وإلى جانبه دفن ولده أبو عمر. رحمهما الله.

قرئ على أبي محمد عبد الله بن إسماعيل الأنصاري- وأنا أسمع- أخبركم محمد بن أحمد القاضي أبو الفوج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد أحمد بن قدامة أخبرنا والدي الزاهد أبو عمر.

يحيى بن أبي الفتح بن عمر الطباخ الحراني الضرير المقدسي، الفقيه أبو زكريا:

رحل وقرأ القرآن بواسط بالروايات على القاضي أبي الفضل هبة الله بن علي بن قاسم الواسطي وغيره. وسمع بها الحديث من القاضي أبي طالب محمد بن علي بن الكناني.

وسمع ببغداد من أبي محمد بن الخشاب، وأبي الحسين عبد الحق بن عبد الخالق، وشُهدة، في آخرين.

وتفقه ببغداد في المذهب، ورجع إلى حران، وحدث بها.

وسمع منه أبو المظفر سبط ابن الجوزي وغيره.

وتوفى في شوال سنة سبع وستمائة بحران، رحمه الله تعالى.

يحيى بن المظفر بن نعيم بن علي البغدادي البحري الزاهد، أبو زكريا المعروف بابن الحُبير. ويلقب صفي الدين:

ولد قي المحرم سنة أربعين وخمسمائة.

سمع الحديث من ابن ناصر، وأبي الوقت وغيرهما. وتفقه في المذهب.

وكان يسافر في التجارة إلى الشام، ثم انقطع في بيته بالبدرية، محلة من محال بغداد الشرقية بدار الخلافة.

وكان كثير العبادة، حسن الهيئة والسمت، كثير الصلاة والصيام والنسك ذا مروءة وتفقد للأصحاب وتودد إليهم.

وذكر أبو الفرج بن الحنبلي: أنه كان في السفر إذا نزل الناس واستقروا توضأ للصلاة، وتنحى عن القافلة، وبسط سجادة له، واستقبل القبلة حتى يدخل الوقت، فيصلي.

قال: وكان كثير العبادة، ملازماً لمنزله، لا يخرج منه إلى مسجده إلا لتأدية الفرائض، ثم يرجع وأثنى على مودته ومروءته، وأثنى عليه ابن نقطة وغيره بالصلاح. وانتفع به جماعة من مماليك الخليفة وبنيت له دكة في آخر عمره بأمر الخليفة بجامع القصر لقراءة الحديث عليها.

وتوفى في يوم الاثنين ضحى تاسع عشرين ذي الحجة سنة سبع وستمائة. ودفن بباب حرب وتبعه خلق كثير رحمه الله تعالى.

وكان له ابن يقال له: أبو بكر محمد، وكان فقيهاً فاضلاً في المذهب، فانتقل إلى مذهب الشافعي لأجل الدنيا. وولي القضاء وقيلت فيه الأشعار.

و"الحبير" بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وبالراء المهملة.

أسباه مير بن محمد بن نعمان الحراني، الفقيه أبو عبد الله:

تفقه ببغداد على الشيخ عبد القادر ونزل عنده ولازم الاشتغال بمدرسته إلى آخر عمره.

قال ابن النجار: كان شيخاً صالحاً، مشتغلاً بالعلم والخير، مع علو سنه. وأظنه ناطح المائة. رحمه الله.

محمود بن عثمان بن مكارم النعال البغدادي الأزجي، الفقيه الواعظ، الزاهد أبو الثناء، ويقال: أبو الشكر ويلقب ناصر الدين:

ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة ببغداد.

وقرأ القرآن وسمع الحديث من أبي الفتح بن المني، وصحب السيخ عبد القادر وتأدب به.

وكان يطالع الفقه والتفسير، ويجلس في رباطه للوعظ، وكان رباطه مجمعاً للفقراء وأهل الدين، وللفقهاء والحنابلة الذين يرحلون إلى أبي الفتح بن المني للتفقه عليه، فكانوا ينزلون به. حتى كان الاشتغال فيه بالعلم أكثر من الاشتغال بسائر المدارس.

وكان الرباط شعث الظاهر، عامراً بالفقهاء والصالحين. سكنه الشيخ موفق الدين المقدسي، والحافظ عبد الغني، وأخوه الشيخ العماد، والحافظ عبد القادر الرهاوي وغيرهم من أكابر الرحالين لطلب العلم.

قال أبو الفرج بن الحنبلي: ولما قدمت بغداد سنة اثنتين وسبعين نزلت الرباط، ولم يكن فيه بيت خال، فعمرت به بيتاً وسكنته. وكان السيخ محمود وأصحابه ينكرون المنكر، ويريقون الخمور، ويرتكبون الأهوال في ذلك، حتى إنه قام أنكر على جماعة من له إقدام وجهاد، وكان كثير الذكر. قليل الحظ من الدنيا. وكان يسمى شحنة الحنابلة. ذكر ذلك ابن الحنبلي وقال: كان يهذبنا ويؤدبنا، وانتفعنا به كثيراً.

وقال غيره: كان صالحاً خيراً، موصوفاً بالزهد والصلاح والظرافة، وكانت له قصص في إنكاره.

وقال أبو شامة: كانت له رياضيات ومجاهدات، وساح في الشام وغيرها وكان يؤثر أصحابه. وانتفع به خلق كثير. وكان مهيباً لطيفاً كيساً باشاً مبتسماً، يصوم الدهر، ويختم الفرآن كل يوم وليلة، ولا يأكل إلا من غزل عمته.

توفي في ليلة الأربعاء عاشر صفر سنة تسع وستمائة عن أزيد من ثمانين سنة. ودفن تلك الليلة برباطه. رحمه الله تعالى. وقيل: كانت وفاته ليلة التاسع.

يحيى بن سالم بن مفلح البغدادي، نزيل الموصل، أبو زكريا:

ذكر أنه سمع ببغداد من أبي الوقت، وأنه تفقه بها على صدقة بن الحسين الحداد وحدث بالموصل.

وتوفي في شهر رمضان سنة تسع وستمائة بالموصل. ودفن بمقبرة الجامع العتيق.

علي بن محمد بن حامد البغوي، أبو الحسن بن النجار

الفقيه: قرأ الفقه والخلاف على الفخر إسماعيل صاحب ابن المنى، وتكلم في مسائل الخلاف فأجاد: وقرأ طرفاً صالحاً من الأدب، وقال الشعر. وكان يكتب خطاً حسناً.

وسافر عن بغداد، ودخل ديار بكر، وولي القضاء بآمد، وأقام بها إلى حين وفاته. وكان صهراً لعبد الرزاق بن عبد القادر على ابنته.

توفى بآمد في رمضان سنة تسع وستمائة. رحمه الله. وقد جاوز الأربعين.

قال ابن النجار: أنشدت له:

لو صُبَّ ما ألقى على صخـرة

 

ذابت الصخرة مـن وَجْـدهـا

أو ألقيت نيران قلبـي عـلـى

 

دجلة لم يقدر الناس على وِردها

أو ذاقـت الـنـار غـرامـي

 

بكم لم تتوار النار في زنـدهـا

لو لم تَرْجُ الرُّوح روحُ اللـقـا

 

لكان روحَ الروح في فقدهـا

محمد بن مكي بن أبي الرجاء بن علي بن الفضل الأصبهاني

المليحي المحدث، المؤدب، أبو عبد الله تقي الدين، محدث إصبهان ومفيدها: سمع من أبي الخير الباغيان، وأبي عبد الله الرستمي، ومحمود بن عبد الكريم قورجه، ومسعود الثقفي، وخلق كثير، وعنى بهذا الشأن. وقرأ الكثير بنفسه، وكتب بخطه، وخرج وأفاد الطلبة بأصبهان. وحدث، وأجاز للحافظ المنذري، ولأبي الحسن بن النجاري، وأحمد بن شيبان. وقد رويا عنه بالإِجازة.

توفى في العشر الأواخر من المحرم سنة عشر وستمائة بأصبهان رحمه الله.

ومما زاده على المسلسلات، للحافظ أبي موسى المديني: أخبرنا محمد بن عبد الخالق بن أبي شكر الجوهري- بقراءتي عليه- أخبرنا أبو أحمد حمد بن عبد الله بن حيه أخبرنا أحمد بن فضل الباطرقاني- إملاء- حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الوراق البغدادي قال: سمعت الخلال- جاراً لنا- قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: يُضرب على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعناق، كما يضرب على كتاب الله الأعناق؛ إنه إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، ثم كذب به كاذب: يضرب عنقه.

وهذا الإِسناد فيه جهالة. وإن صح، حمل على أن الخبر المتلقى بالقبول والتصديق يوجب العلم، فالمكذب به كالمكذب بما علم من الدين بالتواتر.

وقد حكى أبو الفضل التميمي: أن الإمام أحمد كان يفسق من خالف خبر الواحد، مع التمكن من استعماله. وكان يضلل من خالف الإجماع والتواتر.

وذكر القاضي أبو يعلى في المجرد: أن خبر الواحد المتلقى بالقبول يفيد العلم، ولا يفسق من خالفه، إلا إذا أجمع على العمل به. وأظن ابن حزم حكي عن إسحاق بن راهويه مثل هذا الكلام المروي عن أحمد بالإِسناد الذي فيه جهالة.

إسماعيل بن علي بن حسين البغدادي الأزجي المأموني

الفقيه الأصولي، المناظر المتكلم، أبو محمد، ويلقب فخر الدين. ويعرف بابن الوفاء، وبابن الماشطة، واشتهر تعريفه بغلام ابن المنى: ولد في صفر سنة تسع وأربعين وخمسمائة.

وسمع الحديث من شيخه أبي الفتح بن المنى، ولاحق ابن علي بن ركاة وشهدة، وغيرهم.

وقرأ الفقه والخلاف على شيخه أبي الفتح بن المنى، ولازمه حتى برع، وصار أوْحد زمانه في علم الفقه والخلاف والأصلين والنظر والجدل. ودرس بعد شيخه بمسجده بالمأمونية. وكانت له حلقة بجامع القصر يجتمع إليها فيها الفقهاء للمناظرة.

وكان حسن الكلام، جيد العبارة، فصيح اللسان رفيع الصوت.

وله تصانيف في الخلاف والجدل، منها "لتعليقة المشهورة" و "المفردات" ومنها: كتاب "جَنة الناظر وجُنة المناظر" في الجدل. واشتغل عليه جماعة، وتخرجوا به.

وحدث، وسمع منه جماعة. وأجاز لعبد الصمد بن أبي الجيش المقرئ، وولاه الخليفة الناصر النظر في قرَاه وعقاره الخاص، ثم صرفه.

وقد حط عليه أبو شامة، ونسبه إلى الظلم في ولايته. وأظنه أخذ ذلك من مرآة الزمان، وكذلك ابن النجار، مع أنه قال: كان حسن العبارة، جيد الكلام في المناظرة، مقتدراً على رد الخصوم. وكانت الطوائف مجمعة على فضله وعلمه. وكان يدرس في منزله، ويحضر عنده الفقهاء. قال: ورتب ناظراً في ديوان المطبق مُديدة، فلم تحمد سيرته، فعزل واعتقل مدة بالديوان، ثم أطلق، ولزم منزله. قال: ولم يكن في دينه بذاك.

ذكر لي ولده أبو طالب عبد الله، في معرض المدح: أنه قرأ المنطق والفلسفة على ابن مرقش الطبيب النصراني ولم يكن في زمانه أعلم منه بتلك العلوم، وأنه كان يتردد إليه إلى بيعة النصارى.

قال: وسمعت من أثق به من العلماء يذكر: أنه صنف كتاباً سماه "نواميس الأنبياء" يذكر فيه أنهم كانوا حكماء كهرمس، وأرسطاطاليس.

قال: وسألت بعض تلامذته الخصيصين به عن ذلك? فما أثبته ولا أنكره، وقال: كان متسمحاً في دينه، متلاعباً به، ولم يزد على ذلك.

قال: وكان دائماً يقع في الحديث، وفي رواته، ويقول: هم جهال، لا يعرفون العلوم العقلية، ولا معاني الأحاديث الحقيقية، بل هم مع اللفظ الظاهر، ويذمهم ويطعن عليهم.

ومما أنشده ابن النجار من شعره:

دليل على حرص ابـن آدم أنـه

 

ترى كفه مضمومة وقت وضعه

ويبسطها عند المـمـات إشـارة

 

إلى صفرها مما حوى بعد جمعه

وتوفى في ربيع الأول سنة عشر وستمائة، وكذا ذكره ابن القادسي، وأبو شامة.

وذكر ابن النجار: أنه توفى يوم الثلاثاء ثامن ربيع الآخر، ودفن من يومه بداره بدرب الجب، ثم نقل بعد ذلك إلى باب حرب، رحمه الله وسامحه.

وذكر ابن القادسي في تاريخه: أنه وجد ببغداد يهودي تزوج بمسلمة، وأولدها ولدين، فخاف اليهودي فأسلم، فجمع الفقهاء، واستفتوا في أمره، قال: فقيل: إن الفخر إسماعيل غلام ابن المنّى قال: الإسلام يَجُب ما قبله.

محمد بن حماد بن محمد بن جوخان البغدادي القسطعتي الضرير، الفقيه أبو بكر:

سمع الحديث من ابن البطي، وشهدة، وحدث بيسير، وحفظ القرآن وقرأه تجويداً وأقرأه.

وتفقه على أبي الفتح بن المنى، وتكلم في مسائل الخلاف.

وتوفى في يوم الأربعاء سلخ رمضان سنة عشر وستمائة، ودفن من يومه بمقبرة باب حرب- رحمه الله- وقد ناطح السبعين.

هلال بن محفوظ بن هلال الرسعني الجزري، الفقيه، أبو النجم: رحل إلى بغداد، وسمع بها من شهدة الكاتبة، وغيرها، وتفقه بها، وبيته بالجزيرة بيت مشيخة وصلاح، حدث برأس العين.

توفى في سنة عشر وستمائة. رحمه الله.

محمد بن علي بن محمد بن كرم السلامي المعدل أبو العشائر، ابن التلولي: سمع من ابن البطي، وجماعة. وتفقه في المذهب، وقرأ طرفاً من العربية على ابن الخشاب.

وشهد عند قاضي القضاة العباسي، وكان يؤم بمسجد بالجنب الغربي من بغداد.

وحدث، وسمع منه قوم من الطلبة. وكان غالياً في التسنن، حتى إنه يقول أشياء لا يلزمه التلفظ بها، بل يضره.

منها: أن علياً شرب الخمر، وأن بلالاً خيراً من موسى بن جعفر، ومن أبيه، وكان ذلك في وزارة القمي الشيعي، فنفاه إلى واسط، وكان ناظرها غالياً في التشيع، فأخذه وطرحه في مطمورة، إلى أن مات بها. وانقطع خبره سنة عشر وستمائة. رحمه الله تعالى.

إبراهيم بن محمد علي بن محمد بن المبارك بن أحمد بن محمد بن بكروس البغْدادي الفقيه، المعدل، أبو إسحاق. وقيل: أبو محمد، ويلقب شمس الدين: وقد سبق ذكر أبيه وعمه، ولد ليلة ثامن عشرين جمادى الأولى، سنة سبع وخمسين وخمسمائة.

وذكر القادسي في تاريخه: أن والده سماه عبد الرحمن، فرأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يسميه إبراهيم، ويكنيه أبا محمد.

وقرأ القرآن على عمه، وسمع الحديث من أبيه وعمه، ومن أبي الفتح بن البطي، وجماعة كثيرة من المتأخرين، وكتب الطباق بخطه، واشتغل بالمذهب على أبيه وعمه، وبالخلاف على أبي الفتح بن المنى، ولازمه مدة لسماع درسه، حتى برع وأفتى وناظر. ثم أقبل على إلقاء الدروس بمدرستهم بدرب العيار.

وشهد عند قاضي القضاة ابن الشهرزوري، وولي نظر وقوف الجامع، ثم ولي النيابة بباب النوبي سنة أربع وستمائة، فغير لباسه، وتغيرت أحواله، وأساء السيرة بكثرة الأذى، والمصادرة، والجنايات للناس، والسعي بهم، ولم تكن تأخذه في ذلك لومة لائم.

قال ابن القادسي: حدثني عبد العزيز بن دلف الخازن، قال: كان ابن بكروس يلازم قبر معروف الكرخي، فسمعته وهو يدعو أكثر الأوقات: اللهم مكني من دماء المسلمين ولو يوماً واحداً، قال: فمكنه الله من ذلك.

وقال ابن الساعي: حدثني عبد العزيز الناسخ، أنه وعظ ابن بكروس يوماً، فقال له: يا شيخ: اعلم أني فرشت حصيراً في جهنم. قال: فقمت متعجباً من قوله، ولم يزل على ذلك، إلى أن قبض عليه في ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وستمائة، وضرب حتى تلف، فمات ليلة الخميس ثامن جمادى الأولى من السنة المذكورة.

وقال ابن القادسي: وكان الناسخ صاحباً له، فقبض عليه معه، وحبس وضرب، وقرر عليه مال، ثم أطلق ولم يأخذ منه شيء.

ذكر القادسي: أنه أنشد قبل موته مستشهداً لغيره.

قضيت نحبى، فَسر قوم

 

بهـم غـفـلة ونـوم

قد كان يومّي علي حتم

 

أليس للشامتـين يوم.

فقرأ سورة يس، فلما بلَغ إلى قوله تعالى: "إنْ كَانَتْ إلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإذَا هُمْ جمِيع لَدَيْنَا محْضَرُونَ" جعل يكررها إلى أن مات.

قال: واجتمع الناس لخروج جنازته، وأغلق باب النوبي، فأخرجت جنازته نصف الليل من باب العامة، وحمل إلى باب أبزر فدفن إلى جانب مشهد أولاد الحسن، سامحه الله وتجاوز عنه.

وذكر المنذري: أنه توفى في ثامن عشر الشهر، ودفن في ليلة تاسع عشره.

وقد وجد أبو شامة في ابن بكروس مجالاً لمقال، فقال فيه وأطال، وأظهر بعض ما قي نفسه فيه وفي أمثاله، حيث لم يمكنه القول في أكابر الرّجال وذكر أنه رمى به في دجلة، وهذا لم يصح بحال.

عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر بن أبي صالح الجيلي البغدادي، أبو محمد بن أبي منصور بن أبي عبد الله بن أبي محمد، ويلقب بالركن: وقد تقدم ذكر أبيه وجده، ولد ليلة ثامن ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.

وسمع الحديث مات جده، ومن أبي الحسن محمد بن إسحاق بن الصابي، وأبي الفتح بن البطي وشهدة، وابن شاتيل، وأحمد بن المقرب، وأبي المكارم البادرائي وغيرهم.

وقرأ بنفسه على أبي الحسن البراديسي الفقيه وغيره؛ وكتب بخطه، وخطه رديء، وتفقه على جده الشيخ عبد القادر، وعلى أبيه عبد الوهاب؛ ودرس بمدرسة جده بالمدرسة الشاطبية، وولي عدة ولايات. وكان أديباً، كيساً مطبوعاً عارفاً بالمنطْق، والفلسفة، والتنجيم، وغير ذلك من العلوم الرديئة، وبسبب ذلك نسب إلى عقيدة الأوائل، حتى قيل: إن والده رأى عليه يوماً ثوباً بخاريّاً فقال: والله، هذا عجيب! ما زلنا نسمع البخاري ومسلم، فأما البخاري فهو كافر، فما سمعناه. وكان أبوه كثير المجون والمداعبة، كما تقدم عنه.

وكان عبد السلام لم يفتأ غير ضابط لله، ولا مشكوراً في طريقته وسيرته، يرمي بالفواحش والمنكرات، وقد جرت عليه محنة في أيام الوزير ابن يونس، وحكم بفسقه، وأحرقت كتبه.

وكان سبب ذلك: أن ابن يونس كان جاراً لأولاد الشيخ عبد القادر في حال فقره، فكانوا يؤذونه غاية الأذى. لما ولى ابن يونس وتمكن، شتت شملهم وبعث ببعضهم إلى المطامير بواسط، وبعث فكبس داو عبد السلام، وأخرج منها كتباً من كتب الفلاسفة، ورسائل إخوان الصفا، وكتب السحر، والنارنجة، وعبادة النجوم، وإستدعى ابن يونس- وهو يومئذ أستاذاً لدار العلماء، والفقهاء، والقضاة، والأعيان- وكان ابن الجوزي معهم. وقرأ في بعضها مخاطبة زحل يقول: أيها الكوكب المضيء المنير، أنت تدبر الأفلاك، وتحمي وتميت. وأنت إلهنا. وفي حق المريخ من هذا الجنس. وعبد السلام حاضر، فقال ابن يونس: هذا خطك? قال: نعم، قال: لم كتبته? قال: لأرده على قائله، ومن يعتقده فأمر بإحراق كتبه، فجلس قاضي القضاة والعلماء، وابن الجوزي معهم على سطح مسجد مجاور لجامع الخليفة يوم الجمعة وأضرموا تحت المسجد ناراً عظيمة، وخرج الناس من الجامع، فوقفوا على طبقاتهم، والكتب على سطح المسجد، وقام أبو بكر بن المرستانية فجعل يقرأ كتاباً كتاباً، من مخاطبة الكواكب ونحوها، ويقول: الْعَنوا مَن كتبها، ومن يعتقدها، وعبد السلام حاضر، فيضج العوام باللعن، فتعدى اللعن إلى الشيخ عبد القادر، بلى وإلى الإِمام أحمد، وظهرت الأحقاد الصّدرية، وقال الخصوم أشعاراً، منها: قول المهذب الرومي ساكن النظامية:

لي شعر أرق من دين ركن الدين

 

عبد السلام لفظـاً ومـعـنـى

زحـلـياً يشـنـى عـلـياً، ويه

 

وى آل حرب حقداً عليه وضغنا

منحته النـجـوم إذ رام سـعـداً

 

وسروراً نحساً، وهماً وحـزنـا

سار إحراق كتبه سير شـعـري

 

في جميع الأقطار سهلاً وحزناً

أيها الجاهل الذي جهل الـحـق

 

ضلالاً، وضيع العمر غـبـنـا

رمت جهلاً من الكواكب بالتبـخ

 

ير عنه عزاً، فنلت ذلاً وسجنـاً

ما زحيل، وعطارد، والـمـريخ

 

والمشتري، تُرى يا معـنَـى?

كل شيء يُوْدِى ويفنى، سوى الل

 

ه إلهي؛ فإنـه لـيس يفـنـى

ثم حكم القاضي بتفسيق عبد السلام، ورمى طيلسانه، وأخرجت مدرسة جده من يده، ويد أبيه عبد الوهاب، وفوضت إلى الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، فذكر فيها الحرس مدة. ذكر ذلك أبو المظفر سبط ابن الجوزي.

وذكر معناه ابن القادسي، وزاد: إن عبد السلام أودع الحبس مدة ولما أفرج عنه، أخذ خطه بأنه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الإِسلام حق، وما كان فيه باطل، وأُطلق.

ثم لما قبض على ابن يونس، ردت مدرسة الشيخ عبد القادر إلى ولده عبد الوهاب، ورد ما بقي من كتب عبد السلام التي أحرقت بعضها، وقبض على الشيخ أبي الفرج بسعي عبد السلام هذا، كما تقدم ذكره، ونزل معه عبد السلام في السفينة إلى واسط، واستوفى منه بالكلام، والشيخ ساكت. ولما وصل إلى واسط عقد مجلس حضر فيه القضاة، والشهود، وادعى عبد السلام على الشيخ بأنه وقف المدرسة، واقتطع من مالها، وأنكر الشيخ ذلك، وكتب محضراً بما جرى، وأمر الشيخ بالمقام بواسط، ورجع عبد السلام.

قال ابن القادسي: أفرد لشيخنا دار بواسط في درسه الديوان وأفرد له من يخدمه. وكان عبد السلام مداخلاً للدولة، متوصلاً إليهم، فسعى حتى رتب عميداً ببغداد، وخلع عليه، ورد إليه استيفاء مال الضمان، وأعطى الدار المقابلة لباب النوبي، وجعلت ديوانه. وكان ذلك سنة ستمائة.

وذكر أبو المظفر: أنه قبض عليه سنة ثلاث، واستصفيت أمواله، حتى أصبح يستعطي من الناس. وفي هذه المدة سلمت المدرستان التي بيده إلى ابن عمه أبي صالح، ثم بعد ذلك توكل لأبى الحسن على ابن الخليفة الناصر- وكان ولي العهد- ورد إليه النظر في أملاكه وإقطاعه، ثم توجه في رسالة من الديوان إلى صاحب أربل.

وذكره ابن النجار في تاريخه، وذمه ذماً بليغاً، وذكر أنه لم يحدث بشيء.

توفي في ثالث رجب- وقيل: في خامسه. وفي تاريخ ابن النجار: يوم الجمعة لثمان خلون من رجب- سنة إحدى عشرة وستمائة. ودفن من يومه، بمقبرة الحلية شرقي بغداد.

 

محمد بن علي بن نصر بن البَل الدوري، الواعظ أبو المظفر، ويلقب مهذب الدين: ولد سنة ست عشرة- أو سبع عشرة- وخمسمائة بالدور، وهي دور الوزير ابن هبيرة بدُجيل، ونشأ بها.

ثم قدم بغداد في شبيبته، واستوطنها، فسمع بها من ابن ناصر الحافظ، وابن الطلاية، والوزير ابن أبي نصر بن جهير، وأبي بكر بن الزاغوني، وأبي الوقت، وجماعة كثيرة من المتأخرين.

وقرأ بنفسه على الشيوخ، وقال الشعر الحسن، وفتح عليه في الوعظ، ووعظ بعدة أماكن، حتى صار يضاهي أبا الفرج بن الجوزي، ويزاحمه في أماكنه. ووعظ عند تربة أم الخليفة الناصر، سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فكان يجلس يوم الأربعاء، ويجلس أبو الفرج يوم السبت، ثم أذن للدوري بالجلوس يوم السبت، فاجتمع الخلق ظناً منهم أن ابن الجوزي هو الذي يتكلم، فلما رأوا الدوري انصرف كثير منهم وسبوا الدوري، وأصحابه، وخيف من وقوع فتنة فبعث أستاذاً لدار ابن يونس وأحضر ابن الجوزي، وطيب قلبه، وقال له: إن السلطان لم يعلم بهذه الحال، وإنما وقع تلبيس، ثم رأوا المصلحة في منع جميع الوعاظ، فمنعوا.

ولما اعتقل الشيخ أبو الفرج بواسط، خلا للدوري الجو، فكان يعظ مكانه عند التربة، واتفق أن الشيخ لما رجع إلى بغداد، ودخلها يوم السبت تاسع عشر جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين فوصل البشير بأنه قد وصل، والدوري يعظ مكانه، فبادر الناس من المجلس لتلقيه، فجعل الدوري يقول: ما هذه الأهوية التي أنتم عليها عاكفون، وقطع عليه المجلس.

ثم ذكر ذلك ابن القادسي، فقال ما سمعته ينشد في مجلسه:

يا أكرم البشر الني ما زلـت فـي

 

عمري له أهدي الثـنـاء وأمـدح

أتعبتَ وَصَّافيك فيك، فـلـجـلـج

 

المثنى، وأعرب في علاك المفصح

والبدر تمّ، وأنت أكـمـل صـورة

 

والبحر عمّ، وأنت منـه أسـمـح

قال أبو الفرج بن الحنبلي- وقرأته بخطه-: كان- يعني الدوري- واعظاً حسناً. وكان يضاهي ابن الجوزي في وعظه. وكان فصيحاً في إيراده. وله نظم ونثر، سمعته يتكلم. وقال- وهو على المنبر- بالله عليك يا جامع المنصور، هل تسمع قط مثل وعظ الدوري?.

وقال:

أخافك حتى لا أظن سلامة @@ وارجوك حتى لا أظن هلاكا

وها انا رهن في يديك محسن @@ بك الظن فأجعل للأسير فكاكا

فما شلت مما ارتجيه لموتتي @@ سواك ولا قدر الأارك سواكا

 

قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: يعاني الوعظ، ولم يكن من صنعته. وكان يضاهي جدي، حتى قيل له: أيما أعلم: أنت، أم أبو الفرج? فقال: ما أرضاه يقرأ علي الفاتحة، فبلغ ذلك أبا الفرج فقال: ما أقرأ عليه الفاتحة، بل أقرأ عليه "قل هو الله أحد" "الإخلاص: 1".

 

 

 

قال: وكان يتعصب له حاكم قطفتا، وكان ينتحل أشعار الناس، ادعى يوماً بيتين لنفسه، وأنشدهما على المنبر، وهما لأبي الفتح البستي.

قلت: لا يلزم من إنشاده شعر غيره أنه يدعيه لنفسه. وقد كان موصوفاً بالصلاح والديانة.

قال ابن نقطة: سمعت منه، وكان شيخاً صالحاً متعبداً.

قال المنذري: حدث وعَمر، وعجز عن الحركة، ولزم بيته إلى أن مات، وهو ابن أربع - أو خمس- وتسعين سنة. وكان شيخاً صالحاً متعبداً.

و "البلّ" بفتح الباء الموحدة وتشديد اللام.

قلت: وكان يحضر المجالس المعقودة مع أكابر الفقهاء ويفتي معهم. وهو آخر من أفتى بفسق قاضي القضاة العباسيين ومن دخل معه في تزوير الكتاب الذي أنكر شهوده الشهادة به عند القاضي، واعترف المثبت له أنه مزور، ولا أصل له، وأن القاضي ارتشى لأجل إثباته.

وممن أفتى بفسق القاضي وذويه في ذلك من أصحابنا: ابن الجوزي، وابن الصقال، وخلق كثير من الشافعية والحنفية بدار أستاذ الدارين ابن يونس.

توفي ابن البلّ رحمه الله يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة. وصلَّى عليه يوم الأربعاء بالنظامية، وتقدم للصلاة عليه أبو صالح بن عبد الرزاق، وحمل فدفن برباطه بقطفتا، على نهر عيسى بالجانب الغربي. رحمه الله تعالى.

وكان له ولد اسمه: محمد، يكنى: أبا عبد الله، كانت له معرفة جيدة بالحساب وأنواعه، والمساحة، والفرائض وقسمة التركات، وأقرأ ذلك مدة.

وسمع من ابن البطي، وغيره، وشهد عند قاضي القضاة ابن الشهرزوري.

توفي شاباً في حياة أبيه، يوم الإِثنين رابع عشرين شوال سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ودفن بداره بقراح ابن أبي اسحم، شرقي بغداد. رحمه الله تعالى.

أحمد بن محمد بن محمد بن الحسين الفراء البغدادي، القاضي جمال الدين، أبو العباس، أَبن القاضي أبي يعلى ابن القاضي أبي حازم، ابن القاضي أبي يعلى الكبير: مولده بواسط، إذْ كان أبوه قاضياً بها، بعد الأربعين وخمسمائة بقليل.

سمع الكثير من والده، ومن أبي بكر بن الزاغوني، وسعيد بن البنا، وأبي الوقت، وابن البطي، وخلق كثير. وعنى بالحديث، وكتب بخطه الكثير لنفسه وللناس، وشهد عند ابن الدامغاني.

قال ابن القادسي: كان خيِّراً من أهل الدين والصيانة، والعفة والديانة وحدث، وسمع منه ابن الدبيثي، وابن الساعي.

وتوفى ليلة الجمعة ثاني عشر شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة. ودفن عند آبائه بباب حرب.

محمد بن مالي بن غنيمة، البغدادي المأموني، المقرىء، الفقيه الزاهد أبو بكر بن الحلاوي، ويلقب عماد الدين: كان لا يتحقق مولده. وقيل: إنه بعد الثلاثين وخمسمائة.

سمع من أبي الفتح بن الكروخي، وأبي الفضل بن ناصر، وأبي بكر بن الزاغوني، وسعيد بن البنا، وغيرهم.

وتفقه على أبي الفتح بن المني، وهو من فقهاه أصحابه، وبرع في المذهب، وانتهت إليه معرفته، مع الديانة والورع، والانقطاع عن الناس.

قال ابن القطيعي: هو رجل صالح، له مكان في الورع، مقيم بمسجده بالمأمونية، مقبل على ما ينفعه من أمر آخرته، والتفرد والعزلة.

وأثنى عليه ابن القادسي كثيراً، وقال: كانت له اليد الباسطة في المذهب والفتيا.

وكان ملازماً لزاويته في المسجد، قليل المخالطة إلا لمن عساه يكون من أهل الدين، ما ألم بباب أحد من أرباب الدنيا، وما قبل لأحد هدية. وكان أحد الأبدال الذين يحفظ الله بهم الأرض ومن عليها.

وقرأت بخط الناصح بن الحنبلي: الشيخ الإِمام عماد الدين أبو بكر الخياط، وكان زاهداً، عالماً، فاضلاً، مشتغلاً بالكسب من الخياطة، ومشتغلاً بالعلم، ويقرئ القرآن احتساباً، قال لي: تشكَل عليَّ المسألة، فآتي الشيخ أبا الفتح بن المنى لأسأله عنها، فتنكشف لي وأفهمها قبل جواب الشيخ، يشير إلى بركة الشيخ. وكنت أنا أقرأ عليه شيئاً من القرآن، ثم يقول: خذ عليَّ، فيناولني "مقدمة الخبري" في الفرائض، فيقرؤها من حفظه. وكان متطهراً ومشدداً في الطهارة.

وكان الإمام الظاهر في حياة والده الناصر قد أحسن به الظن، وصحبه في الزيادة، وانتفع الظاهر بصحبته كثيراً. ورتب كتاب "جامع المسانيد" تأليف الشيخ أبي الفرج بن الجوزي على أبواب الفقه. وكان يقرأ على شيخنا ابن المنى من "كفاية المفتي" لابن مقبل.

وقال المنذري: كان ورعاً، متديناً، عارفاً بمذهبه. وحدث، وقرأ، وأمَّ بالناس في الصلوات مدة، ولنا منه أجازة. كتب بها إلينا من بغداد.

قلت: وله تصانيف، منها: "المنيرة في الأصول".

وعليه تفقه الشيخ مجد الدين أبو البركات ابن تيمية. وتفقه عليه أيضاً: أبو زكريا يحيى بن الصيرفي. وسمع منه. هو وابن القطيعي.

وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشرين رمضان سنة إحدى عشرة وستمائة. وحضر غسله أبو صالح بن عبد الرزاق. ودفن بمقبرة باب حرب قبل صلاة الجمعة. رحمه الله تعالى.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأنصاري أخبرنا علي بن أحمد بن عبد الواحد أخبرنا أبو بكر محمد بن معالي- إذْناً- أخبرنا أبو بكر بن الزاغواني أخبرنا الحسين بن أحمد بن طلحة، أخبرنا الحسن بن الحسين بن المنذر، أخبرنا علي بن محمد بن الزبير حدثنا الحسن بن علي بن عفان بن زيد بن الحباب حدثني المسعودي عن عمرو بن مرة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام على حصير، فقام وقد أثَّر في جسده، فقال له ابن مسعود: يا رسول الله، لو أمرتنا أن نبسط لك، ونفعل. قال صلى الله عليه وسلم: مالي وللدنيا. ما أنا والدنيا إلا كراكب اسْتَظَل تحت شجرة ثم راح وتركها".

ومن فتاوى ابن الحلاوي: أن من كرر النظر حتى أمذى: أفطر. ووافقه الفض إسماعيل. وخالفهما أبو البقاء العكبري، واختار: أن مُهدى ثواب الأعمال للموتى يقول: اللهم إن كنتَ أثبْتَني على هذا العمل، فاجعل ثوابه لفلان.

عبد العزيز بن محمود بن المبارك بن محمود بن الأخضر الجنابذي، ثم البغدادي البزار، المحدث الحافظ. أبو محمد بن أبي نصر بن أبي القاسم بن أبي نصر. ويلقب تقي الدين، محدث العراق: ولد يوم الخميس ثامن عشر رجب سنة أربع وعشر، وخمسمائة ببغداد.

وأول سماعه: سنة ثلاثين وخمسمائة.

سمع بإفادة أبيه وأستاذه ابن بكروس من القاضي أبي بكر بن عبد الباقي، وأبي القاسم بن السمرقندي، وعبد الوهاب الأنماطي، وأبي الحسن بن عبد السلام، ويحيى بن الطراح، وأبي منصور بن خيرون، وأبي الحسن علي بن محمد الهروي، وأبي سعيد البغدادي، وسعد الخير الأنصاري، وغيرهم.

وسمع هو بنفسه من أبي الفضل الإِرموي، وأبي بكر بن الزاغوني، وسعيد بن البناء، وابن ناصر الحافظ، وأبي الوقت، وطبقتهم ومن بعدهم أيضاً.

وبالغ في الطلب، وقرأ بنفسه، وكتب الكثير بخطه، وحصّل الأصول، ولازم أبا الحسن بن بكروس الفقيه، وانتفع به، وأبا الفضل بن ناصر. وعنه أخذ علم الحديث. وكتب الكثير بخطه المليح المتقن لنفسه? وتوريقاً للناس في شبابه.

وكانت له حلقة بجامع القصر، يقرأ بها في كل جمعة بعد الصلاة، وهي حلقة ابن ناصر، أخذها بعد موت ابن شافع، ولم يزل يسمع ويقرأ على الشيوخ لإفادة الناس إلى آخر عمره.

قال ابن النجار: صنف مجموعات حسنة في كل فن، ولم يكن في أقرانه أكثر سماعاً منه، ولا أحسن أصولاً، كأنها الشمس وضوحاً، وعليها أنوار الصدق، وبارك الله له في الرواية، حتى حدث بجميع مروياته.

صحبته مدة طويلة. وقرأت عليه في حلقته بالجامع. وفي دكانه الكثير من الكتب الكبار والأجزاء. وأكثر ما جمعه وخرجه، علقته عنه، واستفدت منه كثيراً.

وكان ثقة، حجة نبيلاً، ما رأيت في شيوخنا- سفراً ولا حضراً- مثله في كثرة مسموعاته، ومعرفته بمشايخه، وحسن أصوله وحفظه وإتقانه.

وكان أميناً. ثخين الستر متديناً، جميل الطريقة، عفيفاً. أريد على أن يشهد عند القضاة. فأبى ذلك.

وكان من أحسن الناس خلقاً، وألطفهم طبعاً. ومن محاسن البغداديين وظرفائهم، ما يملّ جليسه منه.

وقال ابن نقطة: كان ثقة ثبتاً مأموناً، كثير السماع، واسع الرواية، صحيح الأصول. منه تعلمنا واستفدنا. ما رأينا مثله.

وقال ابن الدبيثي: جمع في الحديث. وبوب وخرج. وكان ثقة صدوقاً. له معرفة بهذا الشأن. ولم أرَ في شيوخنا أوفر شيوخاً منه. ولا أعز سماعاً، مع معرفة بحديثه وشيوخه. وفهم ما يرويه. وسمعنا منه وقرأنا. وانتفعنا به. ونعم الشيخ كان.

قال ابن القطيعي: صنف كتاباً سماه "نبيه اللبيب" فأبان فيه عن علم غزير. وحفظ كثير.

وقال أبو شامة: صنف الكتب الحسان، في الأبواب والشيوخ والفضائل.

وقال: تصانيفه تدل على فهمه، وضبطه وحسن معرفته.

وقال المنذري: حدث مدة طويلة نحواً من ستين سنة. وصنف تصانيف مفيدة وانتفع به جماعة. ولنا منه إجازة. وكان حافظ العراق في وقته.

قال: و "الجُنَابَذ"- يعني: التي ينسب إليها- بضم الجيم وفتح النون وبعد الألف موحدة مفتوحة وذال معجمة: قرية من قرى نيسابور.

قلت: ومن تصانيفه "المقصد الأرشد، في ذكر من روى عن الإمام أحمد" في مجلدين، أجزاء عديدة، كتاب "تنبيه اللبيب، وتلقيح فهم المريب، في تحقيق أوهام الخطيب، وتلخيص وصف الأسماء، في اختصار الرسم والترتيب" أجزاء كثيرة. رأيت منه الجزء العشرين. وقد تتبع فيه الأوهام التي ذكرها الخطيب للأئمة الحفاظ، وأجاب عنها. وفي بعض أجوبته تعسف شديد. وبعضها: لا يوافَق عليه البتة. ولا يحتمله اللفظ بحال. وفي بعضها: فوائد حسنة، وذكر في هذا الجزء أوهاماً لابن السمعاني صاحب الذيل.

ووقع لابن الأخضر في هذا الجزء وهم فاحش. وهو أنه ذكر أن البخاري روى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن" الحديث بتمامه في النكاح، عن يحيى بن بكر عن ليث بن أبي سليم الكوفي عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه. وهذا غلط فاحش. وكذلك كتب عليه الحافظ الذهبي بخطه؛ وهو كما قال: فإن الليث هذا هو الليث بن سعد. وهذا أمر واضح.

وفي كلامه سجع كثير، وتكلف شديد.

ومن تآليفه "فضائل شعبان" و "طرق جزء الحسن بن عرفة" جزء كبير.

وسمع من ابن الأخضر خلق كثير من الأئمة والحفاظ المتقدمين، منهم: أبو المحاسن القرشي، وعمر بن محمد العليمي الدمشقيان، والحافظ عبد الغني المقدسي.

وروى عنه ابن الجوزي في تصانيفه حكايات. وروى عنه ابن الدبيثي، وابن نقطة وابن النجار، والضياء المقدسي، والبرزلي، وابن خليل، والزين خلف النابلسي، وغيرهم من أكابر الحفاظ، وابنه علي بن عبد العزيز بن الأخضر، والنجيب الحراني. وأخوه عبد العزيز. ويحيى بن الصيرفي الفقيه. والمقداد القيسي. وخلق.

وآخر من روى عنه بالإجازة: عبد الرحمن بن عبد اللطيف البغدادي البزار.

توفي- رحمه الله- ليلة السبت بين العشاءين، في سادس شوال سنة إحدى عشرة وستمائة. وفتح له جامع القصر من الغد. وحضره خلق كثير من العلماء والأعيان. وقرأ الديوان، ومنع من شَدِّ تابوته، وحمل بوقار وسكينة. ودفن بمقبرة باب حرب عند قبر أبي بكر المرزفي. رحمه الله.

أخبرنا أبو الفتح الميدومي- بمصر- أخبرنا أبو الفرج الحراني، أخبرنا أبو محمد بن الأخضر الحافظ أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد البافي أخبرنا أبو إسحاق البرمكي- حضوراً- أخبرنا أبو محمد بن ماسي أخبرنا أبو مسلم البلخي حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا سليمان التيمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بين المسلمين فوق ثلاثة أيام، أو قال: ثلاث ليالٍ".

عبد المحسن بن يعيس بن إبراهيم بن يحيى الحراني الفقيه أبو محمد: سمع بحران من أبي ياسر عبد الوهاب بن أبي حبة.

ورحل إلى بغداد سنة أربع وتسعين، فسمع من ابن كليب. وأبي الجوزي وطبقتهما، وقرأ المذهب والخلاف حتى تميز. وأقام ببغداد مدة، ثم عاد إلى حران فأقام بها، ثم قدم بغداد حاجّاً سنة عشر وستمائة، وحدث بها عن ابن أبي حبة وسمع منه بعض الطلبة.

ورجع إلى حران. فتوفى بها سنة إحدى عشرة وستمائة. وكان شاباً رحمه الله. ذكره ابن النجار.

عبد القادر بن عبد الله الفهمي الرهاوي. ثم الحراني، المحدث الحافظ الرحال، أبو محمد، محدث الجزيرة: ولد في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وخمسمائة بالرها. ثم أصابه سبي لما فتح زَنكي والد نور الدين الرها، سنة تسع وثلاثين، فاشتراه بنو فَهْم الحرانيون وأعتقوه، كذا قال ابن القطيعي وابن النجار.

وذكر الدبيثي وأبو شامة: أنه اشتراه رجل من الموصل، فأعتقه.

قال ابن القطيعي: ويقال: إنه مولى لبني أبي الفهم الحرانيين.

قال القطيعي: قال لي: طلبت الحديث سنة تسع وخمسين.

وذكر أبو الفرج بن الحنبلي: أنه تعلم القرآن، فأعتقه سيده، وقرأ كتاب "لجامع الصغير" في المذهب، وهو للقاضي أبي يعلى، ونفَعَه، ورأيت له مصنفاً في الفرائض والحساب، وسافر في طلب العلم.

سمع الحافظ عبد القادر ببغداد من أبي علي الرحبي، وابن الخشاب اللغوي، وأبي الحسين عبد الحق بن عبد الخالق، وأخيه عبد الرحيم، وشُهْدة، وجماعة كثيرة.

وبهمدان من الحافظ أبي العلاء الهمداني، وأبي زرعة بن محمد بن طاهر المقدسي، وجماعة.

وبأصبهان من أبي القاسم فورجة، وأبي عبد الله الرستحي، ومسعود بن الحسن الثقفي، وأبي المطهر الصيدلاني، وأبي جعفر الصيدلاني، ورجاء المعداني، وجماعة من هذه الطبقة، ومن الحفاظ بها، كأبي مسعود عبد الرحيم بن أبي الوفاء، ومعمر بن الفاخر، وأبي موسى المديني، وأبي سعد الصايغ.

ودخل خراسان، فسمع بنيسابور من أبي بكر محمد بن علي بن عمر الطوسي وطبقته، وبمرْوَ من أبي الفتح المسعودي؛ وبسجستان من أبي عروبة عبد الهادي بن محمد الزاهد، وبهراة من نصر بن سيار، ومن أبي الفتح محمد بن عمر الخازمي، وعبد الرزاق بن عبد السلام الصفار، وعبد الجليل بن أبي سعد، خاتمة أصحاب بيبي، وجماعة.

وسمع بدمشق من الحافظ أبي القاسم بن عساكر، وشيخ الشيوخ أبي الفتح بن حمويه، وأبي المعالي بن صابر، ومحمد بن حمزة بن أبي الصقر، وغيرهم.

وبمصر من ابن برَي النحوي، وأبي عبد الله محمد بن علي الرحبي، وغيرهما. وبالإسكندرية من الحافظ السلفي وغيره.

وسمع بواسط، من أبي طالب بن الكناني، وجماعة، وبالموصل وحران من أبي الفضل الطوسي، ويحيى بن سعدون وغيرهما.

وسمع ببلاد أخرى، كبوشَنْج، وزنجان، وتُستر، والكرخ، والبصرة.

وكان يمشي في أسفاره على قدميه، وكتبه محمولة مع الناس، وربما كان طعامه من عندهم أيضاً، لفقره.

وكتب بخطه الكثير من الكتب والأجزاء. وأقام بدمشق بمدرسة ابن الحنبلي مدة، حتى نسخ تاريخ ابن عساكر بخطه، وسمعه عليه، ذكر ذلك ابن الناصح.

وأقام بالموصل مدة، وولى بها مشيخة دار الحديث المظفرية، وحدث بها بأكثر مسموعاته، ثم انتقل منها إلى حران، وسكنها إلى حين وفاته.

قال ابن الحنبلي: ووقف عليه مظفر الدين صاحب "أربل" أرضاً بأرض حران وبعث معه مرة مالاً يفك به الأسارى مع أجناد من أربل. فاجتمعنا به بدمشق.

قال ابن نقطة: كان عالماً ثقة، مأموناً صالحاً، إلا أنه كان عسراً في الرواية، لا يكثر عنه إلا من أقام عنده.

وقال الدبيثي: كان صالحاً، كثير السماع، ثقة. كتب الناس عنه كثيراً. وأجاز لنا مراراً.

وقال ابن خليل: كان حافظاً ثَبْتاً، كثير التصنيف متقناً، ختِمَ به علم الحديث.

وفال ابن النجار: كان حافظاً متقناً، فاضلاً، عالماً ورعاً، متديناً زاهداً، عابداً، صدوقاً، ثقة نبيلاً، على طريقة المسلف الصالح، لقيته بحران، وكتبت عنه جزءاً واحداً، انتخبته من عوالي مسموعاته في رحلتي الأولى.

وقال المنذري: جمع مجاميع مفيدة، منها: كتاب "الأربعين" الذي خرجه بأربعين إسناداً، لا يتكرر فيه رجل واحد من أولها إلى آخرها، مما سمعه في أربعين مدينة. وهو كبير في مجلدتين.

قال: وكان حافظاً ثقة، راغباً في الانفراد عن أرباب الدنيا، ولنا منه أجازة.

وقال أبو شامة: كان صالحاً مهيباً، زاهداً، ناسكاً، خشن العيش، صدوقاً، ورعاً.

وقال ابن حمدان: كان رجلاً ورعاً، صالحاً مهيباً، له تصانيف في الحديث.

قلت: من تصانيفه: كتاب "المادح والممدوح" يتضمن ترجمة شيخ الإسلام الأنصاري، وفضائله. وذكر مَنْ مدحه وأثنى عليه، وما يتعلق بالمادحين له من تراجمهم وحديثهم. وكذلك مادحو مادحيه، وطال الكتاب بذلك، وأكثره لا يتعلق بشيخ الإسلام إلا على سبيل الاستطراد، وإن كان في ذلك فوائد.

ومن مصنفاته "الأربعون البلدانية" المتباينة الأسانيد، ولم يسبق إلي ذلك ولا يطمع أحد في لحاقه، لخراب البلدان، وانقطاع الرواية عن أكثر تلك البلاد.

قال الحافظ الذهبي: وله أوهام نبهت على مواضع منها، في الأربعين له، وتكرر عليه في تباين الأسانيد أربع مواضع. وقد حدث بالكثير ببلاد شتى.

حدث ببغداد قديماً. وسمع منه ابن القطيعي وتميم بن البندنيجي وحدث بالإسكندرية في حياة السامري. رحمه الله. وحدث بالموصل، وأربل، وحران وسمع منه خلق كثير من الحفاظ الأئمة، منهم أبو عمر بن الصلاح. وحدث عنه ابن نقطة، وأبو عبد الله البرداني، والضياء، وابن خليل والصريفيني، وإسماعيل بن خلف، والشهاب القوصي، وابن عبد الدايم، وعبد الرحمن بن سلمان الأنباري، ويحيى بن الصيرفي الفقيهان، وعبد العزيز بن الصيقل الحراني، وأبو عبد الله بن حمدان الفقيه، وهو خاتمة أصحابه.

توفي رحمه الله يوم السبت ثاني جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وستمائة بحران.

نقلت من خط الإمام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله، قال: رأيت بخط الحافظ سراج الدين بن شجانة الحراني، سمعت أبا الفتح نصر الله بن أبي بكر بن عمر الفراء الحراني، يقول: رأيت الحافظ عبد القادر رحمه الله بعد موته بأيام قليلة، وهو جالس في مسجد الشيخ، وفي يده مجلد، وهو يسمع، فقمت إليه، فقلت: يا شيخ عبد القادر، ما قدمِت? قال: بلى، وتحسب أني أبطل السماع. فلا أزال أسمع إلى يوم القيامة. رحمه الله تعالى.

أخبرنا المعمر أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأنصاري، أخبرنا الفقيه أبو زكريا يحيى بن أبي منصور الحراني- حضوراً- أنبأنا الحافظ أبو محمد الرهاوي أخبرنا نصر بن سيار الهروي، أنبأنا أبو عامر محمود بن القاسم الأزدي، أنبأنا عبد الجبار بن محمد المروزي، أخبرنا العباس المحيوي، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الحافظ، حدثنا هناد، وقتيبة، ومحمود بن غيلان، قالوا: حدثنا وكيع عن سفيان قال: وحدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن مهدي، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية، عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم".

عبد المنعم بن محمد بن الحسين بن سليمان الباجسرائي، ثم البغدادي الفقيه، أبو محمد بن أبي نصر: ولد سنة تسع وأربعين، أو سنة خمسين وخمسمائة بباجِسْرا.

وقدم بغداد في صباه، فسمع من شُهدة وغيرها. وقرأ الفقه على أبي الفتح بن المنى، ولازمه حتى برع. وقرأ الأصول والخلاف والجدل على محمد بن أبي علي البوقاني الشافعي. وصحب أبا إسحاق بن الصقال المتقدم ذكره، وصار معيداً بمدرسته، ثم درس بمسجد شيخه ابن المنى بالمأمونية مدة. وكان يؤم في الصلاة بمسجد الآجرة.

وشهد عند قاضي القضاة أبي الفضائل بن الشهرزوري، وتولى الخزن بالديوان، وكانت له حلقة بجامع القصر يتكلم فيها في مسائل الخلاف، ويحضر عنده الفقهاء، وكان فقيهاً فاضلاً حافظاً للمذهب، حسن الكلام في مسائل الخلاف متديناً، حسن الطريقة. ذكر ذلك ابن النجار، وقال: سمع معنا أخيراً من مشايخنا، فأكثر، وكان حسن الأخلاق، متودداً. حدث بيسير، ولم يتفق لي أن أكتب عنه شيئاً. روى عنه أبو عبد الله بن الدبيثي.

وقال القادسي: كان فقيهاً، مناظراً حسن الطريقة، له سمة ووقار وعفاف، مع دين. ناظر وأفتى. وقد روى عنه ابن الساعي بالإِجازة، وقال: أنشدني هذين البيتين:

إذا أفادك إنـسـان بـفـائدة

 

من العلوم فأَدْمِن شكره أبداً

وقل: فلان جزاه الله صالحة

 

أفادنيها، وألق الكبر والحسدا

قال: وكان ديناً صالحاً متورعاً محتفظاً في الطهارة.

توفى رحمه الله يوم الإثنين، ثامن عشر جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وستمائة، ودفن من الغد بباب حرب، كذا ذكره ابن النجار.

وقال الأكثرون: توفي في سابع عشر الشهر.

وقال القادسي. صلَّى عليه بباب جامع المدينة، لامتناع الحنابلة أن تصلي عليه بالنظامية. رحمه الله تعالى.

قال المنذري "وباجسرا" قرية كبيرة من نواحي بغداد، بينها وبينها عشرة فراسخ، وهي بفتح الباء الموحدة، وبعد الألف جيم مكسورة وسين مهملة ساكنة، وراء مفتوحة.

وقد وقع في ضبط الحافظ عبد المؤمن الدمياطي بفتح الجيم، فإن كان فيها لغتان، كما في جسر، وإلا فالمعروف الكسر. والله أعلم.

عبد الوهاب بن بزغش بن عبد الله العيبي، المقرئ، البغدادي، أبو الفتح بن أبي محمد، خَتَن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي: ولد سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة تقديراً.

وقرأ القرآن بالروايات الكثيرة على سعد الله بن الدجاجي، وعبد الوهاب بن الصابوني، وأبي الفضل أحمد بن محمد بن سيف، وعلي بن عساكر البطايحي لإسماعيل بن بركات الغساني، وجماعة غيرهم.

وسمع الحديث الكثير: من أبي الوقت، وابن البطي، وأبي زرعة، ويحيى بن ثابت بن بندار، وخلق كثير من هذه الطبقة ومن بعدهم. وعني بالحديث؛ وكتب بخطه، وحصل الأصول، وتفقه في المذهب، وقرأ الخلاف.

قال ابن النجار: كان حسن المعرفة بالقرآن مجوداً، مليح التلاوة، حسن الأداء، طيب النغمة، ضابطاً، له معرفة بالوعظ، يتكلم في تعازي الأكابر، ويحسن الكلام في مسائل الخلاف، وكان يصلَّي إماماً في المسجد الجديد بسوق الخبازين عند عقد الجديد.

قلت: ويعرف المسجد بمسجد قطنية، لأن عبد الوهاب- هذا- كان يلقب قطنية لبياضه، فنسب المسجد إليه.

قال ابن النجار: كتبنا عنه، وكان صدوقاً، حسن الطريقة متديناً فقيراً، صبوراً. وزمِنَ في آخر عمره، وانقطع في بيته مدة.

قال ابن نقطة: هو ثقة، لكنه أخرج أحاديث مما قرب سنده، ولا يعرف الرجال، فربما أسقط من الإسناد رجلان أو أكثر، وهو لا يدري.

وقال القادسي: كان قارئاً مجوداً، مليح الصوت، حسن الأداء، واعظاً، شاعراً، فقيهاً، له معرفة حسنة بإنشاء الخطب، ونظم في القرآن أراجيز كثيرة، وقد أقرأ القرآن بالروايات، وحدث، وسمع منه جماعة.

وتوفى ليلة الخميس خامس ذي القعدة سنة اثنتي عشرة وستمائة، وصلَى عليه من الغد محيي الدين بن الجوزي بمدرسته، ودفن بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

و "برغش" بالباء الموحدة المضمومة، وبالزاي والغين والشين المعجمات صلى الله عليه وسلم"العيبي" بكسر العين المهملة، وفتح الياء آخر الحروف، وكسر الباء الموحدة، نسب كذلك؛ لأن أباه كان يحمل العيب التي فيها كتب الرسائل، لأنه كان "فيجا" أي ساعياً. قاله المنذري وغيره.

أخبرنا أبو المعالي محمد بن عبد الرزاق الشيباني- ببغداد- أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن عبد اللطيف البزار أخبرنا عبد الوهاب بن بزغش- كتابة- أنبأنا أبو زرعة طاهر بن محمد أخبرنا أبو منصور المقومي أنبأنا أبو القاسم بن المنذر حدثنا علي بن إبراهيم بن سلمة حدثنا ابن ماجة حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع عن مسعر عن أبي مرزوق عن أبي الصديق الناجي عن أبي أمامة قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متكئ على عصا، فلما رأيناه قمنا، فقال: لا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها، قلنا: يا رسول الله، لو دَعَوَتَ الله لنا? فقال: اللهم اغفر لنا وارحمنا، وارض عنا، وتقبل منَّا، وأدخلنا الجنة، ونجنا من النار، وأصلح لنا شأننا كلَه. فكأننا أحببنا أن يزيدنا، فقال: أوليس قد جمعت لكم الأمر".

إبراهيم بن علي بن الحسين البغدادي، أبو إسحاق، أخو الفخر إسماعيل غلام ابن المنى: سمع الحديث. وتفقه على أخيه. وتكلم في مسائل الخلاف. وكان فقيهاً صالحاً.

توفي ثاني عشر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وستمائة، ودفن عند أخيه بمقبرة الإمام أحمد، رضي الله عنه.

إسماعيل بن عمر بن أبي بكر المقدسي، أبو إسحاق، وأبو القاسم، وأبو الفضل، ويلقب محب الدين: سمع بدمشق من أبي اليمن الكندي وغيره، وبمصر من البوصيري، والحافظ عبد الغني، وببغداد من ابن الأخضر وطبقته، وبأصبهان من أبي عبد الله محمد بن مكي، وأبي بكر أحمد بن عبيد الله الجاني، وطبقتهما من أصحاب الرستمي، ومسعود الثقفي. وكانت رحلته مع الضياء بعد الستمائة، وعنى بالحديث، وقرأ. ووصفه جماعة بالحافظ، وتفقه وحدث.

وتوفى في ثامن عشر شوال سنة ثلاث عشرة وستمائة، وأظنه كان شاباً.

محمد بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، ثم الدمشقي الحافظ، أبو الفتح بن الحافظ أبي محمد، ويلقب عز الدين: ولد في أحد الربيعين سنة ست وستين وخمسمائة بدمشق، وأسمعه بها والده في صغره من أبي المعالي بن صابر، والخضر بن طاوس، وأبي المجد البانياسي، وارتحل إلى بغداد، سنة ثمانين. فسمع من أبي الفتح بن شاتيل، ونصر الله القزاز وغيرهما.

وارتحل إلى أصبهان بعد التسعين، فسمع بها من أبي الفتح عبد الرحيم الكاغدي، ومسعود الحمال، وأبي المكارم اللبان وطبقتهم. وعاد إلى بغداد. وأقام بها مدة يسمع من أبي الفرج بن الجوزي وطبقته، وقرأ بها مسند الإمام أحمد، وتفقه على أبي الفتح بن المنى في المرة الأولى، وقرأ في الثانية على أبي البقاء من الفقه واللغة. وسمع بمصر من أبي القاسم البوصيري وغيره.

وقال ابن النجار: سمعنا معه، وبقراءته كثيراً، وكتب بخطه كثيراً. وحصل كثيراً من الأصول شراء، واستنسخ كثيراً من الكتب والأجزاء. وسمعت منه حديثاً واحداً في مجلس شيخنا أبي أحمد الأمين- يعني ابن سكينة- وهو الذي سأل عنه. وكان من أئمة المسلمين، حافظاً للحديث متناً وإسناداً، عارفاً بمعانيه وغريبه ومشكله، متقناً لأَسَامي المحدثين وكناهم، ومقدار أعمارهم، وما قيل فيهم من جرح وتعديل، ومعرفة أنسابهم، واختلاف أسمائهم، مع ثقة وعدالة وصدق وأمانة، وحسن طريقة وديانة، وجميل سيرة، ورضى أخلاق، وتودد وكيس ومروءة ظاهرة، وتعمد لقضاء حقوق الإخوان، ومساعدة الغرباء.

وقال الحافظ الضياء: كان رحمه الله حافظاً فقيهاً ذا فنون. وكان أحسن الناس قراءة وأسرعهم. وكان غزير الدمعة عند القراءة. وكان متقناً ثقة، سمحاً جواداً. وكان يتكلم في مسائل الخلاف كلاماً حسناً. وكان يقرأ الحديث للناس كل ليلة جمعة في مسجد دار البطيخ بدمشق- قال الذهبي: يعني مسجد السلالين- وانتفع الناس بمجالسته، ثم انتقل من الجامع إلى موضع والده، فكان يقرأ يوم الجمعة بعد الصلاة. ووصفه بالمروءة التامة والديانة المتينة.

وقال أبو شامة: صحب الملك المعظم عيسى، وسمع بقراءته الكثير، وكان حافظاً ديناً، زاهداً ورعاً.

قلت: وخرج تخاريج، كالأمالي، وجدت منها: الجزء التاسع والأربعين.

وروى عنه ابناه: تقي الدين أحمد، وعز الدين عبد الرحمن، والحافظ ضياء الدين، والشهاب المقومي، والشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر وابن النجار، وآخرون.

توفى- رحمه الله- ليلة الإثنين، تاسع عشر- وقيل: العشرين- من شوال، سنة ثلاث عشرة وستمائة؛ ودفن من الغد بسفح جبل قاسيون، رحمه الله تعالى.

وقال بعضهم: كنا نقرأ عنده ليلة مات، فرأيت نوراً على بطنه مثل السراج فكنت أقول: ترى يراه أحد غيري أم لا? ذكره الحافظ الضياء. وذكر له منامات صالحة متعددة، منها: عن مسعود بن أبى بكر بن شكر: أنه رآه بعد موته في المنام، وكأن وجهه البدر، وقال الرائي: ما رأيت في الدنيا أحداً على صورته. وله شعر بائن من تحت عمامته، لم أرَ شعراً مثل سواده، فقلت له: يا عز الدين، كيف أنت? قال: أنا وأنت من أهل الجنة.

ورآه آخر، فقال له: بالله عليك، ماذا لقيت من ربك? قال: كل خير جميل.

وفال أحمد بن محمد بن خلف: رأيته- يعني العز- في المنام. فقال لي: جاء إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لي كل حاجة. ومنامات أخر، رحمه الله تعالى.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم المقدسي أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد أخبرنا أبو الفتح محمد بن الحافظ عبد الغني- قراءة عليه، وأنا أسمع- أخبرنا القاضي أبو المكارم أحمد بن محمد بن محمد اللبان الأصبهاني بها أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن لحسن الحداد المقرئ- قراءة عليه- أخبرنا الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إِسحاق الأصبهاني. أخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس أخبرنا بشر بن يونس بن حبيب بن عبد القاهر العجلي، حدثنا أبو داود سليمان بن داود الطيالسي حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة"، رواه مسلم عن محمد بن المثنى وابن بشار، كلاهما عن غندر. وأبي داود الطيالسي، كلاهما عن شعبة.

أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، الشيخ شرف الدين أبو الحسن: ولد سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. وسمع من أبي الفرج بن كليب وغيره، وحدث. وكان فقيهاً، فاضلاً ثقة، عالماً ديناً. جمع الله له بين حسن الخلق والخلق والدين، والأمانة والمروءة، وقضاء حوائج الإخوان، والكرم والإحسان للضعفاء والمرضى، وقضاء حوائجهم، والتهجد. وكان يقول الحق، ولا يحابي أحداً.

توفي ليلة رابع عشر في القعدة سنة ثلاث عشرة وستمائة. ودفن من الغد بسفح قاسيون. ورؤيت له منامات حسنة جداً. ورثاه غير واحد.

ولما توفي هؤلاء الثلاثة الأخيار المقدسيون: المحب، والعز، والشرف، في مدة متقاربة. رثاهم شيخ الإسلام موفق الدين بقوله:

مات المحب، ومات العز والشرف

 

أئمة سادة، ما منـهـم خـلـف

 

كانوا أئمة علم يسـتـضـاء بـهـم

 

لهفِي على فقدهم لو ينفع اللـهـف

ما وَدَّعوني غداة البـين إذ رحـلـوا

 

بل أَودعوا قلبي الأحزان وانصرفوا

شيعتهـم ودمـوع الـعـين وأكـفة

 

لبينهم، وفـؤادي حـشـوه أسـف

أكفكف الدمع من عيني فيغلـبـنـي

 

وأحضر الصبر في قلبي فلا يقـف

وقلت: ردوا سلامي، أوقفوا نفـسـا

 

رفقاً بقلبي، فما ردوا ولا وقـفـوا

ولم يعوجوا على صب بهـم دنـف

 

يُخْشَى عليه لما قد مسه الـتـلـف

أحباب قلبي، ما هـذا بـعـادتـكـم

 

ما كنت أعهد هذا منـك يا شـرف

بل كنت تعظم تبجيلي ومنـزلـتـي

 

وكنت تكرمني فوق الـذي أصـف

وكنت عوناً لنـا فـي كـل نـازلة

 

تظل أحشاؤنا من همهـا تـجـف

وكنت ترعى حقوق الناس كـلـهـم

 

من كنت تعرف أو من لست تعترف

وكان جودك مبـذولاً لـطـالـبـه

 

جنح الليالي إذا ما أظلـم الـسـدف

وللغريب الذي قد مـسـه سَـغَـب

 

وللمريض الذي أشفى به الـدنـف

وكنت عوناً لـمـسـكـين وأرمـلة

 

وطالب حاجة قد جـاء يلـتـهـف

 

 

 

 

 

 

إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الدمشقي، الفقيه. الزاهد الورع العابد. الشيخ عماد الدين، أبو إسحاق وأبو إسماعيل، أخو الحافظ عبد الغني الذي تقدم ذكره: ولد بجماعيل سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.

وكان يقول: أخي الحافظ عبد الغني أكبر مني بسنتين.

وقال المنذري: سنة أربع وأربعين، وهاجر إلى دمشق مع جماعتهم سنة إحدى وخمسين؛ لاستيلاء الفرنج على أرضهم.

وقرأ القرآن. وسمع من أبي المكارم بن هلال، وعبد الرحمن بن علي الخرقي، وغيرهما، وحفظ غريب القرآن للعزيزي، ومختصر الخرقي في الفقه.

ورحل إلى بغداد مرتين. "أولاهما: مع الشيحْ الموفق، سنة تسع وستين، فقرأ القرآن على أبي الحسن البطايحي، وسمع من أبي محمد بن الخشاب، وصالح بن الرحلة، وشهدة الكاتبة، والشيخ عبد المغيث الحربي وغيرهم.

وسمع بالموصل من خطيبها أبي الفضل الطوسي، وتفقه ببغداد على أبي الفتح بن المنى، حتى برع وناظر وأفتى، ورجع إلى دمشق، وأقبل على أشغال الناس ونفعهم.

قال الشيخ موفق الدين- في حق العماد، لما سئل عنه-: كان من خيار أصحابنا، وأعظمهم نفعاً، وأشدهم ورعاً، وأكثرهم صبراً على تعليم القرآن والفقه، وكان داعية إلى السنة، وتعليم العلم والدّين. وكان يقري الضعفاء الفقراء، ويطعمهم ويبذل لهم نفسه. وكان من أكثر الناس تواضعاً، واحتقاراً لنفسه وخوفاً من الله تعالى. وما أعلم أنني رأيت أشد خوفاً منه. وكان كثير الدعاء والسؤال للّه تعالى. وكان يطيل الركوع والسجود في الصلاة، ويقصد أن يقتدي بصلاة رسول الله جم!يم، ولا يقبل من أحد يعذله في ذلك. ونقلت له كرامات كثيرة.

وقال الحافظ الضياء: كان عالماً بالقرآن والنحو والفرائض، وغير ذلك من العلوم. وصنف كتاب "الفروق في المسائل الفقهية" لما وصنف كتاباً في الأحكام، لكنه لم يتمه. وكان مليحاً. وكان من كثرة أشغاله واشتغاله لا يتفرغ للتصنيف والكتابة.

قال: وسمعت الشيخ موفق الدين يقول: ما نقدر نعمل مثل العماد رحمه الله؛ كان يتألف الناس ويقريهم، حتى إنه ربما ردد على إنسان كلمات يسيرة من سَحَرٍ إلى الفجر.

وقال الضياء: كان رحمه الله يتألف الناس، ويلطف بالغرباء والمساكين، حتى صار من تلاميذه جماعة من الأكراد والعرب والعجم. وكان يتفقدهم ويسأل عنهم، وعن حالهم، ولقد صحبه جماعة من أنواع المذاهب، فرجعوا عن مذاهبهم لما شاهدوا منه. وكانوا يتحدثون عنه، ويذكرون لنا من كراماته وكرمه، وحسن عشرته. وكان سخياً جواداً، كثير المعروف، حتى كان بيته مأوى للناس. وكان ينصرف كل ليلة إلى بيته من الفقراء جماعة كثيرة من أصحابه، فيقدم إليهم ما حضر.

قال: وكان لا يكاد يفتر من الاشتغال: إما بالقرآن، أو الحديث، أو غيره من العلوم. وأقام بحران مدة، وانتفعوا به. وكان يشتغل بالجبل، إذا كان الشيخ موفق الدين بالمدينة، فإذا صعد الموفق الجبل نزل هو فاشتغل بالمدينة. وكان يقعد في جامع دمشق من الفجر إلى العشاء، لا يخرج إلا لما بد منه، يقرئ الناس القرآن والعلم، فإذا لم يبقَ له من يشتغل عليه اشتغل بالصلاة. وكان داعية إلى السنة وتعلم العلم والدين، وختم عليه جماعة من الأصحاب.

قال: وما أعلم أنه أدخل نفسه في شيء من أمر الدنيا، ولا تعرض لها، ولا نافس فيها. وقد يفتح لأصحابنا بعض الأوقات بشيء من الدنيا، فما أعلم أنه حضر عندهم يوماً قط في شيء من ذلك، وما علمت أنه دخل يوماً إلى سلطان ولا إلى والٍ. ولا تعرّف بأحد منهم. ولا كانت له رغبة في ذلك.

قال: وكان محافظاً على الصدق والورع. سمعته يقول لرجل: كيف ولدك? فقال: يقبل يدك. فقال: لا تكذب وكان كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لا يرى أحداً يسيء صلاته إلا قال له وعلّمه. ولقد بلغني أنه خرج مرة إلى قوم من الفساق فكسر ما معهم فضربوه، ونالوا منه حتى غشي عليه. فأراد الوالي ضرب الذين نالوا منه. فقال: إن تابوا ولزموا الصلاة فلا تؤذهم وهم في حل من قِبَلي. فتابوا ورجعوا عما كانوا عليه.

قال: ورأيته ربما يكون في مسجد، فإذا أخذ من لحيته شعرة أو من أنفه شيئاً جعل ذلك في عمامته. وربما برى قلماً فيتحفظ من القلامة. ولا يدعها في المسجد. وكان إذا أفتى في مسألة يتحرز فيها احترازاً كثيراً، حتى كان بعض الفقهاء يتعجب من فتاويه، وكثرة احترازه فيها.

وسمعت من يقول: كان يكون على ثوبه غبار، فيقول لي: اذهب فانفضه خارج المسجد.

وسمعت أبا محمد بن عبد الرزاق بن هبة الله الدمشقي، يقول: سمعت الشيخ عبد الله البطايحي رحمه الله يقول: أشكلت عليَّ مسألة في الورع، فما وجدت مَن أفتاني فيها إلا العماد. وكان رحمه الله: لا يرى أن يخرج الحصير من المسجد ليجلس عليها خارج المسجد، والحصير التي للمحراب لا يجلس عليها خارج المحراب.

وسمعت أحمد بن عبد الله بن أبي المجد الحربي يقول: كان الشيخ العماد عندنا بالحربية- يعني ببغداد- وكان إذا دخل بيت الله ولم يسم، خرج فسمى ثم دخل.

وسمعت من شيخنا وإمامنا موفق الدين أبي محمد المقدسي يقول: عمري أعرفه- يعني الشيخ العماد- وكان بيتنا قريباً من بيتهم- يعني في أرض المقدس- ولما جئنا إلى هنا. فما افترقنا إلا أن يسافر أحدنا، ما عرفت أنه عصى الله معصية.

وسمعت الإِمام أبا إبراهيم محاسن بن عبد الملك التنوخي يقول: كان الشيخ العماد جوهرة العصر، وذلك أن واحداً يصاحب شخصاً مدة، ربما تغير عليه، وكان الشيخ العماد: مَن صاحَبه لا يرى منه شيئاً يكرهه قط، كلما طالت صحبته ازداد بِشْره، ورأى منه ما يسره. وهذا شيء عظيم، وليس يكون كرامة أعظم من هذا.

قال الضياء: ولعله ما قعد عنده أحد إلا حصل له منفعة في العلم والزهد، أو اقتباس شيء من أخلاقه أو أوراده، وغير ذلك. وكان يذم نفسه ذمّاً كثيراً، ويحقرها ويقول: إيش يجيء مني? إيش أنا? وكان كثير التواضع.

سمعت الشيخ موفق الدين قال: ما رأيت من اجتمع فيه من خلال- كانت في الشيخ العماد - كان أكثر ذماً لنفسه منه. ولقد حضرت عنده مرة، وقد أخذته الريح، وكان لا يقدر على الكلام فوقفت، فلما قدر على الكلام شرع في ذم نفسه. وقال: اللهم أصلح فساد قلبي. وجعل ينوح على نفسه: أنا كذا، أنا كذا حتى أبكاني.

وسمعت الإمام أبا عبد الله يوسف بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي يقول: كنت أكتب طبقات السماع على الشيخ العماد. فكنت أكتب: الشيخ الإِمام العالم الزاهد الورع. فخاصمني على ذلك خصومة كثيرة.

ثم ذكر الضياء من كرمه وحسن عشرته: أن بعض أصحابه كانت تكون له الحاجة إليه، فيمضي إلى بيته. فيقيم عنده اليوم واليومين. قال: وما رأيته يشكي من ذلك شيئاً. قال: وما أظن أني دخلت عليه قط، إلا عرض عليَّ الطعام.

قال: ولم يزل هذا دأبه، من وقت ما عقلنا، وكان يتفقد الناس، ويسأل عن أحوالهم كثيراً. وربما بعث إلى الناس نفقة سراً.

وذكر عدة حكايات عنه، منها: أنه كان إذا غاب أحد من إخوانه أرسل إلى بيته النفقة وغيرها، وربما جاء بنفسه إليهم، قال: وربما كان بعض الناس يرسل إليه يشتري له حاجة، فربما زاد على ثمنها من عنده، ولا يعلمه بذلك. وكان يلقى الناس بالبشر الدائم.

قال: وسمعت من بعض أهله، أنهم قالوا: ربما كنا نؤذيه، فما يغضب علينا، ويقول: الذنب لي، وأنه كان يدعو لمن ظلمه ويحسن إليه.

قال: ولقد كان أعار داره التي في الدير لابن أخيه عز الدين أبي الفتح مدة يسكن فيها، ثم لم يعد إلى سكناها قط، وتركها له. ولم يكن له غيرها.

قال: وكان من إكرامه لأصحابه ومعارفه: يظن كل أحد أن ما عنده مثله. من كثرة ما يأخذ بقلبه ويكرمه.

ولقد سمعت الفقيه أبا محمد عبد المحسن بن عبد الكريم المصري، يقول: كان رجل من بيت القابلان من مَنبج، جاء إلى الشيخ العماد، فمرض، فكان يقعد عند رأسه بالليل، ويقرأ ورده عند رأسه.

وسمعت عباس بن عبد الدايم المصري الكناني يقول: كنا يوماً نمشي مع الشيخ العماد إلى دعوة، فلقي في السوق رجلاً أعمى يسأل، فقال يا فلان: تعال معنا، قال: فاستحى الضرير كثيراً من أجل سؤاله، قال: فلما دخلنا إلى البيت انبسط الشيخ مع الضرير، وقال: يا فلان، كلنا سُؤال، وما زال يقول له، حتى زال ما كان عنده من الحياء.

قال: وكان ربما تكلم على أحدنا ونصحه وحرضه على فعل الخير والاشتغال، حتى كان قلب الشخص يطير من كثرة دخول كلامه في القلب.

قال: وأوصاني وقت سفري، فقال: أكثر من قراءة القرآن، ولا تتركه فإنه يتيسر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ، قال: فرأيت ذلك وجربته كثيراً، فكنت إذا قرأت كثيراً تيسر لي من سماع الحديث وكتابته الكثير، وإذا لم أقرأ لم يتيسر لي.

قال: وكان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة، تفل عن يساره ثلاثاً، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وكبر تكبيرة يرفع صوته بذلك، ثم يستفتح، قال: فلم أرَ أحداً أحسن صلاة منه، ولا أتم منها بخشوع وخضوع، وحسن قيام وقعود وركوع، وربما كان بعض الناس يقول له: النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالتخفيف وقال لمعاذ: "أفتان أنت?" فلا يرجح إلى قولهم، ويستدل عليهم بأحاديث أخر. منها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يكون في الركعة الأولى حتى يمضي أحدنا إلى البقيع، ويقضي حاجته، ويأتي والنبي صلى الله عليه وسلم لم يركع" وقول أنس: "لم أرَ أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى- يعني: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه- قال الراوي: فحزرنا في ركوعه وسجوده عشر تسبيحات"، وبحديث: "كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً حتى يقول القائل: قد نسي".

قال: وقيل عن شيخنا: إنه كان يسبح عشراً، يتأنَّى في ذلك.

قال: وسمعت أبا عبد الله محمد بن طرخان، يقول: كنا نصلَي يوماً خلف الشيخ العماد، وإلى جانبي رجل كأنه كان مستعجلاً، فلما فرغنا من الصلاة، حلف لا صليت خلفه أبداً، وذكر حديث معاذ، فقلت له: ما تحفظ إلا هذا? وروي له الأخبار التي وردت في تطويل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إني قعدت عند الشيخ العماد، وحكيت له، وقلت له: أنا أحبك، وأشتهي أن لا يقال فيك شيء، فلو خففت? فقال: لعلهم يستريحون مني ومن صلاتي قريباً، يا سبحان الله! الواحد منهم، لو وقف بين يدي سلطان طول النهار ما ضجر، وإذا وقف أحدهم بين يدي ربه ساعة ضجر.

قال: وكان يقضي صلوات، فربما قضى في اليوم والليلة صلوات أيام عديدة حتى كان بعض ما يحكي يقول: ربما قضى الشيخ في عمره صلاة كذا وكذا، مائة سنة. وقال رحمه الله: فاتتني صلاة العصر، وكنت قبل أن أبلغ، وقد أعدتها مائة مرة، وأنا أريد أن أعيدها أيضاً.

قلت: الكلام في هذا: هل هو مشروع أم لا?

قال: وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً. قال: وكان كثير الدعاء بالليل والنهار. قال: وكان إذا دعا كأن القلب يشهد بإجابة دعائه من كثرة ابتهاله وإخلاصه، وكان إذا شرع في الدعاء لا يكاد يقطعه، ولو اجتمع أهله وجيرانه. فيدعو وهم حاضرون ويستبشرون بذلك. وكان يفتح عليه من الأدعية شيء ما سمعته من غيره قط. وربما بكى بعض الحاضرين عند دعائه. وذكر من توخيه أوقات الإجابة وأما كنها. ويواظب على الدعاء يوم الأربعاء، بين الظهر والعصر بمقابر الشهداء من باب الصغير. وقال: ما رأيت مثل هذا الدعاء، أو أسرع إجابة منه. يا الله يا الله. أنت الله? بلى والله، أنت الله، لا إله إلا أنت. الله الله الله، والله إنه لا إله إلا الله.

وكان يكثر في دعائه من قوله: اللهم اجعل عملنا صالحاً. واجعله لوجهك الكريم خالصاً. ولا تجعل لأحد فيه شيئاً، اللهم وخلصني من مظالم نفسي. ومظالم كل شيء قبل الموت. ولا تمتني ولأحد عليَّ مظلمة يطلبني بها بعد الموت. وإذا قضيت بالموت- ولا بد من الموت فاجعله على توبة نصوحٍ - بعد الخلاص من مظالم نفسي ومظالم العباد- قتلاً في سبيلك على سنتك. وسنة رسولك صلى الله عليه وسلم، شهادة يغبطني بها الأولون والآخرون، واجعل النقلة إلى روح وريحان. ومستراح في جنات النعيم، ولا تجعلها إلى نزل من حميم، وتصلية جحيم.

ومن دعائه: أسألك باسمك الكريم، ووجهك المنير، وملكك القديم. أن تصلَّي على محمد وعلى آل محمد، وأن ترزقني رضوانك الأكبر. والفردوس الأعلى. وما قرب إليهما من قول وعمل ونية. والخاتمة بأفضل خاتمة تختم بها لعبادك الصالحين، والعلم والعمل به، والحلم والحكم، والفهم والحفظ. والغنى عن الناس، وزوال الوسواس. والشبهات والنجاسات. والدين والحاجة إلى الناس، والتزين بما يشينني عندك. اللهم طهر ألسنتنا من الكذب، والغيبة والنميمة، وقلوبنا من النفاق والغل والغش، والحسد والكبر والعجب. وأعمالنا من الرياء والسمعة. وبطوننا من الحرام والشبهة. وأعيننا من الخيانة. فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. في دعاء كثير.

وذكر جملة من كراماته وكلامه على الخواطر والمعْيبات. فذكر عن بعضهم، قال: كنت أمشي خلف الشيخ العماد في السوق الكبير، فإذا صوت طنبور. فلما وصلنا إلى عند صاحبه قال الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونفض كمه. فرأيت صاحب الطنبور قد وقع وانكسر طنبوره. فقيل لصاحب الطنبور: إيش بك? قال: ما أدري.

قال: وسمعت أبا محمد عبد المحسن بن عبد الكريم قال: كنت خلف الشيخ العماد، فوقع في نفسي: أن أن الناس لا يعلمون من بعضهم بعضاً إلا الظاهر، وأن سرائر الخلق لا يعلمونها، وإذا الشيخ قد دار إليَّ، وقال: قال- أظنه الفضيل- لا تعمل شرّاً أو سوءاً، فتمقتك قلوب الصالحين.

وسمعت علي بن أبي بكر بن إدريس الطحان، قال: كان لي ابن مريض؛ فقلت: أدعو بدعاء مقاتل بن سليمان مائة مرة، فدعوت به، ثم جئت إليه، فالتفت إليَّ وإلى الحاضرين، وقال: دعاء بلا عملَ لا ينفع، أو كما قال.

قال: وحكت زوجة الشيخ، قالت: كان قبل موته يكثر أن يقول: قد قرب الأمر، ما بقي إلا القليل.

وذكر الحافظ الضياء في كتاب "الحكايات المقتبسة من كرامات مشايخ الأرض المقدسة" فصلاً في كراماته- وقرأته بخطه- قال: سمعت الشيخ المجاب الدعوة أبا أحمد نصر بن محمد بن سليمان المرداوي بها يقول: جاء إلى عندنا الشيخ العماد، وكنت أشتهي أن أسأله عن أشياء، فكنت أستحي، فكان يبتدئ ويذكر كل ما أريد أن أسأله عنه.

قال: وحدثني أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار، قال: كنت كثيراً ما أجيء إليه، وأنا أريد أن أقول شيئاً، فيسبقني فيتحدث ببعضه، فإذا رآني قد ابتدأت فيه سكت، ولم يرني أنه يريد ذلك.

قال الضياء: وكنت أجد في قلبي قسوة، وكنت أشتهي أن أشكو إليه ذلك، فابتدأني ليلة وذكر قسوة القلب. وقال: كيف يلين القلب إذا لم يكن العمل بإخلاص النية? وتكلم كلاماً كثيراً مما كنت أجد في نفسي، وفرحت بكلامه. وسمعت عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار يقول: حدثني أبو الحسن بن مشرق العطار. قال: أصابتني جنابة، ففاتتني الصلاة- يعني صلاة الفجر- ثم اغتسلت وقضيتها في النهار، وأتيت إلى صلاة الظهر معه. فوجدته في التشهد فصليت وسلمت عليه، فقال: يا فلان، تفوتك في يوم صلاتان? فقلت: يا سيدي أنا تائب.

قال: وسمعت بعض أهلنا يقول: كنت ربما احتجت إلى شيء من الملبوس أو أشتهي شيئاً من المأكول، فما أعلم حتى يبعث إليَّ الشيخ- يعني العماد- بالذي أحتاج إليه أو أشتهيه.

وحدثني أبو الربيع سليمان بن إبراهيم الأسعردي وغيره، أنهم كانوا عند الشيخ في مسجده يوماً، فقال لرجل: اخرج إلى هذا الرجل والمرأة اللذين خلف المسجد، واطردهما من هاهنا، فخرج فإذا رجل وامرأة يتحدثان ففرق بينهما.

وحدثني أبو الربيع أيضاً، قال: كنت عنده أيضاً في المسجد، فكان يوم يفتح لي بشيء لا يطعمني شيئاً، ويوم لا يفتح إلي بشيء، يرسل إلىَّ بشيء. قال: جرى لي هذا معه كثيراً.

وحدثني عبد الرحمن بن محمد المقدسي: أن رجلاً فرق في المصلى على الحاضرين زبيباً، وفرق آخر تمراً، أظنه للإفطار، وكان الذي فرق التمر ماله ليس بجيد، فأخذ الشيخ التمرة، فشمها ثم تركها، وأخذ الزبيب فأفطر عليه.

وسمعت الإِمام أبا الفداء إسماعيل بن عمر بن أبي بكر، قال: أخذت يوماً من عند رجل أجزاء كانت لي عنده وإجازات، فكان في جملة ما أخذت: إجازة لم تكن معي، ثم جئت إلى عند الشيخ، فأبصر الأجزاء، ثم شال الإجازة التي اختلطت معي، فقال: من أعطاك هذه? ثم عزلها، قال: فعرفت أنها كرامة في حقه، وذكر من تيسير القرآن والعلم على من قرأ عليه أمراً عجيباً.

قال: وسمعت ظريفة بنت إبراهيم تقول: فال لي أحمد بن سالم: أنا أعرف في الجبل خمسة من الصَّالحين- أو قال: من الأولياء- فسمى منهم الإمام إبراهيم بن عبد الواحد.

أحمد بن سالم- هذا- مرداوي كان عالماً عاملاً، ذا كرامات كثيرة، ذكرها أيضاً في هذا الكتاب.

قال: وحدثني عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار: أن زوجته عائشة بنت خلف بن راجح، حدثته: أنها رأت في النوم قائلاً يقول: قولوا للعماد يدعو لكم، فإنه من السبعة التي تقوم بهم الأرض.

وقد ذكره أبو المظفر سبط ابن الجوزي في تاريخه، وأثنى عليه ثناءاً كثيراً. وقال: ما تحرك بحركة، ولا مشى خطوة، ولا تكلم كلمة إلا لله تعالى. وكان يتعبد بالإخلاص، ولقد رأيته مراراً في الحلقة بجامع دمشق، والخطيب يوم الجمعة على المنبر، فيقوم ويأخذ الإِبريق ويضع بُلبلته على فيه، على رؤوس الأشهاد، ويوهم الناس أنه يشرب، وإنه لصائم.

قال: وكان يحضر مجالسي دائماً بجامع دمشق وقاسيون، ويقول: صلاح الدين يوسف فتح الساحل، وأظهر الإِسلام، وأنت يوسف، أحييت السنة بالشام. يشير بذلك إلى ما ذكره أبو المظفر على المنبر من كلام جده في إمرار الصفات وإثباتها.

وقال أبو شامة: هو الذي سن الجماعة في الصلوات المقضية. فكان يصلى بالجماعة بحلقتهم، بين المغرب والعشاء ما قدره الله تعالى. وبقي ذلك بعده مدة.

وذكره أبو محمد البزوري الواعظ، في طبقات أصحاب ابن المنى في سيرته. وأثنى عليه كثيراً. وكذلك أبو محمد عبد الرزاق الرسعني في تفسيره: يذكره كثيراً. ويثني عليه ويعظمه. ويذكر من فوائده وكلامه.

قال الضياء: توفى رحمه الله. ليلة الخميس. وقت عشاء الآخرة، السادس عشر من ذي القعدة سنة أربع عشره وستمائة. وقال المنذري: السابع عشر. ودفن يوم الخميس. وكان صلى تلك الليلة المغرب بالجامع. ثم مضى إلى البيت، وكان صائماً. فأفطر على شيء يسير. وحكى عنه: أنه لما جاءه الموت. جعل يقول: يا حي يا قيوم. لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث فأغثني. واستقبل القبلة وتشهد ومات رحمه الله.

قال: ولما خرجت جنازته إلى الجامع اجتمع خلق كثير. فما رأيت الجامع إلا كأنه يوم الجمعة من كثرة الخلق. وتركت جنازته في قبلة الجامع وصلى عليه الإِمام موفق الدين شيخنا. وكان المعتمد يطرد الناس عنه، وإلا كانوا من كثرة من يتبرك به يخرقون الكفن. وازدحم الناس على جنازته بين يديها وخفها حتى كاد بعض الناس يهلك، وخرج إلى الجبل خلق كثير. ما رأيت جنازة قط كثر خلقاً منها. وخرج القضاة والعدول ومن لا نعرفهم. وصلى عليه غير مرة. رحمه الله تعالى.

وقال سبط ابن الجوزي: غسل وقت السحر. وأخرجت جنازته إلى جامع دمشق، فما وسع الناس الجامع، وصلى عليه الموفق بحلقة الحنابلة بعد جهد جهيد، وكان يوماً لم يرَ في الإِسلام مثله. كان أول الناس عند مغارة الدم ورأس الجبل إلى الكهف، وآخرهم بباب الفراديس. ولولا المبارز المعتمد وأصحابه: لقطعوا أكفانه. وما وصل إلى الجبل إلى آخر النهار. قال: وتأملت الناس من أعلى قاسيون إلى الكهف قريب المنظور، لو رمى إنسان عليهم إبرة لما ضاعت. فلما كان في الليل نمت وأنا متفكر في جنازته. وذكرت أبيات سفيان الثوري التي أنشدها في المنام.

نظرت إلى ربي كفاحاً، فقال لي

 

هنيئاً رضائي عنك يا ابن سعيد

فقد كنت قواماً إذا أقبل الدجـى

 

بعبرة مشتاق وقلـب عـمـيد

فدونك، فاختر أي قصر أردتـه

 

وزرني، فإني منك غير بعـيد

وقلت: أرجو أن العماد يرى ربه كما رآه سفيان عند نزول حفرته، ونمت فرأيت العماد في النوم، وعليه حلة خضراء، وعمامة خضراء، وهو في مكان متسم كأنه روضة، وهو يرقى في درجة مرتفعة، فقلت: يا عماد الدين، كيف بت? فإني والله متفكر فيك، فنظر إليَّ وتبسم على عادته، وقال:

رأيت إلهي حين أنزلت حفـرتـي

 

وفارقت أصحابي وأهلي وجيرتي

فقال: جزيت الخير عني، فإنـنـي

 

رضيت، فها عفوي لديك ورحمتي

رأيت زماناً تأمل الفوز والرضـا

 

فوُقِّيت نيراني، ولُقَيت جـنـتـي

قال: فانتبهت مرعوباً، وكتبت الأبيات.

وذكر الضياء هذا المنام، عن أبي المظفر السبط، وذكر منامات أخر.

منها: أنه رؤى في النوم على حصان، فقيل له: إلى أين? قال: أزور الجبار. ورآه آخر، فقال: ما فعل الله بك? فقال: "يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين".

قال: وسمعت الفقيه الإِمام أبا محمد عثمان بن حامد بن حسن المقدسي يقول: رأيت الحق عز وجل في النوم، والشيخ العماد عن يمينه، ووجهه مثل البدر، وعليه لباس ما رأيت مثله.

قال: وسمعت الفقيه الإِمام عبد الحميد بن محمد بن ماضي المقدسي، يقول: سمعت من قبر الشيخ العماد مرتين رائحة طيبة، رحمه الله تعالى.

وقد حدث بالكثير، وسمع منه خلق كثير من الحفاظ والأئمة، كالضياء والمنذري. وروى عنه ابن خليل وابن البخاري.

أخبرنا أبو عبد الله الأنصاري، أخبرنا أبو الحسن بن البخاري، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي، أخبرنا أْبو الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي، أخبرنا جعفر بن أحمد السراج، أخبرنا الحسن بن أحمد بن شاذان، حدثنا أبو عمرو بن السماك، حدثنا حنبل، حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة المنقري، حدثنا سعيد بن سلمة المديني، عن هشام بن عروة، عن أخيه، عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنتُ لكِ كأبي زرع لأم زرع"، ثم أنشأ يحدث حديث أم زرع وصواحبها، فذكر الحديث بطوله.

ورثاه الصلاح موسى بن شهاب المقدسي بأبيات. منها:

يا شيخنا، يا عماد الدين، قد قرحت

 

عيني وقلبي منك اليوم متـبـول

أوحشت والله رَبْعاً كنت تسكـنـه

 

لكنه الآن بالأحـزان مـأهـول

كم ليلة بت تحييها وتسـهـرهـا

 

والدمع من خشية الله مسـبـول

وسجدة طال ما طال الـقـنـوت

 

بها قد زانها منك تكبير وتهلـيل

عبد الرحمن بن عمر بن أبي نصر بن علي بن عبد الدايم بن الغزَّال البغدادي الواعظ أبو محمد، ويلقب بشهاب الدين: ولد في جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة.

وسمع الكثير بإفادة أبيه وبنفسه من الحافظ ابن ناصر، وسعيد بن البناء. ونصر بن نصر العكبري، وأبي بكر بن الزاغوني، وأبي عبد الله بن الرطبي والنقيب أبي جعفر بن أحمد بن محمد العباسي، وأبي الوقت، والمبارك بن السراج، وابن المادح، وهبة الله بن الشبلي، وأبي زرعة بن البطي، وخلق كثير ممن بعدهم، وعنى بهذا الشأن، وقرأ بنفسه، وكتب الكثير بخطه، وله في الخط طريقة حسنة معروفة، ووعظ مدة. ورأيت بخطة جزءاً من أخبار الحلاج، الظاهر أنه جمعه، ويروي فيه بالأسانيد عن شيوخه، ومال إلى مدح الحلاج وتعظيمه، واستشهد بكلام ابن عقيل في تصنيفه القديم الذي تاب منه، ولقد أخطأ في ذلك.

وقال ابن النجار: وسمعت منه، وكان سريع القراءة والكتابة، إلا أنه كان لحَنَةً، قليل المعرفة بأسماء المحدثين.

قال: وقرأت بخط شيخنا أبي الفتوح نصر بن الحصري: عبد الرحمن بن الغزّال، لا يحتج بقراءته ولا بخطه، وهو ساقط.

وحدث، وسمع منه جماعة، وأجاز للمنذري، وعبد الصمد بن أبي الجيش، وروى عنه ابن الصيرفي.

وتوفى ليلة الثلاثاء نصف شعبان سنة خمس عشرة وستمائة، ودفن من الغد بباب حرب. رحمه الله.

أخبرنا محمد بن إسماعيل الأنصاري أخبرنا يحيى بن الصيرفي الفقيه أخبرنا عبد الرحمن بن عمر الواعظ أخبرنا أبو الوقت أخبرنا أبو الحسن الداودي أخبرنا أبو محمد الحموي، أخبرنا محمد بن يوسف بن مطر، حدثنا البخاري المالكي حدثنا يؤيد بن أبي عبيد عن سلمة. قال: كان جدار المسجد عند المنبر. ما كادت الشاة تجوزها.

وكان له ولد نجيب، اسمه:

أحمد، ويسمى هبة الكريم أيضاً. ويكنى أبا نصر، وكان سبط أبي العباس بن بكروس الفقيه المتقدم ذكره: ولد سنة ثمانين وخمسمائة، وحفظ القرآن، وقرأ بالروايات الكثيرة على أصحاب سبط الخياط. وتفقه في المذهب، وتكلم في مسائل الخلاف، ووعظ الناس على المنبر، واعتنَى به والده، وأسمعه الكثير من ابن كليب، وابن بوش، وذاكر بن كامل، وابن المعطوش، وابن الجوزي، وأبي محمد بن الصابوني، وطبقتهم. وطلب هو بنفسه، وقرأ على الشيوخ، وكتب بخطه كثيراً. وكان حسن الطريقة، متديناً. ذكر ذلك ابن النجار. وقال: سمع منا كثيراً، واصطحبنا مدة، وكان طيب الأخلاق لطيفاً، حسن العشرة كيساً، استلبته يد المنون في عنفوان شبابه، وقد جاوز العشرين. لأنه توفى يوم الخميس خامس المحرم سنة إحدى وستمائة، فال: وصلينا عليه من الغد بجامع القصر، وتقدم للصلاة عليه والده، وحمل إلى باب حرب؛ فدفن هناك.

قال: ورأيته في المنام، وعليه ثياب فاخرة، قميص فوط جديد، وبغيار أبيض مليح، فسألته: ما فعل الله بك? قال: غفر لي، وقليل العمل ينفع عند الله. وسألته عن عذاب القبر: أحق هو? قال: لا، فقلت له مرة ثانية: عذاب القبر حق، وجبذته جبذة، كالمنكر عليه، فقال: أنا ما رأيته، فقلت له: فمنكر ونكير? قال: إي والله حق، نزلا عليَّ وسألاني، رحمه الله تعالى.

أحمد بن أحمد بن أحمد بن كرم بن غالب بن قتيل البندنيجي، ثم البغدادي، الأزجي، الحافظ، المحدث، المعدل، أبو العباس بن أبي بكر بن أبي السعادات، المعروف بابن البندنيجي: ولد في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وتلقن القرآن من أبي حكيم النهرواني، وقرأه بالروايات على أبي الحسن البطائحي وغيره.

وسمع الحديث الكثير من أبي بكر بن الزاغوني، وأبي الوقت، وهبة الله بن الشبلي.

وأبي محمد بن المادح، والشيخ عبد القادر الجيلي، والمبارك بن خضير، وأبي زرعة، وابن البطي وخلق كثير. وفي بهذا الشأن، وكتب بخطه الكثير، وخرج وأفاد.

ووسمه جماعة بالحافظ، منهم: المنذري. قال الذهبي: كان وافر السماع، كثير الشيوخ، حسن الأصول. حدث بالكثير، وسمع منه جماعة.

وقال غيره: كان مكثراً من الرواية والحفظ. وكان أحد شهود بغداد. شهد عند ابن الدامغاني سنة ست وسبعين وخمسمائة، شم عزل عن الشهادة عزل قاضي القضاة العباسي. فإن خطه وجد على الكتاب الني عزل القاضي بسببه بالعرض، واعتذر بأن القاضي أخبره بمعارضته بأصله، فركن إلى قوله. والله أعلم بحقائق الأمور. ثم في سنة سبع وستمائة- لما ظهرت إجازة الخليفة الناصر من جماعة من الشيوخ، وكان ابن البندنيجي وأخوه تميم المتقدم ذكره: هما اللذان استجازا له، وكانت عند ولد تميم فروى بها الخليفة، وأجاز للأعيان- أعيد ابن البندنيجي إلى عدالته بتزكيته الأولى وتقدم.

وتوفى رحمه الله ليلة الأربعاء- وقيل: ليلة الثلاثاء- رابع عشر رمضان سنة خمس عشرة وستمائة، ودفن بمقبرة باب حرب.

أخبرنا أبو المعالي محمد بن عبد الرزاق- بقراءتي عليه ببغداد- أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن عبد اللطيف البزاز، أخبرنا أبو العباس أحمد بن أحمد بن أحمد المعدل الحاجب- كتابة- أخبرنا أبو الحسن سعد الله بن نصر الحيواني- قراءة عليه- أخبرنا أبو منصور محمد بن أحمد المقرئ، أخبرنا أبو نصر أحمد بن مسرور بن عبد الوهاب حدثنا أبو الفرج المعافَى بن زكريا- إملاء- حدثنا علي بن محمد المصري حدثنا مقدام بن داود، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن لهيعة حدثنا درَاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان قال: وعزتك يا رب، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال الرب عزَّ وجلَّ: وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني".

وتوفى معه في ثالث عشر رمضان من السنة:-

أبو محمد عبد الكافي بن بدر بن حسان الأنصاري الشامي الأصل المصري، النجار الحنبلي: وكان شيخاً صالحاً كثير الصيام والتعبد، سمع من البوصيري، والأرتاحي وعبد الغني الحافظ، وربيعة بن نزار وغيرهم، علق عنه المنذري شيئاً.

توفى وله نحو الستين، ودفن بسفح المقطم.

عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن الحسين العكبري، ثم البغدادي الأزجي المقرئ، الفقيه، المفسر الفرضي اللغوي، النحوي، الضرير، محب الدين، أبو البقاء بن أبي عبد الله ين أبي البقاء: ولد ببغداد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة هكذا قال غير واحد.

وذكر الدبيثي: أنه سأله عن مولده. فقال: سنة ثمان وثلاثين، وقال القطيعي: سألته عن مولده? فقال: في حدود سمنة تسع وثلاثين.

وقرأ القرآن على أبي الحسن البطايحي، وسمع الحديث من أبي الحسن بن البطي، وأبي زرعة المقدسي، وأبي بكر بن النقور، وابن هبيرة الوزير. وقرأ الفقه على القاضي أبي يعلى الصغير، وأبي حكيم النهرواني، حتى برع فيه.

وأخذ النحو عن أبي محمد بن الخشاب، وأبي البركات بن نجاح، واللغة من ابن القصاب. وبرع في فنون عديدة من العلم، وصنف التصانيف الكثيرة، ورحلت إليه الطلبة من النواحي، وأقرأ المذهب والفرائض والنحو واللغة، وانتفع به خلق كثير.

قال أبو الفرج بن الحنبلي الملقب بناصح الدين: كان - يعني أبا البقاء - إماماً في علوم القرآن، إماماً في الفقه، إماماً في اللغة، إماماً في النحو، إماماً في العَروض، إماماً في الفرائض، إماماً في الحساب، إماماً في معرفة المذهب، إماماً في المسائل النظريات. وله في هذه الأنواع من العلوم مصنفات مشهورة.

قال: وكان معيداً للشيخ أبي الفرج بن الجوزي في المدرسة، وكان متديناً، قرأت عليه كتاب "الفصيح" لثعلب، من حفظي، وقرأت عليه بعض كتاب "التصريف" لابن جني.

وقال الإِمام عبد الصمد بن أبي الجيش: كان يفتي في تسعة علوم، وكان واحد زمانه في النحو واللغة، والحساب والفرائض، والجبر والمقابلة والفقه، وإعراب القرآن والقراءات الشاذة، وله في كل هذه العلوم تصانيف كبار وصغار، ومتوسطات، وذكر أنه قرأ عليه كثيراً.

وقال ابن الدبيثي: كان متفنناً في العلوم، له مصنفات حسنة في إعراب القرآن وقراءاته المشهورة، وإعراب الحديث، والنحو واللغة، سمعت عليه? ونعم الشيخ كان.

وقال ابن النجار: قرأت عليه كثيراً من مصنفاته، وصحبته مدة طويلة، وكان ثقة متديناً، حسن الأخلاق متواضعاً، كثير المحفوظ. وكان محباً للاشتغال والإشغال، ليلاً ونهاراً، ما يمضي عليه ساعة إلا وواحد يقرأ عليه، أو يطالع له، حتى ذكر لي: أنه بالليل تقرأ له زوجته في كتب الأدب وغيرها، قال: وبقي مدة من عمره فقيد النظير، متوحداً في فنونه التي جمعها من عوام الشريعة والآداب، والحساب، في سائر البلاد، وذكر لي: أنه أضر في صباه بالجدري، وذكر تصانيفه.

وقال غيره: كان أبو البقاء إذا أراد أن يصنف كتاباً: أحضرت له عدة مصنفات في ذلك الفن، وقُرئت عليه، فإذا حَصَّله في خاطره: أملاه، فكان بعض الفضلاء يقول: أبو البقاء تلميذ تلامذته، يعني: هو تبع لهم فيما يلقونه عليه.

وقال المزاني: سمعت الشيخ أبا البقاء يقول: جاء إليَّ جماعة من الشافعية فقالوا: انتقل إلى مذهبنا، ونعطيك تدريس النحو واللغة بالنظامية، فأقسمت وقلت: لو أقمتموني وصببتم عليَّ الذهب حتى أتوارى، ما رجعت عن مذهبي.

ذكر تصانيفه

"تفسير القرآن" "البيان، في إعراب القرآن" في مجلدين، "إعراب الشواذ"، "متشابه القرآن"، "عدد الآي"، "إعراب الحديث"، كتاب "التعليق، في، مسائل، الخلاف"، في الفقه "شرح الهداية لأبي الخطاب في الفقه"، كتاب "المرام، في نهاية الأحكام"، في المذهب كتاب "مذاهب الفقهاء"، "الناهض، في علم الفرائض"، "بلغة الرائض، في علم الفرائض"، وكتاب آخر في الفرائض، للخلفاء "المنفح من الخطل في علم الجدل" "الاعتراض على دليل التلازم ودليل التنافي"، جزء "الاستيعاب، في علم الحساب"، "اللباب، في البناء والإعراب"، "شرح الإيضاح"، "شرح اللمع" "شرح التلقين، في النحو"، "التلخيص في النحو"، "الإشارة في النحو"، "تعليق على مفصل الزمخشري"، "شرح الحماسة"، "غوامض الألفاظ اللغوية للمقامات الحريرية"، "شرح خطب ابن نباتة"، "شرح بعض قصائد رُؤبة"، "شرح لغة الفقه"، أملاه على ابن النجار الحافظ، "شرح ديوان المتنبي"، "أجوبة مسائل وردت من حلب"، "مسائل مفردة"، "المشرق المعلم في ترتيب اصطلاح المنطق على حروف المعجم"، "تلخيص أبيات شعر لأبي علي" ، "تهذيب الإنسان بتقويم اللسان"، "الإعراب عن علل الإعراب" وغير ذلك.

ومن شعره يمدح الوزير ابن القصاب:

بك أضحى حيد الزمان محـلـى

 

بعدما كان من حلاه مـخـلـى

لا يجاريك في تجـاريك خـلـق

 

أنت أعلى قدر أو أعلى مـحـلا

عِشْتَ تُحْيى ما قد أُميت من الفض

 

ل وتنفى جَوْراً، وتطرد مَـحْـلا

قال ابن الساعي: ذكر شيخنا أبو البقاء: أنه لم يعمل قط سوى هذه الأبيات كذا قال، وقد قال ابن القطيعي: أنشدني أبو البقاء لنفسه:

أشكو إلى الله ما ألقى من الـكـمـد

 

ومن فراق حبيب فَتَّ في عضـدي

وهَى اصطباري، وها دمعي ينم على

 

برح الهوى بي، وأن قد خانني جلدي

قد كنت والشمل ملموماً بهم فـرقـاً

 

من الفراق وإشفاقي على الرصـد

فكيف حالي وقد شط المزار بـهـم

 

عني، وبُدِّل قرب الدار بالـبـعـد.

طار الفؤاد شعاعاً ساعة احتمـلـوا

 

وألف البين بين الجفن والـسـهـد

أنَّى أَلدّ بـعـيش بـعـد بـعـدهـم

 

والروح في بلد والجسم في بـلـد?

يا ويح قلبـي مـن شـوق أكـابـده

 

ضعفت عنه، فمن ذا أخـذ بـيدي?

حكم الهوى جائر، عـدوانـه هـدر

 

قتلاه ظلماً بِـلا عـقـل ولا قـود

قد رق قلبي ظـلـوم مـا يَرق لـه

 

من الغرام الذي أجني على كـبـدي

أحنى الضلوع على قلب تمـلـكـه

 

من ليس يحنو على صب به كمـدي

قال: وأنشدني أبو البقاء العكبري لنفسه:

صاد قلبي على العقيق غـزال

 

ذو نفار وصـالـه مـا ينـال

فاتر الطرف، تحسب الجفن منه

 

ناعساً، والنعاس منـه مـدال

أخذ عنه العربية خلق كثير، وأخذ عنه الفقه جماعة من الأصحاب، كالموفق بن صُديق، ويحيى بن يحيى الحرانيين.

وسمع منه الحديث خلق كثير. وروى عنه ابن الدبيثي، وابن النجار، والضياء، وابن الصيرفي، وبالإجازة جماعة، منهم: الكمال البزار البغدادي.

وتوفى ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر سنة ست عشرة وستمائة، ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب، رحمه الله تعالى.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأنصاري، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن أبي منصور الحراني- حضوراً- أخبرنا أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري أخبرنا أبو الفتح محمد بن عبد الباقي، أخبرنا مالك بن أحمد البانياسي، أخبرنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس الحافظ، حدثنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نزع يداً من طاعة لقي الله عز وجل ليست له حجة، ومن مات مفارقاً للجماعة، مات ميتة جاهلية".

ذكر شيء من فوائده

وكلامه في الفقه وغيره

ذكر أبو البقاء في شرح الهداية وجهاً بدخول الاستحاضة في مدة النفاس، وقد حكاه قبله القاضي في شرح المَذهب.

وحكى فيما إذا حَكَّ أسفل الخف بعود ونحوه من النجاسة، فهل يقوم مقام دلكه بالأرض في طهارته أو العفو عنه? وجهين.

وقال فيه: الكلب والحمار الأهلي والوحشي سواء في قطع الصلاة.

قال: وقال الشريف: رأيت في بعض نسخ "المجرد" يقطع الحمار الأهلي.

وقال فيه: لم أجد لأصحابنا في بعض الآية التي يجوز للجنب قراءتها حداً، وظاهر قولهم: أنه يجوز ذلك، وإن كثر البعض، وكان بمنزلة آيات متوسطة.

والأمر محمول عندي على غير ذلك، وهو أن يحمل البعض على مقدار دون آية متوسطة، إذا كان كلاماً تاماً في متعلق بما قبله وما بعده، وحكى ابن الصيرفي أيضاً عن أبي البقاء: أنه كان يختار جواز أخذ بني هاشم من الزكاة إذا منعوا حقهم من خمس الغنيمة.

وقال ابن الصيرفي أيضاً: خَرَجت جواز دفع الرشوة إلى القاضي الظالم لدفع ظلمه على محامل الخراج، وذاكرت بذلك شيخي أبا البقاء، فلم يصوبه، قال: ثم رأيت ابن عقيل في فنونه صرح بما خرجته.

قال: وسمعت شيخنا أبا البقاء يقول: فيمن رأى رجلاَ نائماً، وقد دخل عليه وقت الصلاة: لا يوقظه؛ لأنه غير مخاطب، فال: ويغلب على ظني أنه حكاه عن شيخه أبي حكيم.

قال: وقرأت بخط بعض أصحاب أبي الخطاب: أنه سأل أبا الخطاب عن هذه المسألة. فقال: نعم يوقظه.

قال: وحكى عن شيخنا أبي محمد بن قدامة المقدسي مثل ذلك.

قال: ورأيت في فنون ابن عقيل هذه المسألة، وقد جرت فيها مذاكرات بين ابن عقيل ورجل آخر معين، واختلفا في ذلك.

ومن كلامه في حواشي المفصل: "أفعل" تستعمل على وجهين.

أحدهما: يدل على أن فضل المذكور زائد على فضل من أضيف إليه أفعل فهذا يستعمل على ثلاثة أوجه ب "من" كقولك: زيد أفضل من عمر، وهذا لا يثنى ولاء يجمع ولا يؤنث، لعلة ليس هذا موضعها، وبالإضافة، كقولك: زيد أفضل القوم، وهذا لا يضاف إلى مضاف إلى ضميره، فلا تقول زيد أفضل إخوته، وبالألف واللام، كقولك: زيد الأفضل.

والوجه الثاني: أن لا يكون "أفعل" للزيادة، بل لاشتهار المذكور بالفضل وتخصيصه من دونهم، كقولك: زيد أفضل القوم، كما تقول: فاضل، وعلى هذا: يجوز أن يضاف إلى ضميره، كقولك: زيد أفضل قومه، وأحسن إخوته، أي هو الفاضل من بينهم، وهذا يثنى ويجمع ويؤنث، ومنه الفرق بين قوله: من دخل داري فله درهم، ومن دخل داري له درهم. بإسقاط الفاء، أي إنه مع إثباتها يكون ضامناً له الدرهم على دخوله، ومع سقوطها يحتمل أن يكون أخبر عنه بأنه يملك درهماً، لا أنه ضمن له شيئاً، وقال: الفرق بين "واو" مع، "واو" العطف يتبين بقولك "قم أنت وزيد" إذا رفعت "زيد" كنت آمراً لهما بالقيام، لأن حكم العطف أن يشرك بين المعطوف والمعطوف عليه في العامل، وإذا نصت كنت آمراً المخاطب أن يتابع زيداً في القيام، ولست آمراً زيداً بالقيام، حتى لو لم يقم لم يلزم المخاطب القيام، لأن هذا هو حكم "مع" لا.

ومن كلامه- ونقلته عن خط ابن الصيرفي- "لو" يقع في الكلام على ثلاثة أوجه: أحدها: امتناع الشيء لامتناع غيره.

والثاني: أن يكون بمعنى "إن" الشرطية، كقوله تعالى: "وَلاَمَة مُؤْمِنَةٌ خَير مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَثكمْ". "البقرة: 221".

والثالث: أن تكون بمعنى "أن" الناصبة للفعل المستقبل، ولكنها لا تنصب، وهو كثير في القرآن والشعر، كقوله تعالى: "ودُوا لَوْ تُدْهِن فَيُدْهِنُونَ" "التوبة: 239"، "يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى" "المعراج: 11"، ولا يجوز أن يكون للامتناع، إذ لا جواب لها، ولأن "وَدّ" لا تعلق عن العمل؛ إذ ليس من باب العلم والظن ولأن "أن" قد جاءت بعدها صريحة في قوله تعالى: أَيَوَدُ أَحَدُكُمْ أَنْ تكونَ لهُ جَنَّةٌ" البقرة: 266"، وإنما لم تنصب، لأن "لو" قد تعددت معانيها، فلم تختص، وجرت مجرى "حتى" في الأفعال. والقسم الأول يرد في اللغة على خمسة أوجه.

أحدها: أن تدل على كلام لا نفي فيه، كقولك: لو قمتَ قمتُ، ويفيد ذلك امتناع قيامك لامتناع قيامه.

والثاني: أن تدخل على نفيين، فيصير المعنى إلى إثباتهما، كقولك: لو لم تزرني لم أكرمك، أي أكرمتك لأنك زرتني، فانقلب النفي ههنا إثباتاً، لأن "لو" امتنا، والامتناع نفي، والنفي إذا دخل على النفي صار إيجاباً.

والثالث: أن يكون النفي فيما دخلت عليه دون جوابها، كقولك: لو لم تشتمه لأكرمك، فالشتم واقع، والإِكرام منتفٍ، والامتناع أزال النفي، وبقي الإيجاب بحاله.

والرابع: عكس الثالث، وهو قولك: لو أحسن إليك لم تسيء إليه، والمعنى معلوم.

والخامس: آن تقع للمبالغة، فلا تفيد مفادها في الوجوه الأُول، كقول عمر رضي الله عنه "نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه"، والمعنى: أنه لو لم يكن عنده خوف لما عصى، فكيف يعصى وعنده خوف. ولو لم يرد المبالغة لكان معنى ذلك: أنه يعصي الله، لأنه يخافه.

وقال أيضاً: "لو" في الموضع اللغوي تعلق فعلاً بفعل، والفعل الأول علة الثاني، إلا أن يكون هنا قرينة صارفة تصرفها عن هذا الأصل. وهو أن يدل المعنى على إرادة المبالغة، كقولك: لو أهين زيد لأحسن إلى من يهينه، والمعنى: أنه إذا أكرم كان أولى بالإحسان، لا أنه إذا لم يهن لم يحسن.

ومن كلامه "بله" تستعمل على ثلاثة أوجه.

أحدها: أن تكون بمعنى "غير".

والثاني: أن تكون بمعنى "دع" فتكون مبنية على الفتح.

والثالث: أن تكون بمعنى "كيف" فإن دخلت "من" عليها كانت معربة، وجُرّت بمن.

وذكر أن أبا علي الفارسي حكى عن أبي زيد القلب، فيقال: "بهل" إلا أنها لا تستعمل مثل "بله" لأنها فرع.

وقال أبو البقاء: سألني سائل عن قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"، فقال: أيجوز في "الرحماء" الرفعُ والنصب? وذكر أن بعضهم زعم أن الرفع غير جائز. فأجبت: بأن الوجهين جائزان.

أما النصب: فله وجهان، أقواهما: أن تكون "ما" كافَّة لإن عن العمل فلا يكون في الرحماء، على هذا إلا النصب، لأن "إن" إذا كُفَّت عن العمل وقعت بعدها الجملة ابتدائية، ولم يبق لها عمل، فيتعين حينئذ نصب الرحماء" ب "يرحم" إذ لم يبقَ لها تعلق بإنَ. ومثله: "إنما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ" "البقرة: 117" على قراءة من نصب، وفائدة دخول "ما" على هذا الوجه: إثبات المذكور، ونفي ما عداه، فتثبت الرحمة للرحماء دون غيرهم.

والوجه الثاني: أن تكون "ما" زائدة، و "إن" بمعنى "نعم" وزيادة "ما" كثيراً، ووقوع "إن" بمعنى "نعم" كثير. فمنه قوله تعالى: "إن هَذَانِ لَسَاحِرَانِ" "الفرقان: 63"، في أحد القولين. ومنه قول ابن الزبير، حين قال له رجل: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال: "إنَّ وراكبها" وهو كثير في الشعر.

فإن قيل: إنما يجيء ذلك بعد كلام تكون جواباً له، ولم تسبق "ما" يجاب عليه: "نعم".

قيل: إن لم يسبق لفظاً فهو سابق تقديراً، فكأن قائلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله من عباده من يرحم الخلق، وإن كان مقصراً فيما بينه وبين الله تعالى? فقال: نعم. وهذا مما يجوز أن يسأل عنه.

وأما الرفع: فجائز جوازاً حسناً. وفيه عده أوجه: أحدها: أن تكون "ما"، بمعنى الذي، والعائد إليها محذوف، و "الرحماء" خبر "إن" والتقدير: إن الفريق الذي يرحمه الله من عباده الرحماء.

فإن قيل: يلزم من ذلك: أن تكون "ما" هنا لمن يعقل?.

ففيه جوابان:

أحدهما: أن "ما" قد استعملت بمعنى "من" كقوله تعالى: "فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النَّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ، فَإِنْ خِفْتمْ أَنْ لا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ" "النساء: 3"، وهو كثير في القرآن. ومنه "وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا. والأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا" "الشمس: 5، 6"،. في أصح القولين، وحكى أبو زيد عن العرب: سبحان ما سَبحْتُنَّ له. وسبحان ما سخركن لنا.

والثاني: أن "ما" تقع بمعنى "الذي" بلا خلاف، و "الذي" تستعمل فيمن يعقل، وفيمن لا يعقل. وإنما يعرف ذلك بما يتصل بها، وكذلك في "ما" لا سيما إذا اتصل بها ما يصير وصفاً، وإنما تفترق "ما" و"الذي" في أن "الذي" يوصف بلفظها، و "ما" لا يوصف بلفظها.

فإن قيل: كيف يصح هذا? والرحماء جمع، صلى الله عليه وسلم "ما" بمعنى "الذي" مفردة، والمفرد لا يخبر عنه بالجمع?.

قيل: "ما" يجوز أن يخبر عنها بلفظ المفرد تارة، وبلفظ الجمع أخرى، مثل للأمن "وكل" قال تعالى: "ومنهم من يستمع إليك" "الأنعام: 25"، وقال في آية أخرى: "ومنهم من يستمعون إليك" يونس: 42" وكذلك قوله تعالى: "بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" البقرة 112"، وقال في "كل" "وكلٌّ أتوه داخرين"، "وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً" "مريم: 95"، فالإفراد محمول على لفظ "من" و "ما" و "كل" والجمع محمول على معانيها.

وأما "الذي" فقد استعملت مفردة للجنس، ورجع الضمير تارة إلى لفظها مفرداً، وتارة إلى معناها مجموعاً، قال تعالى: "مثلهم كمثل الني استوقد ناراً. فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون" "البقرة: 17"، فجاء بالضمير مفرداً ومجموعاً، وقال تعالى: "والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون" "الزمر: 33"، فأعاد الضمير بلفظ الجمع، فكذلك في قوله: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"، ولك على هذا الوجه أن تجعل "إن" العاملة، وأن تجعلها بمعنى "نعم" على ما سبق.

الوجه الثاني من وجوه "ما" التي يجوز معها رفع "الرحماء": أن تكون، "ما" نكرة موصوفة في موضع: فريق أو قبيل، و "يرحم" صفة لها، و "الرحماء" الخبر، والعائد من الصفة إلى الموصوف محذوف، تقديره: إن فريقاً يرحمه الله: الرحماء.

فإن قيل: كيف يصح الابتداء بالنكرة، والإخبار بالمعرفة عنها?.

قيل: النكرة هنا قد خصصت بالوصف، والرحماء لا يقصد بهم قصد قوم بأعيانهم.

فكان فيه كذلك نوع إيهام. فلما قرنت النكرة هنا بالصفة من المعرفة، وقرنت المعرفة من النكرة بما فيها من إبهام: صح الإخبار بها عنها، على أن كثيراً من النكرات يجري مجرى المعارف في باب الأخبار إذا حصلت من ذلك فائحة، والفائحة هنا حاصلة.

الوجه الثالث: أن تكون "ما" مصدرية، وفي تصحيح الإخبار عنها بالرحماء ثلاثة أوجه.

أحدها: أن يكون المصدر هنا بمعنى المفعول، تقديره: إن مرحوم الله من عباده الرحماء. ومنه "هذا خلق الله" "لقمان: 13"، أي مخلوقه. وقال أبو علي: لك أن تجعل "ما" من قوله: "والله مخرج ما كنتم تكتمون" مصدرية: أي كتمانكم، وكتمانكم بمعنى مكتومكم؛ لأن الكتمان لا يظهر، وإنما يظهر المكتوم.

الوجه الثاني: أن المضاف إلى المصدر، أو إلى الخبر: محذوف، تقديره: إن ذوي رحمة الله من عباده الرحماء أي المستحقون لها، أو إن رحمة الله حق الرحماء. ومثل هذين الوجهين في قوله تعالى: ولكن البرَّ مَنْ آمنَ" "البقرة: 117" هل تقديره: ولكن ذا البر من آمن? ولكن البربِرُّ من آمن.

الوجه الثالث: أن لا تقدر حذف مضاف، غير أنك تجعل "الرحماء" هم الرحمة على المبالغة، كما قالوا: رجل عدل، ورجل زَوْر، ورجل علم، وقوم صُوَم، إذا كثر منهم ذلك. ومنه قول الخنساء:

ترتع ما رتعـت، حـتـى إذا

 

أذكرت، فإنما هي إقبال وإدبار

فثبت بما ذكرناه وهو قول من زعم امتناع الرفع في الرحماء. والله أعلم بالصواب.

نهاية المطلب، في علم المذهب" وهو كتاب كبير جداً، وعبارته جزلة، حذا فيه حذو "نهاية المطلب"، لإِمام الحرمين الجويني الشافعي، وكثر استمداده من كلام ابن عقيل في الفصول ومن المجرد، وفيه تهافت كثير، حتى في كتاب الطهارة، وباب المياه، حتى إنه ذكر في فروع الآجر المجبول بالنجاسة كلاماً ساقطاً يدل على أنه لم يتصور هذه الفروع، ولم يفهمها بالكلية. وأظن هذا الرجل كان استمداده من مجرد المطالعة، ولا يرجع إلى تحقيق.

وقد ذكر في كتابه: أنه قرأ بنفسه على ابن كليب الحراني، ولم أعلم له ترجمة، ولا وجدته مذكوراً في تاريخ، ويغلب على ظني: أنه توفي بعد الستمائة بقليل.

ورأيت في كلام ابن الوليد المحدث: أن هذا الأزجي كان من كبار أصحاب أحمد وزهادهم، ولم يزد على ذلك.

محمد بن عبد الله بن الحسين السامري، الفقيه الفرضي، أبو عبد الله ويلقب نصير الدين، ويعرف بابن سُنَيْنهَ- بسين مهملة مضمومة ونونين مفتوحتين بينهما ياء ساكنة: هكذا ذكره ابن نقطة. وقال: وجدته بخط شيخنا ابن الأخضر، وقال القطيعي محمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن القاسم المعروف بابن بسينة، وهو تصحيف.

ونسبه ابن النجار فقال: محمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن أحمد بن قاسم بن إدريس المعروف بابن سنينة.

ولد سنة خمس وثلاثين وخمسمائة بسامرا.

وسمع من ابن البطي، وأبي حكيم النهرواني، وعبد اللطيف بن أبي سعد ببغداد وتفقه على أبي حكيم، ولازمه مدة، وبرع في الفقه والفرائض. وصنف فيها تصانيف مشهورة، منها: كتاب "المستوعب في الفقه" وكتاب "الفروق" وكتاب "البستان" في الفرائض.

وولي القضاء بسامرا، وأعمالها مدة. ثم ولي القضاء والحسبة ببغداد، ثم عزل عن القضاء، وبقي على الحسبة. ثم عزل عنها وولى إشواف ديوان الزمام، وعزل أيضاً. ولقب في أيام ولايته "معظم الدين" ولما عزل عنه ألزم بيته مدة، ثم أذن له في العود إلى بلده، فعاد إليها، ثم رجع إلى بغداد في آخر عمره، وبها توفي.

قال ابن النجار: كان شيخاً جليلاً، فاضلاً نبيلاً، حسن المعرفة بالمذهب والخلاف، له مصنفات فيهما حسنة، وما أظنه روى شيئاً من الحديث.

وذكر ابن الساعي المؤرخ: أنه كتب عنه، وأجاز للشيخ عبد الرحيم بن الزجاج.

وتوفي ليلة الثلاثاء السابع عشري رجب سنة ست عشرة وستمائة ببغداد، وصلَى عليه من الغد بالنظامية، وَأَمَ الناس في الصلاة عليه عبد العزيز بن دلف، ودفن بمقبرة باب حرب.

وفي كتابيه "المستوعب" و "الفروق" فوائد جليلة، ومسائل غريبة.

ورأيت لأبي عبد الله بن الوليد المحدث رسالة إليه يعاتبه فيها على قوله: إن أحاديث الصفات لا تقبل؛ لكونها أخبار آحاد، وبسط القول في ذلك على طريقة أهل الحديث، وملأها بالأحاديث والأثار المسندة.

عثمان بن مقل بن قاسم الياسري، ثم البغدادي، الفقيه الواعظ أبو عمرو، ويلقب جمال الدين: من أهل "الياسرية" قرية من قرى بغداد، على نهر عيسى.

قدم بغداد، وسمع بها من ابن الخشاب، وشهدة وطبقتهما، ومن دونهما، وقرأ بنفسه. وتفقه على أبي الفتح بن المنى، وتكلم في المسائل ووعظ.

قال الناصح بن الحنبلي: سمع درس شيخنا ابن المنى سنين، وسمع الحديث الكثير، وسمعت بقراءته، ووعظ ولازم الوعظ، وتقدم في الوعظ إلى غاية تميز بها عن نظائره في صلاح ودين وسمت.

وذكره عبد الصمد بن أبي الجيش في شيوخه، وقال: له تصانيف، وقد حدث، وسمع منه جماعة، وأظن ابن الصيرفي الحراني سمع منه وتفقه عليه، فإنه يقول عنه: شيخنا. وقرأ عليه عبد الرزاق الرسعني.

فال ابن الحنبلي: حدثني الحافظ تقي الدين إبراهيم بن الأزهر الصريفيني قال: مات- يعني الياسري- يوم الخميس ضاحي نهار الحادي والعشرين من ذي الحجة سنة ست عشرة وستمائة.

قال الحافظ: وحضرت جنازته وصلَّى عليه بجامع القصر في خلق كثير، وجَم غفير، بحيث لم أشاهد عداد جنازة أكثر خلقاً منها. وامتلأ الجامع. بحيث لا يكاد الإنسان يجد إلا موضع قدميهس.

وذكر غيره: أنه دفن بباب حرب. رحمه الله تعالى.

محمد بن أبي المكارم الفضل، بن بختيار بن أبي نصر اليعقوبي، الخطيب الواعظ، أبو عبد الله ويلقب بهاء الدين. ويعرف بالحجة: ذكر أن مولده في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة بيعقوبا.

وسمع ببغداد من أبي الفتح بن شاتيل، وعبد المغيث الحربي، وابن الجوزي وطبقتهم.

وذكر أنه سمع من أبي الوقت، والشيخ عبد القادر وغيرهما. وولى الخطابة ببلدة يعقوبا. ووعظ وسكن دَقوقا. وحد محث بها وبأربل، وغيرهما. وحدث بأحاديث فيها وهم، فعرف الخطأ سفيها فترك روايتها. ذكره المننري. قال: وقد تتبع عليه غير ذلك. قال: وصنف كتاب "غريب الحديث" وحدث به بأربل.

قلت: وصنف "شرح العبادات الخمس" لأبي الخطاب. وقرأه على أبي الفتح بن المنى سنة إحدى وثمانين. وكتب له عليه لاقرأه عليَّ مصنفُه الشيخ الأجل العالم الفقيه بهاء الدين حجة الإسلام، قراءة عالم بما فيه من غرائب الفوائد، وعجائب الفرائدث!، وكتب له عليه أيضاً الفخر إسماعيل، وأثنى على تصنيفه كثيراً.

توفى في جمادى الأولى- وقيل: الآخرة- سنة سبع عشرة وستمائة بدقوقا. ودفن بها رحمه الله تعالى.

عبد الغني بن قاسم بن عبد الرزاق بن عياش الهناوي المقدسي الأصل، المصري، الفقيه الزاهد، أبو القاسم، من أهل مصر: سمع بها من البوصيري، وأبي عبد الله الأرتاحي، وأبي الحسن بن نجا الواعظ. وزوجته فاطمة بنت سعد الخير، وعبد المجيب بن زهير الحربي، وربيعة اليمني وجماعة.

وتفقه في المذهب. وانقطع إلى الحافظ عبد الغني عند قدومه مصر، ولازمه، وكتب عنه كثيراً من مصنفاته وغيرها. ذكر ذلك المنذري، وقال: سمع معنا من جماعة من شيوخنا. وصحب جماعة من المشايخ. وكان صالحاً مقبلاً على مصالح نفسه، منفرداً، قانعاً باليسير، يظهر التجمل مع ما هو عليه من الفقر، وحدث.

وتوفي ليلة ثاني عشر صفر سنة ثمان عشرة وستمائة. ودفن من الغد بسفح جبل المقطم على شفير الخندق. رحمه الله تعالى.

محمد بن خلف بن راجح بن بلال بن هلال بن عيسى بن موسى بن الفتح بن زريق المقدسي، ثم الدمشقي، الفقيه المناظر، شهاب الدين أبو عبد الله: ولد سنة خمسين وخمسمائة بجماعيل. ثم قدم دمشق، وسمع بها من أبي المكارم بن هلال. وقدم مصر، فسمع بالإسكندرية من السلفي.

ورحل إلى بغداد، فسمع بها من أبي محمد بن الْخشات، وأبي الحسين اليوسفي، وشُهدة، وطبقتهم. وتفقه بها في المذهب، والخلاف على ابن المنى، حتى برع. وكان بحاثاً مناظراً، مفحماً للخصوم، ذا حظ من صلاح وأوراد، وسلامة صدر، أماراً بالمعروف، نَهَّاء عن المنكر. وكتب بخطه كثيراً من الحديث وغيره من العلوم.

قال المنذري: لقيته بدمشق، وسمعت منه. وكان كثير المحفوظات، متحرياً في العبادات، حسن الأخلاق.

وقال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: كان زاهداً عابداً ورعاً، فاضلاً في فنون العلوم. وحفظ مقامات الحريري في خمسين ليلة، فتشوش خاطره. وكان مما يغسل باطن عينيه قد قل نظره. وكان سليم الصدر، من الأبدال، ما خالف أحداً قط. رأيته يوماً- وقد خرج عن جامع الجبل- فقال له إنسان: ما تروح إلى بعلبك? فقال: بلى، فمشى من ساعته إلى بعلبك بالقبقاب.

قال أبو شامة: كنت أراه يوم الجمعة قبل الزوال يجلس على درج المنبر السفلي بجامع الجبل، وبيده كتاب من كتب الحديث، أو أخبار الصالحين يقرؤه على الناس إلى أن يؤذن المؤذن للجمعة.

وتوفي يوم الأحد سلخ صفر سنة ثمان عشرة وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.

وذكر المنذري: أنه توفي في تاسع عشر صفر. ودفن من الغد. وذكر بعده من توفي في سلخ الشهر.

وروى عنه ابن البخاري، ووالده أبو العباس أحمد. ويلقب بالنجم. تفقه على ابن المنى، وبرع، ثم صار شافعياً، وولي قضاء دمشق نيابة، ثم عزل. وله تصانيف.

علي بن ثابت بن طالب الطالباني البغدادي الأزجي، الفقيه الواعظ أبو الحسن. ويلقب موفق الدين: سمع ببغداد من صالح بن الرحلة، وشهدَة. وسمع بالموصل من خطيبها أبي الفضل. وتفقه ببغداد على أبي الفتح بن المنى. واشتغل بالموصل بالخلاف على ابن يونس الشافعي. فأقام بحران مدة عند الخطيب ابن تيمية. ثم جرى سف وبينه نكد، فقدم دمشق ثم رجع، وأقام برأس العين من أرض الجزيرة. ووعظ هناك، وحدث وانتفع به.

قال ابن نقطة: وسمعت منه. وسماعه صحيح. قال: وذكر لي ابن شحامة الحراني: أنه توفى في شعبان سنة ثمان عشرة وستمائة برأس العين رحمه الله تعالى.

قال: ونابت- يعني أباه- أوله نون. وكذا قال المنذري، وزاد: "والطالباني" بفتح الطاء المهملة، وبعد الألف لام مفتوحة، وباء موحدة، وبعد الألف الثانية نون مكسورة.

وله كلام في بيع الفلوس النافقة بأحد النقدين: أنه يجوز النساء فيها. قال: كما يجوز بيع غيرها من الرصاص والحديد والصفر والنحاس.

قال: ومنع أحمد من السلف في الفلوس، لا يصح جملة على ما ذكره الأصحاب: أنها أثمان، لأنه يحتمل وجوهاً أخر، منها: أنه لم يجوز السلم في الفلوس عدداً، لاختلافها في الخِفّة والثقل. فأما وزنها فقياس المذهب صحته.

قال: ولو أراد المنع من أجل أنها أثمان لجوزه. إذا جعل رأس عال السلم فيها غير الأثمان، ويحتمل أنه منع من السلم فيها بناء على الرواية التي نقلت عنه: أنه منع من النساء في أموال الربا، سواء اتفق الجنس أو اختلف. ثم نقل عنه جواز النساء مع اختلاف الجنس. وهو الصحيح من المذهب. ويحتمل أنه منع من السلم فيها إذا كانت نافقة، خوفاً من تحريم السلطان لها قبل المحل، فيصير كما لو أسلم في شيء يحتمل أن يوجد وأن لا يوجد، فإنه لا يصح.

قال: ولا يصح جعلها أثماناً، لأن الثمنية تختص بالذهب والفضة. وقد ذكر هذا أًبو الخطاب في هدايته. وذكر ابن عقيل في الفصول: أن التفاضل يحرم في بيع أحد النقدين بمثله بعلة كونه موزون جنس، فيتعدى إلى كل موزون، ولو كان كما ذكر لما جاز إسلام النقدين في الحديد والرصاص والنحاس. وقد زعم أنه أجاز ذلك استحساناً. وهذا لا يستقيم؛ لأنه يزعم أن الوزن ثبت كونه غلة بإيماء صاحب الشرع، وهي مقدمة على الاستحسان بإجماع الفقهاء، ثم احتج على أنها ليست ثمناً بأنها تختلف في نفاقها وكسادها باختلاف البلدان والأزمان، بخلاف النقدين، وبأنها لا تثبت في الذمة مطلقة، وبأنها من الغصب والإتلاف تقوَّم بالنقدين لا بالفلوس.

ثم أرسل ابن الطالباني هذا الكلام إلى الشيخ موفق الدين المقدسي.

فكتب عليها: هذه مسألة فروعية اجتهادية، لا حرج على المجتهد فيها إذا كان من أهل ذلك، وليس ينبغي أن ينكر على مجتهد اجتهاده، وإنما يتباحث الفقهاء، ليعرف الصواب. والذي ذكره الإمام موفق الدين- يعني ابن الطالباني- من كون الفلوس ليست ثمناً أصلياً: صحيح لما بينه. ولأنها لا تكون رأس مال في الشركة والمضاربة.

وأما منع الإمام أحمد رضي الله عنه من السلم فيها: فإن الذي ذكره الموفق فيها محتمل، لولا أن الإِمام أحمد قد علل ذلك بأنه يشبه الصرف. وهذا يحتمل أن يكون منه على سبيل الورع، لشبه الفلوس بالأثمان في المعاملة بها، وجريانها مَجْرَى الدراهم والدنانير، وأما أنا: فإنني متوقف عن الفُتْيَا في هذه المسألة، ولست منكراً على من وافق فيها، ولا على من خالف من عمل بفتياه.

قلت: أما كون الفلوس أثماناً عند نفاقها: فهو قول كثير من الأصحاب. وقد صرح به أبو الخطاب في خلافه الصغير وغيره. ومنهم من جعلها أثماناً بكل حال، كصاحب "المبهج" وخلف في ذلك ابن عقيل في باب الشركة من فصوله، ونصر أنها عروض بكل حال، كما رجحه ابن الطالباني.

وأما ما نقله ابن الطالباني عن أبي الخطاب في هدايته- أنه ذكر أن الأثمان هي الذهب والفضة خاصة- فهذا ذكره تفريعاً على الرواية الثانية والثالثة في علة ربا الفضل. وأما على المذهب المشهور: فإنه صرح بأن النقدين من جملة الموزونات، والعلة فيها الوزن، كما صرح بذلك غيره من الأصحاب. بل كلام أبي الخطاب في خلافه الصغير يقتضي أن العلة في النقدين الوزن بغير خلاف، وأن الخلاف إنما هو في علة الأصناف الأربعة البواقي، وهكذا قال القاضي في خلافه الكبير، وابنه أبو الحسين. وقد قال أحمد في رواية ابن القاسم وسِنْدي الخواتيمي "رطل حديد برطلين حديد لا يجوز، قياساً على الذهب والفضة" فنص على أن علتهما الوزن.

وبالجملة: فالمذهب المشهور: أن علة ربا افضل في النقدين الوزن، وعلة الربا في الأربعة البواقي الكيل، كما قاله ابن عقيل، ولم ينفرد ابن عقيل بهذا كما ذكر، بل كل الأصحاب يوافقونه على هذا النقل، وإن كان من متأخريهم من رجح أن علة الذهب والفضة كونهما نقوداً، أو كونهما جوهري الأثمان. ولهذا قالوا في ربا النساء: إنه يحرم في كل مكيل بيع بمكيل، أو موزون بيع بموزون، وإن اختلف الجنسان. واستثنوا من ذلك بيع العروض الموزونة بالنقدين.

وقد نقل ابن منصور في مسائله عن الثوري وأحمد وإسحاق جواز السلف في الفلوس. فإنه قال: قلت لأحمد: قال- يعني سفيان- السلف في الفلوس لا يرون به بأساً، يقولون: يجوز برؤوسها. قال- يعني أحمد-: إن تجنبه رجل أرجو أن لا يكون به بأس.

وإن اجترأ عليه رجل أرجو أن لا يكون به بأس.

قال سعيد بن المسيب: لا ربا إلا من ذهب أو فضة، أو ما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب.

قال إسحاق- يعني ابن راهويه- لا بأس بالفلس بالفلس، يداً بيد، ولا بأس بالسلم في الفلوس، إذا كان يمكنه ذهباً أو فضة، رآه قوم كالصرف وليس ببين.

عبد الرحيم بن النفيس بن هبة الله بن وهبان بن رومي بن سلمان بن محمد بن سلمان بن صالح بن محمد بن وهبان، السلمي، الحديثي، ثم البغدادي، أبو نصر بن أبي جعفر، الفقيه المحدث: ولد في عاشر ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة ببغداد.

وقرأ القرآن. وسمع الكثير من أبي الفتح بن شاتيل، وأبي السعادات القزاز، وخلق. وطلب بنفسه، وأمعن وبالغ، وارتحل في الطلب إلى الشام والجزيرة، وديار مصر، والعراق، وخراسان، وما وراء النهر، وخوارزم.

وسمع بواسط من ابن المنداي، وبأربل من ابن طبرزد، وبنيسابور من المؤيد، وبهراة من أبي روح، وبما وراء النهر من طائفة، وبإصبهان من أصحاب زاهر وغيره، وبدمشق من الكندي، وابن الحرستاني وجماعة، وبمصر من جماعة. ولقى بالإسكندرية ابن المفضل.

وكتب بخطه الكثير. وتفقه في المذهب، وتكلم في مسائل الخلاف، وحصل من الأدب طرفاً صالحاً. وحدث ببغداد ودمشق وغيرهما.

قال ابن النجار: كان مليح الخط، صحيح النقل والضبط، فاضلاً حافظاً متقناً، ثقة صدوقاً له النظم والنثر الجيد. وكان من أكمل الناس ظرفاً ولطفاً، وحسن خلق، وطيب عشرة وتواضع، مع كمال مروءة، ومسارعة إلى قضاء حوائج الإخوان.

قال: وعلقت عنه ببغداد ومَرْوَ شيئاً كثيراً من شعره، وشعر غيره، فمنه:

سلوا فؤادي: هـل صـفـا

 

شربه مذ نأيتم عنه أو راقا?.

وهل يسـلـيه إذا غـبـتـم

 

إن أودع التسلـيم أو رافـاة

ومنه قوله:

وافت صحيفة أفضال مضمـنة

 

من التشوق أصنافاً وأوصافـاً

تطولاً من خلـيل لا أرى بـدلاً

 

منه على حالتيه: صَدَّ أو صافى

وقال المنذري: علقت عنه بمصر فوائد، وسمعت شيئاً من شعره. وكان حادَّ الخاطر، جيد القريحة، فقيهاً متأدباَ شاعراً.

قتل شهيداً سنة ثمان عشرة وستمائة في فتنة التتار الكفار بخراسان. رحمه الله تعالى.

قرئ على أبي الفتح الميدومي- بمصر، وأنا أسمع- أخبركم أبو الفرج الحراني- سماعاً- قال: أنشدنا رفيقنا أبو نصر عبد الرحيم بن شيخنا أبي جعفر النفيس بن هبة الله بن وهبان الحديثي لنفسه:

تبلى يدي بعدما خَطَّت أناملـهـا

 

كأنها لم يكن طوعاً لها القـلـم

يا نفس ويحك نوحي حسرة وأسىً

 

على زمانك إذ وجدانـنـا عـدم

واستدركي فارط الزلات واغتنمي

 

شرخ الشبيبة، فالأوقات تغتـنـم

وقدمي صالحاً تزكو عـواقـبـه

 

يوم الحساب إذا ما أفلس الأمـم

"والحديثي" نسبة إلى "الحديثة" مدينة على شاطئ الفرات.

نصر بن محمد بن علي بن أبي الفرج أحمد بن الحصري الهمداني البغدادي، المقرئ المحدث، الحافظ الزاهد الأديب، أبو الفتوح بن أبي الفرج. ويلقب برهان الدين: نزيل مكة، وإمام حطيم الحنابلة بها.

ولد في شهر رمضان سنة ست وثلاثين وخمسمائة.

وقرأ القرآن بالروايات على أبي بكر بن الزاغوني، وأبي الكرم الشهرزوري ومسعود بن الحصين، وأبي المعالي بن السمين، وسعد الله بن الدجاجي، وجماعة غيرهم.

وسمع الحديث الكثير من أبي الوقت، والنقيب أبي طالب محمد بن أبي زيد الحسيني، وهبة الله بن الشبلي، وأبي المظفر بن التريكي، وابن المادح، والشيخ عبد القدار، والمبارك بن خضير، وأحمد بن المقرب، وابن البطي، وأنجي زرعة، ويحيى بن ثابت بن بندار، وأبي بكر بن البقور، وابن الخشاب، وعبد الحق اليوسفي، وشُهدة، وخلق كثير من البغداديين، والغرباء. وعنى بهذا الشأن.

وقرأ بنفسه وكتب بخطه الكثير، ولم يزل يقرأ ويسمع، ويفيد إلى أن علت سنه، واشتغل بالأدب، وحصل طرفاً صالحاً منه، ثم خرج من بغداد إلى مكة سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، فاستوطنها، وأمَّ بها بالحنابلة، وكان شيخاً صالحاً متعبداً.

وقال ابن الدبيثي: كان ذا معرفة بهذا الشأن- يعني الحديث- ونعم الشيخ كان، عبادة وثقة.

وقال ابن نقطة: كان حافظاً ثقة.

وقال ابن النجار: كان حافظاً حجة نبيلاً، جم الفضائل، كثير المحفوظ من أعلام الدين، وأئمة المسلمين، كثير العبادة، والتهجد والصيام.

وقال ابن مسدي: كان أحد الأئمة الأثبات، مشاراً إليه بالحفظ.

وقال أبو المظفر السبط: سمعت منه بمكة. وكان متعبداً لا يفتر من الطواف، صالحاً ثقة.

وقال أبو الفرج بن الحنبلي: سمعت عليه جزءاً في المسجد الحرام. وكان إماماً في علوم القرآن، ومحدثاً حافظاً وعابداً.

قال لي الملك المحسن أحمد بن الملك الناصر صلاح الدين: ما رأيت أعبد من البرهان بن الحصري كان يعتمر في رمضان ثلاث عمر في نهاره وثلاث عمر في ليله.

وقال لي شيخنا طلحة العلثي- ببغداد سنة أربع، أو خمس، وسبعين- ما في بغداد مثل البرهان بن الحصري في علم القراءات، ما تقدر تقرأ عليه سورة كاملة من شدة تحريره.

حدث أبو الفتوح بن الحصري بالكثير ببغداد، ومكة. وسمع منه خلق كثير من الأئمة والحفاظ، وعموهم.

روى عنه ابن الدبيثي، وابن نقطة، وابن النجار، والضياء، والبرزالي، وابن خليل، والسيف الباخرزي، والتاج ابن العسطلاني، ومقداد القيسي. وهو خاتمة أصحابه سمع منه كثيراً بمكة. من ذلك: سنن أبي داود بسماعه من أبي طالب بن أبي زيد العلوي نقيب البصرة، بسماعه من أبي علي التستري.

والذي ذكره عمر القرشي وغيره: أنه لم يوجد للعلوي سماع من السنن إلا الجزء الأول. وذكر غيره: أن العلوي طولب بأصل سماعه ببغداد، فانحدر إلى البصرة، واجتهد، فلم يد سماعه إلا في الجزء الأولى. ذكره ابن نقطة.

قال: وذكر شيخنا أبو الفتوح بن الحصري: أن سماعه ظهر، قال: ولا أعلم أحداً قال ذلك غيره.

قلت: الحافظ أبو الفتوح ثقة، لا مُغمز فيه، والعلوي غير متهم. وقد ادعى سماع الكتاب، ولكن لم يظهر له في ذلك الوقت إلا سماع الجزء الأول. فاحتاطوا وقرأوا عليه الباقي بالإجازة، إن لم يكن سماعاً. فلا يبعد ظهور سماعه للباقي بعد ذلك، كما جرى في سنن ابن ماجة. ويصير السماع متصلاً، لا إجازة فيه على الصحيح، بل الجمهور على جواز القراءة للكتاب كله بالسماع بمجرد قول الشيخ الثقة. وقد تقدم ذكر هذه المسألة، فتاوى العلماء فيها. والله أعلم.

قال الحافظ الضياء: توفى شيخنا الإِمام، إمام الحرم، أبو الفتوح بالمهجم في المحرم سنة تسع عشرة وستمائة. وذكر ابن مسدي: أنه قصد اليمن فأدركه أجله بالمهجم في ربيع الآخر من السنة. وكذا ذكر ابن نقطة أنه بلغه.

وقال ابن الحنبلي: مات بالمهجم من أرض اليمن في شهر ربيع الآخر وقيل: في ذي القعدة سنة ثمان عشرة. وهذا القول الثاني نقله غير واحد أيضاً. وكان خروجه إلى اليمن بأهله لقحط وقع بمكة. وكان ذا عائلة، فنزح بهم إلي اليمن في البحر سنة ثمان عشرة. وقيل: إنه سكن المهجم إلى حين وفاته. رضي الله عنه.

عبد الكريم بن نجم بن عبد الوهاب بن عبد الواحد الشيرازي الدمشقي، ابن الحنبلي الفقيه، أبو الفضائل بن أبي العلاء بن شرف الإسلام. ويلقب شهاب الدين:

أخو ناصح الدين عبد الرحمن الآتي ذكره إن شاء الله تعالى. وهو أصغر من الناصح بتسع سنين. سمع ببغداد من نصر الله القزاز. وأجاز له الحافظ أبو موسى المديني، وأبو العباس الترك، وعبد الحق بن عبد الخالق.

وتفقه وبرع، وأفتى وناظر، ودرس بمدرسة جده بدمشق.

قال أبو شامة: هو أخو البهاء والناصح. وهو أصغرهم. وكان أبرعهم في الفقه والمناظرة والمحاكمات، بصيراً بما يجري عند القضاة في الدعاوى والبينات.

وقال ابن الساعي في تاريخه: كان فقيهاً فاضلاً خيراً، عارفاً بالمذهب والخلاف.

وقال غيره: وكان ذا قوة وشهامة، وانتزع مسجد الوزير من يد العالم السخاوي، وبقي للحنابلة إلى الآن.

قال المنذري: حدث، ولقيته بدمشق في الدفعة الأولى، ولم يتفق لي السماع منه. لنا منه إجازة.

توفي في سابع ربيع الأول سنة تسع عشرة وستمائة. ودفن من الغد بسفح قاسيون.

رحمه الله تعالى

المقدسي الفقيه، أبو أحمد نزيل بغداد: سمع الكثير من ابن كليب وطبقته. وحدث عنه بنسخة ابن عرفة، سمعها منه الحافظ الضياء. وتفقه على المذهب. وكان حسن الأخلاق صالحاً خيراً، متودداً.

توفى في ليلة الثلاثاء ثالث جمادى الأولى سنة عشرين وستمائة، ودفن من الغد بباب حرب.

قال ابن النجار: وأظنه جاوز الخمسين بيسير، رحمه الله تعالى.

عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله المقدسي، ثم الدمشقي، الصالحي الفقيه، الزاهد الِإمام، شيخ الإسلام، وأحد الأعلام، موفق الدين أبو محمد، أخو الشيخ أبي عمر المتقدم ذكره: ولد في شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة بجماعيل، ووهم الدبيثي في ذكر مولده.

وقدم دمشق مع أهله وله عشر سنين، فقرأ القرآن، وحفظ مختصر الخرقي، واشتغل، وسمع من والده، وأبي المكارم بن هلال، وأبي المعالي بن صابر وغيرهم.

ورحل إلى بغداد هو وابن خالته الحافظ عبد الغني سنة إحدى وستين، وسمعا الكثير من هبة الله الدقاق، وابن البطي، وسعد الله الدجاجي، والشيخ عبد القادر، وابن تاج الفراء، وابن شافع، وأبي زرعة، ويحيى بن ثابت، والمبارك بن خضير، وأبي بكر بن النقور، وشهدة، وخلق كثيرة، وسمع بمكة من المبارك ابن الطباخ، وبالموصل من خطيبها أبي الفضل.

وأقام عند الشيخ عبد القادر بمدرسته مدة يسيرة، فقرأ عليه من الخرقى، ثم توفى الشيخ، فلازم أبا الفتح بن المنى. وقرأ عليه المذهب، والخلاف والأصول حتى برع.

وأقام ببغداد نحواً من أربع سنين. هكذا ذكره الضياء، عن أمه، وهي أخت الشيخ، ثم رجع إلى دمشق، ثم عاد إلى بغداد سنة سبع وستين. كذا قال سبط ابن الجوزي.

وذكر الناصح ابن الحنبلي: أنه حج سنة أربع وسبعين، ورجع مع وفد العراق إلى بغداد، وأقام بها سنة، فسمع درس ابن المني، قال: وكنت أنا قد دخلت بغداد سنة اثنتين وسبعين، واشتغلنا جميعاً على الشيخ أبي الفتح بن المنى، ثم رجع إلى دمشق واشتغل بتصنيف كتاب "المغني" في شرح الخرقي، فبلغ الأمل في إتمامه، وهو كتاب بليغ في المذهب، عشر مجلدات، تعب عليه، وأجاد فيه وجمل به المذهب.

وقرأه عليه جماعة وانتفع بعلمه طائفة كثيرة، قال: ومشى عنى سمت أبيه وأخيه في الخير والعبادة، وغلب عليه الاشتغال بالفقه والعلم.

وقال سبط ابن الجوزي: كان إماماً في فنون، ولم يكن في زمانه- بعد أخيه أبي عمر والعماد- أزهد ولا أورع منه، وكان كثير الحياء، عزوفاً عن الدنيا وأهلها هيناً ليناً متواضعاً، محباً للمساكين حسن الأخلاق، جواداً سخياً. من رآه كأنه رأى بعض الصحابة. وكأنما النور يخرج من وجهه، كثير العبادة، يقرأ كل يوم وليلة سُبعاً من القرآن، ولا يصلَّي ركعتي السنة في الغالب إلاَّ في بيته، اتباعاً للسنة، وأن يحضر مجالس دائماً في جامع دمشق وقاسيون.

وقال أيضاً: شاهدت من الشيخ أبي عمر، وأخيه الموفق، ونسيبه العماد: ما ترويه عن الصحابة والأولياء الأفراد، فأنساني حالهم أهلي وأوطاني، ثم عدت إليهم على نية الإقامة، عسى أن أكون معهم في دار المقامة.

وقال ابن النجار: كان الشيخ موفق الدين إمام الحنابلة بالجامع. وكان ثقة حجة نبيلاً، غزير الفضل، كامل العقل، شديد التثبت، دائم السكون، حسن السمت، نزهاً ورعاً عابداً على قانون السلف، على وجهه النور، وعليه الوقار والهيبة، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه، صنف التصانيف المليحة في المذهب والخلاف، وقصده التلامذة والأصحاب، وسار اسمه في البلاد، واشتهر ذكره. وكان حسن المعرفة بالحديث، وله يد في علم العربية.

وقال عمر بن الحاجب الحافظ في معجمه: هو إمام الأئمة، ومفتي الأمة. خصه الله بالفضل الوافر، والخاطر الماطر، والعلم الكامل. طنت في ذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار. قد أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية. فأما الحديث: فهو سابق فرسانه. وأما الفقه: فهو فارس ميدانه، أعرف الناس بالفتيا. وله المؤلفات الغزيرة. وما أظن الزمان يسمح بمثله، متواضع عند الخاصة والعامة، حسن الاعتقاد، ذو أناة وحلى ووقار.

وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والمحدثين وأهل الخير. وصار في آخر عمره يقصده كل أحد. وكان كثير العبادة دائم التهجد، لم ير مثله، ولم ير مثل نفسه.

وقال أبو شامة: كان شيخ الحنابلة موفق الدين إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين في العلم والعمل. صنف كتباً حساناً في الفقه وغيره، عارفاً بمعاني الأخبار والآثار. سمعت علية أشياء. وكان بعد موت أخيه أبي عمر هو الذي يؤم بالجامع المظفري، ويخطب يوم الجمعة إذا حضر. فإن لم يحضر فعبد الله بن أبي عمر هو الخطيب والإمام. وأما بمحراب الحنابلة بجامع دمشق فيصلي فيه الموفق إذا كان حاضراً في البلد، وإذا مضى إلى الجبل صلَّى العماد أخو عبد الغني، وبعد موت العماد: كان يصلي فيه أبو سليمان بن الحافظ عبد الغني، ما لم يحضر الموفق وكان بين العشائين يتنقل حذاء المحراب. وجاءه مرة الملك العزيز بن العادل يزوره، فصادفه يصلَّي، فجلس بالقرب منه إلى أن فرغ من صلاته. ثم اجتمع به ولم يتجوز في صلاته. وكان إذا فرغ من صلاة العشاء الآخرة يمضي إلى بيته بالرصيف، ومعه من فقراء الحلقة من قدره الله تعالى. فيقدم لهم ما تيسر يأكلونه معه.

ومن أظرف ما حكى عنه: أنه كان يجعل في عمامته ورقة مصرورة فيها رمل يرمل به ما يكتبه للناس من الفتاوى والإِجازات وغيرها. فاتفق ليلة خطفت عمامته، فقال لخاطفها: يا أخي خذ من العمامة الورقة المصرورة بما فيها ورد العمامة أغطي بها رأسي وأنت في أوسع الحل مما في الورقة. فظن الخاطف أنها فضة ورآها ثقيلة، فأخذها ورد العمامة. وكانت صغيرة عتيقة. فرأى أخذ الورقة خيراً منها بدرجات. فخلص الشيخ عمامته بهذا الوجه اللطيف.

وبلغني من غير وجه عن الإِمام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه قال: ما دخل الشام- بعد الأوزاعي- أفقه من الشيخ الموفق.

وقد أفرد الحافظ الضياء، سيرة الشيخ في جزأين. وكذلك أفردها الحافظ الذهبي.

قال الضياء: كان رحمه الله إماماً في القرآن وتفسيره، إماماً في علم الحديث ومشكلاته، إماماً في الفقه بل أوحد زمانه فيه، إماماً في علم الخلاف، أوحد زمانه في الفرائض، إماماً في أصول الفقه، إماماً في النحو، إماماً في الحساب، إماماً في النجوم السيارة والمنازل. قال: ولما قدم بغداد قال له الشيخ أبو الفتح بن المنى: اسكن هنا؛ فإن بغداد مفتقرة إليك، وأنت تخرج من بغداد ولا تخلف فيها مثلك.

وكان شيخنا العماد يعظم الشيخ الموفق تعظيماً كثيراً، ويدعو له، ويقعد بين يديه، كما يقعد المتعلم من العالم.

وسمعت الإمام المفتي شيخنا أبا بكر محمد بن معالي بن غنيمة ببغداد يقول: ما أعرف أحداً في زماني أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق.

وسمعت أبا عمرو بن الصلاح المفتي يقول: ما رأيت مثل الشيخ الموفق.

وقال الشيخ عبد الله اليونيني: ما أعتقد أن شخصاً ممن رأيته حصل له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي يحصل بها الكمال سواه. فإنه رحمه الله كان كاملاً في صورته ومعناه من الحسن والإحسان، والحلم والسؤدد والعلوم المختلفة، والأخلاق الجميلة، والأمور التي ما رأيتها كملت في غيره. وقد رأيت من كرم أخلاقه، وحسن عشرته، ووفور حلمه، وكثرة علمه وغزير فطنته، وكمال مروءته، وكثرة حيائه، ودوام بشره، وعزوف نفسه عن الدنيا وأهلها، والمناصب وأربابها: ما قد عجز عنه كبار الأولياء. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن يلهمه ذكره" فقد ثبت بهذا أن إلهام الذكر أفضل من الكرامات، وأفضل الذكر ما يتعدى نفيعه إلى العباد، وهو تعليم العلم والسنة، وأعظم من ذلك وأحسن: ما كان جِبِلَّة وطبعاً، كالحلم والكرم والعقل والحياء، وكان الله قد جبله على خلق شريف، وأفرغ عليه المكارم إفراغاً، وأسبع عليه النعم، ولطف به في كل حال.

قال: وكان لا يناظر أحداً إلا وهو يتبسم، حتى قال بعض الناس: هذا الشيخ يقتل خصمه بتبسمه.

قال: وأقام مدة يعمل حلقة يوم الجمعة بجامع دمشق، يناظر فيها بعد الصلاة. ثم ترك ذلك في آخر عمره. وكان يشتغل عليه الناس من بكرة إلى ارتفاع النهار. ثم يقرأ عليه بعد الظهر، إما من الحديث أو من تصانيفه إلى المغرب. وربما قرأ عليه بعد المغرب وهو يتعشى. وكان لا يرى لأحد ضجراً. وربما تضرر في نفسه ولا يقول لأحد شيئاً.

?ذكر شيء من كراماته

قال سبط ابن الجوزي: حكى أبو عبد الله بن فضل الأعتاكي قال: قلت في نفسي: لو كان لي قدرة لبنيت للموفق مدرسة، وأعطيته كل يوم ألف درهم. قال: فجئت بعد أيام، فسلمت عليه، فنظر إلي وتبسم، وقال: إذا نوى الشخص نية كتب له أجرها.

وحكى أبو الحسن بن حمدان الجرائحي قال: كنت أبغض الحنابلة، لما شنع عليهم من سوء الاعتقاد. فمرضت مرضاً شنج أعضائي، وأقمت سبعة عشر يوماً لا أتحرك، وتمنيت الموت. فلما كان وقت العشاء جاءني الموفق، وقرأ علي آيات وقال: "وننزل من القرآن ما هو شفاء للناس ورحمة للمؤمنين" ومسح على ظهري فأحسست بالعافية، وقام.

فقلت: يا جارية، افتحي له الباب. فقال: أنا أروح من حيث جئت. وغاب عن عيني، فقمت من ساعتي إلى بيت الوضوء. فلما أصبحت دخلت الجامع، فصليت الفجر خلف الموفق، وصافحته، فعصر يدي وقال: أحذر أن تقول شيئاً. فقلت: أقول وأقول.

وقال قوام جامع دمشق؛ كان ليلة يبيت في الجامع، فتفتح له الأبواب فيخرج ويعود، فتغلق على حالها.

وحدث العفيف كتائب بن أحمد بن مهدي بن البانياسي- بعد موت الشيخ الموفق بأيام- قال: رأيت الشيخ الموفق على حافة النهر يتوضأ. فلما توضأ أخذ قبقابه ومشى على الماء إلى الجانب الآخر، ثم لبس القبقاب- وصعد إلى المدرسة- يعني مدرسة أخيه أبي عمر- ثم حلف كتائب بالله لقد رأيته، ومالي في الكذب حاجة، وكتمت ذلك في حياته. فقيل له: هل رآك? قال: لا. ولم يكن ثم أحد، وذكر وقت الظهر. فقيل له: هل كانت رجلاه تغوص في الماء? قال: لا، كأنه يمشي على وطاء رحمه الله.

وقرأت بخط الحافظ الذهبي: سمعت رفيقنا أبا طاهر أحمد الدريبي سمعت الشيخ إبراهيم بن أحمد بن حاتم- وزرت معه قبر الشيخ الموفق- فقال: سمعت الفقيه محمد اليونيني شيخنا يقول: رأيت الشيخ الموفق يمشي على الماء.

ذكر تصانيفه

صنف الشيخ الموفق رحمه الله التصانيف الكثيرة الحسنة في المذهب، فروعاً وأصولاً. وفي الحديث، واللغة، والزهد، والرقائق. وتصانيفه في أصول الدين في غاية الحسن، أكثرها على طريقة أئمة المحدثين، مشحونة بالأحاديث والآثار، وبالأسانيد، كما هي طريقة الإِمام أحمد وأئمة الحديث. ولم يكن يرى الخوض مع المتكلمين في دقائق الكلام، ولو كان بالرد عليهم. وهذه طريقة أحمد والمتقدمين. وكان كثير المتابعة للمنقول في باب الأصول وغيره، لا يرى إطلاق ما لم يؤثر من العبارات، ويأمر بالإقرار والإمرار لما جاء في الكتاب والسنة من الصفات، من غير تفسير ولا تكييف، ولا تمثيل ولا تحريف، ولا تأويل ولا تعطيل.

فمن تصانيفه في أصول الدين "البرهان في مسألة القرآن" جزء "جواب مسألة وردت من صرخد في القرآن"، جزء "الاعتقاد" جزء "مسألة العلو" جزآن "دم التأويل" جزء "كتاب القدر" جزآن "فضائل الصحابة" جزآن. وأظنه "منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين" "رسالة" إلى الشيخ فخر الدين ابن تيمية في تخليد أهل البدع في النار "مسألة" في تحريم النظر في كتب أهل الكلام.

ومن تصانيفه في الحديث "مختصر العلل " للخلال، مجلد ضخم "مشيخة شيوخه" جزء. وأجزاء كثيرة خرجها.

ومن تصانيفه في الفقه "المغني في الفقه" عشر مجلدات "الكافي في الفقه" أربع مجلدات "المقنع في الفقه" مجلد "مختصر الهداية" مجلد "العمدة" مجلد صغير "مناسك الحج" جزء "ذم الوسواس" جزء. وفتاوى ومسائل منثورة، ورسائل شتى كثيرة.

ومن تصانيفه في أصول الفقه "الروضة" مجلد.

وله في اللغة والأنساب ونحو ذلك "قنعة الأريب في الغريب" مجلد صغير "التديين في نسب القرشيين" مجلد "الاستبصار في نسب الأنصار" مجلد.

وله في الفضائل والزهد والرقائق ونحو ذلك "كتاب التوابين" جزآن "كتاب المتحابين في الله"، جزآن "كتاب الرقة والبكاء" جزآن "فضائل عاشوراء" جزء "فضائل العشر" جزء.

وانتفع بتصانيفه المسلمون عموماً، وأهل المذهب خصوصاً. وانتشرت واشتهرت بحسن قصده وإخلاصه في تصنيفها. ولا سيما كتاب "المغني" فإنه عظم النفع به، وأكثر الثناء عليه.

قال الحافظ الضياء: رأيت الإِمام أحمد بن حنبل في النوم وألقى عليّ مسألة في الفقه. فقلت: هذه في الخرقي. فقال: ما قصر صاحبكم الموفق في شرح الخرقي.

وقرأت بخط الحافظ الدبيثي قال: سمعت الشيخ علاء الدين المقدسي- قلت: وقد أجاز لي المقدسي هذا- قال: سمعت شيخنا أبا العباس ابن تيمية- قال الذهبي: وأظنني سمعت من شيخنا ابن تيمية- يقول: قال لي الشيخ الدين عبد الرحمن بن إبراهيم القزازاي: كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام شيخنا يرسلني أستعير له المحلي والمجلَّي من ابن عربي، وقال: قال الشيخ عز الدين: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل المحلي والمجلي، وكتاب المغنى للشيخ موفق الدين بن قدامة في جودتهما وتحقيق ما فيها.

ونقل عن ابن عبد السلام أيضاً أنه قال: لم تطب نفسي بالفتيا حتى صار عندي نسخة المغني.

وقد سبق قول الناصح ابن الحنبلي في مدح المغني، مع أنه كان قد يسامي الشيخ في زمانه.

وللشيخ يحيى الصرصري في مدح الشيخ وكتبه، في جملة القصيدة الطويلة اللامية.

وفي عصرنا كان الموفق حـجة

 

على فقهه، بثبت الأصول محولي

كفى الخلق بالكافي، وأقنع طالبـاً

 

بمقنع فقه من كتـاب مـطـول

وأغنى بمغني الفقه من كان باحثاً

 

وعمدت من يعتمدها يحـصـل

وروضة ذات الأصول كـروضة

 

أماست بها الأزهار أنفاس شمأل

تدل على المنطوق وأوفـى دلالة

 

وتحمل في المفهوم أحسن محمل

وللشيخ موفق الدين نظم كثير حسن وقيل. إن له قصيد في عريص اللغة طويلة. وله مقطعات عن الشعر. فمنها قوله:

أتغفل يا ابن أحمد والمـنـايا

 

شوارع تخترمنك عن قريب

أغرك أن تخطـيك الـرزايا

 

فكم للموت من سهم مصيب?

كؤوس الموت دائرة علـينـا

 

وما للمرء بد من نـصـيب

إلى كم تجعل التسـويف دأبـاً

 

أما يكفيك إنذار المـشـيب?

أما يكفيك أنـك كـل حـين

 

تمر بغير خل أو حـبـيب?

كأنك قد لحقت بهـم قـريبـاً

 

ولا يغنيك إفراط النـحـيب

قال سبط ابن الجوزي: وأنشدني الموفق لنفسه:

أبعد بياض الشعر أعمِّر مسكـنـاً

 

سوى القبر? إني إن فعلت لأحمق

يخبرنـي شـيبـي بـأنـي مـيت

 

وشيكاً، وينعاني إلـيّ، فـيصـدق

تخرق عـمـري كـل يوم ولـيلة

 

فهل مستطيع رَفْق ما يتـخـرق

كأني بجسمي فوق نعشي مـمـدداً

 

فمن ساكت أو معـول يتـحـرق

إذا سئلوا عني أجى بوا وأعـولـوا

 

وأدمعهم تنهل: هـذا الـمـوفـق

وغيبت في صدع من الأرض ضيق

 

وأودعت لحداً فوقه الصخر مطبق

ويحثو عليّ الترب أوثق صـاحـب

 

ويسلمني للقبر من هو مـشـفـق

فيا رب كن لي مؤنساً يوم وحشتـي

 

فإني لما أنزلـتـه لـمـصـدق

وما ضرني إني إلى اللـه صـائر

 

ومن هو من أهلي أبـرّ وأرفـق

قال أبو شامة: ونقلت من خطه:

لا تجلس بـبـاب مـن

 

يأبى عليك دخـول داره

ويقول حاجـاتـي إلـي

 

ه يعوقها إن لـم أداره

وأتركه وأقصد ربـهـا

 

تقضى وربُّ الدار كاره

تفقه على الشيخ موفق الدين خلق كثير. منهم ابن أخيه الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر، والمراتبي.

وسمع منه الحديث خلائق من الأئمة والحفاظ وغيرهم. وروى عنه ابن الدبيثي، والضياء، وابن خليل، والمنذري.

وحدث ببغداد. وسمع منه بها رفيقه أبو منصور عبد العزيز بن طاهر بن ثابت الخياط المقري سنة ثمان وستين وخمسمائة.

توفي رحمه الله يوم السبت يوم عيد الفطر سنة عشرين وستمائة بمنزله بدمشق وصلى عليه من الغد. وحمل إلى سفح قاسيون. فدفن به. وكان له جمع عظيم. امتد الناس في طرق الجبل فملؤوه.

قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: حكى إسماعيل بن حماد الكاتب البغدادي قال: رأيت ليلة عيد الفطر كأن مصحف عثمان قد رفع من جامع دمشق إلى السماء. فلحقني غم شديد. فتوفى الموفق يوم العيد.

قال: ورأى أحمد بن سعد- أخو محمد بن سعد الكاتب المقدسي، وكان أحمد هذا من الصالحين- قال: رأيت ليلة العيد ملائكة ينزلون من السماء جملة، وقائل يقول: انزلوا بالنوبة. فقلت: ما هذا? قالوا: ينقلون روح الموفق الطيبة في الجسد الطيب.

قال: وقال عبد الرحمن بن محمد العلوي: رأيت كأن النبي صلى الله عليه وسلم مات، وقبر بقاسيون يوم عيد الفطر. قال: وكنا بجبل بني هلال. فرأينا على قاسيون ليلة العيد ضوءاً عظيماً، فظننا أن دمشق قد احترقت. وخرج أهل القرية ينظرون إليه، فوصل الخبر بوفاة الموفق يوم العيد. ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى.

قال سبط ابن الجوزي: وكان له أولاد: أبو الفضل محمد، وأبو العز يحيى، وأبو المجد عيسى. ماتوا كلهم في حياته. ولم أدرك منهم غير عيسى. وكان من الصالحين. وله بنات.

قال: ولم يعقب من ولد الموفق سوى عيسى، خلف ولدين صالحين وماتا، وانقطع عقبه.

قلت: أما أبو الفضل محمد: فولد في ربع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. وكان شاباً ظريفاً فقيهاً. تفقه على والده، وسافر إلى بغداد، واشتغل بالخلاف على الفخر إسماعيل. وسمع الحديث.

وتوفى في جمادى الأولى سنة تسع وتسحين وخمسمائة بهمدان. وقد كمل ستاً وعشرين سنة رحمه الله.

وأما أبو المجد عيسى: فيلقب مجد الدين. تفقه وسمع الحديث الكثير بدمشق من جماعة كثيرة من أهلها، ومن الواردين عليها وسمع بمصر من إسماعيل بن ياسين، البوصري، والأرتاحي، وفاطمة بنت سعد الخير، وغيرهم. وحدث. ذكره المنذري، قال: ولي الخطابة والإِمامة بالجامع المظفري بسفح قاسسون. قال: واجتمعت معه بدمشق، وسمعت معه من والده.

وتوفى في جمادى الآخرة في خامسه- أو سادسه- سنة خمس عشرة وستمائة رحمهم الله تعالى.

ومما رثى به الشيخ موفق الدين رحمه الله ما قاله فيه الشيخ صلاح الدين أبو عيسى موسى بن محمد بن خلف بن راجح المقدسي في قصيدة له:

لم يبقَ لي بعد الموفـق رغـبة

 

في العيش إن العيش سم منقـع

صدر الزمان وعينه وطـرازه

 

ركن الأنام الزاهد المـتـورع

بحر العلوم أبو الفضائل كلـهـا

 

شمل الشريعة بعده لا يجـمـع

كان ابن أحمد في مقام محـمـد

 

إن هالهم أمر إلـيه يفـزعـوا

فيبين مشكله، ويوضـح سـره

 

ويذب عن دين الإلـه ويدفـع

ببصيرة يجلو الظلام ضبـاؤهـا

 

يبدي العجائب، نورها يتشعشع

فاليوم قد أضحى الزمان وأهلـه

 

غرضاً لكل بـلـية تـتـنـوع

والعلم قد أمسى كأنّ بواكـينـاً

 

تبكي عليه وحبلـه ينـقـطـع

وتعطلت تلك المجالس، وانقضت

 

تلك المحافل، ليتها لو تـرجـع

هيهات بعدك يا موفق يرتجـى

 

للناس خير، أو مقال يسـمـع

للَّه درك كم لشخصـك مـن يد

 

بيضاء في كل الفضائل ترتـع

قد كنت عبداً طائعاً لا تنثـنـي

 

عن باب ربك في العبادة توسع

كم ليلة أحييتها وعـمـرتـهـا

 

واللٌه ينظر والخلائق هـجـع

تتلو كتاب الله في جنح الدجـى

 

كزبور داود النبـي تـرجـع

لو كان يمكن من فدائك رخصة

 

لفدتك أفئدة علـيك تـقـطـع

ذكر نبذة من فتاويه، ومسائله من غير كتبه المشهورة

قرأت بخط بعض أصحابه، قال الشيخ موفق الدين في مسألة: ما إذا اجتمع جنب وحائض، ووجدا من الماء ما يكفي أحدهما. قال: إن كانت المرأة زوجة للرجل، فهي أحق؛ لأنها تبيح له الوطء، وهو يرجع إلى بدل، وإن كانت أجنبية منه، فهو أحق؛ لأنه يستبيح الصلاة، وهى ترجع إلى التيمم.

وسئل إذا أعتقت الجارية: هل يجب عليها أن تستبرئ نفسها بحيضة، آم بثلاث? قال: إن كانت تعلم أن سيدها لم يكن يطؤها، لم يجب عليها الاستبراء إلا في صورة واحدة، وهي فيما إذا اشتراها فأعتقها، فأراد أن يتزوجها: يجب عليها الاستبراء بحيضة، وإن كانت تعلم أنه كان يطؤها: وجب عليها استبراء نفسهما بحيضة، وإلحاقها بالإماء أولى من إلحاقها بالحرائر، لأن المقصود هو الاستبراء، وذلك حاصل بحيضة واحدة، ولأن الثلاث: إما عدة عن نكاح، أو ما يشبهه وهو الوطء بالشبهة. وكلى واحذ منهما منتفٍ هنا.

وقال فيما إذا اتفقت الجارية من غير قصد البائع: يتخير كما يتخير لو قصدها، وفيما إذا ردها المشتري بعيب سوى التصرية: يجب الصاع من التمر، قيل له: هي من ضمانه، فيكون اللبن بمنزلة الخراج? قار: اللبن ورد عليه العقد، وكان موجوداً بخلاف غيره من المنافع والخراج.

وسئل عن الجارية المشتركة ببن جماعة: هل يجوز لكل واحد النظر إلى عورتها: فقال: لا يجوز ذلك، وخالف هذا ما إذا كان العبد مشتركاً بين نساء يجوز لهن النظر إليه، لأن المجوز للنظر ههنا هو الحاجة إلى الاستخدام، وهو موجود في العبد المشترك، والنظر إلى عورة الجارية: إنما جاز لتمكنه من الوطء، وهو ههنا منتفٍ للاشتراك.

وسئل إذا كان على أعضاء وضوئه كلها جراحة، أيجزيه أن يغسل الصحيح ثم يتيمم لهما تيمماً واحداً? قال: لا، بل يغسل العضو الأول ويتيمم له، وكذلك الثاني والثالث والرابع، فيتيمم أربع تيممات.

وقال فيمن أعتق أباه في مرض موته: الأقيس أنه لا يرث، والمذهب الإرث.

وقال أبو الخطاب: إذا أقرَّ في مرض موته بعتق ابن عمه، يعتق ولا يرث.

ومما نقلته من خط السيف بن المجد من فتاوى جده موفق الدين- وقد سئل عن معاملة من في ماله حرام. فأجاب: الورع: اجتناب معاملة من في ماله حرام، فإن من اختلط الحرام في ماله: صار في ماله شبهة بقدر ما فيه من الحرام، إن كَثر الحرام كثرت الشبهة، وإن قلَّ قلت، وذكر حديث "الحلال بين، والحرام بيّن" وأما في ظاهر الحكم: فإنه يباح معاملة من لم يتعين التحريم في الثمن الذي يؤخذ منه؛ لأن الأصل: أن ما في يد الإِنسان ملكه وقد قال بعض السلف: بع الحلال ممن شئت، يعني إذا كَانت بضاعتك حلالاً فلا حرج عليك في بيعها ممن شئت، ولكن الورع: ترك معاملة من في ماله الشبهات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دع ما يَريبك إلى ما لا يريبك".

وسئل عما إذا تعين ثمن خمر أو خنزير من الكافر: ما الحكم في أخذه منهم، يعني بعقد ونحوه? وكان فد أجاب قبله ابن المتقنة الرحبي الشافعي: لا يجوز ذلك، إذا تعين. فأجاب الشيخ موفق الدين: الأولى تركه. ويجوز أخذه إذا كان جائزاً في دينهم? لأننا أقررناهم على ما يعتقدون من دينهم.

وسئل عن خلافة أبي بكر: ثبتت بالنص أو بالقياس? فأجاب ابن المتقنة: شت بإجماع الصحابة واتفاقهم فكتب الشيخ الموفق: ثبتت بنص النبي صلى الله عليه وسلم، في أخبار كثيرة، ذكر بعضها.

وسئل ابن المتقنة في بعض ذكر الحرب تكرر "حرب عوان" ما العوان في اللغة؛ فأجاب: "العوان"، أشد ما يكون. فضرب الشيخ على الجواب وكتب: الحرب التي تقدمها حرب أخرى.

قال السيف: وكتب ابن الجوزي عن كلام شيخ الإسلام الأنصاري: كان عبد الله الأنصاري يميل إلى التشبيه. فلا يقبل قوله، فألحق جدي: حاشاه من التشبيه، ولا يقبل قول ابن الجوزي فيه.

وقال في القرية التي فيها أربعون، يسمعون النداء من المصر: إنهم مخيرون بين إقامة الجمعة بها، وبين السعي إلى المصر. قال: وهو أولى للخروج من الخلاف. قال: فإن كانت قرية فيها أربعون. وقرية فيها دون الأربعين: فإن مضى الأقل إلى الأكثر، فأقام عندهم الجمعة: جاز، وبالعكس لا يجوز، وإن جاء إلى أهل الأربعين إمام من غيرهم فأقام بهم الجمعة: جازة لأنه ممن تجب عليه الجمعة، فجاز أن يكون إماماً لغيره من أهل القرية.

ونقل إبن حمدان الحرائي: أن قاضي حران أرسل سؤالاً إلى الشيخ موفق الدين في وكيل الغائب، إذا طالب بدين موكله، فادعى المدين: أن موكله قد استوفى دينه فهل للقاضي دفع الوكيل ومنعه من الاستيفاء، حتى يحلف الموكل: أنه ما استوفى ولا أبرأ?.

فأجاب الشيخ موفق الدين: إن الوكيل لا يتمكن من الاستيفاء، من غير يمين موكله، وعلل بأن الموكل لو كان حاضراً ما استحق الاستيفاء بغير يمين، والوكيل قائم مقامه.

وذكر ابن حمدان: أن الناصح بن أبي الفهم أنكر ذلك. وقال: لا خلاف في المذهب أن الوكيل لا يمتنع من الاستيفاء بذلك. وأخرج كلام القاضي وابن عقيل في المجرد بما يقتضي ذلك. وذكر عن بعض الشافعية: أنه حكى في هذه المسألة خلافاً بينهم.

قال الناصح: وقد ذكر الموفق في الكافي: أن الدعوى على الغائب لا تسمع إلا ببينة، ودعوى المدين الإبراء والاستيفاء ههنا دعوى بلا بينة على غائب، فكيف تسمع? ثم أرسل هذا إلى الشيخ الموفق.

فأجاب: أما المسألة التي في الوكالة: فإنما أفتيت فيها باجتهادي، بناء على ما ذكرت في التعليل. فإذا ظهر قول الأصحاب وغيرهم بخلافه فقولهم أولى. والرجوع إلى قولهم متعين، لكن ما ذكره بعض الشافعية يدل على أنها مختلف فيها، وأنها مما يسوغ فيه الاجتهاد. وأما قولي وقول الفقهاء "لا تسمع الدعوى على الغائب إلا ببينة" فإنما أريد بها الدعوى التي إذا سكت صاحبها ترك، وإذا سكت المدعي عليه لم يترك؛ لأن سماع هذه الدعوى لا يفيد شيئاً. إذ مقصودها القضاء على المدعى عليه. فإذا خلت عن بينة، ولم يكن المدعى عليه حاضراً، لم تفد الدعوى شيئاً. إذ لا يمكن القضاء بغير بينة، ولا إقرار، ولا نكول، ولا رد يمين. والدعوى ههنا تراد للمنع من القضاء عليه. وذلك ممكن مع الغيبة، وسماع الدعوى مفيد.

ومن مباحثه الحسنة: نقلت من خط بهاء الدين عبد الرحمن المقدسي: سئل شيخنا موفق الدين عن قول الخرقي: وإن أقر المحجور عليه بما يوجب حداً أو قصاصاً، أو طلق زوجته لزمه ذلك. وإن أقر بدين لم يلزمه في حال حجره، ما الفرق بينهما? فقال: الفرق بينهما: أن الإقرار بالدين إقرار بالمال، والمال محجور عليه فيه. فلو قبلنا إقراره في المال أتى ذلك إلى فوات مصلحة الحجر، وهو أنه يقر لهذا بدين ولهذا. فيفوت عليه ماله. فلا يلزمه الإقرار فيه. وأما الإقرار بالحد والقصاص أو طلاق الزوجة: فإنه إقرار بشيء لم يحجر عليه فيه، فلزمه، كما لولده أن يحجر عليه. وأيضاً فإنه إذا لزمه الإقرار في الحد والقصاص أدى إلى فوات حقه. وإذا لزمه الإقرار في المال أدى إلى فوات حقوق الغرماء. فلزمه الإقرار على نفسه، ولم يلزمه فيما يعود إلى غيره.

فقيل له: على هذا: أن الإقرار بالحد أيضاً يؤدي إلى فوات حقوق الغرماء فيما كان الحاكم قد أخذه ليقضي دينه، على الرواية التي تقول: إنه إذا كان ذا صنعة، فإن الحاكم يؤجره ليقضي بقية دينه. ومع هذا فقد ألزمناه بالإقرار.

فقال: إنما يفوت ضمناً وتبعاً. ويصير كما نقول في الزوجة: إنها إذا أقرت بالحد أو القصاص لزمها، وإن فات حق الزوج.

فقيل له: فما تقول في الحامل إذا أقرت بما يوجب حداً أو قصاصاً، أليس إنه ينتظر بها حتى تلد? فقال: ههنا يمكن الجمع بين الحقين، فخلاف ما نحن فيه.

قلت: قد يقال في صورة إيجار المفلس لوفاء بقية دينه: كان يمكن الجمع بين الحقين بتأخير استيفاء القصاص إلى أن يوفي الدين من كسبه.

وقد يجاب عنه بأن الحامل أُخرت لئلا تزهق بالاستيفاء منها نفس معصومة. فلا فرق بين أن يثبت الحد أو القصاص عليها بالإقرار أو البينة. وههنا لو ثبت الحد أو القصاص ببينة لم يؤخر إلى أن يوفي بقية الدين. فكذا إذا ثبت بالإقرار فإن التهمة في مثل هذا منتفية.

ومن فتاويه المتعلقة بعلم الحديث- نقلتها من خط الحافظ أبي محمد البرزالي رحمه الله.

سئل: هل تجوز الرواية من نسخة غير معارضة?.

فأجاب: إذا كان الكاتب معروفاً بصحة النقل وقلة الغلط جازت الرواية.

وسئل: إذا لم يذكر القارئ الإِسناد في أول الكتاب، وذكره في آخره، وقال: أخبرك به فلان عن فلان، وأقر الشيخ بذلك فهل يجزيه.

فأجاب: يجوز إذا قال له ذلك عقيب قراءته عليه، وإلا فلا.

وسئل: هل يصح السماع بقراءة الصبي والفاسق?.

فأجاب: إن كان له مقابل صح، وإلا فهو بمنزلة روايته.

وسئل: هل يجوز الكتبة والمطالعة، أو الإغفاء يسيراً، في وقت السماع أو يجوز للشيخ أن يكتب ويقرأون عليه?.

فأجاب: ما رأينا أحداً يحترز من هذا.

وسئل: إذا سقط من متن الحديث حرف أو حرف أو ألف، هل يجوز إثباتها? وهل يجب إصلاح لحن من جهة الإعراب?.

فأجاب: يجوز إصلاحه. قال الأوزاعي: يصلح اللحن والخطأ والتحريف في الحديث.

وسئل: إذا وجد في كتابه اسماً مصحفاً أو كلمة، وهو كذلك في سماع شيخه. فهل يجور له أن يغيره في كتابه على الصواب? أجاب: له تغييره. والله أعلم.

إبراهيم بن المظفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن البرني، البغدادي الحربي، ثم الموصلي، الواعظ المحدث، أبو إسحاق بن أبي منصور وبلقب برهان الدين: ولد في ثاني ولد في ثاني عشر ذي الحجة سنة ست وأربعين وخمسمائة وكانت ولادته بالموصل. كذا ذكر المنذري وابن الساعي وغيرهما.

وقال القطيعي: كان مولده سنة خمس وأربعين وخمسمائة بالحربيه. كذا قال.

وقال ابن نقطة: انتقل إلى الموصل قديماً وهذا يدل على أنه ولد ببغداد- وهو الأشبه- فإن أباه بغدادي ولا يعرف أنه سكن الموصل. وقد روى عنه القطيعي، وقال: قال لي، "البراني" لقب جدفي لأمي. وأما جدي لأبي: فيعرف بالجمعي.

سمع أبو إسحاق ببغداد من ابن البطي، وأبي طاهر أحمد بن علي بن المعمر الحسيني، وأبي علي بن الرحبي، وأبي بكر بن النقور، ونصر الله القزاز، وشهدة، وغيرهم. وتفقه بها في المذهب- لعله على ابن المنى- وقرأ الوعظ على ابن الجوزي، وولى، مشيخة دار الحديث التي لابن مهاجر بالموصل. وحدث بالموصل وسنجار ووعظ.

قال الناصح بن الحنبلي: كان واعظاً فاضلاً عن أهل ألسنة، لم يكن بالموصل أعرف بالحديث والوعظ منه.

وقال المنذري: كان فاضلاً متديناً. ولنا منه إجازة.

وقال ابن الساعي: شخ خير، قدم بغداد مراراً. وأنشدني قطعاً من الشعر. أنشدني في التوضع إملاء من حفظه:

كم جاهل متواضـع

 

ستر التواضعَ جهله

ومميزاً في علمـه

 

هدم التكبر فضلـه

فالكبر عيب للفتـى

 

أبداً يقبح فـعـلـه

قال: وأنشدني أيضاً:

ما هذه الـدنـيا بـدار مـسـرة

 

فتخوفن مكراً لهـا وخـداعـا

بينا الفتى فيها يسر بـنـفـسـه

 

وبماله يستمتع اسـتـمـتـاعـا

حتى سقته من المـنـية شـربة

 

لا يستطيع لما عـراه دفـاعـا

لو كان ينطق قال من تحت الثرى

 

فليحسن العمل الفتى ما استطاعا

وقال ابن نقطة: سمعت منه بالموصل، في القدمة الثانية إليه. وكان فيه تساهل في الرواية، يحدث من غير أصول.

وذكر ابن القطيعي: أنه روى بالموصل "اعتلال القلوب" للخرائطي عن نصر الله القزاز بسماعه من ابن العلاف، قال: فقلت: لقد حرصنا ببغداد على أن نجد له أصل سماع من ابن العلاف، فلم نجد. قفال: عبد المغيث وابن شافع ذكرا لي أنا هدا الكتاب سماعه منه. قال: فطلبت منه: مَنْ سمع ذلك معه منهما? فلم يكن معه في الطبقة مشهور بالطلب. ثم بعد أيام رأيت ابن القزاز في المنام، فقال لي: اشتهيت أن كل نسخة بهذا الكتاب تروى عني أحرقها.

قلت: المتأخرون يتساهلون في هذا الباب كثيراً، ويسمعون من غير أصل? ويكتفون يقول بعض الناس: إن هذا الكتاب سماع فلان، فيقرأونه عليه وليس هذا عندهم منكراً. وقد أجاز ابن البرني لعبد الصمد بن أبي الجيش.

وتوفى في غرة محرم سنة اثنتين وعشرين وستمائة بالموصل. ودفن بمقبرة المعافي بن عمران رضي الله عنه.

وقال ابن الساعي: توفي ثاني المحرم.

محمد بن الخضر بن محمد بن علي بن عبد الله ابن تيمية الحراني، الفقيه المفسر، الخطيب الواعظ، فخر الدين، أبو عبد الله بق أبي القاسم: شيخ حران وخطيبها، ولد في أواخر سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، بحران، وقرأ القرآن على والده وله عشر سنين. وكان والده زاهداً، يعد من الأبدال. وشرع في الاشتغال بالعلم من صغره، وتردد إلى أبي الكرم فتيان بن مياح، وأبي الحسن بن عبدوس وغيرهما، ثم ارتحل إلى بغداد، وسمع بها الحديث من المبارد بن خضير، وأبي الفتح بن البطي، وسعد الله بن الزجاجي، ويحيى بن ثابت بن بندار، وأبى بكربن النقور، وأبي الفضل بن شافع، وعلي بن عساكر البطايحي، وأبي الحسين اليوسّفي، وأخيه أبي نصر، وأبي الفتح بن شاتيل، وشهدة، وغيرهم. وسمع أيضاً بحران من أبي النجيب السهروردي، وأبي الفتح أحمد بن الوفاء، وأبي الفضل حامد بن أبي الحجر.

وتفقه ببغداد على أبي الفتح بن المنى، وأبي العباس بن بكروس، وبحران على أحمد بن أبي الوفاء، وحامد بن أبي الحجر، وأخذ عنه التفسير أيضاً، ولازم أبا الفرج بن الجوزي ببغداد، وسمع منه كثير عن مصنفاته، وقرأ عليه. كتابه "زإد المسير في التفسير" قراءة بحث وفهم، وقرأ الأدب على أبي محمد بن الخشاب، وبرع في الفقه والتفسير وغيرهما، ورجع إلى بلده، وجَدَّ في الاشتغال والبحث، ثم أخذ في التدريس والوعظ والتصيف، وشرع في إلقاء التفسير بكرة كل يوم بجامع حران في سنة ثمان وثمانين، وواظب على ذلك حتى قرأ القرآن الكريم خمس مرات، انتهى آخرها إلى سنة عشر وستمائة، فكان مجموع ذلك في ثلاث وعشرين سنة، ذكر ذلك في أول تفسيره الذي صنمه.

وكان الشيخ فخر الدين رجلاً صالحاً، يذكر له كرامات وخوارق، وولي الخطابة والإمامة بجامع حران، والتدريس بالمدرسة النورية بها، وبنى هو مدرسة بحران أيضاً.

قال الناصح بن الحنبلي: انتهت إليه رياسة حران، وله خطبة الجمعة، وإمامة الجامع، وتدريس المدرسة النورية، وهو واعظ البلد، وله القبول من عوام البلد، والوجاهة عند ملوكها، وكان في ملازمته التفسير والوعظ مع الطريق الظاهرة الصلاح.

وذكره ابن خلكان في تاريخه وقال: ذكره محاسن بن سلامة الحراني في تاريخ حران، وابن المستوفى في تاريخ أربل، فقال: له القبول التام عند الخاص والعام. وكان بارعاً في تفسير القرآن، وجميع العلوم له فيها يد بيضاء.

وقال ابن نقطة: شيخ ثقة فاضل، صحيح السماع مكثر، سمعت منه بحران في المرتين وقال ابن النجار: سمعت منه ببغداد وحران، وكان شيخاً فاضلاً، حسن الأخلاق، متودداً، صدوقاً، متديناً.

وقال ابن الساعي: هو موصوف بالفضل والدين.

وقال ابن حمدان الفقيه: كان شيخ حران، ومدرسها، وخطيبها ومفسرها، مغري بالوعظ والتفسير، مواظباً عليهما.

وقال المنذري: كان عارفاً بالتفسير، وله خطب مشهورة، وشعر، ومختصر في الفقه. وكان مقدماً في بلده، وتولى الخطابة بها، ودرس بها ووعظ، وحدث ببغداد وحران، ولنا منه إجازة. وكان الشيخ فخر الدين قد وعظ ببغداد في مدة اشتغاله بها برباط ابن النقال، ثم حج سنة أربع وستمائة، وكتب معه مظفر الدين صاحب أربل كتاباً إلى الخلفة الناصر بالوصية به، فلما رجع من مكة إلى بغداد، سأل الجلوس بباب بحر، فأجيب إلى ذلك، وتقدم إلى محيي الدين يوسف بن الجوزي بالحضور، وكان يعظ بذلك المكان موضع أبيه، فحضر، وقعد على دكة المحتسب بباب بدر، وحضر خلق كثير، ووعظ الشيخ فخر الدين، وأنشد في أثناء المجلس:

وابن اللبون إذا ما لَز في قَـرَن

 

لم يستطع صولة الْبُزْل القناعيس

وقال الناس: ما قصد إلا محيي الدين، لأنه كان شاباً، وابن تيمية شيخ.

وللشيخ فخر الدين تصانيف كثيرة. منها "التفسير الكبير" في مجلدات كثيرة. وهو تفسير حسن جداً. ومنها ثلاث مصنفات في المذهب، على طريقة البسيط والوسيط، والوجيز للغزالي، أكبرها "تخليص المطلب في تلخيص المذهب" وأوسطها "ترغيب القاصد في تقريب المقاصد" وأصغرها "بلغة الساغب وبغية الراغب" وله شرح الهداية لأبي الخطاب. ولم يتمه. وله ديوان الخطب الجمعية. وهو مشهور. ومصنفات في الوعظ، و "الموضح في الفرائض". وكانت بينه وبين الشيخ موفق الدين مراسلات ومكاتبات.

وأرسل الشيخ الفخر مرة يسأل الشيخ الموفق عما ذكره في كتبه من مسألة حصر جهات ذوي الأرحام، وما يلزم قول أبي الخط ب من الفساد.

ووقع بين الشيخين أيضاً تنازع في مسألة تخليد أهل البدع المحكوم بكفرهم في النار. وكان الشيخ الموفق لا يطلق عليهم الخلود. فأنكر ذلك عليه الشيخ الفخر. وقال: إن كلام الأصحاب مخالف لذلك. وأرسل يقول للشيخ موفق الدين أنظر كيف تستدرك هذه الهفوة? فأرسل إليه الشيخ موفق الدين كتاباً، أوله:

أخوه في الله عبد الله بن أحمد يسلم على أخيه الإِمام الكبير فخر الدين جمال الإِسلام، ناصر السنة، أكرمه الله بما أكرم به أولياءه. وأجزل من كل خير عطاءه، وبلغه أمله ورجاءه، وأطال في طاعة الله بقاءه- إلى أن قال: إنني لم أنْه عن القول بالتخليد نافت له، ولا عبت القول به منتصراً لضده. وإنما نهيت عن الكلام فيها من الجانبين إثباتاً أو نفياً، كَفّاً للفتنة بالخصام فيها، واتباعاً للسنة في السكوت عنها، إذ كانت هذه المسألة من جملة المحدثات، وأشرت عليّ من قبل نصيحتي بالسكوت عما سكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، والأئمة المقتدى بهم من بعده- إلى أن قال- وأما قوله- وفقه الله- إني كنتُ مسألة إجماع، فصرت مسألة خلاف. فإنني إذا كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حزبه، متبعاً لسنته؛ ما أبالي من خالفني، ولا من خالف في، ولا أستوحش لفراق من فارقني. وإني لمعتقد أن الخلق كلهم لو خالفوا السنة وتركوها، وعادوني من أجلها، لما ازددت لها إلا لزوماً، ولا بها إلا اغتباطاً، إن وفقني الله لذلك. فإن الأمور كلها بيديه، وقلوب العباد بين إصبعيه. وأما قوله: إن هذه المسألة مما لا تخفى: فقد صدق وبرّ، ما هي بحمد الله عندي خفية، بل هي منجلية مضية. ولكن إن ظهر عنده بسعادته تصويب الكلام فيها، تقليداً للشيخ أبي الفرج وابن. الزاغوني، فقد تيقنت تصويب السكوت عن الكلام فيها، اتباعاً لسيد المرسلين، ومن هو حجة على الخلق أجمعين، ثم لخلفائه الراشدين، وسائر الصحابة والأئمة المرضيين، لا أبالي من لامني في اتباعهم. ولا من فارقني في وفاقهم. فأنا كما قال الشاعر:

أجد الملامة في هواك لذيذة

 

حباً لذكرك. فليلمني القوم

فمن وافقني على متابعتهم. وأجابني إلى مرافقتهم وموافقتهم فهو رفيقي وحبيبي وصديقي، ومن خالفني في ذلك فليذهب حيث شاء. فإن السبل كثيرة، ولكن خطرة. وقوله بسعادته: إن تعلقه بأن لفظ "التخليد" لم ترد: ليس بشيء. فأقول: لكني عندي أنا هو الشيء الكبير، والأمر الجليل الخطير. فأنا أوافق أئمتي في سكوتهم، كموإفقتي لهم في كلامهم، أقول إذا قالوا، وأسكت إذا سكتوا، وأسير إذا ساروا، وأقف إذا وقفوا، وأحتذي طريقهم في كل أحوالهم جهدي، ولا أنفرد عنهم خيفة الضيعة إن سرت وحدي. فأما قوله: إن كتب الأصحاب القديمة والحديثة فيها القول بتكفير القائل بخلق القرآن: فهذا متضمن أن قول الأصحاب هو الحجة القاطعة. وهذا عجب. أترى لو أجمع الأصحاب على مسألة فروعية، أكان ذلك حجة يقتنع بها، ويكتفي بذكرها? فإن كان فخر الذين يرى هذا فما يحتاج في تصنيفه إلى ذكر دليل سوى قول الأصحاب. وإن كان لا يرى ذلك حجة في الفروع، فكيف جعله حجة في الأصول? وهَبْ أنا عذرنا العامة في تقليدهم الشيخ أبي الفرج وغيره من غير نظر في دليل. فكيف يعذر من هو إمام يرجع إليه في أنواع العلوم? ثم إِن سلمناه، قال، فلا شك أنه ما أطلع على جميع تصانيف الأصحاب. ثم إن ثبت أن جميعهم اتفقوا على تكفيرهم، فهو معارض بقول من لم يكفرهم. فإن الشافعي وأصحابه لا يرون تكفيرهم إلا أبا حامد. فبما يثبت الترجح? ثم إن اتفق الكل على تكفيرهم، فليس التخليد من لوازمه. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق التكفير في مواضع لا تخليد- فيها- وذكر حديث "سباب المسلم فسوق، وقتاله كَفر" وغيره من الأحاديث. وقال: قال أبو نصر السجْزِي: اختلف القائلون بتكفير القائل بخلق القرآن.

قال بعضهم: كفر ينقل عن الملة. ثم إن الإِمام أحمد- الذي هو أشد الناس على أهل البدع- قد كان يقول للمعتصم: يا أمير المؤمنين، ويرى طاعة الخلفاء الداعين إلى القول بخلق القرآن، وصلاة الجمع والأعياد خلفهم ولو سمع الإمام أحمد من يقول هذا القول، الذي لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد قبله: لأنكره أشد الإنكار. فقد كان ينكر أقل من هذا. ثم إن علمتم أنتم هذا، أفيحل لي ولمثلي ممن لم يعلم صحة هذا القول أن يقول به? وهل فرض الجاهل بشيء إلا السكوت عنه?. فأنأ كما أنكرت هذا إلا على الجاهل به. أما من قد اطلع على الأسرار، وعلم ما يفعله الله تعالى على جليته فما أنكرت عليه. ولا ينبغي له أن يأمرني أن أقول بمقالتي، مع جهلي بما قد علمه، لكن إذا اعتقدتم هذا، فينبغي أن يظهر عليكم آثار العمل به في ترك مصادقتهم، وموادتهم وزيارتهم، وأن تعتقدوا صحة ولايتهم، ولا قبول كتاب حاكم من حكامهم، ولا من ولاة أحد منهم وأنتم تعلمون أن قاضيكم إنما ولايته من قبل أحد دعاتهم.

وأما قولك بسعادتك: "أنظر كيف تتلافى، هذه الهفوة. وتزيل تكدير الصفوة" فإن قنع مني بالسكوت فهو مذهبي وسبيلي، وعليه تعويلي. وقد ذكرت عليه دليلي. وإن لم يرض مني إلا أن أقول ما لا أعلم، وأسلك السبيل الذي غيره أسدّ وأسلم، وأخلع عذاري في سلوك ما فيه عثاري، ويسخط على الباري: ففي هذا التلافي تلافي، وتكدير صافي أوصافي، لا يرضاه لي الأخ المصافي، ولا من يريد إنصافي، ولا من سعى في إسعافي وما أتابعه ولو أنه بشر الحافي.

إلى أن قال: واعلم أيها الأخ الناصح أنك قادم على ربك، ومسئول عن مقالتك هذه. فانظر من السائل. وانظر ما أنت له قائل. فأعد للمسألة جواباً. وادرع للاعتذار جلباباً. ولا تظن أنه يتمنع منك في الجواب بتقليد بعض الأصحاب. ولا يكتفي منك بالحوالة على الشيخ أبي الفرج وابن الزاغوني وأبي الخطاب. ولا يخلصك الاعتذار بأن الأصحاب اتفقوا على أنهم من جملة الكفار، ولازم هذا الخلود في النار. فإن هذا الكلام مدخول، وجواب غير مقبول.

إلى أن قال: فأنتم إن كنتم أظهركم الله على غيبه، وبرأكم من الجهل وعيبه، وأطلعكم على ما هو صانع بخلقه: فنحن قوم ضعفاء، قد قتعنا بقول نبينا عليه السلام وسلوك سبيلة، ولم نتجاسر على أن نتقدم بين يدي الله ورسوله. فلا تحملوا قوتكم ضعفنا، ولا علمكم على جهلنا.

وهي رسالة طويلة، لخصت منها هذا القدر.

أخذ العلم عن الشيخ فخر الدين جماعة، منهم: ولده أبو محمد عبد الغني خطيب حران، وابن عمه الشيخ مجد الدين عبد السلام.

وسمع منه خلق كثير من الأئمة والحفاظ. منهم ابن نقطة، وابن النجار، وسبط ابن الجوزي، وابن عبد الدائم. وروى عنه عبد الرحمن بن محفوظ الرسعني وأبو عبد الله بن حمدان الفقيه، والأبرقوهي.

وله شعر كثير حسن. قرأت بخط ولده أبي محمد عبد الغني قال: أنشدني الوالد رحمه الله لنفسه:

أتت رحلتي، وقد أتاني المسـير

 

وزادي من النسك نزر حقـير

وقلبي على جمـرات الأسـى

 

من الخوف من خالقي مستطير

وكم زلة قد تـقـحـمـتـهـا

 

فدمعي لها وعلـيهـا غـزير

مضى عمري، وانقضت مدتي

 

ولم يبقَ من ذاك إلا الـيسـير

كأني بكم حاملـين الـسـرير

 

بشخصي، وناهيك ذاك السرير

تقلونه شَـرْجـعـا مـثـقـلاً

 

علو ما لجنبيه منهـا صـرير

إلى منزل ليس فـي ربـعـه

 

أنيس لساكـنـه أو نـصـير

سوى عمل صالح بـالـتـقـى

 

فنعم الأنيس، ونعم الـخـفـير

وقال ابن النجار: أنشدني لنفسه ببغداد:

أرى خـلـوتـي فـي كـل يوم ولـيلة

 

تؤول إلى نقص، وتفضي إلى ضـعـف

 

وما ذاك من كر الـلـيالـي ومـرهـا

 

ولكن صروف الدهر صرفاً على صرف

 

فراق وهـجـر واخـتـرام مـنـــية

 

وكيد حسـود لـلـعـداوة لا يخـفـى

 

وداء دخيل في الفؤاد مقـلـقـل الـض

 

لوع يجل الخطب فيه عـن الـوصـف

 

وعشرة أبنـاء الـزمـان ومـكـرهـم

 

وواحدة منها لهـد الـقـوى تـكـفـي

 

بليت بها منذ ارتـقـيت ذرى الـعـلـى

 

كما البدر في النقصان من ليلة النصـف

 

وما برحـت تـتـرى إلـى أن بـلـي

 

ت من تضاعيفها ضعفاً يزيد على ضعف

وأصبحت شبيهاً بالهلال صبحة الـثـلاث

 

ين أخفاه المحـاق عـلـى الـطـرف

 

 

 

 

 

 

توفي رحمه الله يوم الخميس عاشر صفر سنة اثنتين وعشرين وستمائة بحران. كذا ذكر ولده عبد الغني.

وقال كثير من المحدثين: إنه توفى ليلة حادي عشر صفر.

وقرأت بخط ولده: لما مات الوالد كان في الصلاة؛ لأني ذكرته بصلاة العصر. وأخذته إلى صدري، فكبر وجعل يحرك حاجبه وشفتيه بالصلاة حتى شخص بصره رحمه الله تعالى.

وقد ذكر ولده له منامات صالحة رئيت له بعد وفاته. وهي كثيرة جداً جمعها في جزء.

منها: أن رجلاً حدثه أنه رأى والده الشيخ فخر الدين جالساً على تخت عالٍ، وعليه ثياب جميلة. فقلت له: يا سيدي ما هذا? فقرأ: "متكئين فيها على الأرائك" "الكهف: 31"، ورآه آخر فقال له: ما فعل الله بك? قال: غفر لي. ورأى غير واحد في منامه جماعة معهم سيوف وسلاح ورايات. فسئلوا عن حالهم. فقالوا: السلطان يركب ونحن في انتظاره. فقيل لهم: من السلطان? قالوا: الشيخ الفخر.

قال: وحدثتني ابنة عم والدي- وكانت صالحة- قالت: رأيت بعد موت الشيخ في منامي، كأنني أسمع صوت ضجة من السماء. فقلت لمن عندي: ما هذا الصوت والضجة? قال: هذا ضجيج الملائكة لأجل انقطاع التفسير وتعطله بالجامع بعد وفاة الشيخ. ورآه رجل آخر ليلة وفاته، وهو على أحسن حالة. فقال له: أليس قد مِتَّ? قال: بلى، ولكن أنا إن شاء الله في الأحياء. ورآه آخر وعليه ثياب حسنة جميلة. فقال له: أما قد مِتَّ?. قال: بلى. قال: ماذا لقيت من ربك? قال: وقفت بين يديه، فقال: كم ننتظرك? كم ننتظرك? قال: فقلت: أنا والله مشتاق، أنا والله مشتاق. قال الرائي: فأخذني شبه الطرب، وانزعج من منامه حتى علمت بذلك زوجته. ورأى رجل بعض الموتى. فسأله عن حاله وعن أقاربه? فقال: الليلة ينزل الفخر عندهم من عند الحق، وكل ليلة جُمعة ينزل إليهم، ويجتمعون إليه. وذكر أنه رأى هذا المنام مراراً.

ورأى رجل الشيخ الفخر في نومه، وقد صعد إلى منبر جامع حران، ومعه مصحف ففتحه ووقف، والنبي صلى الله عليه وسلم فوقه على المنبر يقرأ من ذلك المصحف.

ورأى آخر الشيخ الفخر مع الإِمام أحمد، وهما يتسايران. وكان هذا الرائي قد رأى في حياة الشيخ رجلاً من الصالحين يقول له في نومه: مرّ إلى الشيخ الفخر، وخذ لك منه عهداً أن يشفع فيك غداً. فإنه قد أعطى الشفاعة في كذا وكذا.

ورأى آخر الشيخ الفخر في المنام، ويده في يد رجل آخر. قال: فسلمت على الفخر، وقلت له: يا سيدي من هذا الني يده في يدك. فقال: هذا الموفق الدمشقي المقدسي. فقلت: وإلى أين تروحون. قال: نروح نفتيهم في قضية. قال: فدخلوا مسجداً، فرأيت فيه حياة بن قيس وابناه في غربي المسجد، والشيخ الفخر شرقي المحراب، والشيخ الموفق غربيه. وهما فوق تخت، وعليهما خلعتان ما رأيت أحسن منهما قط، وبين أيديهما شيء مطروح. ثم قام الشيخ الفخر يفرق منه على الحاضرين، كما يفعل في المِلاك. قال الرائى: فقلت للشيخ الفخر: يا سيلي أخبرني، الموت كيف هو? قال: والله الموت وقت حضوره صعب شديد، وبعد الموت كله هين. ثم قال لي: الصلاة يا عبد الله، ما شيء أفضل منها. فمن واظب عليها وحافظ على السنة والجماعة ما يلقى إلا الخير الكثير.

ورأى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، وبين يديه جبريل، وهما جالسان في موضع بحران. فسأل! الرائي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما سبب حضوركم في هذا الموضع? فمد يده وأشار إلى نحو باب دار الشيخ الفخر وقال: الفخر قد مات. قال: فمات الشيخ الفخر في الجمعة الآخرى.

قال: وأخبرني رجل سماه- وكان فيه دين وصلاح- قال: رأيت في النوم قائلاً يقول: الشيخ الفخر كان صادقاً مع الله. ثم قال: الشيخ الفخر كان من الصديقين. قال: وبعد رأيت كأنني دخلت إلى الجامع، فإذا الشيخ على الكرسي يتكلم، وهو يردد هذه الأبيات:

طوبى لعبـد أحـب مـولاه

 

إذا خلا في الظلام ناجـاه

قد كشف الحجب عن بواطنه

 

فنور مولاه قد تـغـشـاه

يقول: يا غايتي ويا أمـلـي

 

ما خاب عبد تكون مـولاه

وكان من عادته في مجالسه أيام حياته يرددها كثيراً في كلامه في الوعظ، قال: فطربت لسماع صوته في المنام.

قال: وحدثني رجل- سماه- عن زوجته: أنها رأت سنة إحدى وعشرين في المنام كأنها في موضع فيه رياض وخضرة، وقوم يبنون فيه قصراً عالياً، وبقربه دولاب يدور، وامرأتان قائمتان بقرب القصر، كأحسن ما يكون من النساء. قالت: ففهمت أنهما ممن الحور العين. فسألت: لمن هذا القصر الذي يبنى? فقيل لها: للفخر الفقيه. قالت: وما رأيت له باباً مفتوحاً. ثم رأيت ليلة عاشوراء سنة اثنتين وعشرين قبل وفاة الشيخ بشهر ذلك القصر قد فتح له باب، والحوريتان عند بابه. فقالت: من يريد يجيء إلى هذا القصر? قالوا: الفخر صاحبه.

قال: وحدثني رجل- وذكر عنه ديناً وخيراً- قال: رأيت الشيخ وكأنه في مسجده مستند إلى ركن محرابه، والناس مجتمعون في عقد ختمة. فلما انصرف الناس قلت للشيخ: بالله يا سيدي، هل رأيت الله? قال: إي والله. فقلت له: فنحن إيش تقول فينا? قال: أنتم من أصحابنا.

قال: وحدثني أبو الحسن بن إبراهيم بن البقش النجار- وكان يلازم الشيخ لسماع الحديث- قال: رأيت الشيخ بعد موته في المنام على كرسي يعظ، وتحته رجال ونساء كثير. فسمعته ينشد:

تجلى الحبيب لأحبـابـه

 

فطوبى لمن كان يعنى به

فلما تجلى لهم كـبـروا

 

وخروا سجوداً على بابه

والمنامات الصالحة له كثيرة رحمه الله.

وذكر المنذري وغيره: أنه سئل عن معنى "تيمية" فذكر أن أباه أوجده حج على درب تيماء. فرأى هناك جويرية قد خرجت من خبائها. فلما رجع وجد امرأته قد وضعت جارية. فلما رآها قال: يا تيمية، كأنه يشبهها بتلك الجويرية، فلقبت بذلك.

قال ابن النجار: ذكر لنا أن جده محمداً كانت أمه تسمى تيمية. وكانت واعظة.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأنصاري، أنبأنا أحمد بن عبد الدائم أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم ابن تيمية الخطيب.

قال الأنصاري: وأخبرنا إبراهيم بن أحمد بن كامل المقدسي- حضوراً- أخبرنا الإِمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي قالا: أخبرنا أبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن البطي أخبرنا أبو الخطاب نصر بن أحمد بن البطي.

قال ابن عبد الدائم: وأنبأناه عالياً خطيب الموصل أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر- إجازة- أخبرنا ابن البطي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الله بن يحيى بن زكريا البيع، حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي حدثنا العباس بن محمد حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي عن محمد بن كعب عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ودع الجيش قال: أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم".

عبد الله بن أحمد بن الزيتوني البوازيحى، أبو محمد: هكذا نسبه ابن الساعي وغيره. وقال المنذري: عبد الله بن علي بن أحمد بن أبي الفرج الزيتوني البوازيحي. سمع من الحافظ معمر بن الفاخر، ويحمى بن نابت بن بندار، وأبي ير بن الرحبي وغيرهم، وحدث. هذا ما ذكره.

وقال أبو أحمد عبد الصمد بن أبي الجيش في ذكر شيوخه بالإِجازة: عبد الله بن علي بن أحمد الزيتوني البوازيحي، سمع مشيخة شُهدة عليها، وكذا وجدت اسمه في طبقة سماعه جزء ابن عرفة على ابن كليب.

وقال ابن الساعي: كان مقيماً برباط محمود النعال، شيخ خير مسن صالح، صاحب سنة ورواية، أنشدني من حفظه:

ضيق العذر في الضراعة

 

أنا لو قنعنا بقسمنا لكفانا

مالنا نعبد العبـاد إذا كـا

 

ن إلى الله فقرنا وغنانـا

وذكر الحافظ عمر بن الحاجب، في معجمه، في ترجمة الحافظ أبي القاسم الصريفيني، من أصحابنا: أنه تفقه على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد البوازيحي.

وقرأت بخط الناصح بن الحنبلي: السيد البوازيحي، كان دخل بغداد قبل قدومي إليها بسنتين. وسمع درس الشيخ أبي الفتح بن المنى، وصحبه، وخدمه، وكان ببغداد مدة مقامي ببغداد، وسافر إلى البوازيح، ثم عاد إلى بغداد. وكان رجلاً صالحاً. وكان يخل بعينه، ولا يخل بدينه.

قلت: غالب ظني: أنه هذا.

توفى عبد الله بن أحمد البوازيحي يوم الجمعة كوة ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وستمائة، ودفن بمقبرة باب الحلية، رحمه الله تعالى.

البغدادي، الفقيه المعدل، أبو محمد الله- وفي تاريخ ابن الساعي: أبو نصر- بن أبي الحسن: وقد سبق ذكر والده. تفقه على أبي الفتح بن المنى، وأفتى وناظر، وأعاد الحرس لأستاذ الدار ابن الجوزي، وشهد عند الزنجاني، ورتب مشرفاً على وكلاء الخليفة الناصر. وكان فقيهاً فاضلاً، خيراً ديناً، ثقة خبيراً بالمذهب، ذكر ذلك ابن الساعي، وقال: أنشدني المعدل محمد بن ورخز، أنشدني أبو الفضل الأشعري العبرتي النحوي:

يجمع المرء، ثم يترك ما جمع

 

من كسبه لـغـير شـكـور

ليس يحظى إلا بذكر جمـيل

 

أو بعلم من بعـده مـأثـور

توفي يوم الجمعة العشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وستمائة. ودفن بمقبرة باب حرب، رحمه الله تعالى.

أحمد بن أبي المكارم بن شكر بن نعمة بن علي بن أبي الفتح بن حسن بن قدامة بن أيوب بن عبد الله بن رافع، المقدسي، الخطيب، أبو العباس: خطيب قرية مردا، من عمل نابلس. قال الحافظ ضياء الدين- ومن خطه نقلت- سافر إلى بغداد في طلب العلم واشتغل. وحصل في مدة يسيرة ما لم يحصل غيره في مدة طويلة. وسمع الحديث ببغداد من عبد الله بن شاتيل. سمعت عليه بقرية مردا، وبجبل قاسيون.

وسمعت شيخنا الإمام عماد الدين إبراهيم بن عبد الواحد- غير مرة- يغبطه بما هو عليه من كثرة الخير فإنه يقوم بمصالح عديدة، منها: إقراء القران، والقيام بالخطابة والإِمامة، وما يحتاج إليه المسجد من سرج وغير ذلك، وافتقاد الغرباء الواردين بما يصلحهم. ولا يتناول من وقف المسجد شيئاً، كما بلغني.

ثم ذكر له كرامات من تكثير الطعام في وقت احتيج فيه إلى تكثيره، ومن المعافاة من الصرع بما كتبه.

قال المنذري: توفى في شعبان سنة اثنتين وعشرين وستمائة بمردا، رحمه الله.

أحمد بن علي بن أحمد، الموصلي الفقيه الزاهد، أبو العباس، المعروف بالوتارة. ويقال: ابن الوتارة. وسمي ابن الساعي جده محمداً: قال المنذري: سمع على علو سنه من المتأخرين.

وقال الناصح ابن الحنبلي: كان يعرف أكثر مسائل، الهداية لأبي الخطاب، وجمل من كسب يده، ولباسه الثوب الخام. وانتفع به جماعة. وصار له حرمة قوية بالموصل، واحترام من جانب صاحبها ومن بعده.

وقال ابن الساعي: شيخ صالح، كثير العبادة، يعتقد فيه، ويتبرك به، أمَّاراً بالمعروف، نهاءاً عن المنكر.

بلغني: أنه توفى بالموصل في يوم الأربعاء رابع ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

وقال الناصح والمنذري: توفى في رابع عشر ذي الحجة.

وقرأت بخط ابن الصيرفي: أنه توفى سنة ثلاث وعشرين. وهو وهم.

يعيش بن ريحان بن مالك، كذا نسبه الدبيثي وغيره. ووجدت بخطه: يعيش بن ريحان. وقال جماعة: يعيش بن مالك بن ريحان: وقال عبد الصمد بن أبي الجيش: يعيش بن مالك بن هبة الله بن ريحان، الأنباريَ، ثم البغدادي، الفقيه الزاهد، أبو المكارم- ويقال: أبو البقاء- والأول: أشهر.

ولد سنهْ إحدى وأربعين وخمسمائة تقريباً. وسمع من أبي الحسن بن الدجاجي كثيراً من الحديث ومن كتب المذهب، ورواها عنه، كالهداية لأبي الخطاب، والانتصار لابن عقيل.

وسمع من صدقة بن الحسين أيضاً، ومن أبي زرعة المقدسي، وعبد الحق اليوسفي، وأبي حامد محمد بن أبي الربيع الغرناطي، وأبي محمد ناصر بن أحمد بن حسين الخوري، وشهدة الكاتبة، وغيرهم.

وتفقه في المذهب. وكان موصوفاً بالعلم والصلاح.

وقال المنذري: كان من فضلاء الفقهاء، متديناً، معتزلاً غن الناس. ولنا منه إجازة. وحدث.

وذكر ابن حمدان الفقيه: أن أبا الفضل حامد برت أبي الحجر لما ولاه السلطان نور الدين التدريس والخطابة بحران، كتب إليه يعيش هذا من بغداد أبياتاً، وهي:

ظعن الدين عهدتـهـم

 

ولتظعنن كمن ظعـن

يا غـاسـلـن ثـيابـه

 

اغسل هواك من الدرن

ما صح ظاهر مبطـن

 

حتى يصحح ما بطـن

ولربما احتلـبـت يداك

 

دماً وتسحبـه لـبـن

وكان ابن أبي الحجر يتوسوس في طهارته وغسل ثيابه كثيراً.

روى عنه ابن الدبيثي، ويحيى بن الصيرفي الفقيه. وأجاز لعبد الصمد بن أبي الجيش.

وتوفى ليلة الخميس خامس عشر ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وستمائة. ودفن من الغد بباب حرب. رحمه الله تعالى. كذا قال المنذري وغيره.

وذكر ابن الساعي: أنه توفى يوم الخميس. وقال: ودفن بمقبرة جامع المنصور.

عمرو بن رافع بن علوان الزرعي. ذكره ناصح الدين بن الحنبلي: قال: قدم ابن زرع في عشر الستين- يعني والخمسمائة- وهو ابن نيف وعشرين سنة. ونزل عندنا في المدرسة هو ورفقة له. واشتغلوا على والدي. فحفظوا القرآن. وسمعوا درسه، وحفظوا كتاب "الإيضاح"- يعني للشيخ أبي الفرج جدهم- قال: وكان هذا الفقيه عمرو يحفظ كثيراً وسريعاً. تلقن سورة البقرة في درسين أو ثلاثة. وعمل الفرائض، فأسرع في معرفتها.

ورحل إلى حران. وأقام بهامدة مديدة يشتغل. ثم رجع إلى دمشق، ثم إلى زرع، وأقام بها، يفتي ويقف على ما يندب إليه من المساحة والحدود. ثم أضر في آخر عمره.

ومات بزرع سنة اثنتين وعشرين وستمائة. رحمه الله تعالى.

مظفر بن إبراهيم بن جماعة بن علي بن شامي بن أحمد بن ناهض بن عبد الرزاق العيلاني- بالعين المهملة. قاله المنذري- الأديب الشاعر العروضي، الضرير المصري، أبو العز. ويلقب موفق الدين: ولد لخمس ليالٍ بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة بمصر.

وسمع الحديث من أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد بن حسين السبتي، ومحمود بن طاهر بن أحمد بن الصابوني، وأبي طاهر بن ياسين، والبوصيري، وغيرهم. ولقي جماعة من الأدباء، وقال الشعر الجيد، وبرع في علم العروض، وصنف فيه تصنيفاً مشهوراً. دل على حذفه. ومدح جماعة كثيرة من الملوث والوزراء، وغيرهم. وحدث بتصنيفه، وشي من شعره.

قال المنذري: وسمعت منه. وكان بقية فضلاء طبقته.

وذكر ابن خلكان أنه قال: دخلت مرة على القاضي هبة الله بن سناء الملك الشاعر، فقال لي: يا أديب، قد صغت نصف بيت، ولي أيام أفكر في تمامه قلت: وما هو? قال: بياض عذاري من سواد عذاره قلت: قد حصل تمامه: كما جُلُّ ناري فيه من جلناره.

فاستحسه وعمل عليه، ومن نظمه: الأبيات المشهورة السائرة.

قالـوا: عـشـقـت، وأنـت أعـمــى

 

ظبـياً كـحـيل الـطـرف ألـمـــى

وحـلاه مـا عــاينـــتـــهـــا

 

فنـقـول قـد شـغـفـتـك دهـمـى

وخـيالـه بـك فـي الــمـــنـــا

 

م فـمـا أطـــاف ولا ألَـــمَّـــا

من أين أُرسل للفؤاد وأنت لم تنظره سهماً

 

 

ومتى رأيت جماله

 

حتـى كـسـاك هـواه سـقـمـــا?

والـعــين داهـــية الـــهـــوى

 

وبـه تـنــم إذا تـــنـــمـــى

وبــأي جـــارحة وصـــلـــت

 

بوصـفـه نـثـراً ونـظـــمـــاً?

فأجـبـت: إنـــي مـــوســـوي

 

الـعـشـق إنـصـاتـاً وفـهـمـــاً

أهـوى بـجـارحة الــســـمـــا

 

ع ولا أرى ذات الـمــســـمـــى

توفى في سحر يوم الأحد تاسع المحرم سنة ثلاث وعشرين وستمائة بمصر. ودفن من الغد بسفح المقطم. رحمه الله تعالى.

أحمد بن محمود بن أحمد بن ناصر البغدادي، الحريمي الحذاء، أبو العباس بن أبي البركات: وقد سبق ذكر والده. ولد سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة تقديراً.

وسمع بإفادة والده من أبي الفتح بن البطي، ويحيى بن ثابت بن بندار، وسعد الله بن الدجاجي، وأبي جعفر بن القاص، وغيرهم.

وتفقه على والده أبي البركات. وحدث. وأجاز للمنذري.

قال ابن الساعي: توفي يوم الأربعاء حادي عشرين جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وستمائة. ودفن بمقبرة باب حرب.

والذي قدمه المنذري: أنه توفى ليلة الرابع عشر من الشهر المذكور.

أحمد بن ناصر بن أحمد بن محمد بن ناصر الإسكافي، الفقيه، أبو العباس بن أبي البركات، الفقيه الحربي: قرأ طرفاً من الفقه على والده. وسمع الحديث من أبي الفتح بن البطي، ويحيى بن نابت بن بندار، وسعد الله بن الدجاجي، وغيرهم. كتب عنه ابن النجار، وقال: كان شيخاً حسناً، فهماً متيقظاً.

توفي يوم الأربعاء حالي عشرين جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وستمائة. ودفن بباب حرب رحمه الله.

أحمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور السعدي، المقدسي، ثم الدمشقي، المعروف بالبخاري. شمس الدين، أبو العباس أخو الحافظ ضياء الدين محمد، ووالد الفخر علي: مسند وقته. ولد في العشر الأواخر من شوال سنة أربع وستين وخمسمائة بالجبل.

وسمع بدمشق من أبي المعالي بن صابر، وغيره.

ورحل إلى بغداد. وسمع من أبي الفتح بن شاتيل، وابن الجوزي، وطبقتهم وسمع بنيسابور من عبد المنعم الفراوي. وسمع بواسط من جماعة. وتفقه وبرع. وأقام ببخارى مدة يشتغل بالخلاف على الرضى النيسابوري، ولهذا عرف بالبخاري. ثم رجع إلى الشام، وسكر حمص مدة. ويقال: إنه ولي بها القضاء، كما ذكره المنذري وغيره. وأنكر أبو القاسم بن العديم ذلك.

قال الذهبي: وكان إماماً عالماً، مفتياً مناظراً، ذا سمت ووقار. وكان كثير المحفوظ، حجة صدوقاً، كثير الاحتمال، تام المروءة. لم يكن في المقادسة أفصح منه. واتفقت الألسنة على شكره، وشهرته وفضله. وما كان عليه يغني عن الإطناب في ذكره.

حدث البخاري بدمشق وحمص. وسمع منه جماعة. منهم: عبد الرزاق الرسعني. وروى عنه أخوه الضياء الحافظ، وولده الفخر علي. وأجاز للمنذري.

وتوفى ليلة الخميس خامس جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وستمائة، كذا قال المنذري.

وقال ابن العديم: توفي ليلة الجمعة خامس عشر من الشهر المذكور. ودفن من الغد إلى جانب خاله الشيخ موفق الدين رحمه الله تعالى.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد. حدثنا والدي أبو العباس- من لفظه بحمص- أخبرنا أبو الفتح بن شاتيل أخبرنا أبو القاسم بن بيان أخبرنا أبو القاسم عبد الملك بن بشران حدثنا محمد بن الحسن بن أبي شعيب الحراني حدثنا عبد العزيز بن داود الحراني حدثنا حماد بن سلمة محن علي بن زيد عن يحمى بن يعمر قال: قلت لابن عمر: عندنا رجال بالعراق يقولون: إن شاءوا عملوا، وإن شاءوا لم يعملوا، وإن شاءوا دخلوا الجنة، وإن شاءوا دخلوا النار، ويصنعون ما شاءوا. قال ابن عمر: "أخبرهم أني منهم بريء، وهم برآء مني. ثم قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم الحديث".

ومن فتاوى أبي العباس البخاري بحمص: سئل عن رجل دفع إلى رجل مائة قراضاً.

فربح ستين. ثم أخذ رب المال منه ثمانين. ثم أتجر المضارب بالباقي، فصار خمسة عشر. فأجاب: لا يجب على المضارب شيء، بل تقع الخمسة عشر التي بقيت بدلاً عن نصيبه. وذلك لأن المضارب كان يستحق خمسة عشر، ضرورة أن الثلاثين من الذي أخذ هي الربح. وكان المضارب يستحق النصف.

قلت: وجه هذا: أن رب المال لما أخذ نصف رأس المال ونصف الربح استحق العامل مما أخذه من الربح: نصفه. وهو خمسة عشر. وهو ربع الربح، وبقي رأس المال في يد المضارب خمسون. والثلاثون والزائدة ربح، فلما أتجر فيه العامل وخسر: جبر رأس المال الباقي في يده بربحه، ولم يستحق شيئاً من ربحه، وبقي له على رب المال ذصيبه مما أخذه من الربح، وهو خمسة عشر. إذ هي نصف ما أخذه من الربح، فيستحقها عليه، ولا ينجبر بها هذا الخسران، لأن ما أخذه رب المال انفسخت فيه المضاربة، وانقطع حكمه عما بقي في يد العامل.

وظاهر ما أفتى به البخاري: يقتضي أن العامل أخذ الخمسة عشر الباقية في يده عوضاً عن نصيبه الذي يستحقه على رب المال.

وذكر الشيخ موفق الدين في نظير هذه المسألة: أن العامل يرد ما في يده إلى رب المال، ويطالبه بحقه مما أخذه من الربح، لئلا يكون مستوفياً من تحت يده من مال من له عليه الحق.

عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المقدسي، الفقيه الزاهد بهاء الدين، أبو محمد ابن عم البخاري المذكور قبله: ولد سنة ست- ويقال: سنة خمس- وخمسين وخمسمائة.

وسمع بدمشق من أبي عبد الله بن أبي الصقر وغيره.

ورحل إلى بغداد، وسمع بها من شُهدة، وعبد الحق اليوسفي، وطبقتهما، وسمع بحران من أحمد بن أبي الوفاء الفقيه.

ويقال: إنه تفقه ببغداد على ابن المنى، وتفقه بدمشق على الشيخ موفق الدين ولازمه وعلق عنه الفقه واللغة، وقرأ العربية. وصنف في الفقه والحديث والرقائق.

فمن تصانيفة "شرح العمدة" للشيخ موفق الدين في مجلد، وهو شرح مختصر، ونص في أوله: أن الماء لا ينجس حتى يتغير مطلقاً، ويقال: إنه شرح "المقنع" أيضاً.

وقال سبط ابن الجوزي: كان يؤم بمسجد الحنابلة بنابلس، ثم انتقل إلى دمشق. قال: وكان صالحاً ورعاً زاهداً، غازياً مجاهداً، جواداً سمحاً.

وقال المنذري: كان فيه تواضع، وحسن خلق، وأقبل في آخر عمره على الحديث إقبالاً كلياً، وكتب منه الكثير. وحدث بنابلس، ودمشق.

تولْي رحمه الله في سابع ذي الحجة سنة أربع وعشرين وستمائة، ودفن من يومه بسفح قاسيون، رحمه الله تعالى.

قرأت بخط الشيخ بهاء الدين، قال الخرقي: وإذا قال له: يا لوطي، وقال: أردت أنه من قوم لوط، فلا شيء عليه. وقال: إذا قذف من كان مشركاً وقال: أردت أنه زنى وهو مشرك، لم يلتفت إلى قوله وَحُدَّ. سألت موفق الدين عن الفرق بينهما. فقال: قد قيل في الأدلة: إنها على خلاف الظاهر، وأنه لا يلتفت إلى قوله كالثانية، لأن قوم لوط قد انقرضوا، وهذا بحيد. وإن فرق بينهما، فلأنه إذا قال: أردت أنه زنى وهو مشرك، فقد ألحق به العار في الحال بقوله: يا زاني، والزنا عار في حالة الشرك، وقد وصفه به وهو مسلم، فلا يلتفت إلى تفسيره ويحد. وأما إذا قال: يا لوطي، وقال: أردت أنك من قوم لوط فقد نفى عنه العار، لأن كونه من قوم لوط: لا عار فيه، وقد فسر اللفظ بما يحتمله. والله أعلم.

عبد الله بن نصر بن محمد بن أبي بكر الحراني، المقرئ الفقيه، أبو بكر قاضي حران: رحل إلى بغداد وتفقه بها، وسمع الحديث من شُهمة وابن شاتيل وطبقتهما. ورحل إلى واسط، وقرأ بها القرآن بالروايات على أبي بكر الباقلاني. وأبي طالب الكناني، وجماعة آخرين.

وصنف كتباً في القراءات، منها "التذكير" في قراءة السبعة، ومنها "مفردات" في قراءة الأئمة، وأقرأ القرآن، وحدث بحران.

روى عنه الأبرقوهي وجماعة.

قال ابن حمدان الفقيه: سمعت عليه أشياء. قال: وكان مشهوراً بالديانة والصيانة، مستوحداً في فنه، وفي فنون القراءة، وجودة أدائها.

توفي رحمة الله سنة أربع وعشرين وستمائة بحران.

عبد المحسن بن عبد الكريم بن ظافر بن رافع، الحصني الحصري، المصري الفقية، أبو محمد: ولد في أوائل سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة بمصر. وسمع بها من أبي إسحاق إبراهيم بن هبة الله بن محمد البغدادي، وأبي روح المطهر بن أبي بن الجيوشاني، وأبي نزار ربيعة بن الحسن اليماني الحافظ، وعبد المجيب بن زهير الحربي، وأبى عبد الله محمد بن عمر العثماني، وجماعة سواهم.

ورحل إلى دمشق. فتفقه بها على الشيخ موفق الدين المقدسي. وانقطع إليه مدة، وتخرج به، وسمع منه ومن أبي الفتوح البكري وغيرهما.

وسمع بحران من الحافظ عبد القادر الرهاوي، وحدث بحمص وبمصر. وكتب بخطه. وحصل كتباً، وتوجه إلى الحج، فغرق في البحر، وذهب جميع ما معه. وعاد إلى مصر مجرداً من جميع ما كان معه.

ولم يزل على سداد وأمر جميل إلى أن توفى في ثالث جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وستمائة بمصر. ودفن من الغد بسفح المقطم على شفير الخندق بقرب كافور الإخشيد.

ذكر ذلك كله المنذري، ووصفه بأنه رفيقه.

قال: وفي ليلة ثاني عشر الشهر المذكور توفى:

الفقيه أبو الفضل داود بن رستم بن محمد بن أبي سعيد الحراني الحنبلي ببغداد: ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. سمع من نصر الله القزاز وغيره. وحدث، وذكره ابن النجار، وأنه ناطح الستين.

عبد الرحمن بن علي بن أحمد بن علي بن محمد التانرايا، البغدادي، الواعظ، الفقيه، المعدل، ثم الحاكم أبو محمد، ويقال: أبو الفضل. ويقال: أبو المعالي. ويلقب موفق الدين: سمع من عبد الحق اليوسفي، وابن شاتيل، ونصر الله القزاز، وابن المنى، وابن الجوزي، وغيرهم.

وتفقه على أبي الفتح بن المنى، وبرع وناظر، وقرأ الوعظ على أبي الفرج بن الجوزي وصحبه. ووعظ بباب بدر تحت منظرة الخلافة، من زمن الخليفة الناصر، مع محيي الدين بن الجوزي.

قال ابن النجار: كان حسن الأخلاق فاضلاً.

وقال المنذري: كان فقيهاً فاضلاً مناظراً. وله يد في الوعظ.

قلت: ولما صرف الشيخ شهاب الدين السهروردي صاحب العوارف عن مشيخة رباط الزوزني بمدرسة المنصور، سنة ثمان وستمائة في خلافة الناصر، جعل ابن التانرايا شيخاً للرباط المذكور، وينظر في أوقافه. ولما ولي قاضي القضاة أبو صالح نصر بن عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر في خلافة الظاهر: شهد عنده. ثم استنابه في الحكم بحريم دار الخلافة.

وقد حدث. وسمع منه غير واحد، منهم: ابن النجار. وأجاز للمنذري، ولعبد الصمد بن أبي الجيش.

قال الشيخ عبد الصمد: كان أصله من العجم. وسبب هذا اللقب: أن بعض أجداده كان يقول: إن بيتاً في التاني رايا. فلقب هذا اللقب.

توفي ليلة الإِثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وستمائة فجأة. ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب. رحمه الله تعالى.

وفي هذه السنة في حادي عشرين ذي القعدة توفى:

بهاء الدين أبو العباس أحمد بن نجم بن عبد الوهاب الحنبلي الدمشقي، أخو الشهاب والناصح. ودفن بالجبل. وكان أكبر الإخوة. فكان مولده: سنة تسع وأربعين وخمسمائة: سمع من القاضي أبي الفضل بن الشهرزوري. وحدث عن الحيصَ بيص الشاعر. وأجاز للمنذري.

سلامة بن صدقة بن سلامة بن الصولي، الحراني الفقيه، الفرضي أبو الخير، ويلقب موفق الدين: سمع ببغداد من أبي السعادات الفزاز، وغيره. وتفقه بها.

قال ابن حمدان: كان من أهل الفتوى، مشهوراً بعلم الفرائض، والحساب والجبر والمقابلة. سمعت عليه كثيراً من الطبقات لابن سعد. وقرأت عليه ما صنفه في الحساب والجبر والمقابلة، وأجوبته في الفتوى غالباً "نعم" أو "لا".

قلت: روى عنه الأبرقوهي. سمع منه بحران.

وقال المنذري: لنا منه إجازة، وقال: و "الصولي" بفتح الصاد المهملة الإسكاف.

هكذا يقول أهل بلده.

قلت: ورأيت على مقدمة الفرائض من تصنيفه: ابن الصولية. ولم يضبط الصاد بشيء. وفي هذه المقدمة فوائد، منها: أنه قال: تنزل العمة أبا، وعمته عما. فيحتمل عماً لأبوين. ويحتمل كل واحدة بمنزلة أخيها. وهذا غريب. ويلزم من تنزيل العمة للأم عَمّاً لأم إسقاطها.

توفي في المحرم سنة سبع وعشرين وستمائة بحران. رحمه الله تعالى.

عبد الله بن معالي بن أحمد الرياني، المقرئ الفقيه، أبو بكر: تفقه على أبي الفتح بن المنى، وغيره. وسمع من ابن المنى، وشهمة، وغيرهما. وحدث.

قال ابن نقطة: سمعت منه أحاديث. وهو شيخ حسن.

وقال ابن النجار: كان صالحاً، حسن الطريقة. وشهد عند القضاة. وحدث باليسير.

توفى في يوم الجمعة خامس جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة. ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد. وهو منسوب إلى الريان- بفتح الراء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وفتحها، وبعد الألف نون- محلة بشرقي بغداد، قريب باب الأزج.

وفي ثاني عشر جمادى الأولى من السنة. توفى:

الفقيه سليمان بن أحمد بن أبي عطاف المقدسي: نزيل حران بها. تفقه وحدث عن أبي الفتح بن أبي الوفاء الفقيه.

محمد بن أحمد بن صالح بن شافع بن صالح بن حاتم الجيلي، ثم البغدادي، المحدث المعدل، أبو المعالي بن أبي الفضل بن أبي المعالي. ويلقب فخر الدين: وقد سبق ذكر آبائه. ولد ببغداد ليلة الجمعة سادس عشرين جما!ى الأولى سنة أربع وستين وخمسمائة.

وتوفي والده، وله سنة وشهور. فتولاه خاله أبو بكر بن مشق، وأسمعه الكثير من خلق، منهم: يحيى بن يوسف السقلاطوني، وعبد الحق اليوسفي، وصالح بن الرخلة، وأبو العباس بن بكروس الفقيه، وأبو الفتح بن الشريك وشهدة، وغيرهم.

وقرأ القرآن بالروايات. وتفقه في المذهب، وقرأ الحديث الكثير بنفسه على أصحاب أبن بنان، وابن نبهان، وأبي طالب اليِوسفي وطبقتهم.

قال ابن النجار: كان طيب النغمة في قراءة القرآن والحديث، مواظباً على قراءة الحديث بمسجده بدرب المطبخ، وبحلقته بجامع القصر، ويفيد الناس إلى آخر عمره. وكان متديناً صالحاً، حسن الطريقة، جميل السيرة، ساكناً وقوراً، صدوقاً أميناً. كتبت عنه، ونعم الرجل كان. ولقد اصطحبنا مدة!ني طلب الحديث فما رأيت منه إلا خيراً.

وقال ابن نقطة: هو ثقة مأمون، مكثر حسن السمت.

وقال المنذري: كان فاضلاً، مرضي السيرة.

قال ابن الساعي: كان ثقة صالحاً خيراً، كثير السكون، حسن السمت، جميل الطريقة من بيت العدالة والرواية، وليَ كتابة باب طراد، والخزن بالديوان وعين للدخول على ولي العهد أبي نصر محمد، وهو الخليفة الظاهر. وكتب عنه ابن الساعي، وأجاز للمنذري.

روى عنه عبد الصمد بن أبي الجيش.

قال ابن النجار: وتوفى يوم الأحد رابع رجب سنة سبع وعشرين وستمائة وصلَّى عليه من الغد بالنظامية. وكان الجمع متوافراً جداً، وحمل إلى باب حرب فدفن عند آبائه بدكة الإمام أحمد. رضي الله عنه.

قرئ على أبي الربيع محمد بن عبد الصمد بن أحمد بن عبد القادر بن أبي الجيش وأنا أسمع، سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ببغداد- أخبرك والدك أبو أحمد عبد الصمد بن أحمد قال: حدثنا أبو المعالي محمد بن أحمد بن شافع أخبرنا أبو الفرج بن كليب أخبرنا صاعد بن سيار الهروي أخبرنا أبو عامر الأزدي وأبو المظفر البغاورداني قالا: أخبرنا الجراحي أخبرنا المحبوبي حدثنا الترمذي حدثنا أحمد بن منيع حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا سعيد الجريري عن قيس بن عباية عن عبد الله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا أقول في الصلاة "بسم الله الرحمن الرحيم" قال: "أي بني، مُحْدَث، إياك والحدث، قال: ولم أر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحدث في الإسلام- يعني منه- قال: وصليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر، وجمع عمر، ومع عثمان فلم أسمع أحداً منهم يقولها. فلا تقلها إذا صليت. وقل: الحمد لله رب العالمين" "الفاتحة: ا،".

أخبرنا عالياً- محمد بن إسماعيل الأنصاري- بدمشق- أخبرنا يحيى بن أبي منصور بن الصيرفي الحراني الفقيه-. حضوراً- أخبرنا عبد القادر الرهاوي الحافظ أخبرنا نصر بن سيار الهروي أخبرنا الأزدي- فذكره.

أحمد بن نصر بن الحسين بن فهد، العلثي، الفقيه، أبو العباس: سمع من أبي شاكر السقلاطوني، وعبد الحق اليوسفي، وعبد الرحمن بن جامع الفقيه، وشُهدة. وتفقه على ابن المنى. وكان حسن الكلام في مسائل الخلاف، وفيه صلاح وديانة. وله مسجد فيه، ويقرئ الناس. وكان زيه زي العوام في ملبسه. وحدث. وسمع منه جماعة.

توفي ليلة الثلاثاء ثاني عشر شعبان سنة سبع وعشرين وستمائة. ودفن عن الغد بمقبرة الريان خلف مسجده.

وقال ابن النجار: وأظنه ناطح السبعين. رحمه الله تعالى.

عبد الوهاب بن زاكي بن جميع الحراني، الفقيه، ناصح الدين، أبو محمد نزيل دمشق: سمع بحران من عبد القادر الرهاوي متأخراً.

قال ابن حمدان: كان فاضلاً في الأصلين والخلاف، في الفروع والعربية، والنظم والنثر، وغير ذلك.

رحل إلى بغداد. وقرأت عليه "الجدل الكبير" لأبن المنى، وبعض تعليقه و "منتهى السول" وغير ذلك. وكان كثير المروءة الأدب، حسن الصحبة، وقلت في مرثيته أبياتاً منها:

علا منزلاً عال من المجد والنـهـى

 

فأضحى ولا يرقى له مورد الشرب

وساد لسـادات الـزمـان بـسـؤدد

 

يِدوم دوام الدهر في الشرق والغرب

وذكر المنذري: أنه حدث بشيء من شعره، قال: و "جميع"، بضم الجيم وفتح الميم.

وتوفى في خامس ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وستمائة بدمشق. ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.

سليمان بن عمر بن المشبك الحراني، الفقيه، الأصولي أبو الربيع. ويلقب كمال الدين: قال ابن حمدان: كان رجلاً صالحاً ورعاً، فاضلاً في الأصلين والخلاف والمذهب. وله تصانيف كثيرة في ذلك كله، منها عبادات، ومختصر الهداية والوفاق والخلاف بين الأئمة الأربعة، ومسائل خلاف، وأصول فقه، وغير ذلك.

قلت: رأيت له كتاب "الراجح" في أصول الفقه، قال: ومنها "اعتقاد أهل حران" و "نفي الآفات عن آيات الصفات" و "صرف الالتباس عن بدعة قراءة الأخماس" وغير ذلك.

قال: وعدته في مرضه، ولم أسمع منه شيئاً. مات زمن اشتغالي، وندمت على ما فاتني منه.

توفي بعد العشرين وستمائة يعني بحران.

قلت: أظنه مات في أول هذا الشهر. والله أعلم.

خلف بن محمد بن خلف الكنري، البغدادي، المقرئ، أبو الذخر: ولد يكنز من قرى بغداد، سنة خمس وأربعين وخمسمائة. وحفظ بها القرآن. وتفقه في المذهب ثم سافر إلى الموصل واستوطنها. وسمع بها من الخطيب أبي الفضل الطوسي، ويحيى الثقفي، وغيرهما.

وحدث، وأقرأ القرآن. وكتب عنه الناس. وكان متديناً صالحاً، حسن الطريقة.

توفي في محرم سنة تسع وعشرين وستمائة بالموصل. رحمه الله تعالى.

يوسف بن فضل الله بن يحيى السكاكيني الحراني، الأديب الزاهد، أبو المظفر، وأبو الحجاج: سمع علي الرهاوي بحران بعد الستمائة.

وذكره ابن حمدان فقال: كان إمام البلد في وقته في النحو واللغة والتصريف والقراءات.

وله تصنيف كبير في الزهد والورع. وله النظم الكثير الحسن.

وتوفي بحران. ودفن بداره التي جعلها دار حديث، ووقف بها خزانته وكتبه. ولم تؤرخ وفاته. ثم رأيته قد سمع علب شيء من نظمه في صفر سنة إحدى وعشرين وستمائة – بحران

ومنه قوله:

أفق يا ذا النهى، وابغ الوفـاقـا

 

فقد والله أفلـح مـن أفـاقـا

ونفسُك أيها المغرور صنـهـا

 

عن الدنيا، وبِت لهـا طـلاقـا

ولا تركن إليها؛ فهي سـجـن

 

سفيه من رجا منـهـا إبـاقـا

ولا تفرح بزخرفهـا، فـإنـي

 

رأيت تمام ما تعطي محـاقـا

ولكن من تلفـع ثـوب زهـد

 

يفك بزهده عنـه الـوثـاقـا

إذا ما ساعة للحشـر قـامـت

 

ولم ير عند صبحتهـا فـواقـا

وبرزت الجحيم لـهـا زفـير

 

وحل عذابها بـهـم وحـاقـا

وتنصب للعصاة وقـد أتـوهـا

 

وما وافوا بصالـحة رهـاقـا

فكن حذراً وقـت حـلـول دار

 

يكون شراب ساكنها غسـاقـا

وجاهد كي تصير إلـى نـعـيم

 

مقيم لا تخـاف لـه فـرافـا

بدار شرب ساكنـهـا رحـيق

 

تعاطيَ الكأس مترعة دهـاقـا

من التسليم والولدان تـسـعـى

 

بها أبداً صبوحاً واغـتـبـاقـا

وعندهم حـسـان قـاصـرات

 

صفاً وُدُّ الحسان لهـم وراقـا

وأنهار بها عسـل مـصـفـى

 

ومن لبن زها الرائي وشـاقـا

ومن خمر تلـدُّ لـشـاربـيهـا

 

ولا تغتال عقلاً إذ تـسـاقـى

ومـالاً يرى فـيهـا أجــون

 

إذا ما استاقه الساقـي وذاقـا

وأفنان القطـوف بـهـا دوانٍ

 

وتعتنق الغصون بها اعتنـاقـا

وفيها ما تشهى النفس حتـمـاً

 

لمن لم يَنْوِ في الدنيا نـفـاقـا

ولم يأتِ الخطايا مـسـتـحـلاً

 

ولا داني فواحشها شـقـافـا

وأعظـم مـنة لـلـه فـيهـا

 

على العبد التحية حـين لاقـى

سلام يا عبـادي نـلـتـمـوه

 

جزاء من مليككمـوا وفـاقـا

فخروا ثم كاد العقل مـنـهـم

 

وقد لاقوه ينطلق انـطـلافـا

وكيف القلب لا ينشـق مـنـي

 

على هذا بغصته انشـقـاقـا

وحور القوم أشـجـار وروض

 

من المرجان تصطفق اصطفاقا

وحور من بطون الغيب تـبـدو

 

فتعتلق القلوب بها اعـتـلاقـا

يلاعب بحضهم بعضاً سـروراً

 

بود مـا أتـوا فـيه مـذاقـا

فمن رام الخلـود بـدار عـدن

 

يشمر في تطلب ذاك سـاقـا

ويلزم نفسه سهـر الـلـيالـي

 

ويكلف في العبادة ما أطـاقـا

فلا واللَه ما نال الـمـعـالـي

 

أخـو دَعَة يَمـدُ لـه رواقـا

وينشد مستـظـلاً فـي فـنـاه

 

أيدري الـربـع أي دم أراقـا

بلى والله من جـد اجـتـهـاداً

 

وسابق في رضى المولى سباقا

وحج البيت عامـاً بـعـد عـام

 

وأعمل نحوه عـيسـاً دقـاقـا

ولم يركن إلى الدنـيا غـروراً

 

وقطع عن علائقها الربـاقـا

ولا يلوِي علـى أهـل ومـال

 

وحن إلى فراقهـمـا وتـاقـا

فطوراً يقطع البـيداء شـامـاً

 

وطوراً سالكاً فيهـا عـراقـا

وفارق زهرة الدنيا مـطـيعـاً

 

وأقبل نحو أخراه اشـتـياقـا

وعانى من أليم الشـوق وجـداً

 

وكايد من تلهبـه احـتـراقـا

ورافق من يرافـقـه بـرفـق

 

ولا يشكو إلى أحـد رفـاقـا

جديراً أن يصير إلـى سـرور

 

يلذ به ويرتـفـق ارتـفـاقـا

فيا طوبى لمن أصغى لوعظـي

 

وزايل غيه ثـم اسـتـفـاقـا

وذكر باقي القصيدة، وهي طويلة، رواها عنه المحدث أبو حفص عمر بن مكي بن سرحاء الحلبي القلانسي.

وله مرثية في الشيخ موفق الدين المقدسي، رواها عنه الحافظ الضياء إجازة.

القطفتي الفقيه المعدل، أبو محمد، ويقال: أبو زكريا، ابن أبي سعيد بن أبي الحسن، المعروف بابن غالية بالغين المعجمة: ذكر أنه سمع من ابن البطي وسمع من أبي الفتح بن المنى. وتفقه عليه. وحصل طرفاً صالحاً من الفقه. ونظر في علم الحساب وغيره. وشهد عند الحكام. وولى خبرية باب النوبي. ثم عزل، وناب في نظر المارستان. وكتب عنه ابن الساعي. وسمع منه عد الصمد بن أبي الجيش أبياتاً للقيرواني بسماعه من أبي محمد الحسن بن عبيدة النحوي، وقال عبد الصمد: هو خالي. ولم يؤرخ وفاته وبقي إلى حدود العشرين والستمائة أو بعدها.

وفي وفيات المنذري: وفي جمادى الأولى- يعني سنة تسع وعشرين- توفى الشيخ أبو يحيى زكريا بن يحي القطفتي ببغداد. ودفن بمقبرة معروف. ومولده سنة أربع- أو خمس- وأربعين وخمسمائة. سمع من يحيى بن موهوب بن أنسديك. وحدث. كذا سماه. وفي اسمه تخبيط في النسخة فيحرر ذلك.

محمد بن عبد الغني بن أبي بكر بن شجاع بن أبي نصر بن عبد الله البغدادي الحافظ، أبو بكر بن أبي محمد، المعروف بابن نقطة. ويلقب معين الدين، ومحب الدين أيضاً: ولد في عاشر رجب سنة تسع وسبعين وخمسمائة.

وسمع ببغداد من يحيى بن بوش، وعبد الوهاب بن سكينة، وعمر بن طبرزد، وابن الأخضر الحافظ، وأحمد بن الحسن العاقولي، وخلق.

ورحل إلى البلدان فسمع بواسط من أبي الفتح بن المنداي، وبأربل من عبد اللطيف بن أبي النجيب السهروردي.

وبإصبهان من عفيفة الفارقانية، وزاهر بن أحمد، والمؤيد بن الأخوة، وأبي الفخر بن روح، وجماعة.

وبخراسان من منصور بن عبد المنعم الفراوي، والمؤيد الطوسي، وزينب المسعرية، وجماعة.

وبدمشق من أبي اليمن الكندي، وأبي القاسم بن الحرستاني، وداود بن ملاعب، وغيرهم.

وبمصر من أبي عبد الله الحسين بن أبي الفخر الكاتب، وعبد القوي بن الحبات، وطائفة من أصحاب السلفي وغيره.

وسمع بالإسكندرية من ابن عماد الحراني، وجماعة من أصحاب السلفي.

وسمع بمكة من يحيى بن ياقوت.

وبحران من الحافظ عبد القادر، وبحلب من الافتخار الهاشمي، وبالموصل من جماعة، وبدمنهور ودنير، وبلاد أُخر.

وعنى بهذا الشأن عناية تامة. وبرع فيه. وكتب الكثير. وحصل الأصول. وجمع، وصنف تصانيف مفيدة.

ذكره عمر بن الحاجب الحافظ في معجمه فقال: شيخنا هذا أحد الحفاظ الموجودين في هذا الزمان. طاف البلاَد، وسمع الكثير، وصنف كتباً حسنة في معرفة علوم الحديث والأنساب. وكان إماماً زاهداً ورعاً، ثقة ثبتاً، حسن القراءة، مليح الخط، كثير الفوائد، متحرياً في الرواية، حجة فيما يقوله ويصنفه وينقله ويجمعه، حسن النقل، مليح الخط والضبط، ذا سمت ووقار وعفاف، حسن السيرة، جميل الظاهر والباطن، سخي النفس مع القلة، قانعاً باليسير، كثير الرغبة إلى الخيرات.

سألت ابن عبد الواحد- يعني الحافظ الضياء- عنه. فقال: حافظ دين ثقة، صاحب مروءة، كريم النفس، كثير الفائدة، مشهور بالثقة، حلو المنطق.

وسألت البرزالي عنه. فتمال: ثقة دين مفيد. انتهى ما ذكره.

وقال المنذري: رفيقنا الحافظ أبو بكر بن نقطة. سمعت منه. وسمع مني بجيرة فسطاط مصر وغيرها. وكان أحد المشهورين بكثرة الطلب والكتابة والرحلة. وصنف تصانيف مفيدة.

وقال ابن خلكان: دخل خراسان، وبلاد الجبل، والجزيرة، والشام، ومصر. ولقي المشايخ، وأخذ عنهم وكتب الكثير، وعلق التعاليق النافعة، وذيل على "الإكمال" لابن ماكولا في مجلدين. وله كتاب آخر لطيف في الأنساب. وله كتاب "التقييد بمعرفة رواة السنن والمسانيد" وله غير ذلك.

وقال الحافظ الذهبي: الحافظ الإِمام المتقن، محدث العراق، أبو بكر بن نقطة- وذكر ترجمته، إلى أن قال- وكتابه "المستدرك على إكمال ابن ماكولا ينبئ بإمامته وحفظه. وكان متقناً محققاً. له سمت ووقار. وفيه دين وقناعة قفى أثر والده في الزهد والتقشف، لم ألقَ أحداً يروي لي عنه.

قال: وروى عنه المنذري، والسيف بن المجد، وعبد الكريم بن منصور الأثري، وأبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن عبد الغني، وعز الدين الفاروتي، وأتى الليث بن نقطة. وذكر غيرهم.

وذكر عمر بن الحاجب عن ابن الأنماطي أنه سأله عن نسبته، قال: جارية ربت جدتي أم أبي، اسمها "نقطة" عرفنا باسمها. وقد أجاز لفاطمة بنت سليمان بن عبد الكريم، وتأخرت وفاتها.

توفى رحمه الله تعالى في سن الكهولة، بكرة يوم الجمعة ثاني عشر صفر سنة تسع وعشرين وستمائة ببغداد. ودفن عند قبر أبيه. وأبوه الزاهد أبو محمد:

عبد الغني: كان من أكابر الزهاد المشهورين بالصلاح والإيثار، وله أتباع ومريدون وبنت له أم الخليفة الناصر مسجداً ببغداد فيه. وكان يقصده الناس فيتكلم عليهم، وزوَّجته بجارية من خواصها، فانقطع وجهزتها بنحو عشرة آلاف دينار. فما حال الحول وعندهم من ذلك شيء، بل جميع ذلك تصدق به. كان يتصدق في كل يوم بألف دينار، وأصحابه صيام لا يدخر لهم عشاء. ويقال: إنه لم يبقَ عنده من جهاز زوجته إلا هاون. فوقف سائل يلح في الطلب، ويصف فقره وحاجته، وأنه منذ كذا لم يجد شيئاً. فأخرج إليه الهاون، وقال: خذ هذا كل به في ثلاثين يوماً. ولا تشنع على الله عز وجل.

وكان قد سمع من عمر بن التبان، ومظفر بن أبي نصر البواب، وغيرهما.

وتوفى في رابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. ودفن في موضع مجاور لمسجده رحمه الله تعالى.

أنبأني القاسم بن محمد الحافظ أخبرنا أحمد بن إبراهيم الواسطي الخطيب، أخبرنا أبو بكر بن نقطة الحافظ- سنة ثمان وعشرين وستمائة ببغداد- أخبرتنا عفيفة بنت أحمد أخبرتنا فاطمة الجوزدانية أخبرنا أبو بكر بن ريدة أخبرنا الطبراني أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن فيل أنوبة حدثنا الحسن بن أيوب عن عبد الله بن بسر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية. ولا يقبل الصدقة".

عبد الله بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، ثم الدمشقي، الحافظ ابن الحافظ، أبو موسى بن أبي محمد. ويلقب جمال الدين.

ولد في شوال سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.

وسمع بدمشق من جماعة، منهم: عبد الرحمن بن علي بن الخرقي، وإسماعيل الجنزوري، والخشوعي. ورحل به أخوه الحافظ عز الدين محمد- المتقدم ذكره- فسمع ببغداد من ابن كليب، وابن المعطوس، وبأصبهان من مسعود الحمالَ، وخليل الداراني؛ وأبي المكارم اللبان، وخلق كثير، وبمصر سن أبي عبد الله الأرتاحي، وفاطمة بنت سعد الخير. ثم ارتحل ثانياً إلى العراق. فسمع من ابن الجوزي، وأبي الفتح المنداي، وطبقتهما ببغداد وواسط، ومن منصور الفراوي، والمؤيد الطوسي، وغيرهما بنيسابور. وسمع بالموصل، وأربل، وبالحرمين. وكتب بخطه الكثير. وجمع. وصنف وأفاد. وقرأ القرآن على عمه الشيخ العماد، والفقه على الشيخ موفق الدين، والعربية على أبي البقاء العكبري.

قال الحافظ الضياء: اشتغل بالفقه والحديث، وصار علماً في وقته. ورحل ثانياً، ومشى رجليه كثيراً، وصار قدوة، وانتفع الناس بمجالسته التي لم يسبق إلى مثلها. وقال عمر بن الحاجب: سمعت الضياء يصف ما قاسى أبو موسى من الشدائد والجوع والعري في رحلته إلى نيسابور، وأصبهان.

وقال أبو عبد الله البرزالي: حافظ دَيِّن متميز.

وقال الضياء عنه أيضاً: حافظ متقن، دين ثقة، كانت قراءته سريعة صحيحة مليحة.

وقال عمر بن الحاجب الحافظ: لم يكن في عصره مثله في الحفظ، والمعرفة والأمانة، وكان كثير الفضل، وافر العقل، متواضعاً، مهيباً، وقوراً جواداً سخياً، له القبول الآم، مع العبادة والورع والمجاهدة، كأن كلامه الضياء، وكان قد عود الناس شيئاً لم يروه من غيره، وذلك: أن كل من احتاج إلى قرض شيء يمضي إليه، فيحتال له حتى يحصل له ما يطلب، حتى صار عليه من ذلك ديون، وكثير من الناس لا يرجع يوفيه.

وقال ابن الحاجب: ولو اشتغل حق الاشتغال ما سبقه أحد، ولكنه تارك.

وقال غيره: عقد أبو موسى مجلس التذكير، ورغب الناس في حضوره، وكان جم الفوائد، يطرز مجلسه بالبكاء والخشوع، وإظهار الجزع.

وقال المنذري: الحافظ أبو موسى، حدث بدمشق ومصر وغيرهما، اجتمعت به لما قدم مصر للغزاة بثغر دمياط.

قال الذهبي: وروى عنه الضياء، وابن أبي عمر، وابن البخاري، وجماعة كثيرون.

وآخر من روى عنه إجازة: القاضي تقي الدين سليمان، ومع هذا فقد غمزه الناصح بن الحنبلي، وأبو المظفر سبط ابن الجوزي بالميل إلى السلاطين، والانقطاع إلى الملك الصالح.

والعجب: أن هذين الرجلين كانا ميلاً إلى الملوك، والتوصل إليهم، وإلى برهم بالوعظ وغيره. وما أحسر قول القائل:

لا تَنْهَ عن خلق وتأتي بمثله

 

عار عليك إذا فعلت عظيم

ولقد كان أبو موسى أتقى لله وأورع، وأعلم منهما وأكثر عبادة، وأنفع للناس وبنى الملك الأشرف دار الحديث بالسفح على اسمه، وجعله شيخها، وقرر له معلوماً، فمات أبو موسى قبل كمالها.

توفى رحمه الله يوم الجمعة، خامس رمضان سنة تسع وعشرين وستمائة، ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.

ورآه بعضهم في النوم، فقال له: ما فعل الله بك? قال: أسكنني على بركة رضوان.

ورآه آخر فسأله، فقال: لقيت خيراً. فقال له: كيف الناس. قال: يتفاوتون على قدر أعمالهم. ورآه آخر من أصحابه، فقال له: أوصيك بالدعاء الذي حفظتك إياه فاحفظه، لقال له: ما بقيت أحفظه، فقال له: هو مكتوب في الورقة التي كتبتها لك، فما نفعني الله إلا به، وكان الدعاء: "اللهم أنت ربي لا إنه إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك- الحديث".

ورثاه جماعة. منهم يوسف بن عبد المنعم بن نعمة بقصيدة، يقول فيها:

لهفي على ميت مات السرور بـه

 

لو كان حيّاً لأحيا الدين والسنـنـا

لو كنت أعطي به الدنيا معـاوضة

 

إذاً لما كانت الدنيا لـه ثـمـنـا

يا سيدي ومكان الروح من جسدي

 

هلاَّ دنا الموت مني حين منك دنا?

عبد العزيز بن أحمد بن عمر بن سالم بن باقا، أبو بكر البغدادي البزاز المعدل. ويلقب صفي الدين: وأول في رمضان سنة خمس وخمسين وخمسمائة ببغداد. وقرأ القرآن. وسمع من أبي زرعهْ، ويحيى بن نابت بن بندار، وأبي بكر بن النقور، وعلي بن عساكر البطايحي، وعبد الحق اليوسفي، وعلي بن أبي سعد الخباز، وأبي العباس بن بكروس الفقيه، وأخيه أبي الحسن وغيرهم.

وقرأ طرفاً من الفقه على أبي الفتح بن المنى، واستوطن م إلى أن مات. وشهد بها عند القضاة.

حدث بالكثير إلى نيلة وفاته. وكان كثير التلاوة للقرآن.

قال ابن النجار: كان شيخاً جليلاً صدوقاً أميناً، حسن الأخلاق متواضعاً. سمع منه خلق كثير من الحفاظ وغيرهم، منهم ابن نقطة، وابن النجار، والمنذري وغيرهم. وحدث عنه خلق كثير.

وتوفى سحر تاسع عشر رمضان سنة ثلاثين وستمائة بالقاهرة. ودفن من الغد بسفح المقطم. وقد سمعنا كثيراً من روايته وحديثه رحمه الله تعالى.

وفي جمادى الأولى من السنة المذكورة توفى القاضي أبو المعالي:

أحمد بن يحيى بن فايد الأواني الحنبلي: ولاه القاضي أبو صالح الجيلي قضاء جيل. وله نظم. حدث ببعضه، توفى بأُوانَي. وكان ابن عمه أبو عبد الله محمد بن أَبي المعالي بن فائد الأواني زاهداً قدوة، ذا كرامات. حكى عنه الشيخ شهاب الدين السهروري وغيره حكايات.

قال الناصح بن الحنبلي: زرته أنا ورفيق لي، فقدم لنا العشاء وعنده جماعة كثيرة، ولم يكن إلا خبز وخل وبقل، فتحدث على الطعام، ثم قال: ضاق بعيسى ابن مريم أقوام. فقدم لهم خبزاً وخلاً، وقال: "لو كنت متكلفاً لأحد شيئاً لتكلفت لكم" قال: فعرفت أنه قد عرف حالي. ودخل عليه رجل من الملاحدة في رباطه وهو جالس وحده، وهو في يوم الخميس الخامس والعشرين من رمضان، فقتله فَتْكاً. رضي الله عنه. ودفن برباطه. ثم قتل قاتله وأحرق.

الحسين بن المبارك بت محمد بن يحيى بن مسلم بن موسى بن عمران الربعي الزبيدي الأصل، البغداد البابصري، الشيخ سراج الدين، أبو عبد الله بن أبي بكر بن أبي عبد الله: ولد سنة ست- أو سبع- وأربعين وخمسمائة، وقيل: سنة خمس وأربعين. وقرأ القرآن بالروايات. وسمع الحديث من جده أبي الوقت، وأبي الفتوح الطائي وأبي حامد الغرناطي، وأبي زرعة وغيرهم.

وتفقه في المذهب، وأفتى ودرس بمدرسة الوزير أبي المظفر بن هبيرة. وكانت له معرفة حسنة بالأدب، وخرجت له مشيخة، وصنف تصانيف، منها: كتاب "البلغة في الفقه" وله نظما في اللغات والقراءات. وكان فقيهاً فاضلاً ديناً خيراً، حسن الأخلاق متواضعاً.

قرأ عليه عبد الصمد بن أبي الجيش القرآن بكتاب السبعة "لأبي الخطاب" الصوفي.

وحدث ببغداد ودمشق وحلب وغيرها من البلاد. وحدث وسمع منه أمم. وروى عنه خلق كثير من الحفاظ وغيرهم، منهم الدبيثي، والضياء. وآخر من حدث عنه: أبو العباس الحجار الصالحي. سمع منه صحيح البخاري وغيره.

توفى في ثالث عشرين صفر سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ودفن بمقبرة جامع المنصور. رحمه الله تعالى.

نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر بن أبي صالح بن حنكيدوست، الجيلي الأصل، البغدادي الفقيه، المناظر المحدث، الزاهد الواعظ، قاضي القضاة، شيخ الوقت، عماد الدين، أبو صالح بن أبي بكر بن أبي محمد.

وقد سبق ذكر أبيه وجده.

ولد في سحر رابع عشرين ربيع الآخر سنة أربع وستين وخمسمائة.

وقرأ القرآن في صباه. وسمع الحديث من والده، وعمه عبد الوهاب، وأبي هاشم عيسى بن أحمد الدوشاني، وسعيد بن صافي الحمالي، والأسعد بن يلدرك، وأحمد بن المبارك المرقعاني، وعبد الحق بن عبد الخالق، ومسلم بن ثابت بن النحاس، وعبد المحسن بن تريك، وشهدة، وغيرهم.

وأجاز له أبو العلاء الهمداني، والسلفي، وأبو موسى المديني، وغيرهم.

واشتغل بالفقه على والده، وعلى أبي الفتح بن المنى. وقرأ الخلاف وعلم النظر على الفخر التوقاني الشافعي. وبرع في الفقه وناظر، وتكلم في المسائل الخلافية، وأجاد الكلام. وكان ذا لَسَن وفصاحة، وجودة عبارة. وأفتى وتولى مدرسة جده، فكان يدر ويعظ بها. وعقد مجالس الإملاء للحديث.

وكان يملي الحديث من حفظه، والناس يكتبون. وأملى في مجلس حكمه. وكان عظيم القدر، بعيد الصيت، معظماً عند الخاصة والعامة، ملازماً طريق النسك والعبادة، مع حسن سمت، وكيس وتواضع، ولطف وبشر، وطيب ملاقاة، وكان محباً للعلم، مكرماً لأهله. ولم يزل كلى طريقة حسنة وسيرة رضية. وكان أثَرياً سُنياً، متمسكاً بالحديث، عارفاً به.

وقد وقع مرة بينه وبين طائفة من الأصحاب- كأبي البقاء العكبرتي ومحي الدين بن عربي- منازعة في حديث من أحاديث الصفات، وثبت هو على إقراره وإمراره. كما جاء من غير تأويل ولا إنكار. وانتشر الكلام في ذلك، حتى خرج الأمر من جهة الخلافة بالسكوت عن الجهتين، حسماً للفتنة.

ولما توفى الخليفة الناصر، وولى ابنه الظاهر- وكان من خيار الخلفاء، وأحسنهم سيرة، وأظهرهم صيانة، وصلاحاً وعدلاً- أزال المكوس، ورد المظالم، واجتهد في تنفيذ الأحكام الشرعية على وجهها، حتى قال ابن الأثير: لو قال القائل: ما ولى بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان هذا القاتل صادقاً.

وكان رحمه الله يختار لكل ولاية أصلح من يجده. فقلد أبا صالح- هذا- قضاء القضاة لجميع مملكته، ويقال: إنه لم يقبل إلا بشرط: أن يورث ذوي الأرحام. فقال له: أعط كل ذي حق حقه، واتق الله، ولا تتق أحداً سواه. وأمره أن يوصل إلى كل من ثبت له حق بطريق شرعي حقه، من غير مراجعة. وأرسل إليه بعشرة آلاف دينار يوفي بها ديون من بسجنه من المديونين الذين لا يجدون وفاء.

ولما خلع عليه، وقرئ عهده بجامع قصر الخلافة: أرسل إلى الخليفة ورقة يشكر فيها للخليفة، ويقول: العبد يرجو من الله تعالى العون على القيام بأعباء تكاليفه. فقد أومأ إلى ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أُوتيتها من غير مسألة أعنت عليها". ويتم هذا الإنعام بأن يجري على اللفظ الأشرف: قلدت نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي ما يقوى عليه؛ ليصح العمل والحكم شرعاً.

ثم رد إليه النظر في جميع الوقوف العامة: وقوف المدارس الشافعية والحنفية وجامعي السلطان وابن المطلب، فكان يولي ويعزل في جميع المدارس، حتى النظامية.

ولما توفى الظاهر أقره ابنه المستنصر مديدة، واستدعاه عند المبايعة، ليثبت له وكالة وكلها لشخص فلم يحكم فيها، حتى قال له: وليتني ما ولاني والدك? فصرح له بالتولية.

وكان رحمه الله- في أيام ولايته- يؤذن ببابه في مجلسه! الحكم ويصلي جماعة ويخرج إلى الجامع راجلاً، ويلبس القطن. وكان متحرياً في القضاء، قوي النفس في الحق، عديم المحاباة والتكلف، حتى إنه كان يمكن الشهود من الكتابة من دواته، وسار سيرة السلف. ولما عزله المستنصر أنشد عند عزله:

حمدت الله عـز وجـل لـمـا

 

قضى لي بالخلاص من القضاء

وللمتنصر المنصـور أشـكـر

 

وأدعو فوق معتـاد الـدعـاء

ولا أعلم أحداً من أصحابنا دُعي بقاضي القضاة قبله، ولا استقل منهم بولاية قضاء القضاء بمصر غيره.

وأقام بعد عزله بمدرستهم يدرس ويفتي، ويحضر المجالس الكبار والمحافل.

ثم فوض إليه المستنصر رباطاً بناه بدير الروم، وجعله شيخاً به. وكان يعظمه ويجله، ويبعث إليه أموالاً جزيلة ليفرقها.

وقد صنف في الفقه كتاباً سماه "إرشاد المبتدئين" وأملى مجالس في الحديث وخرج لنفسه أربعين حديثاً.

أثنى عليه الحافظ الضياء، ووصفه بالخير. وتفقه عليه جماعة، وانتفعوا به.

وفيه يقول الصرصري في قصيدته اللامية، التي مدح فيها الإمام أحص وأصحابه:

وفي عصرنا قد كان في الفقه قدوة

 

أبو صالح، نصر لكـل مـؤمـل

وسمع منه الحديث خلق كثير. روى عنه جماعة. منهم: عبد الصمد بن أبي الجيش، والنجيب الحراني، والكمال البزار.

توفى سحر يوم الأحد سادس عشر شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وصلى عليه بجامع القصر، وحضره خلق كثير من الولاة والأعيان والعوام، وازدحموا على حمله، وارتفعت الأصوات حول سريره. وكان يوماً مشهوداً، ودفن بدكة الإمام أحمد رضي الله عنه.

أخبرنا أبو الربيع علي بن عبد الصمد بن أحمد البغدادي- بها سنة إحدى وأربعين- أخبرنا والدي أبو أحمد عبد الصمد- غير مرة- أخبرنا أبو صالح نصر بن عبد الرزاق قال: أخبرنا أبو الخير أحمد بن إسماعيل الطالقاني، أخبرنا أبو عبد الله الفراوي أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أخبرنا أبو أحمد الجلودي حدثنا إبراهيم بن سفيان حدثنا مسلم حدثنا محمد بن رمح حدثنا الليث عن ابن الهاد عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا معشر النساء، تصدقنا وكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار" وذكر الحديث.

وأخبرنا به عالياً محمد بن إسماعيل الأنصاري بدمشق غير مرة.

أخبرنا القاسم بن محمد حدثنا المؤيد بن أحمد بن محمد الطوسي أخبرنا الفراوي وقرأت على أبي المعافي محمد بنَ عبد الرزاق الشيباني- ببغداد- أخبركم أبو الفرج عبد الرحمن بن عبد اللطيف البزار- قراءة عليه، وأنت تسمع- قال: أنشدنا القاضي أبو صالح في عقب مجلس أملاه عليه لنفسه:

أعبد الله راجياً رحمة مـنـه

 

ولا تخش غير رب السمـاء

ما أتاك الرسول خـذه، ودع

 

ما قد نهى عنه، تحظ بالعلياء

واتق الله مخلصاً دائماً تـص

 

بح من الأغنياء والعلـمـاء

عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد بن علي بن أحمد الأنصاري، الخزرجي السعدي، العبالي، الشيرازي الأصل، الدمشقي الفقيه الواعظ، ناصح الدين أبو الفرج بن أبي العلاء بن أبي البركات بن أبي الفرج المعروف بابن الحنبلي: ولد نيلة الجمعة سابع عشر شوال سنة أربع وخمسين وخمسمائة بدمشق.

وسمع بها من والده، والقاضي أبي الفضل محمد بن الشهرزوري، وأبي الحسن علي بن نجا الواعظ، وأحمد بن الحسين العراقي، وجماعة.

وشرع في الاشتغال، ورحل إلى البلاد، فأقام ببغداد مدة، وسمع بها من أبي شاكر السقلاطوني، وعبد الحق اليوسفي، ومسلم بن ثابت الوكيل، وعيسى السدوشاني، وشهدة الكاتبة، وتجنى الوهبانية، ونعمة بنت القاضي أبي حازم بن الفراء وغيرهم، فمن دونهم في الطبقة، كلاحق بن كاره، وابن الجوزي، وعبد المغيث الحربي.

وسمع بإصبهان من الحافظ أبي موسى المديتي. وهو آخر من سمع منه، لأنه سمع منه في مرض موته، ومن أبي العباس الترك.

وسمع بهمدان من أبي محمد عبد الغني بن الحافظ أبي العلاء وغيره. وسمع بمكة وغيرها.

وسمع بالموصل من الشيخ أبي أحمد الحداد الزاهد شيئاً من تصانيفه.

ودخل بلاداً كثيرة، واجتمع بفضلائها وصالحيها، وفاوضهم، وأخذ عنهم وقدم مصر مرتين وأقام ببغداد مدة يشتغل على أبي الفتح بن المنى. وقرأ على أبي البقاء العكبري "الفصيح" لثعلب من حفظه، وبعض "التصريف" لابن جني وأخذ عن الكمال السنجاري، والبهجة الضرير، النحويين. واشتغل بالوعظ، وبرع فيه. ووعظ من أوائل عمره، وحصل له القبول التام.

وقد وعظ بكثير من البلاد التي دخلها، كمصر، وحلب، وإربل، والمدينة النبوية، وبيت المقدس. وكان له حرمة عند الملوك والسلاطين، خصوصاً ملوك الشام بني أيوب. وقدم بغداد حاجاً سنة اثنتي عشرة وستمائة. وأكرمه الخليفة الناصر. وأظنه وعظ بها هذه السنة، وحضر فتح بيت المقدس مع السلطان صلاح الدين.

قال: واجتمعت بالسلطان في القدس بعد الفتح بسنتين وسألني عن مذهب الإمام أحمد في الخضاب بالسواد? فقلت: مكروه، وسألني عن الكفار إذا استولوا على أموال المسلمين. فذكرت المذهب في ذلك. فاعترضتي بعض الفقهاء الحاضرين، وجرى بيني وبينه مجادلة، فأكثر من الصياح، فصاح السلطان عليه: اسكت، صيحة مزعجة، فسكت وسكتنا لحظة، ثم قال لي: تَمِّمْ كلامك فذكرت، ثم سكت. فحكى السلطان قال؛ كان المجبر الفقيه يتكلم مع الجمال الحنفي، فكان الجمال يبقبق، والمجبر يحقق. ثم سألني بعد ذلك عن مذهب أحمد في الشبابة? ثم قال: معكم غير حديث ابن عمر? وبسطني في الكلام، حتى ذكرت له حسن أصوات أهل إصبهان. وذكر الطوال من الصحابة. وقال كانوا يسمون "مقبلي" وتوقف. فقلت: الطعن. فقال: الطعن. فكأن بعض الحاضرين نَفَس عليَّ سؤال السلطان لي، وإقبالة على كلامي، فقال: من أربعة من الصحابة من نسل رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: أبو بكر الصديق، وأبوه أبو قحافة، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر. ثم قال السلطان: هاتوا شيئاً، فمدوا له سماطاً مختصراً جداً، بعد عشاء الآخرة بساعتين، فكلنا معه. فقال لي بعض أصحابه: هذا من أجلك، فإن له أكثر من شهر ما أكل بالنيل، ثم أخذ يثني على والدي، ويقول: ما أولد إلا بعد الأربعين. قال: وكان عارفاً بسيرة والدي.

ودرس الناصح بعدة مدارس، منها مدرسة جده شرف الإِسلام، ودرس بالمسمارية، مع أبي المعالي أسعد بن المنجي، ثم استقل بها وحده، وعزل ابن المنجي ثم في سنة خمس وعشرين استقر بنو المنجي بالتدريس بها بحكم أن نظرها لهم، ثم بنت له الصاحبة ربيعة خاتون مدرسة بالجبل وهي المعروفة بالصاحبية. فدرس بها سنة ثمان وعشرين.

وكان يوماً مشهوداً. وحضرت الواقفة من وراء ستر.

وانتهت إليه رئاسة المذهب بعد الشيخ موفق الدين. وكان يساميه في حياته.

قال ناصح الدين: وكنت قدمت من أربل سنة وفاة الشيخ الموفق، فقال لي: قد سررت بقدومك، مخافة أن أموت وأنت غائب، فيقع وهن في المذهب، وخُلْفٌ بين أصحابنا.

وقد وقع مرات بين الناصح والشيخ الموفق اختلاف في فتوى في السماع المحدَث، أجاب فيها الشيخ الموفق بإنكاره. فكتب الناصح بعده ما مضمونه "الغناء كالشعر، فيه مذموم وممدوح، فما قصد به ترويح النفوس، وتفريج الهموم، وتفريغ القلوب لسماع موعظة، وتحريك لتذكرة: فلا بأس به. وهو حسن"، وذكر أحاديث في تغني جُوَيْرِيات الأنصار، وفي الغناء في الأعراس، وأحاديث في الحُداء "وأما الشبابة: فقد سمعها جماعة ممن لا بحسن القدح فيهما من مشايخ الصرفية وأهل العلم، وامتنع من حضورها الأكثر. وأما كونها أشد تحريماً وأعظم إنما من سائر الملاهي: فهذا قول لا يوافق عليه. وكيف يجعل المختلف فيه كالمتفق عليه. وكون النبي صلى الله عليه وسلم سدّ أذنيه منها: مشترك الدلالة، لأنه لم ينهِ ابن عمر رضي الله عنهما عن سماعها" وأعجب من استدلال الفقيه الموفق لذلك. قوله: "ولا يجب عليه سد أذنيه لغيرها من الملاهي" فيشعر ذلك بجواز سماع الملاهي. ثم قد بالغ في تحريم ذلك، وضم فاعله إلى حكم الكفر بالله تعالى، وأوهم بما ذكر من الآيات: أن هذا السماع يُخرج عن الإسلام، وهذا من الغلو، فكان غلوه في الجواب أشد خطراً من غلو المذكورين في السؤال، وأما اجتماع الرجال والنساء في مجلس: فلم يذكر مْي السؤال. وهو محرم إذا كان في غير معروف، فإن كان في صلاة جمعة أو جماعة، أو سماع موعظة، أو التقاء في مجلس حكم: فذلك غير منكر، وهو العادة الجارية في المواسم عند هذا الفقيه المفتي وجماعته، ومجالس التذكير في سائر بلاد الإسلام".

فلما عاد جوابه إلى الشيخ الموفق: كتب في ظهرها بخطه ما مضمونه "كنت أتخيل في الناصح: أن يكون إماماً بارعاً، وأفرح به للمذهب؛ لما فضله اللّه به من شردْ بيته، وإعراق نسبه في الإِمامة، وما آتاه الله تعالى من بسط اللسان، وجراءة الجنان، وحدة الخاطر، وسرعة الجواب، وكثر الصواب. وظننت أنه يكون في الفتوى مبرزاً على أبيه وغيره، إلى أن رأيت له فتاوى غيره فيها أسد جواباً، وأكثر صواباً. وظننت أنه ابتلي بذلك لمحبته تخطئة الناس، واتباعه عيوبهم. ولا يبعد أن يعاقب الله العبد بجنس ذنبه- إلى أن قال: والناصح قد شغل كثيراً من زمانه بالرد على الناس في تصانيفهم وكشف ما استتر من خطاياهم ومحبة بيان سقطاتهم. ولا يبلغ العبد حقيقة الإِيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه، أفتراه يحب لنفسه بعد موته من ينتصب لكشف سقطاته، وعيب تصانيفه وإظهار أخطائه. وكما لا يحب ذلك لنفسه ينبغي أن لا يحبه لغيره، سيما للأئمة المتقدمين، والعلماء المبرزين. وقد أرانا الله تعالى آية في ذهابه عن الصواب في أشياء تظهر لمن هو دونه.

فمن ذلك: في فتياه هذه خطأ من وجوه كثيرة.

منها: أنه إنما أذن له بقرينة الحال في جواب السؤال، فعدوله إلى الرد على من قبله تصرف في الكتابة في ورقة غيره، بما لم يؤذن له فيه. وذلك حرام.

ومنها: أن قرينة أحوالهم تدل على أنهم إنما أذنوا في الجواب بما يوافق المفتي قبله، فالكتابة بخلاف ذلك غير مأذون فيها، ولذلك أحوج إلى قطع ورقتهم، وذهاب فتياه منها.

ومنها: أنهم سألوا عن السماع الجامع لهذه الخصال المذكورة، على وجه يتخذ ديناً وقربة. فلم يجب عن ذلك، وعدل إلى ذكر بعض الخصال المذكورة مفردة، على غير الصفة المذكورة، وليس يلزم من الجواب عن بعض شيء: الجواب عن مجموعه، ولا من بيان حكمه على صفة: بيان حكمه على غيرها.

فناصح الدين سئل عن السماع الجامع لهذه القبائح مُتخَذاً ديناً وقربة، فأجاب: بأن رجلاً قد للنبي صلى الله عليه وسلم، وجارية قد نَدَبَتْ أباها، وأشباه ذلك بما ليس فيه جواب أصلاً. ومنها: أنه قسم الغناء إلى قسمين: ممدوح، ومذموم. ثم رقَّاه إلى رتبة المندوبات والعبادات. فجاوز فيه حداء الشعر، ولم يقل ذلك سوى هذه الطائفة المسؤول عنها، الذين سلكوا مسلك الجاهلية في جعله لهم صلاة وديناً، وحاشى ناصح الدين من اتباعهم.

ومنها: أن قسمته غير حاضرة، فإن ثَم قسماً آخر، غير ممدوح ولا مذموم، وهو المباح الذي لم يترجح أحد طرفيه على الآخر.

ومنها: أنه شرع مستدلاً على مدح الغناء بذكر الحداء، شروع من لا يفرق بين الحُداء والغناء، ولا يفرق بين قول الشعر على أي صفة كان. ومَنْ هذه حاله لا يصلح للفتيا؛ فإن المفتي ينبغي أن يكون عالماً باللسان، لسان العرب ولغتهم مما يفتي فيه.

وظاهر حاله: أنه لا يخفى عليه، لكن ضاقت عليه ممادح الغناء، فعدل إلى ما يقاربه، كما قيل: الأقرع يفتخر بجمة ابن عمه، وابن الحمقاء يذكر خالته إذا عيب بأمه. لكنه إن كان بسعادته قد علم بذلك، ثم قصد التمويه على من استرشد، وتعمية من قصده وقلده: فهو حرام، وإن لم يقصد ذلك، لكن كان عن غفلة منه: فهو نوع تغفل. وذلك عجيب من مثله.

وأما استدلاله بحديث الجواري اللاتي نَدَبْنَ آباءَهنّ، فما فيه ذكر الغناء، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أرخص لهنَ في ذلك، فليس له فيه ما يوجب المدح في حق عقلاء الرجال المتّوسمين بالدين، والعبادة، كما روى "أنه أرخص لعائشة في اللعب بالبنات" وذلك لا يوجب مدح لعب الرجال العقلاء باللعب، واجتماعهم عليه، ومن رأى ذلك، فعلى سياق قوله، كل ما رخص فيه للصبيان، والجويريات الصغار: فهو ممدوح في حق كل أحد، كاللعب في الطرقات، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غيره، ينكرون على الصبيان لعبهم، ولا فعالهم التي تستقبح من عْيرهم، مثل المصافعة، والمفاقسة بالبيض الأحمر، والعَدْو في الطرقات، وحمل بعضهم بعضاً، وأشياء، لو فعلها المميز البالغ، لردت شهادته، وسقطت عدالته.

فإن قالوا: نحن إنما نحتج بسماع النبي صلى الله عليه وسلم من الجويريات، فنحن نسمعه كما سمعهن.

قلنا: أخطأتم في النظر، وجهلتم الفرق بين فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعلكم؛ فإن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم السماع له، وأنتم تفعلون الاستماع؛ والسماع غير الاستماع- إلى أن قال: وليس العجب من جاهل لا يفرق بين الفعلين، ولكن من إمام نصب نفسه للفتيا، وعدَ أنه هاد للمسلمين، ومرشدٌ لهم، وهو لا يفرق بين هذين الأمرين، حتى جعل يعجب من قولنا: "لا يجب سد الأذنين من الأصوات المحرمات"، وقال: "هذا يوهم إباحة الاستماع إلى الملاهي، وما ظننت أنه ينتهي إلى هذه الدرجة، بل ما ظننت أن الجهال يخفى عليهم هذا- فإذا به قد خفي على أحد المدرسين المفتين المتصدرين، حتى عده عجباً، وأعجب مما عجب منه إمام مدرس مُفْتٍ، لا يفرق بين السماع والاستماع، ولا بين الغناء والحُداء، ولا بين حكم الصغير والكبير!.

وأما خبر عائشة في زفاف المرأة، فقد تكلم فيه الإِمام أحمد، فلم يصححه، ثم لو صح: فليس فيه ذكر الغناء، إنما فيه قول الشعر، ولو ثبت أنه غناء، فلا يلزم من الرخصة فيه في العرس الذي أمر فيه بالدُّفِّ والصوت: الرخصة فيه على الوجه الذي يفعله هؤلاء.

ومن العجب: استدلال الفقيه على إباحة الشبابة. بأنه قد سمعها من الصوفية، وما من قبيحة من القبائح، ولا بدعة من البدع، إلا قد سمعها مشايخ وشباب أيضاً، وقد علم الناصح أنواع الأدلة، فهل وجد فيها فعل المشايخ من الصوفية. وإن كان هذا دليلاً فليضمه إلى أدلة الشرع المذكورة، ليكون دليلاً آخر، يغرب به على من قبله، ويكون هذا الدليل منسوباً إليه، معروفاً به، ولكن لا ينسبه إلى مذهب أحمد؛ فإن أحمد وغيره من الأئمة بريئون من هذا".

وللناصح رحمه الله تعالى تصانيف عدة، منها: كتاب "أسباب الحديث" في مجلدات عدة، وكتاب "الاستسعاد بمن لقيت من صالحي العباد في البلاد"، وقد وقفت عليه بخطه، ونقلت منه في هذا الكتاب كثيراً، وكتاب "الأنجاد في الجهاد" صنفه بحلب، وقال: لما فرغت من تصنيفه، رأيت في المنام كأني جالس، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم قد مَر بي، وبيني وبينه قدر ذراع، فقال: سلام عليكم، فرددت السلام، فلما استيقظت استبشرت، وقلت: أريد السلام عليه عند حجرته، شكراً له، قال: فحججت ذلك العام، قال: وكان أبو اليمن الكندي، قد أخذ على ابن نباتة في خطبه كلمات من جهة اللغة، وفي قوله: "الحمد للّه الذي اختار البقاء لنفسه وارتضاه"، قال: وكنت نظرت في خطب ابن نباتة، فأخذت عليه مواضع كثيرة من حيث المعاني، واعتذرت عنه في قولة: "واختار البقاء لنفسه" وحملته على محمل يصح، ثم قرأت هذا الكتاب على الكندي بحضرة جماعة، فتعْير وجهه، وصار يقول في بعض المواضع: ما أراد هذا فأقول: يسمع سيدنا الشيخ تمام الفصل، فإن أراد كذا، فباطل بكذا، قال: وكان مجلساً مشهوداً.

وقال الحافظ الذهبي في تاريخه: للناصح خطب ومقامات، وكتاب "تاريخ الوعاظ" وأشياء في الوعظ، قال: وكان حلو الكلام، جيد الإيراد، شهماً مهيباً، صارماً. وكان رئيس المذهب في زمانه بدمشق.

وقال ابن النجار: كان فقيهاً، فاضلاً، أديباً، حسن الأخلاق.

وقال أبو شامة: كان واعظاً، متواضعاً متفنناً، له تصانيف، وله بنيت المدرسة التي بالجبل للحنابلة، يعني مدرسة الصاحبية.

قال المنذري: قدم- يعني الناصح- مصر مرتين، ووعظ بها وحدث. وحصل له بها قبول، وحدث بدمشق، وبغداد وغيرهما، ووعظ ودرس. وكان فاضلاً، وله مصنفات، وهو من بيت الحديث والفقه، وحدث هو وأبوه وجده، وجد أبيه وجد جده. لقيته بدمشق، وسمعت منه.

قلت: سمع منه خالد النابلسي، وابن النجار الحافظ. وكتب عنه عبد الصمد بن أبي الجيش ببغداد أناشيد. وسمع منه بدمشق خلق كثير. وخرج له الزكي البرزالي، وروى عنه.

توفى يوم السبت ثالث المحرم سنة أربع وثلاثين وستمائة بدمشق. ودفن من يومه بتربتهم بسفح قاسيون. رحمه الله تعالى.

أخبرنا بشر بن إبراهيم البعلي وغير واحد قالوا: حدثنا أبو عبد الله محمد بن أبي العز بن شرف الأنصاري أخبرنا ناصر الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن نجم الأنصاري أخبرنا الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر المديني- بإصبهان- أخبرنا يحيى بن عبد الوهاب بن منده الحافظ أخبرنا أبو بكر بن ربدة أخبرنا الطبراني.

ح- قال المديني: وأخبرنا أبو علي الحداد أخبرنا الحافظ أبو نعيم حدثنا حبيب بن الحسن قالا: حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا حميد عن أنس "أن الربيع بنت النضر لطمت جارية، فكسرت ثنيتها، فعرضوا عليهم الأرش، فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص. فجاء أخوها أنس بن النضر، فقال: يا رسول الله، أتكسر سن الربيع? لا والذي بعثك بالحق نبياً لا تكسر سنها. فقال: يا أنس، كتابَ الله القصاصَ. فعفا القوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه".

أخبرنا عالياً أبو الفتح المصري- بها- أخبرنا أبو الفرج الحراني أخبرنا أبو طاهر بن المغطوس أخبرنا أبو الغنائم بن المهتدي أخبرنا أبو إسحاق البرمكي الفقيه أخبرنا الكجي فذكره.

حمد بن أحمد بن محمد بن بركة بن أحمد بن صدَيق بن صروف، الحراني الفقيه، أبو عبد الله. ويلقب موفق الدين.

ولد سنة ثلاث- أو أربع- وخمسين وخمسمائة بحران.

وسمع بها من أبي ياسر عبد الوهاب بن أبي حية، وأبي الفتح بن أبي الوفاء الفقيه.

ورحل إلى بغداد فسمع بها من الحق اليوسفي، وابن شاتيل، وعبد المغيث الحربي، وشافع بن صالح الجيلي وغيرهم.

وتفقه ببغداد على ابن المنى، وأبي البقاء العكبري، وابن الجوزي، ولازمه وأخذ عنه كثيراً. ثم رجع إلى حران. وأعاد بالمدرسة بها مدة. وحدث بحران ودمشق.

سمع منه بحران المنذري، والأبرقوهي، وابن حمدان، وقال: كان شيخنا صالحاً من قوم صالحين.

وتوفى في سادس عشر صفر سنة أربع وثلاثين وستمائة بدمشق. ودفن بسفح جبل قاسيون رحمه الله.

قال ابن نقطة والمنذري: و "صُديف" بضم الصاد وفتح الدال الخفيفة المهملتين. زاد المنذري: و "صروف" بفتح الصاد المهملة وتشديد الراء المهملة وضمها، وبعدها واو ساكنة وفاء.

أحمد بن أكمل بن أحمد بن مسعود بن عبد الواحد بن مطر بن أحمد بن محمد الهاشمي العباسي، البغدادي، الخطيب المعدل، أبو العباس بن أحمد بن أبي العباس: ولد في ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة.

وسمع من أبي الفتح بن شاتيل، وأبي العلاء محمد بن جعفر بن عقيل، ووفاء بن أسعد، وعبد الغني بن أبي العلاء الهمداني وتفقه في المذهب.

وكان له فضل وتمييز. وولى خطابة جامع السلطان. ونظر ديوان التركات. ثم صرف عن الخطابة، ورتب ناظراً فيما يتعلق بالحرمين الشريفين، ثم صرف. وبقي على نظره بديوان التركات مدة خلافة الناصر إلى أن ولى الظاهر، فصرفه.

وذكر ابن القادسي في تاريخه: أن الفقيه الإمام أبا بكر بن الحلاوي سأل من الخليفة الناصر الإجازة لجماعة من الحنابلة. فبرز مرسوم الخليفة بإجابته إلى سؤاله، ما عدا ابن الخياط فإنه يسعى بالناس، وليس من أهل الخير، وما أشبه هذا الكلام.

قال: وابن الخياط: هو الذي يزعم أنه العباسي الشاهد، وهو عامل على التركات الحشرية. سمع منه ابن الساعي وغيره.

وتوفي في ثامن ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وستمائة. ودفن عند أبيه بمقبرة الإمام أحمد. وقد حدث هو وأبوه وجده وعمه أفضل.

عبد القادر بن عبد القاهر بن عبد المنعم بن محمد بن حمد بن سلامة بن أبي الفهم الحراني، الفقيه، الزاهد، ناصح الدين، أبو الفرج، شيخ حران ومفتيها، ابن أبي محمد بن أبي الفرج: ولد في رجب سنة أربع وستين وخمسمائة بحران.

وسمع بها من أبي حفص بن طبرزد، وغيره. وسمع بدمشق من أبي عبد الله بن صدقة الحراني، ويحيى بن محمود الثقفي وعبد الرحمن بن الخرقي، والخشوعي وغيرهم.

وسمع ببغداد من يحيى بن بوش، وابن كليب، وابن الجوزي، وغيرهم.

وقرأ بنفسه الكثير على الحافظ عبد القادر الرهاوي وغيره. وأجاز له ابن شاتيل، ونصر الله القزاز، وطائفة.

وأخذ العلم بحران عن أبي الفتح بن عبدوس وغيره. ورأيت قراءته للروضة على مصنفها الشيخ الموفق. وأقرأ وحدث.

قال المنذري: لقيته في الدفعة الثانية بحران، وسمعت منه.

وقال أبو عبد الله بن حمدان: قرأت عليه "الخرقي" و "الهداية" وبعض "العمدة" وسمعت عليه أشياء كثيرة منها "جامع المسانيد" لابن الجوزي. وكان قليل الكلام فيما لا يعنيه، وكثير الديانة والتحرز فيما يعنيه، شريف النفس مهيباً، معروفاً بالفتوى في مذهب أحمد، وصنف منسكاً وسطاً جيداً، وكتاب "المذهب المنضد في مذهب أحمد" ضاع منه في طريق مكة، وحفظ لا الروضة و "الهداية" وغيرهما.

قلت: "الروضة" هذه هي الفقهية لا الأصولية.

قال: وذكر لي أنه يكرر أكثر الليالي على أكثر الهداية. وكان مقيماً بمسجده بحران سنين كثيرة ولم يتزوج. وطلب للقضاء فأبى. ودرس في آخر عمره بحضوري عنده في مدرسة بني العطار التي عمرت لأجله. فلما نهبت حران سنة ثلاث وثلاثين عوقب في مسجده، حتى أخذت وديعة كانت عنده مع ما أخذ له.

وتوفى بعد ذلك بقليل. حدث وأجاز لأبي نصر الشيرازي المزي.

قال المنذري: توفى في الحادي عشر من شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وستمائة بحران. رحمه الله تعالى.

وقد سبق في ترجمة الشيخ موفق الدين المقدسي تراجعهما في مسألة في الوكالة.

وقد تنازع هو والشيخ مجد الدين ابن تيميه في مسألة أخرى، وهي ما إذا استأجر داراً، فدخل أول مدة الإجارة، وطالب المستأجر المؤجر بتسليم العين المؤجرة بعد دخول المدة، فقال المؤجر: لا أسلمها إلا في غد، فلم يصبر المستأجر، وأشهد عليه بفسخ العقد لذلك.

فأفتى الناصح: أن المستأجر يثبت له خيار الفسخ بمجرد امتناع المؤجر من التسليم، وتسقط الأجرة من ذمته.

وأفتى الشيخ مجد الدين بأنه لا يصح فسخه، حتى تمضي مدة يتمكن المؤجر من التحويل فيها؛ لأن التسليم يجب على ما جرت به العادة، كالتسليم في البيع، وأنكر أن يكون في المذهب فيها نقل خاص.

فكتب الناصح ورقة، وتمسك من كلام الأصحاب بعمومات باردة. وعضدها بمباحث جامدة، وما أفتى به أبو البركات أفقه، ويشهد له: ما ذكره الأصحاب في تسليم الأعيان المبيعة وفي تسليم المرأة في النكاح، لكن قد يفرق بينهما بأن مضى جزء من أوقات مدة الإجارة لا يتلافى. فإن المعقود عليه فيها: هو منافع الزمن المعين. فلا يتسامح بتفويت شيء منه، بخلاف العقد على العين، أو على منافعها المطلقة.

وقد يجاب عن هذا الفرق: بأن تفويت المنافع المملوكة المستحق حاصل في مدة التأخير في الصور كلها، فلا فرق.

وقد أخذ عن الناصح: ابن أبي الفهم بن تميم. ونقل عنه في مختصره فوائد عديدة، وإذا قال "قال شيخنا أبو الفرج" فإياه يعني. وقد توهم بعض الناس أنه يعني أبا الفرج الشيرازي. وهي هفوة عظيمة لتقدم زمن الشيرازي.

يوسف بن أحمد بن علي بن الحسين بن الحسن البغدادي، الحلاوي الفقيه، أبو المظفر بن الخلال: سمع من أبي الفتح بن شاتيل. وحدث. وتفقه في المذهب. وكان فقيهاً صالحاً فاضلاً، مقرئاً متديناً، حسن الطريقة.

توفى ليلة العشرين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وستمائة. ودفن بباب أبرز. وقد بلغ الستين، أو جاوزها. رحمه الله.

أجاز لابن الشيرازي.

إسحاق بن أحمد بن محمد بن غانم العلثي، الزاهد القدوة، أبو الفضل، ويقال: أبو محمد ابن عم طلحة بن المظفر: الني سبق ذكوه. سمع من أبي الفتح بن شاتيل وقرأ بنمْسة على ابن كليب وابن الأخضر. وكان قدوة صالحاً زاهداً، فقيهاً عالماً، أمَاراً بالمعروف، نهاء عن المنكر، لا يخاف أحداً إلا الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم. أنكر على الخليفة الناصر فمن دونه وواجه الخليفة الناصر وصدعه بالحق.

قال ناصح الدين بن الحنبلي- وقرأته بخطه- هو اليوم شيخ العراق، والقائم بالإنكار على الفقهاء والفقراء وغيرهم فيما ترخصوا فيه.

وقال المنذري: قيل: إنه لم يكن في زمانه أكثر إنكاراً للمنكر منه، وحبس على ذلك مدة.

قلت: وله رسائل كثيرة إلى الأعيان بالإِنكار عليهم والنصح لهم. ورأيت بخطه كتاباً أرسله إلى الخليفة ببغداد. وأرسل أيضاً إلى الشيخ علي بن إدريس الزاهد- صاحب الشيخ عبد القادر- رسالة طويلة، تتضمن إنكار الرقص والسماع والمبالغة في ذلك.

وله في معنى ذلك عدة رسائل إلى غير واحد.

وأرسل رسالة طويلة إلى الشيخ أبي الفرج بن الجوزي بالإنكار عليه فيما يقع في كلامه من الميل إلى أهل التأويل يقول فيها:

من عبيد الله إسحاق بن أحمد بن محمد بن غانم العلثي، إلى عبد الرحمن بن الجوزي، حمانا الله وإياه من الاستكبار عن قبول النصائح، ووفقنا وإياه لاتباع السلف الصالح، وبصرنا بالستة السنية، ولا حرمنا الاهتداء باللفظات النبوية، وأعاذنا من الابتداع من الشريعة المحمدية. فلا حاجة إلى ذلك. فقد تركنا على بيضاء نقية، وأكمل الله لنا الدين، وأغنانا عن آراء المتنطعين، ففي كتاب الله وسنة رسوله مقنع لكل من رغب أو رهب، ورزقنا الله الاعتقاد السليم، ولا حرمنا التوفيق، فإذا حرمه العبد لم ينفع التعليم. وعرفنا أقدار نفوسنا، وهدانا الصراط المستقيم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وفوق كل في علم عليم. وبعد حمد الله سبحانه، والصلاة على رسوله: فلا يخفى أن لا الدين النصيحة، خصوصاً للمولى الكريم، والرب الرحيم. فكم قد زل قلم، وعثر قدم، وزلق متكلم، ولا يحيطون به علماً. قال: عز من قائل "22: 8"، "ومِنَ الناس من يُجادلُ في الله بغير عِلْم وَلا هُدىً وَلا كتابٍ مُنير".

وأنت يا عبد الرحمن، فما يزال يبلغ عنك ويسمع منك، ويشاهد في كتبك المسموعة عليك، تذكر كثيراً ممن كان قبلك من العلماء بالخطأ، اعتقاداً منك: أنك تصدع بالحق من غير محاباة، ولا بد من الجريان في ميدان النصح: إما لتنتفع إن هداك الله، وإما لتركيب حجة الله عليك. ويحذر الناس قولك الفاسد، ولا يغرك كثرة اطلاعك على العلوم. فرب مبلَّغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه لا فقه له، ورب بحر كَدر ونهر صاف، فلستَ بأعلمِ من الرسول، حيث قال له الإمام عمر: "أتصلي على ابن أبي? أنزل القرآن "وَلا تصلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهمْ" ولو كان لا ينكر من قل علمه على من كثر علمه إذاً لتعطل الأمر بالمعروف، وصرنا كبني إسرائيل حيث قال تعالى: "كانوُا لاَ يَتَنَاهُوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ". "المائدة: 134"، بل ينكر المفضول على الفاضل وينكر الفاجر على الولي، على تقدير معرفة الولي. وإلا فابن التنقا ليطلب وابن السمندل، ليجلب- إلى أن قال: واعلم أنه قد كثر النكير عليك من العلماء والفضلاء، والأخيار في الآفاق بمقالتك الفاسدة في الصفات. وقد أبانوا وَهاءَ مقالتك، وحكوا عنك أنك أبيت النصيحة، فعندك من الأقوال التي لا تليق بالسنة ما يضيق الوقت عن ذكرها، فذُكر عنك: أنك ذكرت في الملائكة المقربين، الكرام الكاتبين، فصلاً زعمت أنه مواعظ، وهو تشقيق وتفهيق، وتكلف بشع، خلا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلام السلف الصالح الذي لا يخالف سنة، فعمدت وجعلتها مناظرة معهم. فمن أذن لك في ذلك. وهم مستغفرون للذين آمنوا، ولا يستكبرون عن عبادة الله. وقد قرن شهادته بشهادتهم قبل أولى العلم وما علينا كان الآدمي أفضل منهم أم لا، فتلك مسألة أخرى.

فشرعت تقول: إذا ثارت نار الحسد فمن يطفيها? وفي الغيبة ما فيها، مع كلام غث.

أليس منا فلان? ومنا فلان? ومنا الأنبياء والأولياء من فعل هذا من السلف قبلك? ولو قال لك قائل من الملائكة: أليس منكم فرعون وهامان? أليس منكم من ادعى الربوبية? فعمن أخذت هذه الأقوال المحدثة، والعبارات المزوقة، التي لا طائل تحتها وقد شغلت بها الناس عن الاشتغال بالعلم النافع أحدُهم قد أنسى القرآن وهو يعيد فضل الملائكة ومناظرتهم، ويتكلم به في الآَفاق.

فأين الوعظ والتذكير من هذه الأقوال الشنيعة البشعة.

ثم تعرضت لصفات الخالق تعالى، كأنها صدرت لا من صدر سكن فيه احتشام العلي العظيم، ولا أملاها قلب مليء بالهيبة والتعظيم، بل من واقعات النفوس البهرجية الزيوف. وزعمت أن طائفة من أهل السنة والأخيار تلقوها وما فهموا. وحاشاهم من ذلك. بل كفوا عن الثرثرة والتشدق، لا عجزاً- بحمد الله- عن الجدال والخصام، ولا جهلاً بطرق الكلام. وإنما أمسكوا عن الخوض في ذلك عن علم ودراية، لا عن جهل وعماية.

والعجب ممن ينتحل مذهب السلف، ولا يرى الخوض في الكلام. ثم يقدم على تفسير ما لم يره أولاً، ويقول: إذا قلنا كذا أدى إلى كذا، ويقيس ما ثبت من صفات الخالق على ما لم يثبت عنده. فهذا الذي نهيتُ عنه. وكيف تنقص عهدك وقولك بقول فلان وفلان من المتأخرين? فلا تشمت بنا المبتدعة فيقولون: تنسبوننا إلى البدع وأنتم أكثر بدعاً منا، أفلا تنظرون إلى قول من اعتقدتم سلامة عقده، وتثبتون معرفته وفضله. كيف أقول ما لم يقل، فكيف يجوز أن تتبع المتكلمين في آرائهم، وتخوض مع الخائضين فيما خاضوا فيه، ثم تنكر عليهم. هذا من العجب العجيب. ولو أن مخلوقاً وصف مخلوقاً مثله بصفات من غير رؤية ولا خبر صادق. لكان كاذباً في إخباره. فكيف تصفون الله سبحانه بشيء ما وقفتم على صحته، بل بالظنون والواقعات، وتنفون الصفات التي رضيها لنفسه، وأخبر بها رسوله بنقل الثقات الأثبات، يحتمل، ويحتمل.

ثم لك في الكتاب الني أسميته "الكشف لمشكل الصحيحين" مقالات عجيبة، تارة تحكيها عن الخطابي وغيره من المتأخرين، أطلع هؤلاء على الغيب. وأنتم تقولون: لا يجوز التقليد في هذا، ثم ذكره فلان، ذكره ابن عقيل، فنريد الدليل من الذاكر أيضاً، فهو مجرد دعوى، وليس الكلام في الله وصفاته بالهين ليلقى إلى مجاري الظنون- إلى أن قال: إذا أردت: كان ابن عقيل العالم، وإذا أردت: صار لا يفهم، أوهيت مقالته لما أردت. ثم قال: وذكرت الكلام المحدث على الحديث، ثم قلت: والذي يقع لي. فبهذا تقدم على الله، وتقول: قال علماؤنا، والذي يقع لي. تتكلمون في الله عز وجل بواقعاتكم تخبرون عن صفاته. ثم ما كفاك حتى قلت: هذا من تحريف بعض الرواة. تحكماً من غير دليل. وما رويت عن ثقة آخر أنه قال: قد غيره الراوي فلا ينبغي بالرواة العدولِ: أنهم حرفوا، ولو جوزتم لهم الرواية بالمعنى، فهم أقرب إلى الإصابة منكم. وأهل البدع إذاً كلما رويتم حديثاً ينفرون منه، يقولون: يحتمل أنه من تغيير بعض الرواة. فإذا كان المذكور في الصحيح المنقول من تحريف بعض الرواة، فقولكم ورأيكم في هذا يحتمل أنه من رأى بعض الغواة.

وتقول: قد انزعج الخطابي لهذه الألفاظ. فما الذي أزعجه دون غيره? ونراك تبني شيئاً ثم تنقضه، وتقول: قد قال فلان وفلان، وتنسب ذلك إلى إمامنا أحمد- رضي الله عنه- ومذهبه معروف في السكوت عن مثل هذا، ولا يفسره، بل صحح الحديث، ومن من تأويله.

وكثير ممن أخذ عنك العلم إذا رجع إلى بيته علم بما في عَيبته من العيب، وذم مقالتك وأبطلها. وقد سمعنا عنك ذلك من أعيان أصحابك المحبوبين عندك، الذين مدحتهم بالعلم، ولا غرض لهم فيك، بل أدوا النصيحة إلي عباد الله، ولك القول وضده منصوران. وكل ذلك بناء على الواقعات والخواطر.

وتدعي أن الأصحاب خلطوا في الصفات، فقد قبحت أكثر منهم، وما وسعتك السنة. فاتق الله سبحانه. ولا تتكلم فيه برأيك فهذا خبر غيب، لا يسمع إلا من الرسول المعصوم، فقد نصبتم حرباً للأحاديث الصحيحة. والذين نقلوها نقلوا شرائع الإسلام.

ثم لك قصيدة مسموعة عليك في سائر الآفاق، اعتقدها قوم، وماتوا بخلاف اعتقادك الآن فيما يبلغ عنك، وسمع منك منها:

ولو رأيت النار هبت، فعـدت

 

تحرق أهل البغي والـعـنـاد

وكلما ألقى فيهـا حـطـمـت

 

وأهلكته، وهـي فـي ازدياد

فيضع الجبار فـيهـا قـدمـاً

 

جلت عن التشبيه بالأجـسـاد

فتنزوي من هيبته، وتمـتـلـي

 

فلو سمعت صوتـهـا ينـادي

حسبي حسبي، قد كفاني ما أرى

 

من هيبة أذهـبـت اشـتـداد

فاحذر مقال مبتدع في قـولـه

 

يروم تـأويلاً بـكـل واعـي

فكيف هذه الأقوال: وما معناها? فإنا نخاف أن تحدث لنا قولاً ثالثاً، فيذهب الاعتقاد الأول باطلاً. لقد آذيت عباد الله وأضللتهم، وصار شغلك نقل الأقوال فحسب، وابن عقيل سامحه الله، قد حكى عنه: أنه تاب بمحضر من علماء وقته من مثل هذه الأقوال، بمدينة السلام- عمرها الله بالإسلام والسنة- فهو بريء- على هذا التقدير- مما يوجد بخطه، أو ينسب إليه، من التأويلات، والأقوال المخالفة للكتاب والسنة.

وأنا وافدة الناس والعلماء والحفاظ إليك، فإما أن تنتهي عن هذه المقالات، وتتوب التوبة النصوح، كما تاب غيرك، وإلا كشفوا للناس أمرك، وسيروا ذلك في البلاد وبينوا وجه الأقوال الغثة، وهذا أمر تُشُوِر فيه، وقضى بليل، والأرض لا تخلو من قائم للّه ججة، والجرح لا شك مقدم على التعديل، والله على ما نقول وكيل، وقد أعفر من أنذر.

وإذا تأولت الصفات على اللغة، وسوغته لنفسك، وأبيت النصيحة، فليس هو مذهب الإمام الكبير أحمد بن حنبل قدس الله روحه، فلا يمكنك الانتساب إليه بهذا، فاختر لنفسك مذهباً، إن مكنت من ذلك، وما زال أصحابنا يجهرون بصريح الحق في كل وقت ولو ضُربوا بالسيوف، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يبالون بشناعة مشنع، ولا كذب كاذب، ولهم من الاسم العذب الهني، وتركهم الدنيا وإعراضهم عنها اشتغالاً بالآخرة: ما هو معلوم معروف.

ولقد سودت وجوهنا بمقالتك الفاسدة، وانفرادك بنفسك، كأنك جبار من الجبابرة، ولا كرامة لك ولا نعمى، ولا نمكنك من الجهر بمخالفة السنة، ولو استقبل من الرأي ما استدبر: لم يحك عنك كلام في السهل، ولا في الجبل، ولكن قدر الله، وما شاء فعل، بيننا وبينك كتاب الله وسنة رسوله، قال الله تعالى: "فإنْ تَنَازَعْتُم فِي شَيْءً فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول" ولم يقل: إلى ابن الجوزي.

وترى كل من أنكر عليك نسبته إلى الجهل، ففضل الله أُوتيته وحدك? وإذا جَهَّلت الناس فمن يشهد لك أنك عالم? ومن أجهل منك، حيث لا تصغي إلى نصيحة ناصح? وتقول: من كان فلان، ومن كان فلان. من الأئمة الذين وصل العلم إليك عنهم، من أنت إذاً? فلقد استراح من خاف مقام ربه، وأحجم عن الخوض فيما لا يعلم، لئلا يندم.

فانتبه يا مسكين قبل الممات، وحَسِّن القول والعمل، فقد قرب الأجل، للّه الأمر من قبل ومن بعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وللشيخ إسحاق أجزاء مجموعهْ، وأربعينيات حديثية، وغير ذلك، وحدث وسمع منه جماعة.

وذكر ابن الدواليبي: أنه سمع منه.

وتوفى في شهر ربيع الأول، سنة أربع وثلاثين وستمائة، أظنه بالعلث. رضي الله عنه.

هبة الله بن الحسن بن أحمد البغدادي، المقرئ، أبو القاسم المعروف بالأشقر: قرأ القرآن على أبي بكر محمد بن خالد الرزاز وغيره. قال ابن الساعي: كان شيخاً فاضلاً، حسن التلاوة للقرآن، مجيداً لأدائه عالماً بوجوه القراءات وطرقها، وتعليلها وإعرابها، يشار إليه بمعرفة علوم القران، بصيراً بالنحو واللغة والعربية.

سمع شيئاً من الحديث، وكان يؤم بالخليفة الظاهر، ورتبه إماماً بباب بحر في صلاة التراويح، وأذن للناس في الدخول للصلاة، وأمّ بمسجد ابن حمدي وغيره، ورتبه الظاهر مشرفاً على ديوان التركات.

وقرأ عليه الخليفة الظاهر، والوزير ابن الناقد، فلما ولي الظاهر الخلافة، أكرمه وأجله، وأعطاه بغلة أبيه الناصر، فركبها. ولما ولي ابن الناقد الوزارة: دخل عليه فنهض له، وأجلسه إِلى جانبه، وقال: هذا شيخي، قرأت القرآن عليه.

وكان يدخل إلى المستنصر، فيقرئه القران، وكان لا يقبل الأرض إذا دخل عليه، فقيل له في ذلك، فقال: لا ينبغي ذلك إلا لله تعالى، فحجب عن الدخول إليه. وكان يقول: قرأ عليَّ القرآن أرباب الدنيا والآخرة: إسحاق العلثي، والشيخ عثمان القصر، وأمثالهما، والخليفة، والوزير، وصاحب المخزن. وكان لأم الخليفة الناصر فيه عقيدة، فمرض فجاءته تعوده. وحدث عن الأسعد العبرتي النحوي بأبيات.

سمع منه ابن النجار، وابن الساعي وغيرهما.

وأجاز لعبد الصمد بن أبي الجيش.

وتوفى في صفر سنة أربع وثلاثين وستمائة، وقد قارب الثمانين، رحمه الله تعالى.

محمد بن أحمد بن عمر بن الحسين بن خلف البغدادي القطيعي الأزجي، المؤرخ، أبو الحسن بن أبي العباس. وقد سبق ذكر أبيه: ولد في رجب سنة ست وأربعين وخمسمائة.

وبكَّر به والده، وأسمعه من أبي الحسن بن الخل الفقيه، وأبي العباس أحمد بن محمد بن عبد العزيز المكي، وأبي بكر بن الزاغوني، ونصر بن نصر العكبري وسلمان بن حامد الشحام، وتفرد في وقته بالرواية عن هؤلاء. وأسمعه أيضاً من أبي الوقت صحيح البخاري، وهو آخر من حدث به ببغداد كاملاً عنه سماعاً، ومن جماعة آخرين. ثم طلب هو بنفسه، وسمع من جماعة بعد هؤلاء، وقرأ على الشيوخ، وكتب بخطه.

ورحل، وسمع بالموصل من خطيبها أبي الفضل وغيره، وأقام بها مدة.

وسمع بدمشق من محمد بن حموْة بن أبي الصقر، وأبي المعالي بن صابر وغيرهما. وسمع بحران من حامد بن أبي الحجر وغيره.

ثم رجع إلى بغداد، ولازم أبا الفرج بن الجوزي مدة، وأخذ عنه، وقرأ عليه كثيراً من تصانيفه ومروياته، وجمع تاريخاً في نحو خمسة أسفار، ذيَّل به على تاريخ أبي سعد بن السمعاني سماه "درة الإِكليل في تتمة التذييل" رأيت أكثره بخطة، وقد نقلت منه في هذا الكتاب كثيراً، وفيه فوائد جمة، مع أوهام وأغلاط.

وقد بالغ ابن النجار في الحط على تاريخه هذا، مع أنه أخذه عنه استفادة منه، ونقل منه في تاريخه أشياء كثيرة، بل نقله كله، وقال: لم يكن محققاً فيما ينقله ويقوله. وكان لَحُنَة، قليل المعرفة بأسماء الرجال.

وكان قد استنابه يوسف بن الجوزي في الحسبة بباب الأزج، وسوق العجم، وما والاهما، سوى الحريم. فأقام على ذلك مدة يسيرة ثم عزل.

وشهد عند القضاة مدة، واستخدم في عدة خدم المخزن وغيره. ونظر في المارستان التفشي، ثم عزل عن الشهادة، وأسن وانقطع في منزله إلى حين وفاته. وكان يخضب بالسواد، ثم ترك الخضاب قبل موته بمدة.

قلت: وقد ذكر في تاريخه: أنه قرأ شيئاً من المذهب على القاضي أبي يعلى بن القاضي أبي خازم وحضر درسه، وأنه تكلم في بعض مسائل الخلاف مع الفقهاء.

قال: وحملني والحي إلى أبي النجيب السهروردي بجامع المدينة في يوم جمعة، وأنا طفل فاستدل أبو النجيب في مسألة بيع الرطب بالتمر، وذكرت على دليله عدة أسئلة علمني والدي إياها قبل ذلك. فلما أنهيت الكلام خلع قميصه بالجامع فألبسني إياه: وقال: هذه خرقة التصوف، وأجاز لي، وكتب بخطه بذلك.

ولما عمر المستنصر مدرسته المعروفة به: جعل القطيعي شيخ دار الحديث بها، وكان ابن النجار بها مفيداً للطلبة. وهذا من جملة الأسباب التي أوجبت تحامله عليه. وقد وصفه غير واحد من الحفاظ وغيرهم بالحافظ.

وأثنى عمر بن الحاجب على تاريخه، فقال: وقفت على تراجم من بعضه، فرأيته قد أحكمها، واستوفى في كلى ترجمة ما لم يعمله أحد في زمانه، يدل على حفظه وإتقانه، ومعرفته بهذا الشأن.

وحدث بالكثير ببغداد والموصل. وروى عنه جماعة كثيرون، منهم الشيخ تقي الدين الواسطي، والفاروتي، والأبرقوهي، والقرافي.

قال ابن النجار: توفي ليلة السبت لأربع خلون من ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وستمائة. وصلى عليه من الغد بعدة مواضع. ودفن بباب حرب. رحمه الله تعالى.

قرئ على جدي أبي أحمد رجب بن الحسن غير مرة ببغداد- وأنا حاضر- في الثالثة والرابعة والخامسة: أخبركم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إبراهيم البزار- سنة ست وثمانين وستمائة- أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن عمر القطيعي.

وأخبرنا محمد بن إسماعيل الأنصاري- بدمشق- أخبرنا عبد الحميد بن أحمد بن الزجاج أخبرنا القطيعي.

وأخبرنا أبو الفضل محمد بن إسماعيل بن الحموي أخبرنا أبو القاسم علي بن بلبان أخبرنا القطيعي أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى أخبرنا أبو الحسن الداودي أخبرنا أبو محمد السرخسي أخبرنا أبو عبد الله الفر بري حدثنا البخاري حدثنا المكي بن إبراهيم حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده عن النار".

وأنشد لنفسه في تاريخه:

أهديت قلبي إليكـم خـذوه

 

وقتلى حرام، فلا تقربـوه

وها هو ذا عندكـم واقـف

 

يروم الوصال، فلا تحرموه

وأيضاً كتب بها إلى أبي المظفر بن مهاجر فقيه الموصل:

في كل يوم نـقـلة ورحـيل

 

وشوق لقلبي مزعج ومزيل?

يَعِز علينا أن يعز وصولـنـا

 

إلى بلد فيه الحبـيب نـزيل.

مكي بن عمر بن نعمة بن يوسف بن عساكر بن عسكر بن شبيب بن صالح، الروَبتي المقدسي الأصل، المصري الفقيه الزاهد، أبو الخير بن أبي حفص: ولد في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بمصر.

وسمع من والده أبي حفص، ومن أبي محمد بن بري النحوي، وأبي الفتح محمود بن أحمد الصابوني، وأبي إبراهيم القاسم بن إبراهيم المقدسي، وهبة البوصيري، وأبي عبد الله الأرتاحي، وجماعة كثيرة من أهل البلد والقادمين عليها.

وسمع بمكة من أبي عبد الله محمد بن الحسين الهروي الحنبلي، وأبي الحسن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي تمام الدباس، وأبي زكريا يحيى بن عمر بن بهليقا، ويونس بن يحمى الهاشمي. وتفقه في المذهب بمصر.

قال المنذري: اشتهر بمعرفة المذهب، وجمع مجاميع في الفقه وغيره، وانتفع به جماعة. وحدث، وأمَّ بالمسجد المعروف به بدرب البقالين بمصر، سمعت منه. وكان يبني ويأكل من كسب يده.

قلت: وهو الذي جمع سيرة الحافظ عبد الغني، كما ذكره الضياء في ترجمته.

وتوفي في العشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وستمائة بمصر. ودفن من الغد إلى جانب والده بشفير الخندق، بسفح المقطم. رحمه الله تعالى.

و "الروبتي" بضم الراي المهملة وسكون الواو بعدها باء موحدة مفتوحة مخففة وتاء تأنيث. وكان يذكر أنه منسوباً إلى "روبة" ويذكر نسباً متصلاً به ويقول: هو صحابي.

قال المنذري: ولست أعرف "روبة" هذا، ولا رأيت من ذكره. وكان بعض شيوخنا يقول: إن "روبة" بلد بالشام. والله عز وجل أعلم.

وقد تقدم ذكر أخيه أبي الطاهر إسماعيل الأديب، وأبوهما أبو حفص.

عمر المعروف بابن البناء: كان رجلاً صالحاً مقرئاً. أقرأ القرآن سنين كثيرة بمصر. وكان صابراً على تعليم الطلبة ليلاً ونهاراً، مع علو سنه. وحدث عن أبي الفتح الكروخي.

وتوفى في ثامن شوال سنة أربع وثمانين وخمسمائة بمصر رحمه الله تعالى.

عبد الله بن إسماعيل بن علي بن الحسين البغدادي، الأزجي، الواعظ شمس الدين، أبو طالب بن أبي محمد، المعروف والده بالفخر، غلام ابن المنى: وقد سبق ذكره. سمع أبو طالب هذا من ابن كليب وغيره. وتفقه في المذهب، واشتغل بالوعظ ووعظ ببغداد ومصر، وحدث. وله نظم.

قال المنذري: سمعت منه شيئاً من شعره.

وتوفى في ثاني عشرين شعبان سنة أربع وثلاثين وستمائة ببغداد. وهو في سن الكهولة.

عبد العزيز بن عبد الملك بن عثمان المقدسي، الفقيه، عز الدين أبو محمد: سمم من أسعد بن سعيد بن روح، وعمر بن طبرزد، وغيرهما. وتفقه في المذهب، ودرس بمدرسه الشيح أبي عمر مده. وحدث.

توفى في حادي عشر ذي القعدة سنة أربع وثلاثين وستمائة.

عبد الكريم بن أبي عبد الله بن مسلم بن أبي الحسن بن أبي الجواد، الفارسي الزاهد، أبو بكر. واسم أبيه: المبارك ابن أخي الحسن بن مسلم الزاهد المتقدم ذكره: ولد سنة ثلاث وستين وخمسمائة بالفارسية، قوية على نهر عيسى.

وقرأ القرآن وسمع الحديث من أبي الفتح البرداني، وابن بوش، وغيرهما. وتفقه في المذهب. وحدث.

سمع منه ابن النجار، وعبد الصمد بن أبي الجيش وغيرهما. ووصفاه بالصلاح والديانة.

قال ابن النجار: كان شيخاً صالحاً، ورعاً متديناً، منقطعاً عن الناس في قريته يقصده الناس لزيارته والتبرك به، وحوله جماعة من الفقراء، ويضيف من يمر به.

وتوفى يوم الخميس لتسع خلون من صفر سنة خمس وثلاثين وستمائة. ودفن من يومه عند عمه بالفارسية رحمه الله تعالى.

عثمان بن نصر بن منصور بن هلال البغدادي، المسعودي، الفقيه الواعظ، أبو الفتوح. ويقال: أبو الفرج. ويقال: أبو عمرو، ويلقب ضياء الدين المعروف بابن الوتار: ولد سنة خمسين وخمسمائة تقريباً.

وسمع من أبي الفتح بن المنى، وعيسى الروشابي وعبد الله بن عبد الرزاق السلمي ومسلم بن ثابت الوكيل، وشهدة الكاتبة، وخديجة النهروانية وغيرهم.

وتفقه على أبي الفتح بن المنى، ووعظ، وشهد عند قاضي القضاة أبي صالح نصر بن عبد الرزاق. ودرس وأفتى وكان فقيهاً فاضلاً، إماماً عالماً، حسن الأخلاق.

وحدث، وأجاز للمنذري، وعبد الصمد بن أبي الجيش، ولسليمان بن حمزة، وأبي بكر بن عبد الدايم، والقاسم بن مظفر بن عساكر، وأحمد بن أبي طالب الحجار.

وتوفى في سابع عشرين جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وستمائة. ودفن بباب حرب، وقد ناهز السبعين.

والمسعودي نسبة إلى "المسعودة" محلة شرقي بغداد من نواحي المأمونية.

تقي الدين بن طرخان بن أبي الحسن السلمي، الدمشقي الصالحي الحنبلي.

ولد بالجبل سنة إحدى وستين وخمسمائة.

وسمع من أبي المعالي بن صابر، ويحيى السلفي، وابن صدقة وغيرهم.

وسمع بمكة والمدينة واليمن، وحدث.

وتوفي في تاسع محرم سنة سبع وثلاثين وستمائة بالجبل رحمه الله.

أبي القاسم البغدادي المقرئ، الناسخ الخازن، أبو محمد. ويقال: أبو الفضل. ويلقب عفيف الدين. ولد سنة إحدى- أو اثنتين- وخمسين وخمسمائة.

وقرأ القرآن بالروايات الكثيرة على أبي الحارث أحمد بن سعيد العكبري العسكري وأبي جمر بن القاصين وأبي الحسن البطائحي، وصاحبه. وقرأ عليه كثيراً، وعلى جماعة آخرين.

وسمع الحديث من أبي علي الرحبي، والأسعد بن يلدرك، ولاحق إبن كاره وشهدة، وخديجة النهروانية، وابن شاتيل، والقزاز، وابن كليب. وقرأ بنفسه الكثير على من بعدهم، وسمع الناس بقراءته، وكتب الكثير بخطه الحسن لنفسه وللناس توريقاً.

وولي نظر خزانة الكتب بمسجد الشريف الزيدي، ثم خزانة كتب التربة السلجوقية، ثم صرف عنها، ثم أعيد إليها.

وشهد عند الزنجاني في ولايته زمن الناصر. وكان الخليفة الناصر لما أذن لولده الظاهر برواية مسند الإِمام أحمد عنه بالإجازة. وأذن لأربعة نفر من الحنابلة بالدخول إليه للسماع: كان عبد العزيز هذا مشهم، فحصل له به أنس. فلما أفضت إليه الخلافة ولاه النظر في ديوان التركات الحشرية، فسار فيها أحست سيرة، وردت تركات كثيرة على الناس قد استُولى عليها بمساعدة الخليفة الظاهر على ذلك.

ومن جملة ذلك: تركة رجل من همدان مات ببغداد، فتصرف ديوان التركات في ميراثه، بناء على أنه لا وارث له، ثم بعد سنة أثبت ابن عمه نسبه واستحقاقه للتركة عند الحاكم. فأنهى الحال الشيخ عبد العزيز في ولايته إلى الظاهر، فتقدم بتسليم التركة إليه بموجب الشرع، وأن لا يراجع فيما هذا سبيله، مع ثبوته شرعاً. وكانت التركة ألوفاً من العين، ولقي الشيخ عبد العزيز على هذا مديدة. ثم سأل أن يقيم برباط الحريم منقطعاً به إلى العبادة، وأن يكون ولده الأصغر عمر عوضه في ديوان التركات. فأجيب إلى ذلك. ورتب الشيخ شيخاً بالرباط المذكور، فأقام به إلى حين وفاته. ورتب ولده في الديوان فسار بسيرة أبيه فيه.

قرأت بخط الناصح ابن الحنبلي: الشيخ عبد العزيز إمام في القراءة، وفي علم الحديث. سمع الكثير، وكتب بخطه الكثير، وهو يصوم الدهر. لقيته ببغداد في المرتين.

وقال ابن النجار: كان كثير العبادة، دائم الصوم والصلاة، وقراءة القرآن منذ كان شاباً، وإلى حين وفاته. وكان مسارعاً إلى قضاء حوائج الناس، والسعي بنفسه إلى دور الأكابر في الشفاعات، وفك العناة، وإطلاق المعتقلين، ودفع المؤن والتنقيل من جهة العمال، يفعل ذلك مع القريب والبعيد والغريب بصدر منشرح، وقلب طيب. وكان محباً لإِيصال الخير إلى الناس، ودفع الضرر عنهم، كثير الصدقة والمعروف، والمواساة بماله حال فقره وقلة ذات يده، وبعد يساره وسعة ذات يده. وكان على قانون واحد في ملبسه لم يغيره، وفي أخلاقه وتواضعه للناس. كتبت عنه.

وكان ثقة صدوقاً نبيلاً غزير الفضل، أحسن الناس تلاوة للقرآن، وأطيبهم نغمة وكذلك في قراءة الحديث.

وقال ابن الساعي: كان شيخاً صالحاً عابداً، مشكور السيرة، محمود الطريقة، لم يزل مواظباً على الخير والعبادة والتلاوة. وكان يسرد الصوم، ويديم القيام بالليل، قل أن تمضي عليه ليلة إلا وختم فيها القرآن في الصلاة. وكان له حرمة عند الدولة، خصوصاً عند المستنصر. وكان لا يمل من الشفاعة، وقضاء حوائج الناس، حتى لو قيل: إنه لم يبق ببغداد من غني ولا فقير إلا قضاه حاجة: لكان حقاً: وفوض إليه المستضر أمر خزانة الكتب بمدرسته.

وقرأ عليه القراءات عبد الصمد بن أبي الجيش، وسمع منه الحديث. وكتب عنه ابن النجار، وابن الحاجب.

وقال ابن نقطة: كان ثقة صالحاً.

وقال الضياء أيضاً: كان خيراٌ ديناً، له مروءة، من أهل القرآن.

قال ابن النجار: توفي ليلة الاثنين السادس والعشرين من صفر سنة سبع وثلاثين وستمائة. وحمل ليلاً إلى تربة معروف الكرخي. فدفن إلى جانبه، تحت القبة، من غير أن يعلم به أحد.

وقال عبد الصمد: توفي ليلة الاثنين العشرين من صفر وقال غيره: ليلة تاسع عشر.

ورثاه غير واحد، منهم الأسعد بن إبراهيم الكاتب بقصيدة، أولها:

ما قضى الحزن بالمدامع دينـاً

 

حين حاز المصاب رزءاً وحينا

عدم الدين من فتى دلف قلـبـاً

 

وسمعاً للمكرمـات وعـينـا

أحمد بن محمد بن طلحة بن الحسن بن طلحة بن حسان، البصري الأصل، البغدادي المضري، الفقيه المحدث، المعدل، أبو بكر. وقد يكنى أبا عبد الله أيضاً. ويلقب أمين الدين.

ولد سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة تقديراً.

وطلب الحديث قبل التسعين وخمسمائة، فسمع الكثير من ابن كليب. وذاكر بن كامل، ويحيى بن بوش، وأبي الفرج بن الجوزي، وابن المغطوش، وابن سكينة، وابن الأخضر، وخلق كثير من هذه الطبقة، وجد واجتهد في الطلب. وكتب بخطه كثيراً. وتفقه في المذهب وتكلم في مسائل الخلاف وحصل طرفاَ صالحاً من الأدب، وصحب محيي الدين بن الجوزي، واختص به، وصار حاجباً له أيام حسبته. وسافر معه لما نفذ في الرسائل إلى الشام ومصر وبلاد الروم وبلاد فارس. وشهد عند ابن اللمعاني.

وله مجموعات وتخاريج في الحديث، وجمع الأحاديث السباعيات والثمانيات التي وقعت له، ومعجماً لشيوخه. وحدث بقطعة من مسموعاته ببغداد وغيرها. ذكر ذلك ابن النجار، وقال: سمعت منه. وهو فاضل عالم ثقة، صدوق متدين أمين نزه، حسن الطريقة، جميل السيرة، طاهر السريرة، سليم الجانب، مسارع إلى فعل الخير، محبوب إلى الناس. ثم روى عنه حديثاً عن ابن بوش.

وقال المننري: قدم مصر، وحدث بها. سمعت منه حديثاً واحداً بظاهر السويداء.

قرأته عليه من حفظي.

وأخبرني أبو الربيع علي بن عبد الصمد البغذادي- سماعاٌ بها- أخبرني أبو أحمد عبد الصمد بن أحمد بن أبي الجيش، قال: أخرج شيخنا الفقيه الإمام العدل أمين الدين أبو بكر أحمد بن محمد بن طلحة لنفسه أربعين حديثاً، وقرأتها عليه.

وسمع منه ببغداد منصور بن سليم الإسكندري الحافظ وغيره. وأجاز للبهاء القاسم بن مظفر بن عساكر.

وتوفي ليلة الأحد ثالث شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وستمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

يوسف بن عبد المنعم بن نعمة بن سلطان بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر، المقدسي النابلسي، الفقيه المحدث، أبو عبد الله، ويلقب تقي الدين.

ولد سنة ست وثمانين وخمسمائة- تقديراً- بيت المقدس.

وسمع بدمشق من عمر بن طبرزد، وأبي اليُمْن الكندي، وأبي القاسم بن الحرستاني، وست الكتبة بنت ابن الطراح، وجماعة آخرين، وتفقه.

قال المنذري: ترافقنا في السماع كثيراً. وولي الإِمامة بالجامع الغربي بمدينة نابلس. وحدث. وهو ابن عم الحافظ عبد الغني المقدسي. وكان على طريقة حسنة. توفى في عاشر في القعدة سنة ثمان وثلاثين وستمائة بمدينة نابلس.

عبد الغني بن محمد بن القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني، خطيب حران، وابن خطيبها، سيف الدين أبو محمد، ابن الشيخ فخر الدين أبي عبد الله: وقد سبق ذكر والده. ولد في ثاني صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بحران.

وسمع بها من والده، وعبد القادر الرهاوي، وعبد الوهاب بن أبي حبة، وحماد الحراني، وغيرهم. وأخذ العلم بها عن والده.

ورحل إلى بغداد سنة ثلاث وستمائة، فسمع بها من عبد الوهاب ابن سكينة وضياء بن الخريف، وعمر بن طبرزد، وعبد المحزيز بن منينا، وعبد الواحد بن سلطان، ويحيى بن الحسين الأوابي، وأبي الفرج محمد بن هبة الله الوكيل، وعبد الرزاق بن عبد القادر الحافظ، ومسمار بن الفويش، وسعيد بن محمد بن عطاف، وأحمد بن الحسن العاقولي، وغيرهم.

وطلب، وقرأ بنفسه، وأخذ الفقه عن الفخر إسماعيل غلام ابن المنى وغيره.

ورجع إلى حران، وقام مقام أبيه في وظائفه بعد وفاته، وكان يخطب ويعظ ويدرس، ويلقي التفسير في الجامع على كرسي.

قال ابن حمدان: الشيخ الإِمام العالم الفاضل، سيف الدين قام مقام والده في التفسير والفتوى، والوعظ والخطابة. وكان خطيباً فصيحاً، رئيساً ثابتاً، رزين العقل. وله تصنيف "الزائد على تفسير الوالد" و لا إهداء القرب إلى ساكني الترب لما.

قال: ولم أسمع منه، ولا قرأت عليه شيئاً. وسمعت بقراءته على والده كثيراً.

وقال المنذري: لقيته بحران وغيرها، وعلقت عنه بنهر الجوز بالقرب من شاطئ الفرات شيئاً. وأجاز للقاضي أبي الفضل سليمان بن حمزة المقدسي.

وتوفى في سابع عشر المحرم سنة تسع وثلاثين وستمائة بحران.

أحمد بن محفوظ بن مهيا بن شكر بن الصابوني، الوصافي البغدادي الفقيه المحدث، أبو العباس: سمع الكثير، وعني بالسماع، وكتب الطباق بخطه، وهو حسن.

وتفقه على القاضي أبي صالح نصر بن عبد الرزاق. وكان خيراً صالحاً متعبداً من خيار الطلبة.

توفى يوم الأحد تاسع عشرين صفر سنة تسع وثلاثين وستمائة، ودفن لمقمرة معروف الكرخي. رحمهما الله تعالى.

سليمان بن إبراهيم بن هبة الله بن رحمة الأسعردي، المحدث الخطيب، أبو الربيع: ولد سنة سبع وستين وخمسمائة بإسعرد.

ورحل، وسمع بدمشق من الخشوعي، وابن طبرزد، وجماعة كثيرة، وبمصر من إسماعيل بن ياسين، وهبة الله البوصيري، وأبي عبد الله الأرتاحى، وخلق كثير.

وبالإسكندرية من أبي القاسم عبد الرحمن بن علاس. وانقطع إلى الحافظ عبد الغني المقدسي مدة، وتخرج به، وسمع منه الكثير، وكتب بخطه كثيراً. وكان كثير الإفادة حسن السيرة.

وسئل عنه الحافظ الضياء. فقال: خير دين ثقة، وأقام ببيت لهيا، وتولى الخطابة والإمامة بجامعه، ويقال: إنهم كانوا يؤذونه، فيكشطون الدال من الأسعردي، ويعجمون السين فيصير الأشعري، فيغضب لذلك.

قال المنذري: اجتمعت به، ولم يتفق لي السماع منه، وأفادنا إجازة وجماعة من شيوخ المصريين وغيرهم. شكر الله سعيه وجزاه خيراً.

وتوفي في ثاني عشرين ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وستمائة ببيت لهيا، رحمه الله تعالى، و "رحمة" اسم أم جده، وبها عرف جده.

إسماعيل بن ظفر بن أحمد بن إبراهيم بن مفرح بن منصور بن ثعلب بن عتيبة بن ثابت بن بكار بن عبد الله بن شرف بن مالك بن المنذر بن النعمان بن المنذر المنذري، النابلسي الأصل، الدمشقي المولد، المحدث أبو الطاهر: ولد سنة أربع وسبعين وخمسمائة بدمشق.

وارتحل في طلب الحديث إلى الأمصار، فسمع بمكة من ابن الحصري. وبمصر من البوصيري، والأرتاحي، والحافظ عبد الغني، وجماعة.

وببغداد من ابن كليب، والمبارك بن المغطوش، وابن الجوزي، وابن الأخضر وجماعة.

وبإصبهان من أبي المكارم اللبان، وأبي عبد الله الكراني، وأبي جعفر الصيدلاني، وجماعة.

وبخراسان من منصور بن عبد المنعم الفراوي، والمؤيد الطوسي، وزينب الشعرية؛ وجماعة.

وبنيسابور من أبي سعد الصفار، ومنصور الفراوي، والمؤيد الطوسي.

وسمع بحران من الحافظ عبد القادر الرهاوي، وانقطع إليه مدة، وكتب الكثير بخطه، وحدث بالكثير.

قال المنذري: سمعته بحران ودمشق.

وكتب عنه ابن النجار ببغداد، وقال: كان شيخاً صالحاً.

وقال عمر بن الحاجب: كان عبداً صاحاً، صاحب كرامات، ذا مروءة مع فقر مدقع، سهل العاربة، وصحيح الأصول، وحدث.

وروى عنه الحفاظ: الضياء، والمنذري، والبرزالي، والقاضي سليمان بن حمزة.

توفي رحمه الله في رابع شوال سنة تسع وثلاثين وستمائة، بسفح قاسيون، ودفن من يومه.

أخبرنا أبو الفضل محمد بن إسماعيل بن عمر بن الحموي- بقراءتي عليه- أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن محفوظ الأزدي، أخبرنا أبو الطاهر إسماعيل بن ظفر أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبي زيد الكراني أخبرنا أبو منصور محمد بن إسماعيل الصيرفي أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن شاذان أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن محمد بن فورك القباب أخبرنا أبو الحسن علي بن سعيد العسكري، حدثنا عباد بن الوليد حدثنا مطهر بن الهيثم بن الحجاج الطائي حدثنا علقمة بن أبي حمزة الضبعي عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَكِلُ طَهورَهُ ولا صدقته التي يتصدق بها إلى أحد، يكون هو الذي يتولاها بنفسه".

عمر بن أسعد بن المنجا بن بركان بن المؤمل، التنوخي المقرئ، الحراني المولد الدمشقي الدار. القاضي شمس الدين أبو الفتوح، وأبو الخطاب ابن القاضي وجيه الدين أبو المعالي: وقد سبق ذكر والده. ولد بحران، إذْ أبوه قاضيها في الدولة النورية- سنة سبع وخمسين وخمسمائة، ونشأ بها وتفقه على والده، وسمع من عبد الوهاب بن أبي حبة.

وقدم دمشق، وسمع بها من القاضيين: أبي سعد بن أبي عصرون، وأبي الفضل بن الشهرزوري، وأبي عبد الله بن صدقة، وأبي المعالي بن صابر.

ورحل إلى العراق وخراسان.

وسمع ببغداد من ابن بوش. وابن سكينة، واشتغل على أبي القاسم محمود بن المبارك المعروف بالمجبر الشافعي، في علم الخلاف والنظر وأفتى ودرس. وكان عارفاً بالقضاء بصيراً بالشروط والحكومات والمسائل الغامضات، صدراً نبيلاً.

وولي القضاء بحران قديماً، ثم انتقل إلى دمشق، واستوطنها، ودرس بها بالمسمارية.

وتولى خدماً ديوانية في الدول المعظمية. وحدث.

روى عنه الحافظ أبو عبد الله البرزالي، ومجد الدين بن العديم، ولسعد الخير النابلس، والحسن بن الخلال، ووزيرة ابنته. وهي خاتمة من روى عنه بالسماع.

وأجاز لابن الشيرازي، ورأيت نسخة "المستوعب". وقد قرأها عمر بن المنجا على والده قراءة بحث. وعليها حواش علقها عنه بخطه.

منها: أنه ذكر عن والده أنه قال: مراد الأصحاب بقولهم: يؤجل العنبن سنة: السنة الشمسية، لا الهلالية، لأن الشمس تجمع الفصول الأربع، تختلف فيها الفصول، وتتغير فيها الأمزجة، فيحصل فيها مقصود الاختبار، دون الهلالية. وهذا غريب.

ولعمر مصنف في المذهب سماه "المعتمد والمعول" في مجلد.

توفي في سابع عشر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمه الله. كذا قال أبو شامة. وقال الشريف: في ثامن عشر.

وتوفي بعده في مستهل ذي الحجة من السنة: أخوه عز الدين أبو الفتح، وأبو عمرو:-

عثمان بن أسعد، وكان فقيهاً فاضلاً معدلاً. عرس بالمسمارية عن أخيه نيابة. وكان تاجراً ذا مال وثروة: سمع ببغداد من ابن بوش، وابن سكينة، وبمصر من البوصيري، ويوسف بن الطفيل، وحدث.

سمع منه ابن الحاجب الحافظ، وابن الحلوانية، وولداه: وجيه الدين محمد، وزين الدين المنجا، والحسن بن الخلال، وأجاز لسليمان بن حمزة القاضي.

وكان مولده في محرم سنة سبع وستين وخمسمائة.

وفي جمادى الآخرة من السنة توفى:-

أبو الوفا عبد الملك بن عبد الحق بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن الحنبلي. ودفن بالجبل أيضاً.

وكان مولده سنة خمس وخمسين وخمسمائة.

سمع بالإسكندرية من السلفي، وبمكة من المبارك بن الطباخ، وبدمشق من أبي الحسين بن الموإزيني، وحدث.

وفي سابع عشر شعبان من السنة توفي الأمير:-

أبو منصور مهلهل ابن الأمير مجد الملك أبي الضياء بحران بن يوسف بن عبد الله بن رافع بن يزيد بن أبي الحسن بن علي بن سلامة بن طارق بن ثعلب بن طارق بن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الحساني، الجيتي، النابلسي الأصل، المصري الحنبلي: ودفن بسفح المقطم. سمع من إسماعيل بن ياسين، والبوصيري، والأرتاحي، وأبي الحسن بن نجا والحافظ عبد الغني، ولازمه كثيراً، وخلق كثير. وكتب بخطه وقرأ بلفظه وحدث.

قال المنذري: سمعت منه، وسألته عن مولده? فذكر ما يدلي تقديراً: أنه سنة سبع وستين وخمسمائة بمصر.

وفي العشرين من شعبان من هذه السنة توفي:-

أبو محمد عبد الحق بن خلف بن عبد الحق الدمشقي الحنبلي. ويلقب بالضياء: سمع الكثير بدمشق من أبي المعالي بن صابر، وأبي الفهم بن أبي العجائز، وابن صدقة، ويحيى الثقفي، والجزوي وخلق، وبحران من إبن أبي الوفاء. وحدث.

وكان مشهوراً بالخير والصلاح. وعجز في آخر عمره عن التصرف. رحمه الله.

إبراهيم بن محمد بن الأزهري بن أحمد بن محمد الصريفيني، الفقيه، المحدث، الحافظ أبو إسحاق. ويلقب تقي الدين. نزيل دمشق.

ولد ليله حادي عشر محرم سنة اثنتين- وقيل سنة إحدى- وثمانين وخمسمائة بصريفين من قرى بغداد.

وقرأ القرآن على والده، وعلى أبي الفضل عوض الصريفيني.

ودخل بغداد. وسمع بهما من ابن الأخضر، وابن طبرزد، وحنبل وطبقتهم.

ورحل إلى الأقطار. وسمع بإصبهان من علي بن منصور الثقفي، وبنيسابور من المؤيد الطوسي، وبمرْوَ من عبد الرحيم بن السمعاني، وبهراة؛ من أبي روح الهروي، وببوشَنْج من سهيل بن محمد البوشنجي.

وسمع بالكرخ، والدينور، ونهاوند، وتستر، وطبيس.

وسمع بالموصل من عبد المحسن الطوسي، وبدمشق من الكندي، وابن الحرستاني، وببيت المقدس من الأوقى، وببلد الخليل من الدربندي.

وسمع بحران من الرهاوي الحافظ، وصحبه وتخرج به، وسمع ببلدان أُخر.

وتفقه ببغداد على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد البوازيحي. وقد سبق ذكره. وجالس أبا البقاء العكبري.

وقرأ الأدب على هبة الله بن عمر الدودي الكواز من أصحاب الحسن بن عبدة النحوي.

قال عمر بن الحاجب الحافظ: كان أحد حفاظ الحديث، وأوعية العلم، إماماً فاضلاً ديناً صدوقاً خيراً، ثبتاً ثقة حجة، واسع الرواية، ذا سمت ووقار وعفاف، حسن السيرة. جميل الظاهر، سخي النفس مع القلة، كثير الرغبة في فعل الخيرات. سافر الكثير، واغترب، وجال في الآفاق من العراق، وخراسان، والجزيرة والشام. وكتب الكثير، وأقرأ وأفاد، كثير التواضع، سليم الباطن. وكان يرجع إلى ثقة وزهد وورع.

وكان شيخاً لدار حديث مَنْبَجِ، ثم تركها. واستوطن مدينة حلب، وولي بها دار الحديث التي للصاحب ابن شداد. وكان يحدث بها ويتكلم على الأحاديث وفقهها ومعانيها.

سألت ابن عبد الواحد- يعني الحافظ الضياء- عنه? فقال: إمام حافظ ثقة، أمين دين، حسن الصحبة. وله معرفة بالفقه.

وسألت البرزالي عنه. فقال: حافظ دين ثقة. انتهى.

ونقل الذهبي عن المنذري: ولم أجد في الوفيات ذكر الصريفيني بالكلية وأنه قال عنه: كان ثقة حافظاً صالحاً. له جموع حسنة لم يتمها. ولكن هذا قاله الشريف الحسيني في ذيله على كتاب المنذري. وزاد: كتب يخطه كثيراً. وكان من العارفين بهذا الشأن.

وقال أبو شامة: كان عالماً بالحديث. ديناً متواضعاً.

وقرأت بخط ناصح الدين بن الحنبلي سبب ولاية الصريفيني دار الحديث بحلب، قال: كان القاضي بهاء الدين بن شداد له غلو في إعلاء مذهب الشافعي. فرأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسألته: أي المذاهب خير? ثم كتم جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الناصح: الظاهر أنه أشار إلى مذهب أحمد؛ لأن تعصبه على مذهب أبي حنيفة ما تغير، وماد إلى الحنابلة، وأجلس التقي إبراهيم الحافظ الصريفيني في دار الحديث، وقال: ندمت إذ سميتها بالشافعية.

قال: ولو كان الجواب "مذهب الشافعي" لأظهره؛ لأنه كان داعية إليه، مبالغاً في تعظيمه، وإظهاره عند الملوك، والملوك على مذهبه.

وقد وقفت على جزء صغير للحافظ الصريفيني استدركه، على الحافظ ضياء الدين في الجزء الذي استدركه فيه على الحافظ أبي القاسم بن عساكر، في كتاب "ذكر المشايخ النبل" فاعتذر الصريفيني عن ابن عساكر، واستدرك على الضياء أسماء فاتت ابن عساكر لم يستدركها. وقد نبه الحافظ أبو الحجاج المزي على أوهام كثيرة فيها للصريفيني، بل بين أن غالب ما استدركه وهم منه.

قال أبو شامة: توفي الحافظ الصريفيني في خامس عشر جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وستمائة. وحضرت الصلاة عليه بجامع دمشق، وشيعته إلى مصلَّى باب الفراديس. ودفن بسفح قاسيون رحمه اللّه تعالى.

علي بن الأنجب بن ما شاء الله بن الحسين بن عبد الله بن عبيد الله العلوي، الحسيني، البغدادي، المأموني، الفقيه المقرئ الجصاص، أبو الحسن: ولد أوائل سنة ست وستين وخمسمائة.

قرأ القراَن على ابن الباقلاني الواسطي بها. وسمع الحديث من ابن شاتيل، وشهدة، وابن بوش. وابن كليب وغيرهم.

وتفقه على أبي الفتح بن المنى، وتكلم في مسائل الخلاف. وناظر. وحدث.

وروى عنه ابن النجار، وأجاز لسليمان بن حمزة، وأبي نصر بن الشيرازي، والقاسم بن عساكر.

وتوفى في سادس عشر جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وستمائة.

محمد بن يوسف بن سعيد بن مسافر بن جميل، البغدادي، الأزجي الأديب، أبو عبد الله بل أبي محمد: ولد في سابع شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.

وسمع بإفادة والده المحدث، وأبي محمد بن أبي العلا محمد بن جعفر بن عقيل، وأبي الفتح بن شاتيل! ونصر اللّه القزاز، وابن كليب، وأبي الغنائم عبد الرحمن بن جامع بن غنيم الفقيه.

وكان لديه فضل وأدب. وله تصانيف. وحدث.

وسمع منه المحب المقدسي، وعلي بن أحمد بن عبد الدايم.

وتوفي في ثالث رجب سنة اثنتين وأربعين وستمائة ببغداد. وأبوه سمع الكثير من ابن البطي وطبقته، وعني بالطلب. وقرأ بنفسه. وكتب بخطه إلى حين وفاته. وحدث وتوفي.

عبد الرحمن بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، الفقيه الزاهد، محي اللبن، أبو سليمان ابن الحافظ أبي محمد: ولد سنة ثلاث- أو أربع- وثمانين وخمسمائة في شوال.

وسمع بدمشق من الخشوعي وغيره. ورحل. وسمع بمصر من البوصيري والأرتاحي، وإسماعيل بن ياسين، وغيرهما.

وسمع ببغداد من ابن الجوزي وطبقته.

وتفقه على الشيخ الموفق حتى برع في الفقه. وكان يؤم معه في جامع بني أمية بمحراب الحنابلة. وأفتى ودرس الفقه.

وكان إماماً عالماً، فاضلاً ورعاً، حسن السمت دائم البشر، كريم النفس، مشتغلاً بنفسه، وبإلقاء الدروس المفيدة على أصحابه، وطلبته.

وسئل عنه الحافظ الضياء? فقال: فاضل خير دين، كثير التلاوة.

وقال أبو شامة: كان من أئمة الحنابلة رحمه الله تعالى. وكان من الصالحين وحدث. وروى عنه ابن النجار.

وتوفي في تاسع عشري صفر سنة ثلاث وأربعين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمه اللّه تعالى.

أخبرنا محمد بن إسماعيل الأنصاري أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد أخبرنا أبو سليمان بن الحافظ.

وأخبرناه عالياً محمد بن محمد بن إبراهيم- بمصر- أخبرنا عبد اللّه بن عبد الواحد بن علاق. قالا: أخبرنا أبو القاسم البوصيري أخبرنا مرشد بن يحيى المديني أخبرنا علي بن عمر بن حمضة أخبرنا حمزة بن محمد الكناني الحافظ أخبرنا عمران بن موسى الطبيب حدثنا يحى بن عبد اللّه بن بكر حدثني الليث بن سعد عن عامر بن يحيى المعافري عن أبي عبد الرحمن الحُبلي سمعت عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً- وذكر حديث البطاقة بطوله".

أحمد بن محمد بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور، المقدسي، الفقيه الِإمام، تقي الدين، أبو العباس بن الحافظ عز الدين أبي الفتح ابن الحافظ الكبير أبي محمد: ولد في صفر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.

وسمع بدمشق من أبي طاهر الخشوعي، وحنبل الرصافي، وعمر بن طبرزد والكندي، وغيرهم.

ورحل في طلب الحديث. وسمع بأصبهان من أسعد بن روح، والمؤيد بن الأخوة، وعفيفة الفارقانية، وخلق. وببغداد من سليمان بن الموصلي، وغيره.

وقرأ الحديث بنفسه كثيراً، وإلى آخر عمره.

وتفقه على الشيخ موفق الدين، وهو جده لأمه، حتى برع. ويقال: إنه حفظ كتاب "الكافي" له، وببغداد على الفخر إسماعيل. وانتهت إليه مشيخة المذهب بالجبل.

قال أبو شامة. كان من أئمة الحنابلة.

وقال الشريف الحسيني: كان أحد المشائخ المشهورين بالفقه والحديث.

وقال ابن الحاجب: سألت عنه الحافظ ابن عبد الواحد. فقال: حصل ما لم يحصله غيره، وحدث. وروى عنه سليمان بن حمزة الماضي، ومحمد بن مشرف وغيرهما، وأجاز لابن الشيرازى.

توفى في ثامن عشر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.

عبد اللّه بن محمد بن أبي محمد بن الوليد البغدادي، الحريمي، الحافظ المحدث، أبو منصور بن أبي الفضل: أحد من عني بالحديث.

سمع الكثير ببغداد من خلق، منهم: الحافظ أبو محمد بن الأخضر، وعبد العزيز ابن منينا، ورحل. وسمع بحران من الحافظ عبد القادر الرهاوي، وغيره. وبحلب من الشريف أبي هاشم الافتخار وغيره. وبدمشق من أبي اليمن الكندي في جماعة.

قال ابن نقطة: سمع بالشام، وبلاد الجزيرة. وقرأ الكثير. وله معرفة حسنة.

قال لي أبو بكر تميم بن البندنيجي وغيره: إن اسمه الذي سمي به "جُزيرة" تصغير جزرة بالجيم والزاي.

وقال الشريف أبو العباس الحسيني: كان حافظاً مفيداً. أسمع الناس الكثير بقرأءته.

وكان مشهوراً بسرعة القراءة وجودتها، وجمع وحدث.

قلت: وأجاز لسليمان بن حمزة الحاكم، وأبي بكر بن أحمد بن عبد الدائم، وعيسى المطعم، وغيرهم منَ المتأخرين.

وله تخاريج كثيرة، وفوائد وأجزاء. وله رسالة إلى السامري صاحب المستوعب، ينكر عليه فيها تأويله بعض الصفات، وقوله: "إن أخبار الآحاد لا تثبت بها الصفات". ورأيت لأبي البقاء العكبري مصنفاً في الرد عليه في إثبات الحركة لله، وأنه نسب ذلك إلى أحمد، ولكن الروايات عن أحمد بذلك ضعيفة.

وذكر ابن الساعي وغيره: أن المستنصر بالله لما بنى مدرسته المعروفة رتب بدار لحديث بها شيخين، يشتغلان بعلم الحديث.

أحدهما: أبو منصور بن الوليد الحنبلي هذا، والآخر: أبو عبد اللّه بن النجار الشافعي، صاحب التاريخ.

توفى في ثالث جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة ببغداد. ودفن خلف بشر لحافي بمقبرة باب حرب. رحمه اللّه تعالى.

الحموي، ثم الصالحي لفقيه، الإمام ضياء الدين، أبو إبراهيم: سمع بدمشق من الخشوعي. وتفقه على الشيخ الموفق الدين حتى برع وأفتى.

وكان فقيهاً، عارفاً بالمذهب، قليل التعصب، زاهداً، ما نافس في منصب قط ولا دنيا، ولا أكل من وقف، بل كان يتقوت من شكارة تزرع له بحوران. وما آذى مسلماً قط، ولا دخل حماماً، ولا تنعم في ملبس ولا مأكل، ولا زاد على ثوب وعمامة في طول عمره. وكان على خير كثير. قل من يماثله في عبادته واجتهاده وسلوك طريقته رحمه الله.

قرأ عليه جماعة، وحدث.

وتوفي ليلة الرابع من جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة بجبل قاسيون. ودفن به.

وممن قرأ عليه: صاحب "المبهم" عبد الله بن أبي بكر الحربي كتيلة، وقال: ذكر لي: أن من أكثر من تحريك إصبعه المسبحة في تشهده، كان ذلك عبثاً يبطل صلاته. قال: وقول من قال من أصحابنا: "يشير بها مراراً"، يغني عند الشهادتين فقط.

عبد الله بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الأصل، الصالحي الخطيب، شرف الدين أبو محمد، وأبو بكر ابن الشيخ أبي عمر: ولد في أواخر رمضان سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بدمشق.

وسمع بها من يحيى بن محمود الثقفي، وأبي عبد الله بن صدقة، وعبد الرحمن بن الخرقي، و الجنزوري، وغيرهم.

وسمع ببغداد من أبي الفرج بن الجوزي، وابن المعطوش، وابن سكينة، وطبقتهم.

وبمصر من البوصيري، والأرتاحي، وفاطمة بنت سعد الخير، وغيرهم.

وتفقه على والده، وعمه الشيخ موفق الدين. وحدث.

وخرج له الحافظ الضياء جزءاً عن جماعة من شيوخه.

وخطب بجامع الجبل مدة. وكان شيخاً حسناً يشار إليه بالعلم والدين، والورع، والزهد، وحسن الطريقة، وقلة الكلام.

قال الحافظ الضياء عنه: كان فقيهاً فاضلاً ديناً ثقة. وكتب عنه مع تقدمه.

توفي ليلة الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسفح قاسيون. ودفن به رحمه الله تعالى.

وفي هذا الشهر أيضاً: توفي:-

صلاح الدين أبو عيسى موسى بن محمد بن خلف بن راجح، المقدسي: كان إماماً عالماً فاضلاً واهداً.

سمع يوسف بن معالي الكناني، ومحمد بن عبد المنعم، والخشوعي.

وكان مولده في صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.

وأجاز لابن الشيرازي. وقد ذكرنا له فيما سبق مرثية في الشيخ موفق الدين المقدسي. وذكر أخوه القاضي نجم الدين أحمد بن محمد بن خلف الشافعي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أخي موسى. قال: فكان أثر ذلك أن تحول إلى حالة عظيمة في الخير، والزهد. وترك الدنيا رحمه اللّه تعالى.

?نصر بن أبي السعود بن مظفر بن الخضر بن بطة اليعقوبي الضرير الفقيه، تاج الدين، أبو القاسم من أهل يعقوبا. وفي كثير من طباق السماع: ينسب إلى عكبرا. وفي بعض الطباق: سبط أبي عبد الله بن بطة. وهذا يدل على أنه من ولد بعض بناته.

قال ابن نقطة: وكان يسمي نفسه علياً في أول ما سمع. ثم ترك ذلك.

دخل بغداد في صباه. فقرأ القران على أبي محمد الحسن بن علي بن عبيدة. وسمع بها الحديث الكثير من المبارك بن زريق القزاز، وأبي الفتح بن شاتيل، وعمر بن أبي بكر التبان، وابن كليب، وعبد الرحمن بن جامع بن غنيمة، وابن الجوزي، وابن الأخضر وغيرهم.

وتفقه في المذهب، وبرع، وأفتى، وناظر، وأعاد بالمدرسة القادرية. وروى "مختصر الخرقي"، عن أبي محمد عبد الخالق بن عبد الوهاب الصابوني عن ابن كادش عن أبي علي المباركي عن ابن سمعون عنه.

قال ابن نقطة: حدث. وكان معيداً للفقهاء، وله شعر أنشدني منه أبياتاً، وأخذ عنه ابن النجار- ولم يذكره في تاريخه- وأبو المعالي الأبرقوهي.

وأجاز لعبد الصمد بن أبي الجيش، وسليمان بن حمزة القاضي، وأبي بكر بن عبد الدائم وأحمد الحجاز.

توفي في ليلة الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة ببغداد. ودفن في باب حرب رحمه الله تعالى.

محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن نجن إسماعيل بن منصور السعدي، المقدسي، الصالحي، الحافظ الكبير، ضياء الدين أبو عبد الله بن أبي أحمد: محدث عصره، ووحيد دهره. وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره، والاشتهار في أمره. وند في خامس جمادى الآخرة سنة تسع وستين وخمسمائة. كذا وجد بخطه.

وقال ابن النجار: سألته عن مولده? فقال: في جمادى الأولى من السنة.

وسمع بدمشق من أبي المجد البانياسي، والخضر بن هبة الله بن طاووس، وأحمد بن الموازيني، وغيرهم.

وسمع بمصر من البوصيري، وفاطمة بنت سعد الخير، وجماعة.

وسمع ببغداد الكثير من ابن الجوزي، وابن المعطوش، وابن سكينة، وابن الأخضر، وطبقتهم.

وسمع من أبي جعفر الصيدلاني، وطبقته بأصبهان، ومن عبد الباقي بن عثمان بهمدان، ومن المؤيد الطوسي، وطبقته بنيسابور، ومن أبي روح بهراة، ومن أبي المظفر بن السمعاني بمْروَ.

ورحل مرتين إلى أصبهان، وسمع بها ما لا يوصف كثرة. وكتب بخطه الكثير من الكتب الكبار وغيرها، ويقال: إنه كتب عن أزيد من خمسمائة شيخ، وحصل أصولا كثيرة، وأقام بهراة، ومَرْو مدة، وله إجازة من السلفي، وشُهدة.

قال ابن النجار: كُتب عنه ببغداد ونيسابور، ودمشق. وهو حافظ، متقن ثبت ثقة، صدوق نبيل حجة، عالم بالحديث وأحوال الرجال. له مجموعات وتخريجات، وهو ورع تقي زاهد، عابد، محتاط في أكل الحلال، مجاهد في سبيل الله. ولعمري ما رأت عيناي مثله، في نزاهته وعفته، وحسن طريقته، في طلب العلم.

وقال عمر بن الحاجب: شيخنا أبو عبد الله شيخ وقته، ونسيج وحده، علماً وحفظاً، وثقة وديناً، من العلماء الربانيين، وهو اكبر من أن يدل عليه مثلي. كان شديد التحري في الرواية، مجتهداً في العبادة، كثير الذكر، منقطعاً عن الناس، متواضعاً في ذات الله، سهل العارية. رأيت جماعة من المحدثين ذكروه فأطنبوا في حقه، ومدحوه بالحفظ والزهد.

سألت الزكي البرزالي عنه? فقال: ثقة جبل، حافظ دين.

وقال ابن النجار- وذكر بعض كلامه المتقدم.

وقال الشرف بن النابلسي: ما رأيت مثل شيخنا الضياء.

وقال أبو إسحاق الصريفيني: كان الحافظ الزاهد العابد ضياء الدين المقدسي رفيقي في السفر، وصاحبي في الحضر، وشاهدت من كثرة فوائده وكثرة حديثه وتبحره فيه.

ونقل الذهبي عن الحافظ المزي: أنه كان يقول: الضياء أعلم بالحديث والرجال من الحافظ عبد الغني، ولم يكن في وقته مثله.

وقال الذهبي: الإمام العالم، الحافظ الحجة، محدث الشام، وشيخ السنة ضياء الدين، صنف، وصحح ولين، وجرح وعَدَّل، وكان المرجوع إليه في هذا الشأن. وقال الشريف أبو العباس الحسيني: حدث بالكثير مدة. وخَرج تخاريج كثيرة مفيدة، وصنف تصانيف حسنة. وكان أحد أئمة هذا الشأن، عارفاً بالرجال وأحوالهم، والحديث وصحيحه وسقيمه، ورعاً متديناً طارحاً للتكلف.

وقال الذهبي أيضاً: بنى مدرسة على باب الجامع المظفري بسفح قاسيون. وأعانه عليها بعض أهل الخير، ووقف عليها كتبه وأجزاءه.

وقال غيره: بناها للمحدثين والغرباء الواردين، مع الفقر والقلة، وكان يبني منها جانباً ويصبر إلى أن يجتمع معه ما يبنى به، ويعمل فيها بنفسه، ولم يقبل من أحد فيها شيئاً تورعاً. وكان ملازماً لجبل الصالحية قبل أن يدخل البلد، أو يحدث به، ومناقبه اكثر من أن تحصر، وإنما أشرت إلى نبذة منها.

ذكر تصانيفه

كتاب "الأحكام" يعوز قليلاً في نحو عشرين جزءاً في ثلاث مجلدات، كتاب "الأحاديث المختارة" وهي الأحاديث التي يصلح أن يحتج بها سوى ما في الصحيحين، خرجها من مسموعاته، كتب منها تسعين جزءاً ولم تكمل. قال بعض الأئمة: هي خير من صحيح الحاكم، كتاب "فضائل الأعمال" أربعة أجزاء، كتاب "فضائل الشام" ثلاثة أجزاء، كتاب "مناقب أصحاب الحديث" أربعة أجزاء "صفة الجنة" ثلاثة أجزاء "صفة النار" جزآن، "أفراد الصحيح" جزء، و "غرائبه" تسعة أجزاء "ذم المسكر" جزء، "الموبقات" أجزاء كثيرة "كلام الأموات" جزء "شفاء العليل" جزء "الهجرة إلى أرض الحبشة" جزء "قصة موسى عليه السلام" جزء "فضائل القرآن" جزء "الرواة عن البخاري" جزء "دلائل النبوة"، "الإلهيات" ثلاثة أجزاء، "فضائل الجهاد"، جزء، "النهي عن سب الأصحاب" جزء، "الحكايات المستطرفات" أجزاء كثيرة، فيها أحاديث مخرجة، كتاب "سبب هجرة المقادسة إلى دمشق، وكرامات مشايخهم" نحو عشرة أجزاء، وأفرد لأكابرهم من العلماء، لكل واحد سيرة في أجزاء كثيرة "أطراف الموضوعات" لابن الجوزي في جزأين "تحريم الغيبة" جزء "الموقف والاقتصاص" جزء "الاستدراك" على الحافظ عبد الغني، في عزوه "أحاديث في درر الأثر" جزء "الاستدراك، على المشايخ النبل" لابن عساكر جزء، كتاب "الإرشاد إلى بيان ما أشكل من المرسل في الإسناد" جزء كبير، فيه فوائد جليلة "الموافقات" جزء "طُرق حديث الحوض النبوي" جزء "أحاديث الحرف والصوت" جزء "الأمر باتباع السنن واجتناب البدع" جزء كتاب "مسند فضالة بن عبيد" جزء، كتاب "الأمراض والكفارات والطب والرقيات".

روى عنه ابن نقطة في استدراكه، فقال: حدثنا محمد بن عبد الواحد الجيلي بالجبل، ظاهر دمشق، وابن النجار في تاريخه، والبرزالي وعمر بن الحاجب، وابن أخيه الفخر بن البخاري، والقاضي تقي الدين سليمان، وابن الفراء، والنجم الشقراوي، وإسماعيل بن الخباز، والحسن بن الخلال، والدشتي، وأبو بكر بن عبد الدايم. وعيسى المطعم، وخلق كثير.

توفى في يوم الاثنين ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسفح قاسيون. ودفن به رحمه الله تعالى.

عبد الرحمن بن عمر بن بركات بن شُحانَة الحراني المحدث الحافظ المكثر، سراج الدين، أبو محمد، أحد من عُني بعلم الحديث.

سمع بحران من الحافظ عبد القادر الرهاوي، وبدمشق من ابن الحرستاني، وابن ملاعب وغيرهما. وبحلب من الافتخار الهاشمي، وبالموصل من مسمار بن العويس، وبمصر من جماعة من أصحاب ابن رفاعة، والسلفي.

ودخل بغداد سنة تسع عشرة وستمائة. فسمع بها من أصحاب الأرموي وطبقتهم. وكتب بخطه الكثير، وحصل.

قال ابن نقطة: هو شاب ثقة، حسن المذاكرة.

وقال الشريف أبو العباس: حصل كثيراً. وكتب بخطه. وكان أحد المشهورين بالطلب والتحصيل. وتوفي قبل بلوغ أمنيته.

وقال غيره: كان ممن له الرحلة الواسعة في الطلب. سمع من الجم الغفير. وسكن آخر عمره "ميافارقين". وصار صاحب ثروة بعد الفقر.

وقال ابن حمدان الفقيه: كان يحفظ كثيراً من الأحاديث وغيرها. وسمع الكثير. سمعت بقراءته كثيراً. ولم أسمع منه شيئاً. وكانت له بنت عمياء تحفظ كثيراً، إذا سئلت عن باب من العلم من الكتب الستة: ذكرت أكثره. وكانت في ذلك أعجوبة، لم يبلغ أبو محمد رحمه الله أوان الرواية. وقد أجاز لسليمان بن حمزة القاضي، ولأبي نصر بن الشيرازي.

وتوفي في جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة بميافارقين. رحمه الله و"شحانة" بضم الشين وفتح الحاء المهملة الخفيفة. وبعد الألف نون.

أحمد بن عيسىَ بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، المقدسي الصالحي، المحدث الحافظ، سيف الدين أبو العباس بن مجد الدين أبي المجد ابن شيخ الإسلام، موفق الدين أبي محمد: ولد سنة خمس وستمائة بالجبل.

وسمع من جده الكثير، ومن أبي اليمن ا!كند!، وأبي القاسم بن الحرستاني. وداود بن ملاعب، وأحمد بن عبد الله التهطان. وطبتشهم.

ورحل، وسمع ببغداد من أبي الفتح بن عبد السلام، وعلي بن بورندان، وأبي علي بن الجواليقي، وخلق من الأصحاب: ابن ناصر، وأبي الوقت. وكتب بخطه الكثير. وخرج وألَف.

قال الحسيني: خَرَّج وحدث. وكان حسن التخريج فاضلاً.

وقال الذهبي: كتب العالي والنازل. وجمع وصنف. وكان ثقة حافظاً، ذكياً متيقظاً، مليح الخط، عارفاً بهذا الشأن، عاملاً بالأثر، صاحب عبادة. وكان تام المروءة، أماراً بالمعروف، قوالاً بالحق. ولو طال عمره لساد أهل زمانه علماً وعملاً. ومحاسنه جمة.

وألف مجلداً كبيراً في الرد على الحافظ محمد بن طاهر المقدسي لإِباحته للسماع. وفي أماكن من كتاب ابن طاهر في "صفوة أهل التصوف".

واختصرت هذا الكتاب على مقدار الربع. وانتفعت كثيراً بتعاليق الحافظ سيف الدين. انتهى.

وله أيضاً مصنف في الاعتقاد، فيه آثار كثيرة وفوائد. وله كتاب "الأزهر" في ذكر آل جعفر بن أبي طالب وفضائلهم.

وحدث وروى عنه أحمد بن محمد الدشتي.

وتوفى في مستهل شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسفح قاسيون. ودفن به رحمه اللّه تعالى. وله ثمان وثلاثون سنة.

يحيى بن علي بن علي بن عنان الغنوي البغدادي، الفقيه، الفرضي أبو بكر، المعروف بابن البقال. ويلقب عباد الدين: ولد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة تقريباً.

وطلب العلم في صباه. وسمع الكثير من أبي الفتح بن شاتيل، وأبي الفرج كليب، وابن الجوزي وغيرهم. وتفقه في المذهب. وقرأ الفرائض والحساب وتصرف الأعمال السلطانية. وكان صدوقاً، حسن السيرة.

حدث. وروى عنه جماعة. سمع منه عبد الصمد بن أبي الجيش، وأجاز لسليمان بن حمزة القاضي، وأبي بكر بن عبد الدايم، وعيسى المطعم وغيرهم.

وتوفي يوم الأحد سلخ رمضان سنة ثلاث وأربعين وستمائة. ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب.

محمد بن محمود بن عبد المنعم البغدادي المرابتي، نزيل دمشق، الفقيه الأمام، تقي الدين، أبو عبد الله: أحد فضلاء الفقهاء، صحب ببغداد أبا البقاء العكبري وأخذ عنه. ثم قدم دمشق، وصاحب الشيخ موفق الدين. وتفقه عليه، وبرع وأفتى.

قال أبو شامة: كان عالماً فاضلاً ذا فنون. ولي به صحبة قديمة. وبعده لم يبقَ مذهب أحمد مثله بدمشق.

توفي في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وستمائة بدمشق ودفن بسفح قاسيون. رحمه اللّه تعالى.

قرأت بخط ابن الصيرفي الفقيه: أنشدني الشيخ تقي الدين المراتبي لغيره:

أيحسن أن أظمأ وأحواض بركم

 

عِذاب، ومن وُزَادها أنا معدود.

يعوم بها غيري، ويروي، وإنني

 

على ظمأ منها مُذاذ ومطـرود

علي بن إبراهيم بن علي بن محمد المبارك بن أحمد بن محمد بكروس بن سيف التميمي الدينوي. الفقيه، أبو الحسن بن أبي محمد بن أبي الحسن: وقد سبق ذكر أبيه وجده. ولد في تاسع عشر رمضان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.

وأسمعه والده الكثير في صغره من ابن بوش، وابن كليب، وتفقه، وحدث.

وروى عنه محمد بن أحمد القزاز. وأجاز لسليمان بن حمزة الحاكم.

وتوفى ليلة سادس عشر رجب سنة خمس وأربعين وستمائة.

أحمد بن سلامة بن أحمد بن سليمان النجار، الحراني، المحدث الزاهد، الصالح القدوة، أبو العباس: سمع الكثير من ابق كليب. وكتب بخطه الأجزاء، والطباق. وصحب الحافظ عبد الغني المقدسي، والحافظ عبد القادر الرهاوي، والشيخ موفق الدين المقدسي. وسمع منهم. وحدث. وسمع منه جماعة.

قال ابن حمدان: سمعت عليه كثيراً. وكافي من دعاة أهل السنة وولاتهم، مشهوراً بالزهد، والورع والصلاح.

توفي في سنة ست وأربعين وستمائة بحران. رحمه الله تعالى.

إبراهيم بن محمود بن سالم بن مهدي بن الحسين، البغدادي الأزجي المقرئ المحدث، المعروف بابن الخير. وهو لقب لأبيه محمود بن محمد بن الثناء: ولد في سلخ في الحجة سنة ثلاث وستين وخمسمائة.

وقرأ القرآن بالروايات على جماعة من الشيوخ. وسمع في صباه بإفادة والده الكثير من أبي الحسين عبد الحق بن عبد الخالق، وأبي علي الحسن علي بن شيرويه الخباز، وشهدة الكاتبة، وخديجة بنت أحمد النهرواني، وغيرهم.

وأجاز له أبو الفتح بن البطي. وعني بالحديث. وكان له به معرفة. وقرأ القران، وحدث بالكثير مدة. وكان أحد المشايخ المشهورين بالصلاح، وعلو الإسناد، دائم البشر، مشتغلاً بنفسه، ملازماً لمسجده، حسن الأخلاق.

قال ابن نقطة: سماعه صحيح. وهو شيخ مكثر. روى عنه خلق كثير منهم: ابن الحلوانية، وابن العديم، والدمياطي، وبالإِجازة: جماعة آخرهم موتاً: زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم المقدسي

وتوفي آخر يوم الثلاثاء سابع عشر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستمائة. ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد رضي الله عنه.

وكان والده شيخاً صالحاَ ضريراً. حدث عن ابن ناصر وغيره.

توفي في صفر سنة ثلاث وستمائة.

يوسف بن خليل بن قراجا بن عبد الله الدمشقي، الأدمي، المحدث، الحافظ، ذو الرحلة الواسعة، شمس الدين أبو الحجاج: ولد سنة خمس وخمسين وخمسمائة بدمشق.

وتشاغل بالكسب إلى الثلاثين من عمره- ثم طلب الحديث، وتخرج بالحافظ عبد الغني، واستفرغ فيه وسعه. وكتب ما لا يوصف بخطه المليح المتقن. ورحل إلى الأقطار.

سمع بدمشق من الحافظ عبد الغني، وابن أبي عصرون، وابن الموازيني، ويحيى الثقفي، وابن صدقة الحراني، والخشوعي، والجتروي، والكندي.

وسمع ببغداد من ابن كليب، وابن يونس، وذاكر بن كامل، وأبي منصور بن عبد السلام، وخلق من أصحاب ابن الحصين، وطبقته.

ودخل إصبهان. وسمع بها من ابن مسعود الحمال، والرازاني، واللبان، والكراني، الصيدلاني، وعبد الرحيم الكاغلي، وأبي جعفر الطرسوسي، وجماعة من أصحاب أبي علي بن الحداد. ثم عاد إلى دمشق.

ورحل إلى مصر. فسمع بها من البوصيري، وإسماعيل بن ياسين وغيرهما.

وكان إماماً حافظاً ثقة ثبتاً عالماً، واسع الرواية، جميل السيرة، متسع الرحلة. تفرد في وقته بأشياء كثيرة عن الأصبهانيين.

وخرج. وجمع لنفسه معجماً عن أزيد من خمسمائة شيخ، وثمانيات وعوالي، وفوائد غير ذلك: واستوطن في آخر عمره حلب، وتصدر بجامعها، وصار حافظاً، والمشار إليه بعلم الحديث بها.

حدث بالكثير من قبل الستمائة، وإلى آخر عمره- وحدث عنه البرزالي. ومات قبله باثنتي عشر سنة. وسمع منه الحفاظ القدماء، كابن الأنماطى، وابن الدبيثى، وابن نقطة، وابن النجار، والصريفيني، وعمر بن الحاجب. وقال: هو أحد الرحالين أوحدهم فضلاً، وأوسعهم رحلة. نقل بخطه المليح ما لا يدخل تحت الحصر، وهو طيب الأخلاق، مرضي السيرة والطريقة، ثقة متقن حافظ.

وسئل عنه الحافظ الضياء? فقال: حافظ مفيد، صحيح الأصول. سمع وحصل الكثير، صاحب رحلة وتطواف.

وسئل الصريفيني عنه? فقال: حافظ ثقة، عالم بما يقرأ عليه. لا يكاد يفوته اسم رجل.

قال الذهبي: هو يدخل في شروط الصحيح. وقد تفرد بشيء كثير بحران وإصبهان.

روى عنه الدمياطي، وابن الظاهري، والقرافي، والدمشقي، والسيف الآمدي. وخلق. وآخر من روى عنه إجازة: زينب بنت الكمال.

توفى سحر يوم الجمعة منتصف- وقيل عاشر- جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وستمائة بحلب. ودفن بظاهرها، رحمه الله تعالى.

محمد بن عبد الله بن أبي السعادات الدباس، الفقيه الإمام، أبو عبد اللّه بن أبي بكر البغدادي، أحد أعيان فقهاء بغداد وفضلائهم: سمع الحديث من ابن شاتيل، وابن زريق البرداني، وابن كليب. وقرأ بنفسه الكثير على أصحاب ابن الحصين، وأبي بكر الأنصاري. ودرس الفقه على إسماعيل بن الحسين، صاحب أبي الفتح بن المنى.

وقرأ علم الخلاف والأصول والجدل على التوقاني، وبرع في ذلك وتقدم على أقرانه. وتكلم وهو شاب في مجالس الأئمة. واستحسنوا كلامه. وشهد عند قاضي القضاة أبي صالح. وولي الإعادة والإمامة بالحنابلة بالمستنصرية، ونظر المارستان.

قال ابن الساعي: قرأت عليه مقدمة في أصول الفقه. وكان صدوقاً نبيلاً، ورعاً متديناً، حسن الطريقة، جميل السيرة، محمود الأفعال عابداً، كثير التلاوة للقرآن، محباً للعلم ونشره، صابراً على تعليمه. لم يزل على قانون واحد، لم تعرف له صبوة من صباه إلى آخر عمره، يزور الصالحين، ويشتغل بالعلم، لطيفاً كيساً، حسن المفاكهة، يعرب كلامه، ويفخم عبارته. قَل أن يغشى أحداً، مقبلاً على ما هو بصدده. وكان لا ينسب أحداً من الأعيان ممن ينسب إلي النبوة، كابن الدامغاني، وابن الجوزي، وابن الجبير، وابن اللمغاني- بل يقول: تكلمت عند الدامغاني واجتمعت بابن الجوزي، وناظرت الحبير، وعرض على اللمغاني.

روى عنه ابن النجار في تاريخه، ووصفه بنحو ما وصفه ابن الساعي.

توفى في حادي عشرين شعبان سنة ثمان وأربعين وستمائة.

ودفن بباب حرب. وقد ناهز الثمانين. رحمه الله تعالى.

ومر ليلة بسوق المدرسة النظامية ليصلي العشاء الآخرة بالمستنصرية إماماً فخطف إنسان بقياره في الظلماء وعدا. فقال له الشيخ: على رسلك، وهبتك. قل: قبلت. وفشى خبره بذلك. فلما أصبح أُرسل إليه عدة بقايير، قيل: أحد عشر. فلم يقبل منها إلا واحداً تنزهاً. وهذا مشهور بين علماء بغداد عنه.

عبد اللطيف بن علي بن النفيس بن نوراندان بن الحسام البغدادي، المحدث المعدل، أبو محمد بن أبي الحسن بن أبي المفاخر بن أبي منصور، ويلقب نور الدين: ولد في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة.

وسمع من أبيه أبي الحسن، وأبي محمد جعفر بن محمد بن أموسان، وعبد العزيز بن منينا. وأجاز له ذاكر بن كامل.

وعني بهذا الشان. وقرأ الكثير على عمر بن كرم. ومن بعده. وكتب الكثير بخطه.

قال الذهبي في تاريخه عنه: الحافظ المفيد. كتب الكثير، وأفاد. وسمع منه الحافظ الدمياطي. وذكره في معجمه، وأجاز لسليمان بن حمزة، وأبي بكر بن عبد الدائم، وعيسى المطعم، وغيرهم. وشهد عند محمود الزنجاني.

ثم إنه امتحن لقرائته شيئاً من أحاديث الصفات بجامع القصر. فسعى به بعض المتجهمة، وحبس مديدة. وأسقطت عدالته. ثم أفرج عنه، وأعاد عدالته ابن مقبل. ثم أسقطت، ثم أعاد عدالته قاضي القضاة أبو صالح. فباشر ديوان الوكالة إلى آخر عمره.

توفي بكرة السبت ثالث عشرين ربيع الآخر- وقيل: ثامن عشرين- سنة سبع وأربعين وستمائة. وصلى عليه بمسجده في المأمونية. ودفن بباب حرب.

وكان له جمع عظيم، وشد تابوته بالحبال. وأكثر العوام الصياح في الجنازة: هذه غايات الصالحين.

قال ابن الساعي: ولم أرَ ممن كان على قاعدته فُعل في جنازته مثل ذلك. فإنه كان كهلاً يتصرف في أعمال السلطان، ويركب الخيل، ويحلى فرسه بالفضة على عادة أعيان المتصرفين.

قلت: حصل له ذلك ببركة السنة. قال الإِمام أحمد: بيننا وبينهم الجنائز.

محمد بن مقبل بن فتيان بن مطر بن المني النهرواني، البغدادي، الفقيه المعدل، أبو المظفر، وأبو عبد الله. ويلقب سيف الدين، وهو ابن أخي الِأمام أبي الفتح، شيخ المذهب: ولد في خامس رجب سنة سبع- وقيل: تسع- وستين وخمسمائة.

وقرأ بالروايات علي ابن الباقلاني بواسط. وسمع من الأسعد بن يلدرك الجبريلي، وعبد الحق اليوسفي، وشهدة الكاتبة، وأبي الغنايم عبد الرحمن بن جامع بن النبأ، وأبي الفوارس الشاعر المعروف بِحَيْصَ بَيْصَ، وغيرهم.

وتفقه على عمه ناصح الإسلام أبي الفتح. وحصل طرفاً جيداً من الفقه. وناظر في المسائل الخلافية وأفتى، وولي الإِعادة للحنابلة بالمستنصرية. وشهد عند القضاة، وولي كتابة دار التشريفات.

وكان فقيهاً فاضلاً، حسن المناظرة، متديناً مشكور الطريقة، كثير التلاوة للقران الكريم. وحدث. وأثني عليه ابن نقطة.

روى عنه ابن النجار، وابن الساعي، وعمر بن الحاجب، وبالإِجازة جماعة، آخرهم: زينب بنت الكمال المقدسية.

توفي في سابع جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وستمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب حرب. رحمه اللّه تعالى.

محمد بن سعد بن عبد الله بن سعد بن هبة اللّه بن مفلح بن نمير الأنصاري، المقدسي الأصل، الدمشقي، الكاتب الأديب: ولد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.

سمع من يحيى الثقفي، وابن صدقة الحراني، وعبد الرحمن بن الخرقي، والجيزي، وأحمد بن الموازيني، والخشوعي. وأجاز له ابن شاتيل، والقزاز، والحافظ أبو موسى، والسلفي، وأبو العباس الترك.

وكان شيخاً فاضلاً، وأديباً حسن النظم والنثر، من المعروفين بالفضل والأدب والكتابة والدين والصلاح ونظم القريض، وحسن الخط وحسن الخصال، ولطف المقال وطال عمره. ووزر للملك الصالح إسماعيل مدة.

حدث بدمشق وحلب. كتب عنه ابن الحاجب، فقال: سألت الحافظ بن عبد الواحد عنه? فقال: عالم دين. روى عنه جماعة، منهم ابنه يحمى بن محمد بن سعد، وسليمان بن حمزة، والدمياطي. قاله ابن شاكر.

وتوفى في ثاني شوال سنة خمسين وستمائة بسفح قاسيون. ودفن من الغد.

وتوفى أخوه أبو العباس أحمد في نصف ذي القعدة من السنة. روى عن الخشوعي وابن طبرزد.

علي بن عبد الرحمن البغدادي، البابصري الفقيه، أبو الحسن بن أبي الفرج. ويلقب موفق الدين: سمع مع أبيه من أبي العباس أحمد بن أبي الفتح بن صرما، وأبي بكر زيد بن يحيى بن هبة الله البيع؛ وتفقه في المذهب. وكان معيداً لطائفة الحنابلة بالمدرسة المستنصرية.

توفي في شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة. ودفن بباب حرب.

ذكره الشريف عز الدين الحسيني الحافظ. وأظنه ابن البردوي الواعظ المتقدم ذكره.

عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن عبد الله الخضر بن محمد بن علي ابن تيمية الحراني الفقيه، الإمام المقري المحدث المفسر، الأصولي النحوي، مجد الدين أبو البركات. شيخ الإسلام وفقيه الوقت، وأحد الأعلام، ابن أخي الشيخ فخر الدين محمد بن أبي القاسم السابق ذكره: ولد سنة تسعين وخمسمائة- تقريباً- بحران.

وحفظ بها القرآن. وسمع من عمه الخطيب فخر الدين، والحافظ عبد القادر الرهاوي، وحنبل الرصافي.

ثم ارتحل إلى بغداد سنة ثلاث وستمائة، مع ابن عمه سيف الدين عبد الغني المتقدم ذكره أيضاً. فسمع بها من عبد الوهاب ابن سكينة، والحافظ بن الأخضر، وابن طبرزد، وضياء بن الخريف، ويوسف بن مبارك الخفاف، وعبد العزيز بن منينا، وأحمد بن الحسن العاقولي، وعبد المولى بن أبي تمام بن باد وغيرهم. فأقام ببغداد ست سنين. يشتغل في الفقه والخلاف والعربية وغير ذلك.

ثم رجع إلى حران واشتغل بها على عمه الخطيب فخر الدين.

ثم رجع إلى بغداد سنة بضع عشرة، فازداد بها من العلوم.

قرأ ببغداد القراءات بكتاب "المبهج" لسبط الخياط علي بن عبد الواحد بن سلطان. وتفقه بها على أبي بكر بن غنيمة الحلاوي، والفخر إسماعيل، وأتقن العربية والحساب والجبر والمقابلة والفرائض علي أبي البقاء العكبري، حتى قرأ عليه كتاب "الفخري" في الجبر والمقابلة. وبرع في هذه العلوم وغيرها.

قال الحافظ الذهبي: حدثني شيخنا- يعني أبا العباس ابن تيمية شيخ الإسلام حفيد الشيخ مجد الدين هذا- أن جده رُبِّي يتيماً، وأنه سافر مع ابن عمه إلى العراق ليخدمه وبشتغل معه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فكان يبيت عنده، فيسمعه يكرر علي مسائل الخلاف، فيحفظ المسألة، فقال الفخر إسماعيل: إيش حفظ هذا الثُنين- يعني الصغير- فبدر، وقال: حفظت يا سيدي الدرس، وعرضه في الحال، فبهت فيه الفخر، وقال لابن عمه: هذا يجيء منه شيء، فعرضه على الاشتغال، قال: فشيخُه في الخلاف: الفخر إسماعيل، وعرض عليه مصنفه "جنة الناظر" وكتب له عليه سنة!ست وستمائة "وعرض علي الفقيه الإِمام العالم أوحد الفضلاء" أو نحو هذه العبارة وأخرى نحوها، وهو ابن ستة عشر عاماً.

قال الذهبي: قال لي شيخنا أبو العباس: كان الشيخ جمال الدين بن مالك يقول: ألين للشيخ المجد الفقه كما أُلين لداود الحديد.

قال: وبلغنا أن الشيخ المجد لمّا حج من بغداد في آخر عمره، واجتمع به الصاحب العلامة، محيي الدين بن الجوزي، فانبهر له، وقال: هذا الرجل ما عندنا ببغداد مثله، فلما رجع من الحج التمسوا منه أن يقيم ببغداد، فامتنع، واعتل بالأهل والوطن.

قال: وكان حجه سنة إحدى وخمسين.

وفيها حج الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، ولم يتفق اجتماعهما.

قال: وكان الشيخ نجم الدين بن حمدان مصنف "الرعاية" يقول: كنت أطالع على درس الشيخ المجد، وما أبقي ممكناً، فإذا حضرت الدرس أتى الشيخ بأشياء كثيرة لا أعرفها.

وقال ابن حمدان، في تراجم شيوخ حران: صحبته في المدرسة النورية بعد قدومي من دمشق. ولم أسمع منه شيئاً، ولم أقرأ عليه. وسمعت بقراءته على ابن عمه كثيراً. ولي التدريس والتفسير بعد ابن عمه. وكان رجلاً فاضلاً في مذهبه وغيره وجرى لي معه مباحث كثيرة، ومناظرات عديدة في حياة ابن عمه وبعده.

قلت: وجدت لابن حمدان سماعاً عليه.

وقال الحافظ عز الدين الشريف: حدث بالحجاز، والعراق، والشام، وبلده حران، وصنف ودرس. وكان من أعيان العلماء، وكابر الفضلاء ببلده. وبيته مشهور بالعلم والدين والحديث.

قال الذهبي: قال شيخنا: كان جدنا عجباً في حفظ الأحاديث وسردها بلا كلفة، وحفظ مذاهب الناس.

وقال الذهبي أيضاً: حكى البرهان المراغي: أنه اجتمع بالشيخ المجد، فأورد نكتة عليه، فقال المجد: الجواب عنها من ستين وجهاً، الأول كذا، والثاني كذا، وسردها إلى آخرها، ثم قال للبرهان: قد رضينا منك بإعادة الأجوبة، فخضع وانبهر.

قال الذهبي الحافظ: كان الشيخ مجد الدين معدوم النظير في زمانه، رأساً في الفقه وأصوله، بارعاً في الحديث ومعانيه، له اليد الطولى في معرفة القرآن والتفسير، وصنف التصانيف، واشتهر اسمه، وبَعُدَ صيته. وكان فرد زمانه في معرفة المذهب، مفرط الذكاء، متين الديانة، كبير الشأن.

قال شيخنا أبو عب الله بن القيم: حدثني أخو شيخنا عبد الرحمن بن عبد الحليم ابن تيمية- قلت: وقد أجازني عبد الرحمن هذا عن أبيه- قال: كان الجد إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب، وارفع صوتك حتى أسمع.

قلت: يشير بذلك إلى قوة حرصه على العلم وحصوله، وحفظه لأوقاته.

وللصرصري من قصيدته اللامية في مدح الإمام أحمد وأصحابه:

وإن لنا في في وقتنا وفتورنا  @@ لإخوان صدق بغية المتوصل

يذبون عن عن دين الهدى ذب ناصر @@ شديد القوى لم يستكينوا لمبطل

فمنهم بحران الفقيه النبيه ذو @@ الفوائد والتصنيف في المذهب الجلي

هو المجد ذو التقوى ابن تيمية الرضى @@   أبو البركات العالم الحجة الملي

محررة في الفقه محرر فقهنا @@ وأحكم بالأحكام علم المبجل

جزاهم خيراً ربهم عن بيهم وسنته  @@ ألو به خير موئل

 

ذكر تصانيفه

"أطراف أحاديث التفسير" رتبها على السور معزوة "أرجوزة" في علم القراءات "الأحكام الكبرى" في عدة مجلدات "المنتقي من أحاديث الأحكام" وهو الكتاب المشهور، انتقاه من الأحكام الكبرى. ويقال: إن القاضي بهاء الدين بن شداد هو الذي طلب منه ذلك بحلب "المحرر" في الفقه "منتهى الغاية في شرح الهداية" بيض منه أربع مجلدات كبار إلى أوائل الحج، والباقي لم يبيضه "مسودة" في أصول الفقه مجلد. وزاد فيها ولده، ثم حفيده أبو العباس "مسودة" في العربية على نمط المسودة في الأصول.

قرأ على الشيخ مجد الدين القراءات جماعة. وأخذ الفقه عند ولده شهاب الدين عبد الحليم، وابن تميم صاحب "المختصر" وغيرهما. وسمع منه خلق.

روى عنه ابنه شهاب الدين أبو العباس، والحافظ عبد المؤمن الدمياطي، والأمين بن شقير الحراني، وأبو إسحاق بن الظاهري الحافظ، ومحمد بن أحمد القزاز، وأحمد الدشتي، ومحمد بن زناطر، والعفيف إسحاق الآمدي، والشيخ نور الدين البصري مدرس المستنصرية، وأبو عبد اللّه بن الدواليبي.

وأجاز لتقي الدين سليمان بن حمزة الحاكم، ولزينب بنت الكمال، وأحمد بن علي الجزري. وهما خاتمة من روى عنه. وقد أجاز لي.

وتوفي يوم عيد الفطر بعد صلاة الجمعة من سنة اثنتين وخمسين وستمائة بحران. ودفن بظاهرها رحمة اللّه عليه.

وتوفيت ابنة عمه زوجته بدرة بنت فخر الدين ابن تيمية قبله بيوم واحد.

هكذا أرخ سنة وفاته الحافظ الشريف عز الدين، وابن الساعي، والذهبي وغيرهم.

وقرأت بخط حفيده أبي العباس- مما كتبه في صباه- حدثنا والدي أن أباه أبا البركات توفي بعد العصر من يوم الجمعة يوم عيد الفطر سنة ثلاث وخمسين وستمائة. ودفن بكرة السبت.

وصلَى عليه أبو الفرج عبد القاهر بن أبي محمد عبد الغني بن أبي عبد اللّه ابن تيمية، غلبهم على الصلاة عليه، ولم يبقَ في البد من لم يشهد جنازته إلا معذور. وكان الخلق كثير جداً. ودفن بمقبرة الجبانة من مقابر حران. رحمه الله.

ذكر بعض فوائده الغريبة وفتاويه

ذكر الشيخ تقي الدين رحمه اللّه: أن جده كان أحياناً يفتي: أن الطلاق الثلاث المجموعة إنما تقع واحدة فقط، وأنه كان يفتي بذلك سراً.

وذكر عنه: أنه لما حج في آخر عمره كان يفتي بأن المحرم له لبس السرموزة ونحوها من الجمجم، وألحق المقطوعة، وإن كان واجداً للنعل. وهو وجه حكاه القاضي في شرح المذهب.

وحكى أبو العباس حفيده عنه: أنه كان يقول: إذا حلف بالتزامات- كالكفر واليمين بالحج والصيام، ونحو ذلك من الإلتزامات، وكانت يمينه غموساً- أنه يلزمه ما حلف

وذكر صاحب المبهم- الشيخ عبد اللّه كتيلة- أنه حج سنة إحدى وخمسين وستمائة. قال: فسألت شيخنا- يعني الشيخ مجد الدين- بمكة على ابن السبيل إذا كان يقدر القرض، يجوز أن يأخذ من الزكاة. فقال: يلزمه أن يقترض إن قدر على ذلك، ولا يجوز له الأخذ، ولا تبرأ ذمة من يعطيه إذا علم بقدرته على الاقتراض.

قال: وسألت عن ذلك شيخنا عبد الرحمن ابن أخي الشيخ- يعني ابن أبي عمر بمنى? فقال: نعم يجوز له الأخذ من الزكاة؛ لأن كلام اللّه تعالى على إطلاقه، ولم يشترط أصحابنا عدم قدرته على الاقتراض. قال: ولأن ذمته تشتغل من قبل من له الدين. وفي ذلك ضرر يتعب قلبه، ويشتت همه، وحرصه على براءة ذمته، وخوفه أن يموت ولم يكن على يقين من قضاء دينه قبل موته. انتهى.

حسن بن أحمد بن أبي الحسن بن دويرة البصري، المقرئ الزاهد أبو علي، شيخ الحنابلة بالبصرة، ورئيسهم ومدرسهم: اشتغل عليه أمم، وختم عليه أزيد من ألف إنسان. وكان صالحاً زاهداً ورعاً.

وحدث بجامع الترمذي بإجازته من الحافظ أبي محمد بن الأخضر، فسمعه منه الشيخ نور الدين عبد الرحمن بن عمر البصري مدرس المستنصرية. وهو أحد تلامذته، وعليه ختم القرآن، وحفظ "الخرقي" عنده بمدرسته بالبصرة.

وتوفي الشيخ أبو علي اثنتين وخمسين وستمائة بالبصرة.

وولى بعده التدريس بمدرسته تلميذه الشيخ نور الدين المذكور، وخلع عليه ببغداد في تاسع عشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة.

وتوفي ابن أخي الشيخ أبي علي، واسمه:-

عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن أبي الحسن بن دويرة البصري المقرئ أبو محمد-: ببغداد يوم الثلاثاء منتصف ذي الحجة سنة تسع وأربعين وستمائة. ودفن من الغد بباب حرب. وحدث بالإجازة عن ابن منينا، وابن الأخضر أيضاً. وسمع منه الحافظ الدمياطي.

وللشيخ أبي علي الحسن ولد يسمى:-

الحسن أيضاً. ويكنى أبا محمد. ويلقب جمال الدين: سمع ببغداد متأخراً سنة إحدى وخمسين من أبي منصور بن الهبي التاجر. وكان من بيتهم علماء وصالحون من أصحابنا، حتى رأيت منهم في صباي رجلاً ببغداد. وكان معيداً بالمستنصرية. يقال له: أبو حفص عمر بن دويرة.

أبو بكر بن يوسف بن أبي بكر بن أبي الفرج بن يوسف بن هلال بن يوسف الحراني، المقرئ، الفقيه المحدث، المعروف بابن الزراد. ويلقب ناصح الدين: ولد سنة أربع عشرة وستمائة- تقديراً- بحران.

وقرأ القران الكريم بالروايات. وسمع الحديث بدمشق على أبي عمرو بن الصلاح الحافظ، وجماعة من أصحاب ابن عساكر، ويحيى الثقفي، وغيرهما.

وسمع بحلب من الحافظ يوسف بن خليل وجماعة، وتفقه في المذهب. وكتب الكثير بخطه. وكان فاضلاً متديناً. واخترمته المنية ولم يحدث مما حصل إلا بيسير.

توفي في سنة ثلاث وخمسين وستمائة بحلب. رحمه اللّه. وذكره الحافظ عز الدين الحسيني.

محمد بن أحمد بن الحسين الموصلي، المقرئ، الفقيه الأديب، شمس الدين أبو عبد الله. ويعرف بشعلة: قرأ القرآن على أبي الحسن علي بن عبد العزيز الأربلي وغيره. وتفقه. وقرأ العربية، وبرع في الأدب والقرآن، وصنف تصانيف كثيرة، ونظم الشعر الحسن.

قال الحافظ الذهبي: كان شاباً فاضلاً. ومقرئاً محققاً، ذا ذكاء مفرط، وفهم ثاقب. ومعرفة تامة بالعربية واللغة، وشعره في غاية الجودة. نظم في الفقه وفي التاريخ وغيره. ونظم كتاب "السمعة في القراءات السبعة" وكان- مع فرط ذكائه- صالحاً زاهداً متواضعاً. كان شيختا التقي المقصاتي يصف شمائله وفضله، ويثني عليه. وكان قد حضر بحوثه. وسمع أبا الحسن شيخه يقول: كان أبو عبد الله نائماً إلى جانبي فاستيقظ، وقال لي: رأيت الساعة رسول اللِّه صلى الله عليه وسلم، فطلبت منه العلم، فأطعمني تمرات. قال أبو الحسن: من ذلك الوقت فتح اللّه عليه، وتكلم.

قلت: له تصانيف كثيرة، أكثرها في القراءات "شرح الشاطبية" ونظم "عقود ابن جني" في العربية سماه "العنقود" ونظم "اختلاف عدد الآي برموز الْجُمَل" وله نظم العبادات من "الخرقي" وله كتاب "الناسخ والمنسوخ" في القرآن. وكلامه فيه يدل على تحقيقه وعلمه، وله كتاب "فضائل الأئمة الأربعة" ومن نظمه قوله:

دع عنك ذكر فـلانة وفـلان

 

واجنب لما يلهي عن الرحمن

واعلم بأن الموت يأتي بغـتة

 

وجميع ما فوق البسيطة فان

فإلـى مـتـى تـلـهـوا وقـلـبـك غـــافـــل

 

عن ذكـر يوم الـحــشـــر والـــمـــيزان?

أتـراك لـم تـك سـامـعـاً مــا قـــد أتـــى

 

في الـــنـــص لـــلآيات والـــقـــرآن.

فانـظـر بـعـين الاعـتـبــار، ولا تـــكـــن

 

ذا غـــفـــلة عـــن طـــاعة الــــديان

واقـصـد لـمـذهـب أحـمـد بـن مـحــمـــد

 

أعـنـي ابـن حـنـبـل الـفـتـى الـشـيبـانــي

فهـو الإِمـام مـقـيم دين الـمـصــطـــفـــى

 

من بـعــد درس مـــعـــالـــم الإيمـــان

أحـيا الـــهـــدى وأقـــام فـــي إحـــيائه

 

متـجـرداً لـلـضــرب، غـــير جـــبـــان

تعــلـــوه أســـياط الأعـــادي، وهـــو لا

 

ينـفـك عـن حــق إلـــى بـــهـــتـــان

ويقول عند الضرب: لست بتابع يا ويحكم، لكم بلا برهان:

ماذا أقول غداً لربي إذ أنا

 

وافـقـتـكـم فـي الـزور والـبــهـــتـــان.

وعـدلـت عـن قـول الـنـبـي وصـحـــبـــه

 

وجـمـيع مـن تـبـعـوه بـــالإِحـــســـان

أتـرون أنـي خـائف مــن ضـــربـــكـــم

 

لا، والإِلــه الـــواحـــد الـــمـــنـــان

كن حـنـبـلـياً مـا حـــييت فـــإنـــنـــي

 

أوصـــيك خـــير وصـــية الإخـــــوان

ولـقـد نـصـحـتـك إن قـبـلـت، فـأحـمـــد

 

زين الـثـقـــات وســـيد الـــفـــتـــيان

من ذا أقـام كـمــا أقـــام إمـــامـــنـــا

 

متـجــرداً مـــن غـــير مـــا أعـــوان

مسـتـعـذبـاً لـلـمـرّ مـن نـصـر الـهـــدى

 

متـجـرعـاً لـغـضـاضة الـســلـــطـــان

وسـلا بـمـهــجـــتـــه وبـــايع ربـــه

 

أن لا يطـــيع أئمة الــــــعـــــــدوان

وأقـام تـحـت الـضـرب، حـــتـــى إنـــه

 

دحـض الـضـلال وفـتــنة الـــفـــتـــان

وأتـى بـرمـح الـحـق يطـعـن فـي الـعـــدى

 

أهـل الـضـلال وشـيعة الـســـلـــطـــان

ماذا لـقـي مـا قــد لـــقـــيه مـــن الأذى

 

في ربـه مـن ســاكـــن الـــبـــلـــدان

فعـلـى ابـن حـنـبـل الـسـلام وصـحــبـــه

 

ما نـاحـت الـورقـاء فـــي الأغـــصـــان

إنـي لأرجـــو أن أفـــوز بـــحـــبـــه

 

وأنـال فـي بـعـثـي رضـى الـرحـــمـــن

حمـداً لـــربـــي إذ هـــدانـــي دينـــه

 

وعـلـى شـريعة أحـمــد أنـــشـــأنـــي

واخـتـار مـذهـب أحـمـد لـي مـذهـــبـــاً

 

ومـن الـهـوى والـغـيّ قـد أنــجـــانـــي

من ذا يقـوم مـن الـعـبـاد بـشــكـــر مـــا

 

أولاه ســـيده مـــن الإحـــســـــــان

قال الذهبي: توفى في صفر سنة ست وخمسين وستمائة بالموصل. وله ثلاث وثلاثون سنة. رحمه الله تعالى.

وقرأت على بعض شيوخنا ببغداد: أنه توفي سنة خمسين. واللّه أعلم.

يوسف بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حماد بن الجوزي، القرشي التيمي، البكري، البغدادي، الفقيه الأصولي، الواعظ الصاحب الشهير، محي الدين، أبو محمد، وأبو المحاسن، ابن الشيخ جمال الدين أبي الفرج المتقدم ذكره، أستاذ دار الخلافة المستعصمية.

ولد في ليلة سابع عشر ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة ببغداد.

وسمع بها من أبيه، ويحمى بن بوش، وذاكر بن كامل، وابن كليب، وأبي منصور عبد اللّه بن محمد بن عبد السلام، وابن المغطوش، وأبي الحسن بن محمد بن يعيش. وقرأ القرآن بالروايات العشر على ابن الباقلاني بواسط، وقد جاوز العشر سنين من عمره، ولبس الخرقة من الشيخ ضياء الدين عبد الوهاب ابن سكينة.

واشتغل بالفقه والخلاف والأصول، وبرع في ذلك. وكان أمهر فيه من أبيه ووعظ في صغره على قاعدة أبيه، وعلا أمره وعظم شأنه، وولي الولايات الجليلة.

قال ابن الساعي: شهد عند ابن الدامغاني سنة أربع وستمائة. ثم ولي الحسبة بجانبي بغداد، والنظر في الوقوف العامة، ووقوف جامع السلطان، ثم عزل عن الحسبة، ثم الوقوف سنة تسع، فانقطع في داره يعظ، ويفتي ويدرس، ثم أعيد إلى الحسبة سنة خمس عشرة، واستمر مدة ولاية المناصر. ثم أقره ابنه الظاهر.

قال: وهو من العلماء الأفاضل، والكبراء الأماثل، أحد أعلام العلم، ومشاهير الفضل. ظهرت عليه آثار العناية الإلهية، منذ كان طفلاً. فعنى به والده. وأسمعه الحديث، ودربه من صغره في الوعظ، وبورك له في ذلك. وصار له قبول تام، وبانت عليه آثار السعادة.

وتوفى والده وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة، فكفلته الجهة والده الإمام الناصر وتقدمت له بالجلوس للوعظ على عادة والده عند تربتها، بعد أن خلعت عليه. فتكلم بما بهر به الحاضرين، ولم يزل في تَرقّ من حاله، وغلُوٌ من شأنه يذكر الدروس فقهاً ويواصل الجلوس وعظاً عند التربة المذكورة، وبباب بدر. وكان يورد من نظمه كل أسبوع قصيدة في مدح الخليفة، فحظى عنده، وولاه ما تقدم، وأذن له في الدخول إلى ولي عهده. ثم أوصى الناصر عند موته أن يغسله.

وقال أيضاً: كان كامل الفضائل، معدوم الرذائل، أمر الناصر بقبول "شهادته وقلد الحسبة بجانبي بغداد، وله ثلاث وعشرون سنة، وكتب له الناصر على رأس توقيعه بالحسبة: حُسْن السمت، ولزوم الصمت: أكسباك يا يوسف، مع حداثة سنك- ما لم يترق إليه هِمَمُ أمثالك. فدُمْ على ما أنت بصدده. ومَن بورك له فيّ بشيء فليلزمه. والسلام.

ثم روسل به إلى ملوك الأطراف، فاكتسب مالاً كثيراً، وأنشأ مدرسة بدمشق، ووقف عليها وقوفاً متوفرة الحاصل. وأنشأ ببغداد بمحلة الحلبة مدرسة لم تتم، وبمحلة الحربية دار قرآن ومدفناً. ثم ولي التدريس بالمستنصرية. ثم ولي أستاذ دارية الدار، فلم يزر كذلك إلى أن قتل صبراً شهيداً بسيف الكفار عند دخول هولاكو ملك التتار إلى بغداد، فقتل الخليفة المستعصم باللّه وأكثر أولاده، وقتل معه أعيان الدولة والأمراء وشيخ الشيوخ وأكابر العلماء. وقتل أستاذ الدار محيي الدين وأولاده الثلاثة، وذلك في صفر سنة ست وخمسين وستمائة بظاهر سور كلوذا، رحمة اللّه عليهم.

كان المستنصر له شباك على إيوان الحنابلة يسمع الدرس منهم دون غيرهم وأثره باق.

قال الشريف عز الدين: كان أحد صدور الإسلام، وفضلائهم وأكابرهم، وأجلائهم من بيت الرواية والدراية.

وحدث ببغداد وبمصر، وغيرهما من البلاد.

وذكره الدبيثي في تاريخه- وقد مات قبله بمدة- وقال: فاضل عالم، فقيه على مذهب أحمد. له معرفة بالوعظ. وجلس للوعظ بعد وفاة أبيه، ودرس وناظر؛ وتولى الحسبة بجانبي بغداد، والنظر في الوقف العام.

وقال الحافظ الذهبي: كان إماماً كبيراً، وصدراً معظماً، عارفاً بالمذهب كثير المحفوظ، ذا سمت ووقار. درس، وأفتى وصنف. وأما رياسته وعقله: فينقل بالتواتر، حتى إن الملك الكامل- مع عظم سلطانه- قال: كان أحد يعوزه زيادة عقل "محيي الدين بن الجوزي. فإنه يعوزه نقص عقل.

ويحكى عنه في هذا عجائب، منها: أنه مر في سويقة باب البريد والناس بين يديه، وهو راكب البغلة، فسقط حانوت، فضج الناس وصاحوا، وسقطت خشبة، فأصابت كفل بغلته، فلم يلتفت، ولا تغير عن هيئته.

وحكى عنه: أنه كان يناظر، ولا يحرك له جارحة.

وكانت خاتمة سعادته الشهادة. رضي الله عنه.

قال الشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش: بلغني عن الشيخ محمد بن سكران الزاهد المشهور، أنه قال: رأيت أستاذ الدار ابن الجوزي في النوم، فقلت له: ما فعل الله بك? قال: كفرت ذنوبنا سيوفُهم رضي اللّه عنه.

وله تصانيف عدة، منها "معادن الأبريز، في تفسير الكتاب العزيز" ومنها "المذهب الأحمد في مذهب أحمد"، ومنها "الإيضاح في الجدل".

وسمع منه خلق ببغداد، ودمشق، ومصر.

وروى عنه عبد الصمد بن أبي الجيش، والحافظ أبو عبد الله محمد بن الكسار، والدمياطي، وابن الظاهري، وأبو الفضل عبد الرزاق بن الفوطي، وبالإجازة خلق، آخرهم: زينب بنت الكمال المقدسي.

ومن نظمه: ما أنشدني عنه ابن الساير، وأنبأتناه زينب بنت أحمد عنه:

صب له من حيا آمـاقـه غـرق

 

وفي حشاشته من وجـده حـرق

فاعجب لضدين في حال قد اجتمعا

 

غريق دمع بنار الوجد يحـتـرق

لم أنس عيشاً على سلع ولعلـهـا

 

والبان مفترق وجداً ومعـتـنـق

ونفحة الشيخ تأتينـا مـعـنـبـرة

 

وعرفها بمعاني المنحنى عـبـق

والقلب طير، له الأشواق أجنـحة

 

إلى الحبيب، رياح الحب تختـرق

قل للحمى بالربى واعن الحلول بها

 

ما ضرهم بجريح القلب لو رفقوا

وقد بقي رمق منه، فإن هجـروا

 

مضى كما مر أمس ذلك الرمـق

وله قصيدة طويلة مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم، أولها:

قد زلزلت أرض الهوى زلزالها

 

وقال سلطان الغرام: ما لهـا?

وأما أولاده الثلاثة الذين قتلوا معه رضي الله عنهم فأحدهم: الشيخ.

جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن: وكان فاضلاً بارعاً. درس بالمستنصرية لما ولي أبوه الأستاذ دارية، وولي حسبة بغداد أيضاً.

وكان يعظ مكان أبيه وجده بباب بدر وغيره. ويقال: إن له تصانيف. وقتل وقد جاوز الخمسين سنة. رحمه الله تعالى، لأن مولده كان سنة ست وستمائة.

وقد سمع من عبد العزيز بن منينا، وأحمد بن صرما، وغيرهما.

وترسل به عن الديوان إلى مصر. وكان رئيساً معظماً.

وحدث ببغداد ومصر. وخرج له الرشيد العطار بمصر جزءاً. وحدث.

سمع منه عبيد الأسعردي، وسمع منه الشرف الميمومي، وأجاز لأبي عبد الله أحمد الحراني، وسليمان بن حمزة القاضي، وله نظم حسن، وله ديوان، حدث ببغداد. ومن شعره:

فضل النبيين الرسول محمـد

 

شرفاً يزيد، وزادهم تعظيماً

يكفيه أن الله جـل جـلالـه

 

آوى، فقال: "ألم يجدك يتيماً"

در يتيم في الفخار، وإنـمـا

 

خير اللآلئ ما يكون يتيمـا

ولقد سما الرسل الكرام فكلهم

 

قد سلموا لجلاله تسلـيمـا

والله شد صلَّى عليه كـرامة

 

صلوا عليه وسلموا تسليمـا

صلى الله عليه وسلم. والثاني:-

شرف الدين عبد الله: ولي الحسبة أيضاً، ثم تزهد ودرس بالبشيرية، وولي ولايات ديوانية.

وكان المستعصم بعثه بخطه إلى هولاكو، وعاد إلى بغداد، ثم قتل مع أبيه عند وصول هولاكو. والثالث:-

تاج الدين عبد الكريم: ولي الحسبة أيضاً لما تركها أخوه، ودرس بالمدرسة الشاطبية، وقتل ولم يبلغ عشرين سنة، رحمة الله عليهم أجمعين.

يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعمر بن عبد السلام الأنصاري الصرصري، الرْريراني، الضرير الفقيه، الأديب اللغوي الشاعر الزاهد جمال الدين، أبو زكريا، شاعر العصر، وصاحب الديوان السائر في الناس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، كان حسان وقته: ولد في سنة ثمان وثماني وخمسمائة.

وقرأ القرآن بالروايات على أصحاب ابن عساكر البطايحي، وسمع الحديث من الشيخ علي بن إدريس اليعقوبي الزاهد، صاحب الشيخ عبد القادر، وصحبه وسلك به، ولبس منه الخرقة. وأجاز له الشيخ عبد المغيث الحربي وغيره، وحفظ الفقه واللغة. ويقال: إنه كان يحفظ "صحاح الجوهري" بكماله.

وكان يتوقد ذكاء، ونظمه في الغاية، ويقال: إن مدائحه في النبي صلى الله عليه وسلم تبلغ عشرين مجلداً.

وقد نظم في الفقه "مختصر الخرقي" ونظم "زوائد الكافي" على الخرقي، ونظم في العربية، وفي فنون شتى.

وكان صالحاً قدوة، عظيم الاجتهاد، كثير التلاوة، عفيفاً صبوراً قنوعاً، محباً لطريقة الفقراء ومخالطتهم. وكان يحضر معهم السماع، ويرخص في ذلك. وكان شديداً في السنة، منحرفاً على المخالفين لها. وشعره مملوء بذكر أصول السنة، ومدح أهلها، وذع مخالفيها. وله قصيدة طويلة لامية في مدح الإِمام أحمد وأصحابه. وقد ذكرنا بعضها مفرقاً في تراجم بعض الأصحاب الذين ذكرهم فيها.

وكان قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وبشره بالموت على السنة، ونظم في ذلك قصيدة طويلة معروفة. وقد حدث.

وسمع منه الحافظ الدمياطي، وذكره في معجمه، وعلي بن حصين الفخري. وأجاز للقاضي سليمان بن حمزة، وأحمد بن علي الجزري، وزينب بنت الكمال.

ولما دخل هولاكو وجنده الكفار إلى بغداد كان الشيخ يحمى بها. فلما دخلوا عليه قاتلهم. ويقال: إنه قتل منهم بعكازه. ثم قتلوه شهيداً رضي الله عنه سنة ست وخمسين وستمائة برباط الشيخ علي الخباز بالعقبة، وحمل إلى صرصر فدفن بها. وزرت قبره بها حين توجهنا إلى الحجاز سنة تسع وأربعين وسبعمائة.

وممن قتل في تلك السنة ببغداد من أصحابنا الصالحين: الشيخ الزاهد العابد أبو الحسن:-

علي بن سليمان بن أبي العز الخباز: وكان زاهداً صالحاً؛ كبير القدر قدوة. له أتباع ومريدون. وله زاوية ببغداد، وأحوال وكرامات.

قال الذهبي: كان شيخنا الدباهي يصفه ويعظمه. وكان قد سمع من الشيخ علي بن أبي بكر بن إدريس اليعقوبي الزاهد أيضاً. وحدث عنه.

وسمع منه الدمياطي، وحدث عنه في معجمه، وقال: قتل شهيداً في وقعة التَتَر في محرم سنة ست وخمسين وستمائة. ويقال: إنه ألقي على باب زاويته على مزبلة ثلاثة أيام، حتى أكلت الكلاب من لحمه، وأنه كان قد أخبر عن نفسه بذلك في حياته رضي الله عنه.

وكان المستنصر باللّه يزوره، ويرسل الشيخ محمد الركاب دار يأتيه من خبزه فيستشفي به، وعمر بن البعلا التاجر في رباطه ولازمه.

عبد الرحمن بن رزين بن عبد العزيز بن نصر بن عبيد بن علي بن أبي الجيش الغساني، الحواري الحواراني، ثم الدمشقي، الفقيه سيف الدين أبو الفرج: سمع بدمشق من أبي العباس أحمد بن سلامة النجار الحراني، وببغداد من أبي المظفر محمد بن مقبل بن المنى. وكان فقيهاً فاضلاً.

صنف تصانيف، منها: كتاب "التهذيب" في اختصار "المغني" في مجلدين. وسمي فيه الشيخ موفق الدين شيخنا، ولعله اشتغل عليه. ومنها "اختصار الهداية" واختصم أيضاً، وله تعليقة. في الخلاف مختصرة. وتصانيفه غير محررة.

وكان يصاحب أستاذ الدار ابن الجوزي ويلازمه، وتوكل له في بناء مدرسة بدمشق، ثم ذهب إلى بغداد لأجل رفع حسابها إليه. وكان بها سنة مست وخمسين. فقتل شهيداً بسيف التتار. رحمه الله تعالى.

عبد القاهر بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبد العزيز الفوطي البغدادي الأديب، موفق الدين أبو محمد.

قال ابن الساعي: كان إماماً ثقة، أديباً فاضلاً، حافظاَ للقرآن، قيماً بعلم العربية واللغة والنجوم، كاتباً شاعراً صاحب أمثال. وكان فقيراً ذا عيال. ولم يوافق نفسه على خيانة. ولي كتابة ديوان العرض.

قتل صبراً في الواقعة ببغداد سنة ست وخمسين وستمائة، وقد بلغ ستين سنة. رحمه اللّه تعالى.

سمعت أبا العباس أحمد بن علي بن عبد القاهر بن الفوطي- ببغداد- سنة ثمان وأربعين، أو سنة تسع يقول- وكتبه لنا بخطه- لما توفي العلامة أبو الفضائل الحسن بن محمد الصنعاني اللغوي ببغداد رضي الله عنه: أوصى أن يحمل إلى مكة ليدفن بها. فلما حمل عمل جدي موفق الدين عبد القاهر بن الفوطي فيه ارتجالاً وكان ممن قرأ عليه الأدب:

أقول، والشمل في ذيل النـأي عـثـراً

 

يوم الوداع، ودمع العـين قـد كـثـرا

أبا الفضـائل قـد زودتـنـي أسـفـاً

 

أضعاف ما زدت قدري في الورى أثرا

قد كنت تودع سمعي الدر منتـظـمـا

 

فخذه من جفن عيني اليوم منـتـثـرا

هكذا أنبأنا بها شيخنا منقطعة. فإنه لم يدرك جده.

محمد بن نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر بن أبي صالح، الجيلي البغدادي، الفقيه الزاهد، محيي الدين أبو نصر. قاضي القضاة، عماد الدين أبو صالح: وقد سبق ذكر آبائه. سمع من والده، ومن الحسين بن علي المرتضى العلوي، وأبي إسحاق يوسف بن أبي حامد محمد بن أبي الفضل الأرموي، وعبد العظيم بن عبد اللطيف بن أبي نصر الأصبهاني، وابن المشتري، وغيرهم.

وطلب بنفسه، وقرأ وتفقه. وكان عالماً ورعاً زاهداً، يدرس بمدرسة جده، ويلازم الاشتغال بالعلم إلى أن توفي.

ولما ولي أبوه قضاء القضاة: ولاه القضاء والحكم بدار الخلافة. فجلس في مجلس الحكم مجلساً واحداً وحكم، ثم عزل نفسه ونهض إلى مدرستهم بباب الأزج. ونم يعد إلى ذلك تنزهاً عن القضاء وتورعاً.

وحدث: وسمع منه الحافظ الدمياطي، وذكره في معجمه. وذكر ابن الدواليبي: أنه سمع عليه.

توفي ليلة الاثنين ثاني عشر شوال سنة ست وخمسين وستمائة ببغداد. ودفن إلى جنب جده الشيخ عبد القادر بمدرسته رحمه الله. وكانت وفاته بعد انقضاء الواقعة.

وقد روى الدمياطي أيضاً في المعجم عن أخيه يحيى بن نصر بن عبد الرزاق الفقيه الواعظ عن أحمد بن صرما، ولم يذكر وفاته.

عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة بن سلطان بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر، المقدسي النابلسي، الفقيه المحدث، جمال الدين أبو الفرج: و!د يوم عاشوراء سنة أربع وتسعين وخمسمائة.

وسمع بالقدس من أبي عبد اللّه بق البناء، وحدث بنابلس.

قال الشريف عز الدين: كان له سعة، وفيه فضل.

توفي في ذي القعدة سنة ست، وخمسين وستمائة بنابلس. رحمه اللّه تعالى.

أنبأني البرزالي- ونقلته من خطه- قال: أنبأني الإِمام العالم جمال الدين عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة، وأنشدني لنفسه:

يا طالباً علم خير العلم مجـتـهـداً

 

علم الحديث تحوز اليمن والرشـدا

ما في العلوم له مثـل يمـاثـلـه

 

فاطلبه مقتصداً، تسعـد بـه أبـدا

فالفقه يبنى عليه، حـيث كـان إذ

 

الأحكام مأخذها مـنـه إذا وجـدا

وكيف لا? وهو لولاه لما اتضحت

 

سبل الرشاد، ولا بان الزمان هدى

وأهله خير أهل العـلـم قـاطـبة

 

فكن محباً لهم كيما تـفـوز غـدا

ترى سواهم إذا جاء الحديث لـمـا

 

قالوه متبعاً مـا تـبـسـطـن يدا

أو كان متناً تراهم راجعـين إلـى

 

أقوالهم، وكذا إن أسنـدوا سـنـدا

لولاهم زاد قوم في الشـريعة مـا

 

شاءوا، ولكن حماها كونهم أسـدا

هل يستوي من نأى عن أرضه طلبا

 

لها، وآخر عن تحصيلها قـعـدا?

شتان بين امرئٍ ثاوٍ بـمـوطـنـه

 

وبين من كان عن أوطانه بـعـدا

ومن ضرورة تفضيل الحديث على

 

سواه: أن لا يرى شبهاً لهم أحـدا

شانيهم لا لقيت الدهر مـحـمـدة

 

ولا وُقيت مصابـاٌ لا ولا فـنـدا

وفي ذي الحجة من هذه السنة توفي من أصحابنا خطيب مردا الفقيه المسند المعمر:-

أبو عبد اللِّه محمد بن إسماعيل بن أحمد بن أبي الفتح المقدسي عن تسعين سنة: حدث عن يحيى الثقفي، وابن صدقة الحراني، والبوصيري، وإسماعيل بن ياسين. وله مشيخة، وحدث بالكثير.

وأبو المعالي وأبو اليمن سعد، ويسمى:-

محمد بن عبد الوهاب بن عبد الكافي بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد الحنبلي: الواعظ ببلبيس. ودفن بها، سمع من يحيى الثقفي. وأجاز له أبو موسى المديني، وأبو العباس الترك، وغيرها. وخرج له أبو حامد بن الصبوني مشيخة. وحدث. وكان مولده سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بدمشق.

إبراهيم بن محاسن بن عبد الملك بن علي بن نجا، التنوخي الحموي ثم الدمشقي، الأديب الكاتب، نجم الدين أبو إسحاق، وأبو طاهر بن الشيخ ضياء الدين: وقد سبق ذكر أبيه. سمع من ابنِ طبرزد، والكندي، وأبي الفتوح البكري، وحدث.

وكان أديباً. وله نظم حسن.

توفي في العشر الأواخر من المحرم سنة سجع وخمسين وستمائة بتل ناشر من أعمال حلب. ودفن به. رحمه اللّه تعالى.

وفي نصف صفر من هذه السنة توفي الشيخ:-

مجد الدين أبو العباس أحمد بن علي بن أبي غالب الأربلي النحوي الحنبلي، المعدل بدمشق: سمع بأربل من محمد بن هبة اللّه بن الكرم الصوفي، وسكن دمشق. وحدث بها، واشتغل مدة في العربية بالجامع.

قرأ عليه جماعة من الأصحاب وغيرهم، منهم الفخر البعلبكي، والتاج الفزاري وابن الفركاح.

وفي تاسع عشر رمضان من هذه السنة: توفي الرئيس صدر الدين:-

أبو الفتح أسعد بن عثمان بن أسعد بن المنجا. التنوخي الدمشقي: واقف المدرسة الصدرية بدمشق. ودفن بها. وقد سبق ذكر أبيه وجده.

ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة بدمشق، وسمع بها من حنبل، وابن طبرزد. وحدث. وكان أحد المعدلين ذوي الأموال والثروة والصدقات. وولي نظر الجامع مدة. وثمر له أموالاً كثيرة، واستجد في ولايته أموراً.

عبد الله بن أحمد بن أبي بمر محمد بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور بن عبد الرحمن، الأنصاري السعدي، المقدسي ثم الصالحي، المحدث الرحال الحافظ، محب الدين أبو محمد، مفيد الجبل: سمع بدمشق من الشيخ الموفق، وابن البني، وابن الزبيدي، وخلق.

ورحل إِلى بغداد. وسمع بها من عبد اللطيف بن القبيطي، وعلي بن أبي الفخار، وعبد الملك بن قينا، وفضل اللّه الجبلي، وإبراهيم بن الخير، وأبي المظفر بن المنى، وخلق من هذه الطبقة، وعني بالحديث أتم عناية وأكثر السماع والكتابة، وحدث.

توفي في ثاني عشرين جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وستمائة. وله أربعون سنة. رحمه الله تعالى.

محمد بن أحمد بن عبد اللّه بن عيسى بن أبي الرجال أحمد بن علي اليونيني البعلبكي، الشيخ الفقيه المحدث الحافظ، الزاهد العارف الرباني، تقي الدين أبو عبد الله بن أبي الحسين: أحد الأعلام وشيوخ الإسلام. ولد في سادس رجب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بيونين من قرى بعلبك.

ونشأ يتيماً بدمشق، فأقعدته أمه في صنعة النشاب، ثم حفظ القرآن.

وسمع الحديث من أبي طاهر الخشوعي، وأبي التمام القلانسي، وحنبل المكبر، وأبي اليمن الكندي، والحافظ عبد الغني وغيرهم. وتفقه بالشيخ موفق الدين.

وأخذ الحديث عنَ الحافظ عبد الغني، والعربية عن أبي اليمن الكندي وبرع في الخط المنسوب، ولبس خرقة التصوف من الشيخ عبد اللّه البطايحي صاحب الشيخ عبد القادر. ولزم خدمة الشيخ عبد الله اليونيني الزاهد، صاحب الأحوال والكرامات الذي يقال له: أسد الشام، وانتفع به.

وكان الشيخ عبد اللّه- هذا- يثني على الشيخ الفقيه ويقدمه، ويقتدي به في الفتاوى.

وكذلك كان شيخه الحافظ عبد الغني يثني عليه. وبرع في الحديث وحفظ فيه الكتب الكبار حفظاً متقناً "كالجمع بين الصحيحين" للحميدي "وصحيح مسلم".

قال ولده قطب الدين موسى صاحب التاريخ: حفظ والدي "الجمع بين الصحيحين"، وأكثر "المسند". يعني مسند الإمام أحمد. وحفظ "صحيح مسلم" في أربعة أشهر. وحفظ سورة الأنعام في يوم واحد، وحفظ ثلاث مقامات من الحريرية في بعض يوم.

وذكره عمر بن الحاجب الحافظ، فأطنب في وصفه وأسهب، وقال: اشتغل بالفقه والحديث، إلى أن صار إماماً حافظاً- إلى أن قال: ولم يرَ في زمانه مثل نفسه في كماله وبراعته، وجمع بين علميّ الشريعة والحقيقة.

وكان حسن الخلْق والخُلق، نَفَّاعاً للخلق، مطرحاً للتكلف. من جملة محفوظة "الجمع بين الصحيحين" وحدثني أنه حفظ "صحيح مسلم" جميعه، وكرر عليه في أربعة أشهر.

وكان يكرر على أكثر."مسند" أحمد من حفظه. وأنه كان يحفظ في الجلسة الواحدة ما يزيد على سبعين حديثاً.

وقال الحافظ عز الدين الحسيني: هو أحد المشايخ المشهورين، الجامعين بين العلم والدين. وكان حفظ كثيراً من الحديث النبوي، مشهوراً بذلك. انتهى.

وكان حريصاً على سماع الحديث وقراءته، مع علو سنه، وعظم شأنه. وكان أهل بعلبك يسمعون بقراءته على المشايخ الواردين عليهم، كالقزويني، وبهاء الدين المقدسي، وابن رواحة الحموي، وغيرهم.

وكان ذا أحوال وكرامات، وأوراد وعبادات. لا يخل بها، ولا يؤخرها عن وقتها لورود أحد عليه، ولو كان من الملوك. وكان لا يرى إظهار المحرامات، ويقول: كما أوجب الله على الأنبياء إظهار المعجزات أوجب على الأولياء إخفاء الكرامات، ويروى عن الشيخ عثمان شيخ دير ناعس- وكان من أهل الأحوال- قال: قَطَبَ الشيخ الفقيه ثمان عشرة سنة.

وكان له- رحمه الله- منزلة عالية عند الملوك، ويحترمونه احتراماً زائداً، حتى كان مرة بقلعة دمشق في سماع البخاري، عند الملك الأشرف. فقام الشيخ الفقيه مرة يتوضأ. فقام السلطان ونفض تخفيفته لما فرغ الشيخ من الوضوء، وقدمها إليه ليتنشف بها، أو ليطأ عليها برجله، وحلف أنها طاهرة. وأنه لا بد أن يفعل ذلك.

قال الحافظ الذهبي: حدثني بذلك شيخنا أبو الحسين بن اليونيني، أو ابن الشيخ الفقيه. قال الحافظ: والشك مني.

قال: وسار الملك الأشرف إلى بعلبك مرة، فبدأ قبل كل شيء، فأتى دار الشيخ الفقيه، ونزل فدق الباب، فقيل: من ذا? قال: موسى.

قال: ولما قدم الملك الكامل على أخيه الأشرف جعل الأشرف يذكر للكامل محاسن الشيخ الفقيه. فقال: أشتهي أن أراه. فأرسل إليه إلى بعلبك بطاقة فاستحضره، فوصل إلى دمشق. فنزل الكامل إليه، وتحادثا بدار السعادة، وتذاكرا شيئاً من العلم.

فذكروا مسألة القتل بالمثقل، وجرى ذكر حديث "الجارية التي قتلها اليهودي، فرض رأسها بين حجرين، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله"، فقال الملك الكامل: إنه لم يعترف. فقال الشيخ الفقيه: في صحيح مسلم "فاعترف" فقال الكامل: أنا اختصرت صحيح مسلم، ولم أجد هذا فيه. فقال: بلى، فأرسل الكامل، فأحضر اختصاره لمسلم في خمس مجلدات. فأخذ الكامل مجلداً، والأشرف آخر، وعماد الدين بن موسك آخر. وأخذ الشيخ الفقيه مجلداً، فأول ما فتحه: وجد الحديث، كما قال، فتعجب الكامل من سرعة استحضاره، وسرعة كشفه. وأراد أن يأخذه معه إلى الديار المصرية. فأرسله الأشرف سريعاً إلى بعلبك. فقال للكامل: إنه لا يؤثر ببعلبك شيئاً. فأرسل الكامل إليه ذهباً كثيراً.

وقال ولده قطب الدين موسى: كان واللي يقبل بر الملوك، ويقو!: أنا لي في بيت المال أكثر من هذا، ولا يقبل من الأمراء ولا الوزراء شيئاً، إلا أن يكون هدية مأكول ونحوه. ويرسل إليهم شيئاً من ذلك، فيقبلونه على سبيل التبرك والاستشفاء.

وذكر أنه أثرى وكثر ماله، وأن الأشرف كتب له كتاباً بقرية يُونين. فأعطاه لمحيي الدين بن الجوزي ليأخذ عليه خط الخليفة. فلما شعر الشيخ بذلك أخذ الكتاب ومزقه. وقال: أنا في غنية عن ذلك.

قال: وكان والدي لا يقبل شيئاً من الصدقة. ويزعم أنه من فرية جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي اللّه عنهم.

قال: وكان قبل ذلك فقيراً لا مال له.

وكان للشيخ عبد اللّه زوجهّ لها ابنة جميلة. فكان الشيخ عبد الله يقول لها: زوجيها من الشيخ محمد، فتقول له: إنه فقير، وأنا أحب أن تكون ابنتي سعيدة. فيقول: كأني أراه وإياها في دار، وفيها بركة، وله رزق كثير، والملوك يترددون إلى زيارته. فزوجتها منه. فكان الأمر كذلك. وكانت أول زوجاته. وكانت الملوك كلهم يحترمونه ويعظمونه. بنو العادل وغيرهم. وكذلك مشايخ العلماء، كابن الصلاح، وابن عبد السلام، وابن الحاجب، والحصري. والقضاة، كابن سناء الدولة، وابن الجوزي، وغيرهم.

وكان الناس ينتفعون بعلومه وفنونه، ويتلقون عنه الطريق الحسنة.

وكان عظيم الهيبة، منور الشيبة، مليح الصورة، ضخماً، حسن السمت والوقار.

وكان يلبس قَبَعاً صوفه إلى الخارج، على طريقة شيخه الشيخ عبد الله. وكان كثير الافتداء به، والطاعة له.

حكى مرة: أنه كان قد عزم على الرحلة إلى حران، قال: وكان قد بلغني أن بها رجلاً يعرف علم الفرائض جيداً. فلما كانت الليلة التي أريد في صبحتها أن أسافر: جاءتني رسالة الشيخ عبد الله اليونيني. فعزم على إلى القدس الشريف. فكأني كرهت ذلك، وفتحت المصحف، فطلع قوله تعالى: "اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون" "يسَ: 21"، فال: فخرجت معه إلى القدس. فوجدت ذلك الحراني بالقدس. فأخذت عنه علم الفرائض، حتى خيل إليّ أني قد صرت أبرع منه فيه.

وقد وقع بين الشيخ وبين أبي شامة الشافعي منازعة في الكلام على حديث الإسراء.

وصنف كل منهما في ذلك شيئاً. وحدث الشيخ بالكثير.

وروى عنه ابناه: أبو الحسين الحافظ، والقطب المؤرخ، وأبو عبد الله بن الفتح، وإبراهيم بن حاتم البعلي الزاهد، ومحمد بن المحب، وأبو عبد الله بن الزراد وإبراهيم بن القُرشِية البعلي، خاتمة أصحابه بالسماع. وبالإِجازة: زينب بنت الكمال، وغيرها.

وتوفي ليلة تاسع عشر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة ببعلبك. ودفن عند شيخه عبد اللّه اليونيني رحمة الله عليهما.

حسن بن عبد اللّه بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، الصالحي الفقيه، شرف الدين، أو محمد بن الحافظ أبي موسى بن الحافظ أبي محمد: ولد سنة خمس وستمائة. وسمع الكثير من أبي اليُمْن الكندي، وجماعة بعده.

وتفقه على الشيخ الموفق، وبرع وأفتى، وعرس بالجوزية مدة.

قال أبو شامة: كان رجلاً خيراً.

توفي ليلة ثامن المحرم سنة تسع وخمسين وستمائة بدمشق. ودفن بالجبل.

وفي رابع عشر رجب من السنة: توفي الشيخ الصالح أبو العباس:-

أحمد بن أبي الثناء حامد بن أحمد بن حمد بن حامد بن مفرح بن غياث الأنصاري الأرتاحي، المصري المقرئ الحنبلي، بمصر. ودفن بسفح المقطم: ولد سنة أربع وسبعين وخمسمائة.

وقرأ بالروايات على والده. وسمع ممن جده لأمه أبي عبد الله محمد بن أحمد الأرتاحي، والبوصيري، وإسماعيل بن ياسين، وأبي الحسن بن نجا، والحافظ عبد الغني ولازمه. وأكثر عنه. وكتب عنه بعض تصانيفه. وتصدر بالجامع العتيق. وأقرأ القرآن وانتفع به جماعة. وكان خيراً صالحاً. وأبوه:-

أبو الثناء قرأ: بالروايات على أبي الجود وغيره. وسمع بمصر من أبي عبد الله محمد بن الحسين البرمكي، وبمكة من المبارك بن الطباخ. وتصدر للإقراء بالجامع العتيق وغيره. وحدث وأفاد، وانتفع به جماعة.

قرأ عليه بالسبع: الحافظ المنذري وغيره. وكان حسن الأداء والصوت ذا مروءة وتفقد لإِخوانه.

توفي في صفر سنة اثني عشرة وستمائة بمصر.

وكان مولده سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة

أبي الهيجاء الرسعني، الفقيه المحدث المفسر، عز الدين، أبو محمد: ولد سنة تسع وثمانين وخمسمائة برأس عين الخابور.

وسمع الحديث ببلده من أبي المجد القزويني، وغيره، وببغداد من عبد العزيز بن منينا، والداهري، وعمر بن كرم، وغيرهم.

وبدمشق من أبي اليمن الكندي، وابن الحرستاني، والخضر بن كامل، والشيخ موفق الدين، وأبي الفتوح بن الجلاجلي، وغيرهم.

وبحلب من الافتخار الهاشمي، وببلدان أُخر. وعني بالحديث وطلب، وقرأ بنفسه. وذكره الذهبي في طبقات الحفاظ.

وتفقه على الشيخ موفق الدين، وحفظ كتابه "المقنع" في الفقه، وصحب الشيخ العماد، وطائفة من أهل الدين والعلم والصلاح.

وقرأ العربية والأدب، وتفنن في العلوم. وولي مشيخة دار الحديث بالموصل.

وكانت له حرمة وافرة عند بدر الدين صاحب الموصل، وغيره من ملوك الجزيرة. وصنف تفسيراً حسناً في أربع مجلدات ضخمة سماه "رموز الكنوز" وفيه فوائد حسنة.

ويروي فيه الأحاديث بإسناده. وصنف كتاب "مصرع الحسين" ألزمه بتصنيفه صاحب الموصل. فكتب فيه ما صح من القتل دون غيره. وكان لما قدم بغداد أنعم عليه المستنصر، وصنف هذا التفسير ببلده. وأرسله إليه. وهو في ثمان مجلدات، وقف المدرسة البشيرية ببغداد.

وكان فاضلاً في فنون من العلم والأدب، ذا فصاحة وحسن عبارة. وله في تفسيره مناقشات مع الزمخشري وغيره في العربية وغيرها.

وكان متمسكاً بالسنة والآثار، ويصدع بالسنة عند المخالفين من الرافضة وغيرهم.

وله نظم حسن. ومن نظمه: القصيدة ا!نونية المشهورة في الفرق بين الظاء والضاد.

وذكر شيخنا بالإجازة الإمام صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق في مشيخته: أن له تصانيف غير تفسيره المشهور: في التفسير، والفقه، والعروض، وغير ذلك.

وحدث. وسمع منه جماعة. وقدم دمشق رسولاً. فقرأ عليه أبو حامد محمد بن الصابوني جزءاً.

وروى عنه ابنه أبو عبد اللّه محمد بن عبد الرزاق، والدمياطي الحافظ في معجمه، وغير واحد. وبالإِجازة: أبو المعالي الأبرقوهي، وأبو الحسن بن البندنيجي الصوفي، وزينب بنت الكمال.

روى عنه العلامة أبو الفتح بن دقيق العيد، وأخوه، وأبوه.

قال الحافظ أبو محمد عبد الكريم الحلبي في تاريخ مصر له: نقلت من خط الحافظ اليغموري - يعني يوسف بن أحمد بن محمود الدمشقي- أنشدنا شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن يوسف بن أبي بكر الجزري، أنشدني ابن دقيق العيد بقوص، أنشدني عز الدين عبد الرزاق الرسعني لنفسه:

وكنت أظن في مصر بحاراً

 

إذا ما جئتها أجد الـورودا

فما ألفيتـهـا إلا سـرابـا

 

فحينئذ تيممت الصـعـيدا

قال شيخنا صفي الدين عبد المؤمن: توفي بسنجار في رجب بخط أبي العلاء الفرضي.

وقال ابن الفوطي: في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة ستين وستمائة.

وذكر الذهبي وغيره: أنه توفي ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة. وقيل: في ثامن عشر ربيع الآخر منها بسنجار.

عبد الرحمن بن سالم بن يحيى بن خميس بن يحمى بن هبة الله بن مواهب الأنصاري الأنباري، ثم الدمشقي، الفقيه جمال الدين، أبو محمد، وأبو القاسم: سمع من أبي اليمن الكندي، وأبي القاسم بن الحرستاني، وداود بن ملاعب، وعبد الجليل بن مندويه، والحافظ عبد القادر الرهاوي.

وتفقه على الشيخ موفق الدين، وبرع وأفتى، وحدث. وسمع منه جماعة. وكان يسكن بالمنارة الغربية من جامع دمشق.

قال أبو شامة: وكان يصلي في الجامع بالمتأخرين صلاة الصبح، فيطيل بهم إطالة مفرطة، خارجاً عن المعتاد بكثير إلى أن تكاد تطلع الشمس وهو في تطويله، لا يتركه كل يوم. رحمه الله.

توفي ليلة سلخ ربيع الآخر سنة إحدى وستين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمه اللّه تعالى.

عبد الرحمن بن محمد بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، المحدث الفاضل، عز الدين، أبو محمد وأبو القاسم وأبو الفرج، ابن الحافظ عز الدين أبي الفتح، ابن الحافظ الكبير أبي محمد.

ولد في ربيع الآخر سنة اثنين وستمائة. وحضر على أبي حفص بن طبرزد. وسمع من الكندي وطبقته.

وارتحل إلى بغداد. فسمع من الفتح بن عبد السلام وطائفة. ثم إلى مصر. وكتب الكثير وعني بالحديث. وكان يفهم ويذاكر، وتفقه على الشيخ الموفق وكان فاضلاً صالحاً ثقة، انتفع به جماعة. وحدث.

توفي في نصف ذي الحجة سنة إحدى وستين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمة اللّه تعالى عليه.

أبو القاسم بن يوسف بن أبي القاسم بن عبد السلام، الأموي، الحواري الصوفي، الزاهد المشهور: صاحب الزاوية بحواري. كان خيراً صالحاً، له أتباع وأصحاب ومريدون في كثير من قرايا حوران في الجبيل والثبنية. ولا يحضرون سماعاً بالدف.

توفي ببلدة حواري سنة ثلاث وستين وستمائة في آخر السنة. وصلى عليه يوم عيد النحر ببيت المقدس صلاة الغائب. وصلَّى عليه بدمشق تاسع عشر ذي الحجة. رحمه اللّه تعالى.

وقام مقامه بعده: ولده الشيخ عبد اللّه. فكان عنده تفقه وزهادة. وله أصحاب. وكان مقصوداً يزار ببلده. وعمر حتى بلغ التسعين من عمره. خرج لتوديع بعض أهله إلى ناحية الكرك من جهة الحجاز. فأدركه أجله هناك في أول ذي القعدة سنة ثلاثين وسبعمائة. رحمه الله تعالى.

إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، الصالح الزاهد، الخطيب عز الدين أبو إسحاق، ابن الخطيب شرف الدين أبي محمد، ابن الشيحْ أبي عمر: ولد في رمضان سنة ست وستمائة.

وسمع من الشيخ موفق الدين، والشيخ العماد، وأبي اليمن الكندي، وأبي القاسم بن الحرستاني، وخلق. وأجاز له القاسم الصفار وجماعة.

وكان إماماً في العلم والعمل، بصيراً بالمذهب، صالحاً عابداً مخلصاً، صاحب أحوال وكرامات، وآمراً بالمعروف، وقوالاً بالحق. وقد جمع المحدث أبو الفداء ابن الخباز سيرته في مجلد.

وحدث. وسمع منه جماعة، وحدثنا من أصحابه: أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الحريري عنه حضوراً. وهو آخر أصحابه.

توفي في ليلة تاسع عشر ربيع الأول سنة ست وستين وستمائة. ودفن من الغد بسفح قاسيون. رحمه الله.

وهو والد الإِمامين: عز الدين الفرائضي. وعز الدين محمد خطيب الجامع المظفري. رحمهم اللّه تعالى.

مظفر بن عبد الكريم بن نجم بن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن الحنبلي، تاج الدين، أبو منصور: ولد في سابع عشر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وخمسمائة بدمشق.

وسمع بها من أبي طاهو الخشوعي، وعمر بق طبرزد، وحنبل، وغيرهم.

وتفقه وأفتى. ودرس بمدرسة جده شرف الإسلام مدة. وكان عارفاً بالمذهب. وحدث بدمشق ومصر.

وروى عنه جماعة منهم: الحافظ الدمياطي.

توفي قي ثالث صفر سنة شع وستين وستمائة فجأة بدمشق. ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.

أحمد بن عبد الدايم بن نعمة بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن بكر، المقدسي الصالحي، الكاتب المحدث المعمر، الخطيب زين الدين أبو العباس: ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة بفندق الشيوخ محن أرض نابلس.

وسمع الكثير بدمشق، ومن يحيى الثقفي، وأبي عبد الله بن صدقة، وأبي الحسن بن الموازيني، وعبد الرحمن الخرقي، وإسماعيل الجنزوي، وغيرهم.

وانفرد في الدنيا بالرواية عنهم.

ودخل بغداد. وسمع بها من أبي الفرج بن كليب، والمبارك بن المعطوش، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي الفتح بن المندآي، وعبد اللّه بن أبي المجد، وعبد الوهاب ابن سكينة، وغيرهم.

وسمع بحران من خطيبها الشيخ فخر الدين، وأجاز له خطيب الموصل أبو الفضل، وعبد المنعم الفراوي؛ وابن شاتيل، والقزاز. وتفرد بالرواية عنهم أيضاً.

وقرأ بنفسه، وعنى بالحديث. وتفقه على الشيخ موفق الدين. وخرج لنفسه مشيخة عن شيوخه، وجمع تاريخاً لنفسه. وكان فاضلاَ متنبهاً. وله نظم.

ولي الخطابة بكفر بطنا بضع عشرة سنة.

وكان يكتب خطاً حسناً، ويكتب سريعاً. فكتب ما لا يوصف كثرة من الكتب الكبار، والأجزاء المنثورة لنفسه وبالأجرة، حتى كان يكتب في اليوم إذا تفرغ تسعة كراريس أو أكثر، ويكتب مع اشتغاله بمصالحه الكراسين والثلاثة. وكتب "الخرقي" في ليلة واحدة وكتب "تاريخ الشام" لابن عساكر مرتين و "المغني" للشيخ موفق الدين مرات. وذكر: أنه كتب بيده ألفي مجلدة، وأنه لازم الكتابة أزيد من خمسين سنة.

وكان حسن الخَلْق والخُلُق، متواضعاً ديناً. وحدث بالكثير بضعاً وخمسين سنة. وانتهى إليه علو الإسناد، وكانت الرحلة إليه من أقطار البلاد.

وخرج له ابن الظاهري مشيخة، وابن الخباز أخرى.

سمع منه الحفاظ المقدسيون، كالحافظ ضياء الدين، والزكي البرزالي، والسيف بن المجد، وعمر بن الحاجب.

روى عنه الأئمة الكار، والحفاظ المتقدمون والمتأخرون، منهم: الشيخ محيي الدين النووي، والشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والشيخ تقيّ الدين ابن تيمية، وخلق كثير. آخرهم: شيخنا الشيخ محمد بن إسماعيل بن الخباز، حضر عليه أجزاء. وآخر من روى عنه بالإجازة: أحمد بن عبد الرحمن الحريري.

وتوفي يوم الإثنين سابع- كذا قاله الشريف- وقيل: تاسع رجب سنة ثمان وستين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون رحمه اللّه.

ورأى رجل ليلة موته في المنام: كأن الناس في الجامع، وإذا ضجة. فسأل عنها? فقيل له: مات هذه الليلة مالك بن أنس، قال: فلما أصبحت جئت إلى الجامع، وأنا مفكر، وإذا إنسان ينادي: رحم اللّه من حضر جنازة الشيخ زين الدين بن عبد الدايم. رحمه اللّه.

يوسف بن علي بن أحمد بن البقال البغدادي الصوفي، عفيف الدين أبو الحجاج، شيخ رباط المرزبانية. كان صالحاً عالماً، ورعاً زاهداً. له تصانيف في السلوك. منها كتاب "سلوك الخواص": وحكى عنه أنه قال: كنت بمصر زمن واقعة بغداد. فبلغني أمرها. فأنكرته بقلبي، وقلت: يا رب كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له? فرأيت في المنام رجلاً، وفي يده كتاب. فأخذته فإذا فيه:

دع الاعتراض فما الأمر لك

 

ولا الحكم في حركات الفلك

ولا تسأل الله عن فـعـلـه

 

فمن خاض لجة بحر هلـك

أجاز لشيخنا علي بن عبد الصمد البغدادي.

ونقلت من خطه: أنه توفي ليلة الخميس سادس المحرم سنة ثمان وستين وستمائة وصلٌى عليه بجامع الحريم. ودفن بمقبرة الإمام أحمد.

وذكر غيره: أنه توفي سنة ست وستين. والله أعلم.

عبد الرحمن بن سليمان بن سعيد بن سليمان، البغدادي الأصل الحراني المولد. الفقيه، جمال الدين أبو محمد. ويعرف بالبغدادي؛ ولد في أحد الربيعين سنة خمس وثمانين وخمسمائة بحران.

وسمع من عبد القادر الحافظ، وحنبل، وابن طبرزد، وغيرهم.

وتفقه بالشيخ الموفق، وبرع، وأفتى، وانتفع به جماعة. وحدث.

وروى عنه طائفة. حدثنا عنه ابن الخباز. وكان إماماً بحلقة الحنابلة بالجامع.

قال الشيخ عز الدين: كان موصوفاً بالفضل والدين، فقيهاً حسناً مشهوراً. ولي منه إجازة.

توفي في رابع عشر شعبان سنة سبعين وستمائة بدمشق رحمة اللّه تعالى. ودفن بسفح قاسيون.

محمد بن عبد المنعم بن عمار بن هامل بن موهوب الحراني، المحدث الرحال، شمس الدين، أبو عبد اللّه، نزيل دمشق: ولد بحران سنة ثلاث وستمائة.

وسمع ببغداد من القطيعي، وابن روزبة، والداهري، وعمر بن كرم، ونصر بن عبد الرازق القاضي، وابن القبيطي، والمهذب بن فهيدة.

وبدمشق من القاضي أبي نصر بن الشيرازي، ومكرم بن أبي الصقر، والحسين بن الزبيدي، وابن اللتي، وابن صباح وغيرهم. وبالإسكندرية من الصفراوي، وجعفر الهمداني، وابن راح.

وبالقاهرة من مرتضى بن العفيف، والعلم بن الصابوني، وغيرهم.

قال الشريف عز الدين: كتب بخطه، وطلب بنفسه. وكان أحد المعروفين بالطلب والإِفادة. وحدث. ولي منه إجازة.

قال الذهبي: عني بالحديث عناية كلية، وكتب الكثير. وتعب وحصل، وأسمع الحديث. وتألف الناس على روايته. وفيه دين وحسن عشرة، ولديه فضيلة، ومذاكرة جيدة.

أقام بدمشق، ووقف كتبه وأجزاءه بالضيائية.

وقال البرزالي: كان فاضلاً، كثير الديانة والتحري، أحد المعروفين بالطلب والإفادة.

وقرأت بخط الدمياطي في حقه: الإمام الحافظ.

وسمع منه جماعة من الأكابر، كأبي الحسين بن اليونيني، والحافظ الدمياطي، وإسماعيل بن الخباز، وابن أبي الفتح، وأبي الحسن بن العطار، وحدثنا عنه محمد بن الخباز.

وتوفي ليلة الأربعاء ثامن شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وستمائة بالمارستان الصغير بدمشق. ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.

وفي حادي عشر شوال من السنة توفي الشيخ فخر الدين أبو الفرج:-

عبد القاهر بن أبي محمد عبد الغني بن الشيخ فخر الدين محمد بن أبي القاسم ابن تيمية بدمشق: ودفن من الغد بمقابر الصوفية. وكان مولده: سنة اثنتي عشرة وستمائة بحران.

وسمع من جده وابن اللتي. وحدث بدمشق. وخطب بجامع حران.

الشهراياني، ثم البغدادي، الفقيه المحدث، الزاهد الكاتب، كمال الدين أبو الحسن بن أبي بكر: ولد في رجب سنة إحدى وتسعين وخمسمائة- وقيل: سنة تسعين- بشهرايان، وسمع بها "صحيح مسلم" من أحمد بن محمد بن محمد بن نجم المروزي، قال: قدم علينا حاجاً، وهو ابن أخي الذي روى عنه ابن الجوزي "صحيح مسلم" وكانا قد سمعاه من الفراوي.

قدم بغداد، وسمع بها من أبي الحسن: القطيعي، وابن روزبة صحيح البخاري" عن أبي الوقت، وعن عمر بن كرم "جامع الترمذي" ومن عبد اللطيف بن القطيعي "سنن الدارقطني" وسمع من القاضي أبي صالح، وأبي حفص السهروردي، وإبراهيم الكاشغري، وغيرهم.

وسمع من الشيخ العارف علي بن إدريس اليعقوبي، ولبس منه الخرقة، وانتفع به، وسمع بأربل وغيرها.

وعني بالحديث، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الحسن. وسمع الكتب الكبار.

واشتغل بالعلم ببغداد، وتفقه وبرع في العربية، وشارك في فنون من العلم، وصحب الصالحين، وكان صديقاً للشيخ يحيى الصرصري.

قال شيخنا بالإجازة، الإمام صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق: كان شيخاً صالحاً، منور الوجه، كيساً طيب الأخلاق، سمح النفس، صحب المشايخ والصالحين. وكان عالماً بالفقه، والفرائض، والأحاديث، ورتب عقب الواقعة مدرساً بالمدرسة المجاهدية، واستمر بها إلى أن مات.

وهو أحد المكثرين في الرواية، فإنه سمع الكثير من الكتب الكبار والأجزاء، بقراءته وقراءة غيره، وخرج وصنف مصنفات.

ومن مصنفاته: كتاب "الدليل الواضح، في اقتفاء نهج السلف الصالح"، وكتاب "الرد على أهل الإِلحاد" وغير ذلك.

وله إجازات من جماعة كثيرين، منهم من دمشق: الشيخ موفق الدين بن قدامة، وأبي محمد بن عمرو بن الصلاح وغيرهما.

قلت: وله أجزاء في مدح العلماء وذم الأغنياء، والفرق بين أحوال الصالحين وأحوال الإباحية، أكلة الدنيا بالدين، سمعه منه أبو الحسن علي بن محمد البندنيجي نزيل دمشق.

وله جزء في أن الإيمان يزيد وينقص، كتبه جواباً عن سؤال فيمن حلف بالطلاق على نفي ذلك، فأفتى بوقوع طلاقه، وبسط الكلام على المسألة، وذلك في زمن المستعصم، ولْد أوذي بسبب ذلك، هو والمحدث عبد العزيز القحيطي، من بغداد، فإنه وافق على هذا الجواب. وأخرج الشيخ من المدرسة التي كان مقيماً بها، وأُخرج القحيطي من بغداد، وبذلك تحقق قوة إيمانهما، وكونهما إن شاء اللّه من خلفاء الرسل في وقتهما.

وحدث الشيخ بالكثير، وسمع منه خلق، وروى عنه ابن حصين الفخري، والحافظ الدمياطي في معجمه، وأبو الحسن البندنيجي، وإبراهيم الجعبري المقرئ، وأبو الثناء الدقوقي، وأحمد بن عبد السلام بن عكبر، وعلي بن عبد الصمد، وأبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن المؤذن الوراق، وروى عنه "صحيح البخاري" وسمعت عليه حضوراً في الرابعة منه كتاب النكاح بكماله.

وتوفي رحمه اللّه، ليلة الجمعة ثالث صفر، سنة اثنتين وسبعين وستمائة.

كذا ذكره غير واحد من أهل بغداد من شيوخنا وغيرهم. وهو أصح مما قاله الذهبي: إنه سنة إحدى وسبعين. وأبعد من ذلك: ما قال الدمياطي: إنه توفي سنة ثلاث، أو أربع، وهذا قاله بالظن والتقريب لبعد البلاد، وعدم من يراجعه في تحقيق ذلك.

قال شيخنا صفي الدين: وكانت جنازتة إحدى الجنائز المشهورة، اجتمع لها عالم لا يحصى، وغلقت الأسواق يومئذ، وشد تابوته بالحبال. وحمله الناس على أيديهم، وصلى عليه بالمحال البرانية. ودفن بحضرة الإِمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، مقابل رجليه.

علي بن عثمان بن عبد القادر بن محمد بن يوسف بن الوجوهي البغدادي المقرئ، الصوفي الزاهد، شمس الدين أبو الحسن، أحد أعيان أهل بغداد في زمنه: ولد في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.

وقرأ بالروايات على الفخر الموصلي، صاحب ابن سعدون القرطبي، وسمع الحديث من ابن روزبة، والسهرورلي وغيرهما. وكان بصيراً بالقران، متحققاً بالأداء، دينا خيراً صالحاً، وعين خازناً بدار الوزير زمن الخليفة، ثقة بدينه، وشهد في ذلك العهد. وكان شيخ رباط ابن الأثير.

وله كتاب "بلغة المستفيد في القراءات العشر" قرأه عليه ابن خيرون، وقرأ عليه بالسبع: إبراهيم الجعبري، وقال: امتنع من كتابة الإجازة لي لحضوري سماعات الفقراء، وكان ينكر ذلك.

وروى عنه ابن خروف الموصلي، وشيوخنا بالإجازة: نجيب الدين علي بن محمد الرفاعي، وعلي بن عبد الصمد، ومحمد بن محمد بن الكوفي الهاشمي الواعظ وغيرهم.

وتوفى في ثالث جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين وستمائة، ببغداد، ودفن بمقبرة باب حرب.

أنبأني غير واحد عن الظهير بن الكازروني، قال: حكى لي الشيخ رشيد الدين بن أبي القاسم: أن العدل محب الدين مصدق حدثه، قال: رأيت ابن الوجوهي بعد موته، فقلت: ما فعل الله بك? فقال: نزلا علي، وأجلساني وسألاني، فقلت: ألمثلِ ابن الوجوهي يقال ذلك? فأضجعاني ومضيا. رحمه اللّه.

وفي سابع عشر شوال سنة اثنتين وسبعين أيضاً: توفى الشيخ:-

سيف الدين بن الناصح عبد الرحمن بن نجم الحنبلي: وكان مولده سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وقيل: سنة تسعين. وهو آخر من حدث بالسماع عن الخشوعي.

وسمع من حنبل، وابن طبرزد، والكندي، وغيرهم بدمشق، والموصل، وبغداد، وحدث بمصر ودمشق.

وسمع منه العلامة تاج الدين الفزاري، وأخوه الخطيب شرف الدين، والحافظ الدمياطي، وذكره في معجمه، وابن العطار، وابن أبي الفتح، والشهاب محمود كاتب السر، وغيرهم.

وحدثنا عنه ابنه شمس الدين يوسف مدرس الصاحبية بجزء ابن زبر الصغير، كان حضره على أبيه، ومحمد بن الخباز، وأحمد بن عبد الرحمن الحريري.

علي بن أبي غالب بن علي بن كيلان، البغدادي، الأزجي القطيعي، الفرضي المعدل، موفق الدين أبو الحسن: ولد في ذي الحجة، سنة ثلاث وستمائة، وسمع من ابن المنى وغيره، وأجاز له غير واحد.

وتفقه. وقرأ الفرائض، وشهد عند القاضي أبي الفضل بن اللمعاني. وكان من أعيان العدول. وكان خيراً، كثير التلاوة.

حدث وأجاز لشيخنا صفي الدين بن عبد المؤمن بن عبد الحق، وعلي بن عبد الصمد.

وتوفي يوم السبت ثالث شوال سنة أربع وسبعين وستمائة، ودفن بقبر الإِمام أحمد.

عثمان بن موسى بن عبد الله الطائي الأربلي، ثم الآمدي، الفقيه الزاهد، إمام حطيم الحنابلة بالحرم الشريف تجاه الكعبة: كان شيخاً جليلاً، إماماً عالماً، فاضلاً، زاهداً عابداً ورعاً، ربانياً متألهاً، منعكفاً على العبادة والخير، والاشتغال باللّه تعالى في جميع أوقاته، أقام بمكة نحو خمسين سنة.

ذكره القطب اليونيني، وقال: كنت أود رؤيته، وأتشوق إلى ذلك، فاتفق أني حججت سنة ثلاث وسبعين وزرته، وتمليْت برؤيته، وحصل لي نصيب وافر من إقباله ودعائه. وقدرت وفاته إلى رحمة الله تعالى عقيب ذلك.

وقال الذهبي: سمع بمكة من يعقوب الكحال، ويعقوب سمع من ابن شاتيل وخطيب الموصل.

وسمع عثمان أيضاً من محمد بن أبي البركات بن حمد.

وروى عنه شيخنا الدمياطي، وابن العطار في معجميهما. وكتب إلينا بمروياته.

توفي ضحى يوم الخميس ثاني عشرين محرم سنة أربع وسبعين وستمائة بمكة رحمه الله تعالى. ويقال: إن الدعاء يستجاب عند قبره.

وخلفه في إمامة الحنابلة بمكة والده:

الإمام جمال الدين محمد: وكان إماماً عالماً ديناً. وله رحلة إلى بغداد، أدرك فيها عبد الصمد بن أبي الجيش وغيره: وحدث. وروى عنه جماعة من شيوخنا المكيين.

وتوفى سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة.

محمد بن عبد الوهاب بن منصور الحراني، الفقيه، الأصولي المناظر القاضي شمس الدين، أبو عبد الله: ولد بحران في حدود العشر والستمائة. وتفقه بها على الشيخ مجد الدين ابن تيمية. ولازمه، حتى برع في الفقه. وكان يستدل بين يديه بحران.

وقرأ الأصول والخلاف على القاضي نجم الدين بن المقدسي الشافعي الذي كان أولاً حنبلياً، فانتقل. وأقام مدة بدمشق يشتغل في الأصول والعربية على علم الدين قاسم الكوفي.

ثم سافر إلى الديار المصرية. وأقام بها مدة يحضر عروس الشيخ عز الدين بن عبد السلام. وولي القضاء ببعض أعمال الديار المصرية نيابة عن قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز لفضيلته، وإن كان على غير مذهبه. وهو أول حنبلي حكم بالديار المصرية في هذا الوقت.

ثم لما ولي الشيخ شمس الدين بن العماد قضاء القضاة الحنابلة استنابه عدة. ثم ترك ذلك، ورجع إلى دمشق. وأقام بها مدة سنين إلى حين وفاته، يدرس الفقه بحلقة له في الجامع. ويكتب خطه في الفتاوى. وباشر الإعادة بالمدرسة الجوزية بدمشق قبل سفره إلى الديار المصرية، وبعد رجوعه. وباشر الإمامة بها أيضاً.

ثم أمّ بمحراب الحنابلة بالجامع. ذكر ذلك قطب الدين اليونيني.

وقال: كان فقيهاً إماماً عالماً، عارفاً بعلم الأصول والخلاف، حسن العبارة، طويل النفس في البحث، كثير التحقيق، حسن المجالسة والمذاكرة. ويتكلم في الحقيقة. وهو غزير الدمعة، رقيق القلب جداً، وافر الديانة، كثير العبادة. صحب الفقراء مدة. وله فيهم حسن ظن.

وكان عنده معرفة بالأدب. وله يد جيدة في النظم. أنشدني له صاحبنا تقي الدين بن عبد الله بن تمام:

طار قلبي يوم سـاروا فـرقـا

 

وسواء فاض دمعـي أو رقـا

حار في سقمي من بـعـدهـم

 

كل من في الحي داوى أو رقى

بعدهم لا طَلَّ وادي المنحـنـى

 

وكذا بانُ الحـمـى لا أورقـا

وابتلي بالفالج قبل موته مدة أربعة أشهر. وبطل شقه الأيسر، وثقل لسانه بحيث لا يفهم من كلامه إلا اليسير. قرأ عليه جماعة الأصول والفروع.

وتوفي ليلة الجمعة بين العشائين لست خلون من جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وستمائة بدمشق. وصلى عليه بالجامع. ودفن بمقابر الباب الصغير. ونيف على الستين من العمر رحمه الله تعالى.

ورأيت في الفتاوى المنسوبة إلى الشيخ تاج الدين الفزاري: واقعة وقعت، وهي وقف وقفه رجل، وثبت على حاكم: أنه وقفه في صحة بدنه وعقله. ثم قامت بينة أنه كان حينئذ مريضاً مرض الموت المخوف. فأفتى النووي: أنه تقدم بيّنة المرض، ويعتبر الوقف من الثلث. ووافقه على ذلك ابن الصيرفي، وابن عبد الوهاب الحنبليان. وخالف الفزاري، وقال: تقدم بينة الصحة. قال: لأن من أصلهم أن البينة التي تشهد بما يقتضيه الظاهر تقدم، ولهذا تقدم عندهم بينة الداخل والأصل. والغالب على الناس: الصحة. فتقدم البينة الموافقة له.

وعرض على الشيخ تاج الدين الفزاري أيضاً فتاوى جماعة في حادثة تعارضت فيها بينتان بالسفه والرشد، حال تصرف ما: أنه تقدم بينة السفه. فخطأهم في ذلك. وقال: هذا عندي غلط.

وذكر في موضع آخر: أن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر أفتى في هذه المسألة بتقديم بينة الرشد على بينة استمرار الحجر.

ورأيت فتيا بخط محمد بن عبد الوهاب الحراني في وقف بأيدي أقوام من مدة سنين من غير كتاب بأيديهم. فادعاه آخرون، وأظهروا كتاباً منقطع الإثبات بوقفه عليهم: أنه لا ينزع من يد الأولين بمجرد هذا الكتاب. ووافقه جماعة من الشافعية والحنفية وغيرهم.

محمد بن تميم الحراني الفقيه، أبو عبد الله، صاحب "المختصر" في الفقه، المشهور: وصل فيه إلى أثناء الزكاة. وهو يدل على علم صاحبه، وفقه نفسه، وجودة فهمه:

وتفقه على الشيخ مجد الدين ابن تيمية، وعلى أبي الفرج بن أبي الفهم.

وبلغني أن ابن حمدان ذكر عنه: أنه سافر- أظنه إلى ناصر الدين البيضاوي- ليشتغل عليه. فأدركه أجله هناك شاباً. ولم أقف على تاريخ وفاته.

عبد الصمد بن أحمد بن عبد القادر بن أبي الحسين بن أبي الجيش بن عبد الله البغدادي القطفتي، المقرئ المحدث، النحوي اللغوي. الخطيب الواعظ الزاهد، شيخ بغداد وخطيبها، مجد الدين أبو أحمد، وأبو الخير، ابن أبي العباس. سبط الشيخ أبي زيد الحموي الزاهد، أبوه: ولد عبد الصمد في محرم سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ببغداد.

وقرأ القران بالروايات على الفخر الموصلي، وعبد العزيز بن الناقد، وعبد العزيز بن دلف، والحسين بن الزبيدي، وغيرهم.

وعني بالقراءات. وسمع كثيراً من كتبها. وسمع الحديث من ترك بن محمد الحلاج صاحب أبي البدر الكرخي، وعبد السلام بن البردغولي، وأبي القاسم بن أبي الجود، صاحبي ابن الطلاية، وعبد السلام الداهري، وعبد العزيز بن الناقد، وإسماعيل بن حمدي، وأبي نصر بن النرسي، والحسن والحسين ابني المبارك الزبيدي، والحسين بن أبي بكر الخياري، وثابت بن مشرف، وعبد اللطيف بن القبيطي، والنفيس بن حقني الزعيمي، وعبد اللطيف بن يوسف البغدادي وأبي حفص السهروردي، وابن الخازن، وابن رُزوبة، وابن بهروز، وسعد بن محمد بن ياسين، والمهذب بن قنيدة، وابن اللتي، وأحمد بن يعقوب المارستاني، وابن الدبيثي الحافظ، وأبي صالح نصر بن عبد الرزاق، وغيرهم.

وسمع شيئاً على سليمان بن محمد بن علي الموصلي، وأخيه أبي الحسن علي.

وسمع كثيراً من الكتب الكبار والأجزاء. وقرأ بنفسه كثيراً على الشيوخ المتأخرين.

وجمع أسماء شيوخه بالسماع والإجازة. فكانوا فوق خمسمائة وخمسين شيخاً. فبعضهم بالإجازة العامة، وكثير منهم بالإِجازة الخاصة من غير سماع.

وذكر فيه: أنه سمع جامع الترمذي على أبي الفتح أحمد بن علي الفربري بسماعه من الكرخي، وهذا من أجود ما عنده. والعجب أنه خرج في بعض تصانيفه حديثاً من الترمذي عن أكمل بن مظفر العباسي بإجازة من الكرخي، وعن أبي المعالي بن شافع عن ابن كليب.

وأجاز له الحافظ أبو الفرج بن الجوزي، وعبد العزيز بن منينا، وأبو القاسم بن الحرستاني، وأبو اليمن الكندي، والشيخ موفق الدين المقدسي، وغيرهم.

وأخذ العربية والأدب عن أبي البقاء العكبري، قال: قرأت عليه من حفظي كتاب "اللمع" لابن جني،، "والتصريف المملوكي"، و "الفصيح" لثعلب. وأكثر كتاب "الإيضاح" لأبي علي الفارسي. وسمعت عليه المفضليات.

وقال الجعبري: قرأ- يعني عبد الصمد- كتاب سيبويه، والإيضاح، والتكملة، واللمع، على الكندي. كذا قال. وهو غير صحيح. ولعله أراد أن يقول: العكبري. وقرأ طرفاً من الفقه. وانتهت إليه مشيخة القراءات والحديث. وله ديوان خطب في سبع مجلدات على الحروف. وولي في زمن المستنصر مشيخة المسجد الذي بناه المستنصر، وجعله دار قرآن وحديث، ويعرف بمسجد قمرية.

ثم ولي في زمن المستعصم مشيخة رباط سوسيان. وبعد الواقعة: ولي خزن الديوان والخطابة بالجامع الأكبر، جامع القصر.

وصار عين شيوخ زمانه، والمشار إليه في وقته، مع الدين والصلاح، والزهد والورم، والتقشف والتعفف، والصبر والتجمل.

قال الحافظ الذهبي: قرأت بخط السيف بن المجد قال: كنت ببغداد، فبنى المستنصر مسجداً وزخرفه، وجعل به من يقرأ ويسمع. فاستدعى الوزير جماعة من القراء، وكان منهم صاحبنا عبد الصمد بن أحمد. فقال له: تنتقل إلى مذهب الشافعي، فامتنع، فقال: أليس مذهب الشافعي حسناً? قال: بلى، ولكن مذهبي ما علمت به عيباً أتركه لأجله. فبلغ الخليفة ذلك، فأعجبه قوله. وقال: هو يكون إمامه دونهم. وعرض عليه العدالة فأباها.

قال الذهبي: سمعت أبا بكر المقصاتي يقول: طلب مني شيخنا عبد الصمد مقصاً، فعملته وأتيته به. فما أخذه حتى أعطاني فوق قيمته.

وذكره شيخنا صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق في مشيخته، فقال: هو شيخ بغداد كلها. إليه انتهت رياسة القراءات والحديث بها. كان من العلماء العاملين، والأئمة الموصوفين بالعلم والفضل والزهد. وصنف الخطب التي انفرد بفنها وأسلوبها، وما فيها من الصنعة والفصاحة. وجمع منها شيئاً كثيراً. ذهب في واقعة بغداد مع كتب له أخرى بخطه وأصوله، حتى كان يقول: في قلبي حسرتان: ولدي وكتبي. فإنه كان له ولد اسمه أحمد- وبه يكنى- صالح فاضل حسن السمت. خلفه بمسجد قمرية، لما رتب هو شيخاً برباط سوسيان في زمن المستعصم. وكان حسن الصوت حسن القراءة. وعدم في الواقعة. وبقي يتأسف عليه وعلى كتبه.

قال الذهبي: قرأ عليه الشيخ إبراهيم الرقي الزاهد، والتقى أبي بكر الجزبور المقصاتي، وأبو عبد اللّه بن خروف، وأبو العباس أحمد بن موسى الموصليان، وجماعة- وكان إماماً محققاً، بصيراً بالقراءات وعللها وغريبها، صالحاً زاهداً، كبير القدر، بعيد الصيت.

قلت: وحدث بالكثير، وسمع منه خلائق.

وحكى عنه الحافظ بن النجار في تاريخه، وكان شيوخ بغداد يقرأون عليه كتب الحديث، وسمع الناس بقراءتهم، كالشيخ كمال الدين بن وضاح، مع علو شأنه، وكبر سنه- وقد توفي قبله- والشيخ عبد الرحيم بن الزجاح، وأحمد بن الكسار الحافظ. وروى عنه خلق كثير من الأعيان، منهم: ابن وضاح المذكور، والدمياطي الحافظ في معجمه، والشيخ إبراهيم الرقي الزاهد، والمحدثان أبو العباس أحمد بن علي القلانسي، وأبو الثناء محمود بن علي الدلْوقي، والإمام صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق، وابنه أبو الربيع علي بن عبد الصمد، وأكثر عن أبيه. وقد سمعت منه في الخامسة جزءاً فيه أربعون حديثاً، أخرجها أبوه لنفسه بسماعه من أبيه، وحصل في سماع العشرة الأخيرة بعد عن مجلس القراءة، فلا أدري، أسمعتها أم لا?.

وحضرت أيضاً كتاب النكاح من صحيح البخاري على أبي عبد الله محمد بن عبد العزيز المؤذن بسماعه للكتاب، حضوراً على الشيخ عبد الصمد.

وتوفي ضحوة يوم الخميس سابع عشر ربيع الأول سنة ست وسبعين وستمائة وأخرج من يومه، وصلى عليه بجامع ابن بهليقا وعدة مواضع، وأغلق البلد يومئذ. وازدحم الخلق على حمله. ودفن بحضرة الإمام أحمد إلى جانب ابن القاعوس الزاهد. وكان يوماً مشهوداً. رحمه الله تعالى، ورثاه جماعة من الشعراء.

أنبأنا علي بن عبد الصمد بن أحمد البغدادي- بها- أنبأنا أبي أنبأني غير واحد أنبأنا أكمل بن مظفر العباسي، وعبد العزيز بن أحمد الجصاص، وشرف بن علي الخالصي، وعبد السلام بن عبد اللّه الداهري، وأبو بكر بن بهروز، قالوا: أنبأنا أبو الوقت ثناء أبو الحسن الداودي أنبأنا أبو محمد بن حمويه أنبأنا أبو عمران السمرقندي حدثنا الدارمي أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا حميد عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا صلَّى فإنما يناجي ربه- أو ربه بينه وبين القبلة- وإذا بزق أحدكم فليبصق عن يساره أو تحت قدمه، أو يقول هكذا، وبزق في ثوبه، وذلك بعضه ببعض".

محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، نزيل مصر، قاضي القضاة، شيخ الشيوخ، شمس الدين، أبو بكر وأبو عبد الله، ابن العماد، وقد سبق ذكر أبيه.

ولد في يوم السبت رابع عشر صفر- وقيل: الأحد- سنة ثلاث وستمائة بدمشق. وحضر بها على ابن طبرزد.

وسمع من الكندي، وابن الجرستاني، وابن ملاعب، والشيخ موفق الدين. وتفقه عليه، ثم رحل إلى بغداد، وأقام بها مدة.

وسمع بها من أبي الفتح بن عبد السلام، والداهري، والسهروري، وجماعة وتفقه بها، وتفنن في علوم شتى. وتزوج بها. وولد له.

ثم انتقل إلى مصر، وسكنها إلى أن مات بها. وعظم شأنه بها. وصار شيخ المذهب علماً وصلاحاً، وديانة ورياسة. وانتفع به الناس. وولي بها مشيخة خانقاه سعيد السعدا، وتدريس المدرسة الصالحية. وولي قضاء القضاة مدة. ثم عزل منه. واعتقل مدة. ثم أطلق، فأقام بمنزله يدرس بالصالحية ويفتي، ويقرئ العلم إلى أن لوفي.

قال عبيد الأسعردي الحافظ: كان مشهوراً بمكارم الأخلاق، وحسن الطريقة، والمناقب المرضية تفقه بدمشق، وبغداد. وأفتى ودرس، وولي قضاء القضاة بالديار المصري!. وكان شيخ الشيوخ بها.

قال البرزالي في تاريخه: كان حسن السمت وضيء الوجه، ونيَر الشيبة. له معرفة بالفقه والأصول. وكان كثير البر والصلة والصدقة، كثير التواضع والتودد، وكان مدرساً بالمدرسة الصالحية بالقاهرة، ثم ولي القضاء، ثم عزل وحبس مدة بسبب ودائع أكره على أخذها، أخذت من بيته سنة سبعين، واعتقل سنتين ثم أفرج عنه. ولزم بيته يدرس ويفتي ويقرئ ويتعبد، إلى أن مات، رحمه اللّه تعالى.

وقال الذهبي: استوطن مصر بعد الأربعين، ورأس بها في مذهب أحمد. وصار شيخ الإقليم فيء الأيام الظاهرية، وكان إماماً محققاً، كثير الفضائل، صالحاً خيراً، حسن السيرة، مليح الشكل، كثير النفع والمحاسن.

وقال! القطب اليرنيني: كان من أحسن المشايخ صورة، مع الفضائل الكثيرة التامة، والديانة المفرطة، والكرم وسعة الصدر، وأظنه جعفري النَّسب، وهو أول من درس بالمدرسة الصالحية للحنابلة. وأول من ولي قضاء القضاة منهم بالديار المصرية. وتولى مشيخة خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة مدة. وكان كامل الأدوات، سيداً صدراً من صدور الإسلام وأئمتهم، متبحراً في العلوم، مع الزهد الخارج عن الحد، واحتقار الدنيا، وعدم الالتفات إليها. وكان الصاحب بهاء الدين- يعني ابن جنا- يتحامل عليه، ويغري الملك الظاهر به؛ لما عنده من الأهلية لكل شيء من أمور الدنيا والآخرة. وهو لا يلتفت إليه، ولا يخضع له.

حدث بالكثير. وسمع منه الكبار، منهم: الدمياطي، والحارثي، وعبيد الأسعردي، والشريف أبو القاسم الحسيني الحافظ، وعبد الكريم الحلبي.

توفي يوم السبت ثاني عشر محرم سنة ست وسبعين وستمائة بالقاهرة. ودفن من الغد بالقرافة، عند عمه الحافظ عبد الغني. وكان الجمع متوفراً. رحمه الله تعالى.

يحيى بن أبي منصور بن أبي الفتح بن رافع بن علي بن إبراهيم الحراني، الفقيه المحدث المعمر، جمال الدين، أبو زكريا بن الصيرفي. ويعرف بابن الجيشي أيضاً، نزيل دمشق: ولد سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة بحران.

وسمع بها من الحافظ عبد القادر الرهاوي، والخطيب فخر الدين وغيرهما.

وكان قد سمع من حماد الحراني. ولكن لم يظهر سماعه منه.

ورحل إلى بغداد سنة سبع وستمائة. فسمع من ابن طبرزد، وابن الأخضر، وأحمد بن الدبيقي، وعبد العزيز بن منينا، وعلي بن محمد بالموصل. وثابت بن مشرف، وأبي البقاء العكبري، ومحمد بن علي القبيطي، وغيرهم.

وسمع بدمشق من أبي اليمن الكندي، وابن ملاعب، وابن الحستاني، والشيخ موفق الدين، وغيرهم.

وسمع بالموصل من جماعة. وقرأ بنفسه. وكتب بخطه الأجزاء والطباق.

وأخذ الفقه بدمشق عن الشيخ موفق الدين، وببغداد عن أبي بكر بن غنيمة بن الحلاوي، وأبي البقاء العكبري، والفخر إسماعيل، وغيرهم.

وأخذ العربية عن أبي البقاء. وقرأ عليه جميع كتابه لا التبيان في إعراب القراَن "وأقام ببغداد مدة في رحلته الثانية إليها. وتزوج بها. وولد له. وكتب الكثير بخطه من الفوائد والنكت، وجمع وصنف، وعلق فوائد وغرائب حسنة. وأفتى وناظر ودرس. وجالس بحران الشيخ مجد الدين وفقه. وكان ذا عبادة وديانة.

قال البرزالي في تاريخه: كان من الشيوخ والفقهاء المتعبدين والمعتبرين في مذهبه، كثير الديانة والتعبد. وأشغل الناس وأفاد، وانتفع به.

وقال الذهبي: برع في المذهب، ودرس وناظر، وتخرج به الأصحاب. وكان لطيف القدر جداً، ضخم العلم والْعمل، صاحب تعبد وأوراد وتهجد.

قرأت بخط الشيخ شمس الدين بن الفخر: كان إماماً كبيراً مفتياً. أفتى ببغداد، وحران، ودمشق. وله مناقب جمة.

منها: قيام الليل في معظم عمره. كان يقوم في وقت واللّه يعجز الشباب عن ملازمته، وهو جوف الليل. يجتهد في إسرار ذلك، وسائر عمل التقرب.

ومنها: سخاء النفس، وحسن الصحبة، والتعصب في حق صاحبه بلحائه واجتهاده وتضرعه، ومساعدته بجاهه وحرمته.

ومنها التعصب في السنة والمغالاة فيها، وقمع أهل البدع، ومجانبتهم ومنابذتهم.

ومنها: قول الحق، وإنكار المنكر على من كان، لم يكن عنده من المداهنة والمراءاة شيء أصلاً، يقول الحق، يصدع به.

لقي الكبار: كالسامري، مصنف المستوعب، والشيخ أبي البقاء، والشيخ الموفق.

وكان حسن المناظرة والمحاضرة، حلو العبارة، عالي الإسناد، له مختصران، ومجاميع حسنة.

قال الذهبي: كان له حلقة بجامع دمشق. وتخرج به جماعة. وروى الكثير. حدث بجامع الترمذي، وبمعالم السنن للخطابي، وأشياء كثيرة.

قلت: له تصانيف عدة، منها: كتاب "نوادر المذهب" فيها قواعد عربية. وكتاب "دعائم الإسلام في وجوب الدعاء للإمام" كتبه للمستنصر، و "انتهاز الفرص فيمن أفتى بالأخص" جزء، جزء في "عقوبات الجرائم" كتبه للافتخار الحراني والي دمشق. وكان به اختصاص. وكان له صالحاً عادلاً. وله جزء في "آداب الدعاء".

وسمع منه الحافظ الدمياطي، وذكره في معجمه، والحافظ الحارثي. وأظنه أخذ عنه العلم أيضاً، والشيخ علي الموصلي، وابن أبي الفتح البعلي، والقاضي سليمان بن حمزة، والشيخ تقي الدين ابن تيمية، وأبو الحسن بن العطار وخلق. وحدثنا عنه محمد بن إسماعيل بن الخباز. وكان قد عمر وتغير من الهرم قبل موته بعامين أو أكثر. فحجبه ولده.

ذكره الذهبي. وروى عنه بالإجازة.

وتوفي عشية الجمعة رابع صفر سنة ثمان وسبعين وستمائة بدمشق. ودفن يوم السبت بمقبرة باب الفراديس. رحمه الله تعالى.

قال اليونيني: كانت له جنازة مشهودة جداً.

إسحاق بن إبراهيم بن يحيى الشفراوي، القاضي، صفي الدين، أبو محمد: ولد بشقرا من ضياع زُرا- المعروفة بزرع- سنة خمس وستمائة.

وسمع من موسى بن عبد القادر، والشيخ موفق الدين، وأحمد بن طاوس، وابن الزبيدي، وجماعة.

وتفقه. وحدث. وولي الحكم بزرع نيابة عن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر.

وكان فقيهاً فاضلاً، حسن الأخلاق.

قال الذهبي: كان رجلاً خيراً فقيهاً، حفظة للنوادر والأخبار. ولي قضاء زرع مدة.

وأعاد بمدرستها.

توفي يوم السبت تاسع عشر ذي الحجة سنة ثمان وسبعين وستمائة. ودفن بسفح قاسيون. رحمه الله تعالى.

عبد اللّه بن إبراهيم بن محمود بن رفيعا الجزري، المقرئ الفرضي، نزيل الموصل. وأبو محمد. ويلقب ضياء الدين: قرأ بالسبع على علي بن مفلح البغدادي نزيل الموصل. وأخذ الحروف عن أبي عمرو بن الحاجب، وأبي عبد اللّه الفاسي، والسديد عيسى بن أبي الحزم. وسمع الحديث من جماعة.

وصنف تصانيف في القراءات. ونظم في القراءات وغيرها، وفي الفرائض قصيدة معروفة لامية، وكان شيخ القراء بالموصل. قرأ عليه ابن خروف الموصلي الحنبلي، وأكثر عنه، وسمع منه "الأحكام" للشيخ مجد الدين ابن تيمية عنه. وأجاز لشيخنا علي بن عبد الصمد بن أبي الجيش غير مرة.

وتوفى في سادس جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وستمائة بالموصل رحمه الله.

عبد الساتر بن عبد الحميد بن محمد بن أبي بكر بن ماضي المقدسي الفقيه، تقي الدين، أبو محمد: سمع من موسى بن عبد القادر، وابن الزبيدي: والشيخ موفق الدين وغيرهم.

وتفقه علي التقي بن العز، ومهر في المذهب، وعني بالسنة. وجمع فيها. وناظر الخصوم وكفَّرَهم. وكان صاحب جرأة، وتحرق على الأشعرية، فرموه بالتجسيم.

قال الذهبي: ورأيت له مصنفاً في الصفات. فلم أرَ به بأساً. قال: وكان منابذاً للحنابلة. وفيه شراسة أخلاق، مع صلاح ودين يابس.

توفي في ثامن شعبان سنة تسع وسبعين وستمائة عن نيف وسبعين سنة رحمه الله.

قلت: حدثنا عنه ابن الخباز، وعن إسحاق بن الشقراوي المتقدم ذكره.

أخبرنا محمد بن إسماعيل الأنصاري أخبرنا عبد الساتر بن عبد الحميد، وإسحاق بن إبراهيم قالا: حدثنا الحسين بن الزبيدي أنبأنا أبو الوقت أنبأنا الداودي أخبرتا الحموي أخبرنا الفربري حدثنا البخاري قال: حدثنا المكي بن إبراهيم حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال: "كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب إذا توارت بالحجاب.

وفي حادي عشرين رمضان سنة تسع وسبعين أيضاً: توفي الفقيه شمس الدين أبو عبد اللّه:-

محمد بن داود بن إلياس البعلي الحنبلي، ودفن بظاهر بعلبك: ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.

وسمع من الشيخ موفق الدين، وابن المنى، وطائفة، وخدم الشيخ الفقيه اليونيني مدة.

قال القطب ابن اليونيني: سمع من حنبل، والكندي، وابن الزبيدي، ورحل إلى البلاد للسماع، وخدم والدي مدة، وقرأ عليه القرآن، واشتغل عليه، وحفظ "المقنع" وعرف الفرائض.

وكان ذا ديانة وافرة، وصدق، وأمانة، وتحز في شهاداته وأقواله، وحدث بمسموعاته.

عبد الجبار بن عبد الخالق بن محمد بن أبي نصر بن عبد الله بن عبد الباقي بن عكبر الزاهد بن عبد الخالق بن محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن منصور بن سالم بن تميم بن أبي نصر بن عبد الله بن سالم بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب. هكذا رأيت نسبه، وفيه نظر، واللّه أعلم، البغدادي، العَكبريّ، الفقيه المفسر الأصولي، الواعظ، جلال الدين أبو محمد: ولد سنة تسع عشرة وستمائة ببغداد.

ونسبه الذهبي في المشتبه: عبد الجبار بن عبد الخالق بن محمد بن عبد الباقي بن عكبر بن مهلهل بن عكبر العكبري،- بفتح العين- البغدادي، شيخ الحنابلة، وشيخ الوعاظ في زمانه، صنف التفسير وكتاب "إيقاظ الوعاظ" وكتاب "المقدمة في أصول الفقه".

وسمع من ابن اللتي، والقاضي أبي صالح الجيلي، وأحمد بن يعقوب المارستاني، ومحمد بن أبي السهل الواسطي، وأحمد بن عمر القادسي، وغيرهم.

واشتغل بالفقه والأصول، والتفسير، والوعظ، وبرع في ذلك، وله النظم والنثر، والتصانيف الكثيرة، منها: تفسير القران في ثمان مجلدات، ودرس بالمستنصرية.

قال شيخنا بالإِجازة صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق، في حقه: شيخ الوعاظ ببغداد، ومتقدمهم. وكان في صباه خياطاً، واشتغل بالطب مدة، ثم رتب فقيهاً بالمستنصرية، واشتغل بالفقه والتفسير، وطالع. وكان يجلس للوعظ بمجلس القاعوس بدرس الحب، ثم اختير في أواخر زمن الخليفة للوعظ بباب بدر، تحت منظرة الخليفة ولم يزل على ذلك إلى واقعة بغداد، واستؤسر فاشتراه بدر الدين صاحب الموصل؛ فحمله إلى الموصل فوعظ بها، ثم حَدَّرد إلى بغداد، فرتب مدرساً للحنابلة بالمدرسة المستنصرية، ولم يزل يعقد مجلس الوعظ في الجمعات بجامع الخليفة إلى أن توفى، وله تفسير الكتاب الكريم، ومسائل خلاف، وأربعون حديثاً تكلم عليها، وله مسموعات ومجازات.

قلت: سمع منه جماعة، منهم: نسيبه نصير الدين أحصد بن عبد السلام بن عكبر.

وروى عنه بالإِجازة جماعة من شيوخنا، منهم: صفي الدين عبد المؤمن المذكور في مشيخته. وقال: توفي يوم الإِثنين سابع عشرين شعبان سنة إحدى وثمانين وستمائة؛ ودفن في دويرة له مجاور مسجد ابن بورنداز. وكان يوماً مشهوداً، رحمه اللّه تعالى.

عبد الله بن أبي بكر بن أبي البدر محمد، الحربي البغدادي الفقيه الفقير الزاهد القدوة، بقية شيوخ العراق: ويعرف بكتيلة، ووجدت في طبقته: سماع أبيه أبي بكر بن أبي البدر من درة بنت الحلاوي. وأنه يعرف بكتيلة: ولد الشيخ عبد اللّه سنة خمس وستمائة.

وسمع الحديث بدمشق من الحافظ الضياء المقدسي، وسليمان الأسعردي، وأجاز له الشيخ موفق الدين. وتفقه في المذهب ببغداد على القاضي أبي صالح. وارتحل.

وتفقه بحران على الشيخ مجد الدين ابن تيمية، وابن تميم صاحب "المختصر" وبدمشق على الشيخ موفق الدين بن أبي عمر، وغيره. وبمصر على أبي عبد الله بن حمدان، ونقل عنهم فوائد، وشرح كتاب "الخرقي" وسماه "المهم" وله تصانيف أخر منها: مجلد في أصول الدين، سماه "العدة للشدة" وله مصنف في السماع.

وحدث وسمع منه عبد الرزاق بن القوطي، وغيره.

وكان قدوة زاهداً عابداً ذا أحوال وكرامات. وكان أرباب الدولة وغيرهم يعظمونه ويحترمونه، وله أتباع وأصحاب، وصحب الشيخ أحمد المنذز وغيره من الصالحين، وحكى عنه أبو عبد الله بن الدباهي الزاهد.

قال الذهبي: حدثنا ابن الدباهي عن الشيخ: أنه- مع جلالته- كان في رض الأوقات يترنم ويغني لنفسه، وأنه كان فيه كيس وظرف وبشاشة، وقال: سمعته يقول: كنت على سطح ببغداد يوم عرفة، وأنا مستلق على ظهري، قال: فما شعرت إلا وأنا واقف بعرفة مع الركب سويعة، ثم لم أشعر إلا وأنا على حالتي الأولى مستلق، قال: فلما قدم الركب جاءني إنسان صارخاً، فقال: يا سيدي، أنا قد حلفت بالطلاق: أني رأيتك بعرفة العام، وقال لي واحد وجماعة: أنت واهم، الشيخ ما حج في هذا العام، قال: فقلت له: امضِ، لم يقع عليك طلاق.

توفي رحمه الله يوم الجمعة منتصف رمضان سنة إحدى وثمانين وستمائة ببغداد، رحمه الله، وهو في عشر الثمانين.

يوسف بن جامع بن أبي البركات البغدادي القفصي الضرير، المقرئ، النحوي الفرضي، جمال الدين، أبو إسحاق: ولد سابع رجب سنة ست وستمائة بالقفص، من قرى دجيل، من أعمال بغداد. وقرأ القرآن بالروايات على أبي عبد الله محمد بن سالم صاحب البطائحي، وعلي بن الحسين اليوسفي، صاحب أبي طالب العكبري، وغيرهم.

وسمع الحديث من عمر بن عبد العزيز بن الناقد، وأخته تاج النساء عجيبة، وأجاز له عبد العزيز بن منينا، وريحان بن تيكان، وأبو منصور بن عبيدة، والشرف الخالصي، وعبد اللطيف بن القبيطي، وزكريا العلثي، وطائفة.

وسمع في العربية والقراءة والفرائض، وغير ذلك. وانتفع الناس به في هذه العلوم. وصنف فيها التصانيف.

قال شيخنا بالإِجازة صفي الدين عبد المؤمن في مشيخته: شيخ عالم بالقراءة والعربية من مشايخ القراء. وصنف لْي القراءات وغيرها. وله قصيدة في التجويد وشروحه. وشرحِ كتاب "التلقين"، لأبي البقاء العكبري في النحو. وله مصنفات غير ذلك.

قال إبراهيم الجعبري: جَمَّاعة لعلوم القرآن. قرأت عليه "المصباح" في القراءات. ورواة التذكرة. ووقف ابن الأنباري، و"اللباب" عن مؤلفه أبي البقاء.

ثم رحل إلى الشام، فقرأ على العلم المايوقي شرح "المفضل" و "الخرولية" و "الشاطبية" وصنف "الشافعي" في العشرة، وأرجوزة وغيرهما.

وقال أبو العلاء الفرضي في معجمه: كَان شيخاً فقيهاً عالماً، إماماً فاضلاً، مقرئاً. عارفاً بروايات السبعة والشواذ وعللها، جامعاً للعلوم، وله في ذلك تصانيف كثيرة.

وقال الشريف عز الدين الحافظ: متفنن، له معرفة باللغة العربية، ووجوه القراءات، وطرق القراء. وله في ذلك تصانيف تدل على فضله.

وقال الذهبي في تاريخه: كان مقرئ بغداد، عارفاً باللغة والنحو، بصيراً بعلل القراءات، متصدياً لإِقرائها، ودخل دمشق ومصر، وسمع من شيوخها.

وقال في الطبقات: كان عارفاً باللغة والنحو، جم الفضائل، وكان لا يتقدمه أحد في زمانه في الإِقراء. أخذ عنه علي بن أحمد بن موسى الجزري.

وسمع منه أبو العلاء الفرضي? وأحمد بن القلانسي.

وحدثني البرازلي: أنه قدم دمشق في الكهولة، وقرأ ختمة السبعة في نحو ثمانية أيام على العلَم القاسم بن أحمد، وإنما قصد اتصال طريق التيسير له، وإلا فشيوخه أسند العلَم.

قلت: أجاز لغير واحد من شيوخنا، كالعلم البرزالي، وعبد المؤمن بن عبد الحق وعلي بن عبد الصمد.

وتوفي يوم الجمعة تاسع عشرين- أو يوم السبت سلخ صفر- سنة اثنين وثمانين وستمائة ببغداد، وصلَّى عليه يوم السبت، ودفن بباب حرب رحمه اللّه تعالى.

عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، الجماعيلي الأصل العمادي، الفقيه الإمام، الزاهد الخطيب، قاضي القضاة، شيخ الإسلام، شمس الدين، أبو محمد، وأبو الفرج، ابن الشيخ أبي عمر: ولد في المحرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة بالدير بسفح قاسيون.

وسمع من أبيه، وعمه الشيخ موفق الدين، وبإفادتهما من عمر بن طبرزد، وحنبل، وأبي اليمن الكندي، وأبي القاسم بن الحرستاني، وابن ملاعب، وجماعة. أوجز له الصيدلاني، وابن الجوزي، وجماعة ثم سمع نفسه من أصحاب السلفي. وقرأ الناس على ابن الزبيدي، وابن اللتي وجماعة. وعنى بالحديث وكتب بخطه الأجزاء والطباق.

وتفقه على عمه شيخ الإِسلام موفق الدين. وعرض عليه كتاب "المقنع" وشرحه عليه. وأذن له في إقرائه، وإصلاح ما يرى أنه يحتاج إلى إصلاح فيه. ثم شرحه بعده في عشر مجلدات. واستمد فيه من "المغني" لعمه.

وأخذ الأصول عن السيف الآمدي. ودرس وأفتى. وأقرأ العلم زماناً طويلاً وانتفع به الناس، وانتهت إليه رياسة المذهب في عصره، بل رياسة العلم في زمانه.

وكان معظماً عند الخاص والعام، عظيم الهيبة لدى الملوك وغيرهم، كثير الفضائل والمحاسن، متين الديانة والورع.

وقد جمع المحدث إسماعيل بن الخباز ترجمته وأخباره في مائة وخمسين جزءاً، وبالغ، وبقي كلما أثنى عليه بنعت من الفقه، أو الزهد، أو التواضع: سرد ما ورد في ذلك بأسانيده الطويلة الثقيلة، ثم تحول إلى ذكر شيوخه، فترجمهم، ثم إلى ذكر الإمام أحمد، فأورد سيرته ومحنته كلها، كما أوردها ابن الجوزي، ثم أورد السيرة النبوية، لكونه من أمة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ الذهبي: وما رأيت سيرة عالم أطول منها أبداً، وقال الذهبي في معجم شيوخه، في ترجمة الشيخ شمس الدين: شيخ الحنابلة، بل شيخ الإِسلام، وفقيه الشام، وقدوة العباد، وفريد وقته. من اجتمعت الألسن على مدحه والثناء عليه. حدث نحواً من ستين سنة. وكتب عنه أبو الفتح بن الحاجب.

وقال: سألت عنه الحافظ محمد بن عبد الواحد- يعني الضياء- فقال: إمام عالم، خبر دين.

قال الذهبي: وكان الشيخ محيي الدين- يعني النووي- يقول: هذا أجل شيوخي.

وأول ما ولي: مشيخة دار الحديث سنة خمس وستين. حدث عنه بها في حياته.

قلت: وروى عنه الشيخ محيي الدين في كتاب الرخصة في القيام" له. وقال: حدثنا الشيخ الإمام العالم المتفق على إمامته وفضله وجلالته: الفقيه أبو محمد عبد الرحمن ابن الشيخ الإِمام العالم، العامل الزاهد أبي عمر المقدسي رضي اللّه عنه.

قال الذهبي: وروى عنه أيضاً الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم، وهو أكبر منه وأسند. وذكره في تاريخه الكبير. وأطال ترجمته. وذكر فضائله وعبادته وأوراده، وكرمه ونفعه العام، وأنه حج ثلاث مرات. فكان آخرها: قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يطلبه، فحج ذلك العام. وحضر الفتوحات، وأنه كان رقيق القلب، سريع الدمعة، كريم النفس، كثير الذكر لله، والقيام بالليل، محافظاً على صلاة الضحى. ويصلِّي بين العشاءين ما تيسر، ويؤثر بما يؤتيه من صلة الملوك وغيرهم. وكان متواضعاً عند العامة، مترفعاً عند الملوك. وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والمحدثين وأهل الدين. وأوقع اللّه محبته في قلوب الخلق. ولم يكن في زمانه من يصلَّي أحسن منه، ولا أتم خشوعاً. وكان كثير الدعاء والابتهال، لا سيما في الأماكن المرجو فيها الإِجابة، وبعد قراءة آيات الحرس بالجامع بعد العشاء، كثير الاهتمام بأمور الناس، لا يكاد يعلم بمريض إلا افتقده، ولا مات أحد من أهل الجبل إلا شيعه.

وذكر فخر الدين البعلبكي: أنه منذ عرفه ما رآه غضب، وعرفه نحو خمسين سنة.

وقد ولي القضاء مدة تزيد على اثني عشرة سنة، على كره منه. ولم يتناول معلوماً ثم عزل نفسه في آخر عمره. وبقي قضاء الحنابلة شاغراً مدة، حتى ولي ولده نجم الدين في آخر حياة الشيخ. وكان الشيخ نزل في ولايته للحكم على بهيمة إلى البلد.

وقد ذكر أبو شامة في ذيله: ولاية الشيخ سنة أربع وستين? قال: جاء من مصر ثلاثة عهود بقضاء القضاة لثلاثة عن القضاة: ابن عطاء، والزواوي، وابن أبي عمر. فلم يقبل المالكي والحنبلي، وقبل الحنفي. ثم ورد الأمر بإلزامها بذلك، وقيل: إن لم يقبلاها وإلا لا يؤخذ ما بأيديهما من الأوقات، ففعلا، وامتنعَا من أخذ جامكية، وقالا: نحن في كفاية، فأعفيا منها.

وذكر الذهبي عن أبي إسحاق اللوزي المالكي- وكان شيخ المالكية، ومن أهل العلم والدين والحديث- أنه قال: كان شيخنا شيخ الإِسلام شمس الدين قدوة الأنام، حسنت! الأيام، ممن تفتخر به دمشق على سائر البلدان، بل يزهو به عصره على متقدم العصور والأزمان، لما جمع الله له من المناقب والفضائل التي أوجبت للأواخر الافتخار على الأوائل.

منها: التواضع، مع عظمته في الصدور، وترك التنازع فيما يفضي إلى التشاجر والنفور، والاقتصاد في كل ما يتعاطاه من جميع الأمور، لا عجرفة في كلامه ولا تقعر، ولا تعظم في مشيته ولا تبختر، ولا شطط في ملبسه ولا تكثر، ومع هذا فكانت له صدور المجالس والمحافل، وإلى قوله المنتهي في الفصل بن العشائر والقبائل، مع ما أمده اللّه عليه من سعة العلم، وفطره عليه من الرأفة والحلم. وكان لا يوفر جانبه عمن قصده، قريباً كان أو أجنبياً. ولا يدخر شفاعته عمن اعتمده، مسلماً كان أو ذمياً. ينتاب بابه الأمراء والملوك. فيساوي في إقباله عليهم بين المالك والملوك.

ولي الشيخ قضاء القضاة في جمادى الأولى سنة أربع وستين على كره منه. وكان الشيخ رحمه اللّه رحمة على المسلمين، ولولاه لراحت أملاك الناس لما تعوض إليها السلطان. فقام فيها قيام المؤمنين وأثبتها لهم. وعاداه جماعة الحكام، وعملوا في حقه المجهود. وتحدثوا فيه بما لا يليق. ونصره اللّه عليهم بحسن نيته. ويكفيه هذا عند الله.

وقال البرزالي في تاريخه: كان الشيخ شيخ الوقت، وبركة العصر. ولي الحكم والخطابة، والمشيخة والتدريس مدة طويلة، ومراده خطابة الجبل ومشيخة دار الحديث الأشرفية به.

وقال اليونيني في تاريخه: شيخ الإِسلام، علماً وزهداً وورعاً، وديانة وأمانة، كبير القدر، جم الفضائل. انتهت إليه الرياسة في الفقه على مذهب الإِمام أحمد، وشرح كتاب "المقنع" لعمه الشيخ موفق الدين، وإن كان معظم الشج مأخوذ من كلام عمه. وكان له اليد الطولى في معرفة الحديث، والأصول والنحو وغير ذلك من العلوم الشرعية، مع العبادة الكثيرة، والتواضع واللطف بكرم الأخلاق، ولين الجانب، والإِحسان إلى القريب والبعيد، والاحتمال. وولي قضاء القضاة مكرهاً. وباشر ذلك مدة. ثم عزل نفسه، وامتنع من الحكم، وبقي متوفراً على العبادة والتدريس، وإشغال الطلبة والتصنيف. وكان أوحد زمانه في تعدد الفضائل، والتفرد بالمحامد، ولم يكن له نظير في خُلقه ورياضته. وما هو عليه، وانتفع به خلق كثير. وكان على قدم السلف الصالح في معظم أحواله.

اشتغل على الشيخ شمس الدين رحمه اللّه خلق كثير.

وممن أخذ عنه العلم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ مجد الدين إسماعيل بن محمد الحراني، وكان يقول: ما رأيت بعيني مثله.

وحدث بالكثير. وخرج له أبو الحسن بن اللبان مشيخة في أحد عشر جزءاً. وأخرج له الحافظ الحارثي أخرى. وحدث بهما.

وروى عنه خلق كثير من الأئمة والحفاظ، منهم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وأبو محمد الحارثي، وأبو الحسن بن العطار، والمزي، والبرزالي.

وحدثنا عنه جماعة، منهم: داود بن العطار، والمزي، والبرزالي.

وحدثنا عنه جماعة، منهم: داود بن العطار أخو أبي الحسن، وأبو عبد اللّه بن الخباز، وأحمد بن عبد الرحمن الحريري، وغيرهم.

وتوفي ليلة الثلاثاء سلخ ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وستمائة، ودفن من الغد عند والده بسفح قاسيون. وكانت جنازته مشهودة، حضرها أمم لا يحصون ويقال: إنه لم يسمع بمثلها من دهر طويل.

قال الذهبي: ورأيت وفاة الشيخ شمس الدين بن أبي عمر بخط شيخنا شيخ الإِسلام تقي الدين ابن تيميهْ. ممن ذلك: توفي شيخنا الإِمام، سيد أهل الإِسلام في زمانه، وقطب فلك الأنام في أوانه، وحيد الزمان حقاً حقاً، وفريد العصر صدقاً صدقاً، الجامع لأنواع المحاسن، والمعافي البريء عن جميع النقائص والمساوئ، القارن بين خلتي العلم والحلم، والحسب والنسب، والعقل والفضل، والخَلق والخُلق، ذي الأخلاق الزكية، والأعمال المرضية، مع سلامة الصدر والطبع، واللطف والرفق، وحسن النية، وطيب الطوية، حتى إن كان المتعنت ليطلب له عيباً فيعوزه- إلى أن قال- وبكت عليه العيون بأسرها، وعم مصابه جميع الطوائف، وسائر الفرق. فأي دمع ما انسجم، وأي أصل ما جُذم، وأي ركن ما هدم، وأي فضل ما عدم?! يا له من خطب ما أعظمه، وأجل ما أقدره، ومصاب ما أقحمه? وأكبر ذكره.

وبالجملة: فقد كان الشيخ أوحد العصر في أنواع الفضائل، بل هذا حكم مسلم من جميع الطوائف. وكان مصابه أجل من أن تحيط به العبارة، فرحمه الله ورضى عنه، وأسكنه بحبوحة جنته، ونفعنا بمحبته. إنه جواد كريم. انتهى.

وقد رثاه نحو ثلاثين شاعراً، منهم الشهاب محمود، وكان من تلامذته، فقال:

ما للوجود، وقـد عـلاه ظـلام?

 

أعراه خطب أم عـداه مـرام?.

أم قد أصيب بشمسه فـقـداً وقـد

 

لبسـت عـلـيه حـدادهـا الأيام

لم أدر: هل نبذ الظلام نجـومـه?

 

أم حل لذلـك الأثـير نـظـام?

أترى درى صرف الردى لما رمى

 

أن المصاب بسهمـه الإِسـلام?

أو أنه ما خص بالـسـهـم الـذي

 

أصمى به دون العـراق الـشـام

سهم تقصد واحـداً فـغـدا وفـي

 

كل الـقـلـوب لـوقـعـه آلام

ما خلت أن يد المنون لها عـلـى

 

شمس المعارف والهـدى إقـدام

من كان يستسقي بغـرة وجـهـه

 

إن عاد وجه الغيث وهو جـهـام

وتنير للساري أَسِـرَّةُ فـضـلـه

 

فكأنما هـي لـلـهـدى أعـلام

كانت تطيب لنا الحـياة بـأنـسـه

 

وبقربه فعلـى الـحـياة سـلام

كانت لـيالـينـا بـنـور بـقـائهِ

 

فينـا تـضـيء كـأنـهــا أيام

من للعلوم? وقد علت وغلـت بـه

 

أضحت تسامى بـعـده وتـسـام

من للحديث? وكان حافظ سـربـه

 

من أن يضم إلى الصحاح سقـام

وله إذا ذكر العـلـوم مـراتـب

 

تسمو فتقصر دونـهـا الأوهـام

يروى فيروِي كل ذي ظـمـأ لـه

 

يحمي الحديث تـعـلـق وهـيام

من للقضايا المشكلات إذا نـبـت

 

عنها العقول وحارت الأفـهـام.

هل للفتاوى من إذا وافـى بـهـا

 

قضى القضاء وجفـت الأقـلام?

من للمنابر وهو فارسـهـا الـذي

 

تحيي القلوب بـه وهـن رمـام.

ولـه إذا أَمَّ الـدروس مـواقـف

 

مشهـودة مـا نـالـهـن إِمـام

ولديه في علم الكـلام جـواهـر

 

غرر يحير بحسنهـا الـنـظـام

من للزمان? وكان طول حـياتـه

 

لليل يحيي والـهـجـير يصـام

وذوو الحوائج ما أتـوه لـحـادث

 

إلا ونالـوا عـنـده مـا رامـوا

وهي طويلة. ومما أفتى به الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، ونقلته من خطة في رجل استأجر أرض قرية في زمن الأمن، ثم وقع فيها الخوف من الإفرنج، وتعذر عليه زرع أكثر أراضيها بسبب الخوف: أنه يجوز له الفسخ بذلك. ووافقه عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي وهو أبو شامة، وكذلك على الشافعي، ولا أعرف من هو.

وأفتى أيضاً في وقف على جماعة مقربين في قرية، حصل لهم حاصل من فعل القرية، فطلبوا أن يأخذوا ما استحقوه عن الماضي- وهو سنة خمس مثلاً- فهل يصرف يهم الناظر بحساب سنة خمس الهلالية، أو بحساب سنة المغل. مع أنه قد نزل بعد هؤلاء متقدمين جماعة، وشاركوهم في حساب سنة المغل، فإن أخذ أولئك على حساب السنة هلالية لم يبقَ للمتأخرين إلا شيء يسير.

أجاب هو، وأبو شامة، وابن رزين الشافعي، وسليمان الحنفي: لا يحسب إلا بسنة المغل دون الهلالية.

القاسم بن محمد بن الخضر بن تيمية الحراني، نزيل دمشق، الشيخ شهاب الدين أبو المحاسن، وأبو أحمد بن الشيخ مجد الدين أبي البركات، وقد سبق ذكر أبيه، وهو والد شيخ الإِسلام تقي الدين أبي العباس: ولد سنة سبع وعشرين وستمائة بحران.

وسمع من والده وغيره. ورحل في صغره إلى حلب، وسمع بها من ابن اللتي وابن رواحة، ويوسف بن خليل، ويعيش النحوي. وقرأ العلم على والده، وتفنن في الفضائل.

قال الذهبي: قرأ المذهب حتى أتقنه على والده، ودرس وأفتى وصنف، وصار شيخ البلد بعد أبيه، وخطيبه وحاكمه، وكان إماماً محققاً لما ينقله، كثير الفوائد، جيد المشاركة في العلوم، له يد طولى في الفرائض، والحساب والهيئة، وكان ديناً متواضعاً، حسن الأخلاق جواداً، من حسنات العصر، تفقه عليه ولداه: أبو العباس، وأبو محمد، وحدثنا عنه على المنبر ولده، وكال! قدومه إلى دمشق بأهله وأقاربه مهاجراً سنة سبع وستين.

قال: وكان الشيخ شهاب الدين من أنجم الهدى. وإنما اختفى بين نور القمر وضوء الشمس، يشير إلى أبيه وابنه، فإن فضائله وعلومه انغمرت بين فضائلهما وعلومهما.

وقال البرزالي: كان من أعيان الحنابلة، عنده فضائل وفنون. وباشر بدمشق مشيخة دار الحديث السكرية بالقضاعيين، وبها كان يسكن. وكان له كرسي بالجامع يتكلم عليه أيام الجمع من حفظه، ولما توفي خلفه فيها ولده أبو العباس.

وله تعاليق وفوائد، وصنف في علوم عديدة.

توفي رحمه الله ليلة الأحد، سلخ في الحجة سنة اثنتين وثمانين وستمائة، ودفن بدمشق من الغد بسفح قاسيون.

مظفر بن أبي بكر بن مظفر بن علي الجوسقي، ثم البغدادي، الفقيه الأصولي النظار، تقي الدين أبو الميامن. ويعرف بالحاج: ولد في مستهل رجب سنة ثلاث عشرة وستمائة.

وسمع من أبي الفضل محمد بن محمد بن الحسن السباك.

وتفقه وبرع في المذهب والخلاف والأصول، وناظر وأفتى، وعرس بالمدرسة البشيرية لطائفة الحنابلة. وكان من أعيان الفقهاء وأئمة المذهب.

قال عبد الرزاف بن الفوطي: سمعت شيخنا الإِمام أبا حامد محمد بن المطرزي- لما قدم من بغداد إلى مراغة، وقد سئل عمن بقي ببغداد من الأئمة.- فقال: لم أعرف بها فاضلاً فقيهاً عالماً بالأصول والفروع، غير تقي الدين الجوسقي. قال: وكفاك شهادة مثل هذا الكامل لهذا الفاضل.

وحدث. وسمع منه القلانسي، والفرضي. وأجاز لشيخنا علي بن عبد الصمد.

وتوفي في آخر نهار السبت رابع عشرين ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وستمائة.

وصلى عليه من الغد بالبشيرية. ودفن بحضرة قبر الإِمام أحمد إلى جانب الشيخ عبد الصمد. رحمهم الله تعالى.

محمد بن عبد الولي بن جبارة بن عبد الولي المقدسي، الفقيه تقي الدين: سمع بدمشق من أبي القاسم بن صصري وغيره، وببغداد من أبي الحسن القطيعي وطبقته. وكان فاضلاً متقناً صالحاً. وهو والد الشيخ شهاب الدين أحمد بن جبارة الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.

توفي في ذي الحجة سنة ثلاث وثمانين وستمائة بسفح قاسيون. ودفن به رحمه الله تعالى.

عبيد الله بن محمد بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، الفقيه شمس الدين: ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة.

وسمع من كريمة القرشية، وغيرها. وتفقه وبرع في المذهب، وأفتى ودرس.

قال اليونيني في تاريخه: كان من الفضلاء، الصلحاء الأخيار. سمع الكثير، وكتب بخطه. وشرع في تأليف كتاب في الحديث مرتباً على أبواب الفقه، ولو تم لكان نافعاٌ.

ورأى بعض الصلحاء في جبل الصالحية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وقد جاء إلى الجبل فقال له الرائي: يا رسول اللّه، فيم جئت إلى هنا? فقال: جئنا نقبس عبيد الله من نورنا. وكان شيخنا شمس الدين عبد الرحمن- يعني ابن أبي عمر- يحبه كثيراً، ويفضله على سائر أهله. وكان أهلاً لذلك. ولقد كان من حسنات المقادسة، كثير الكرم والخدمة والتواضع، والسعي في فضاء حوائج الإِخوان والأصحاب.

توفي يوم الإثنين ثامن عشر شعبان سنة أربع وثمانين وستمائة، بقرية جُماعيل، من عمل نابلس، ودفن بها. رحمه الله تعالى.

وفي جمادى الأولى من السنة المذكورة توفي:

إسماعيل بن إبراهيم بن علي الفراء الصالحي بالصفح: وكان صالحاً، زاهداً ورعاً، ذا كرامات ظاهرة، وأخلاق طاهرة، ومعاملات باطنة. صحب الشيخ الفقيه اليونيني.

وكان يقال: إنه يعرف الاسم الأعظم، رحمه الله تعالى.

عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم بن علي بن عثمان البصري، الفقيه الضرير، الإمام نور الدين أبو طالب، نزيل بغداد: ولد يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وستمائة بناحية عبدليان، من قرى البصرة.

وحفظ القرآن بالبصرة سنة إحدى وثلاثين على الشيخ حسن بن دويرة المذكور.

وقدم بغداد. وسكن بمدرسة أبي حكيم، وحفظ بها كتاب "الهداية" لأبي الخطاب، وجعل فقيهاً بالمستنصرية، ولازم الاشتغال حتى أذن له في الفتوى سنة ثمان وأربعين.

وسمع ببغداد من أبي بكر الخازن، ومحمد بن علي بن أبي السهل، والصاحب أبي محمد بن الجوزي، وغيرهم.

وسمع من الشيخ مجد الدين ابن تيمية أحكامه، وكتابه "المحرر" في الفقه. وكان بارعاً في الفقه. وله معرفة في الحديث والتفسير.

ولما توفي شيخه ابن دويره بالبصرة ولي التدريس بمدرسة شيخه، وخلع عليه ببغداد خلعة، وألبس الطرحة السوداء في خلافة المستعصم سنة اثنين وخمسين.

وذكر ابن الساعي: أنه لم يلبس الطرحة أعمى بعد أبي طالب بن الحنبلي سوى الشيخ نور الدين هذا. ثم بعد واقعة بغداد: طلب إليها ليولي تدريس الحنابلة بالمستنصرية، فلم يتفق. وتقدم الشيخ جلال الدين بن عكبر- الذي سبق ذكره- فرتب الشيخ نور الدين مدرساً بالبشيرية. فلما توفي ابن عكبر المذكور نقل إلى تدريس المستنصرية في شوال سنة إحدى وثمانين.

وله تصانيف عديدة، منها: كتاب "جامع العلو في تفسير كتاب الله الحي القيوم" كتاب "الحاوي" في الفقه، في مجلدين "الكافي، في شرح الخرقي" "الواضح"، في شرح الخرقي، "الشافعي" في المذهب "مشكل كتاب الشهادات" طريقه في الخلاف يحتوي على عشرين مسألة.

تفقه عليه جماعة، منهم: الإِمام صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق، وسمع منه. وكان يكتب عنه في الفتاوى، ثم أذن له فكتب عن نفسه، وقال عنه: كان شيخنا من العلماء المجتهدين، والفقهاء المنفردين.

وروى عنه جماعة من شيوخنا بالإِجازة. وكانت له فطنة عظيمة، وبادرة عجيبة.

أنبأني محمد بن إبراهيم الخالدي- وكان ملازماً للشيخ نور الدين حتى زوجه الشيخ ابنته- قال: عقد مرة مجلس بالمستنصرية للمظالم، وحضر فيه الأعيان، فاتفق جلوس الشيخ إلى جانب بهاء الدين بن الفخر عيسى، كاتب ديوان الإنشاء، وتكلم الجماعة. فبرز الشيخ نور الدين عليهم بالبحث، ورجع إلى قوله، فقال له ابن الفخر عيسى: من أين الشيخ? قال: من البصرة. قال: والمذهب? قال: حنبلي. قال: عجباً! بصري، حنبلي? فقال الشيخ: هنا أعجب من هذا: كردي رافضي. فخجل ابن الفخر عيسى وسكت. وكان كردياَ رافضياً. والرفض في الأكراد معدوم أو نادر.

توفي الشيخ نور الدين ليلة السبت ليلة عيد الفطر سنة أربع وثمانين وستمائة. ودفن في دكة القبور بين يدي قبر الإِمام أحمد رضي الله عنه.

ومن فوائده: أنه اختار: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وإن كان قليلاً، وفاقاً للإِمام.

وأن الترتيب يجب في التيمم إذا تيمم بضربتين، ولا يجب إذا تيمم بواحدة. وأن الريق يطهر أفواه الحيوانات والولدان. وان بني هاشم يجوز لهم أخذ الزكاة إذا منعوا حقهم من الخمس.

وحكى في جواز التيمم لصلاة العيد إذا خيف فواتها روايتين.

عبد الرحيم بن محمد بن أحمد بن فارس بن راضي بن الزجاج العلثي، ثم البغدادي، الفقيه، المحدث الزاهد الأثري، عفيف الدين أبو محمد، أحد مشايخ العراق: ولد في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وستمائة بالمأمونية ببغداد.

وسمع من عبد السلام بن يوسف العبرتي، من أصحاب ابن ناصر، والفتح بن عبد السلام، وأحمد بن صرما، وعلي بن بورنداز، والقطيعي، وابن روزبه وابن اللتي، والكاشغري، وابن الخازن، ونصر بن عبد الرزاق القاضي، وابن القبيطي، وابن السباك، والمبارك بن بيبا، وأحمد بن الشاذلي، وغيرهم.

وسمع بماردين من النشتبري، وأجاز له من دمشق أبو القاسم بن الحرستاني والافتخار الهاشمي وجماعة، وعني بالحديث أتم عناية، وقرأ بنفسه الكثير، والعالي والنازل، وسمع الناس بقراءته، وكتب بخطه الكثير.

قال أبو العلاء الفرضي: كان شيخنا عالماً، فقيهاً محدثاً، مكثراً مفيداً، زاهداً عابداً، من بيت الحديث، تابعاً للسنة، شديداً على المبتدعة، ملازماَ لقراءة القرآن والعبادة.

وقال محب الدين محمد بن عمر خطيب غرناطة- وقد سمع منه- فقيه، نحوي، لغوي، مفتَ، وأثنى عليه كثيراً.

قال شيخنا- بالإجازة- صفي الدين عبد المؤمن: كان شيخاً جليلاً، عالماً، عارفاً من أجل شيوخ الحديث، ملتزماً بالسنة، زاهداً ذا فضل وورع، وأدب وعلم.

وقال البرزالي عنه: محدث بغداد في وقته؛ موصوف باتباع السنة ونصرها، والذَّب عنها.

قال الذهبي: وله أتباع وأصحاب، يقومون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حدث بالكثير ببغداد وبدمشق.

سمع منه بدمشق الكبار، كالشيخ علي بن النفيس الموصلي، ومحمود الأرموي، والمزي، والبرزالي، والشيخ تقي الدين ابن تيمية، وغيرهم.

وببغداد خلق، منهم: إبراهيم الجعبري، والفرضي، وابن الغوطي، وشيخنا علي بن عبد الصمد.

حدثنا عنه ببغداد العفيف محمد بن السابق. شيخ المستنصرية. وبدمشق محمد بن الخباز.

وتوفي بطريق مكة الشامي، بذات عرق- عند عوده من الحج- يوم الجمعة وقت الصلاة سابع عشر المحرم سنة خمس وثمانين وستمائة.

وحكى عنه: أنه لما مر على الوالي المذكور متوجهاً إلى مكة- شرفها الله تعالى- من دمشق رأى قبور جماعة ماتوا هناك من قبل، فقرأ واستغفر لهم، وقال: طوبى لمن دفن معكم، فْوفي لما عاد، ودفن معهم، رحمه الله تعالى.

خليل بن أبي بكر بن صديق المراغي، المقرئ الفقيه، الأصولي القاضي، صفي الدين أبو الصفاء، نزيل مصر: ولد بمراغة سنة بضع وتسعين وخمسمائة.

وقدم دمشق وله نحو عشرين سنة، فقرأ بها القرآن بالعشرة على ابن تاسونة. وهو آخر من بقي من أصحابه.

وسمع بها من ابن الحرستاني بعض مشيخته، ولم يظهر ذلك.

وسمع من أبي الفتوح البكري، وابن ملاعب، والعطار، والشيخ موفق الدين، وموسى بن عبد القادر، والشيخ العماد، وابن أبي لقمة، وابن البني والقزويني، وابن صصري، والزبيدي، و ابن الصباح، وغيرهم.

وتفقه على الشيخ موفق الدين، وبرع وأفتى.

وقرأ أصول الفقه على السيف الآمدي ولازمه، وأقام بدمشق مدة، ثم توجه إلى الديار المصرية، فأقام بها إلى أن مات، وناب في القضاء بالقاهرة، فحمدت طرائقه، وشكرت خلائقه.

قال الذهبي: كان مجموع الفضائل، كثير المناقب، متين الديانة، عارفاً بالقرآن بعض المعرفة، صحيح الأخذ، بصير بالمذهب، عالماً بالخلاف والطب.

قرأ عليه بالروايات: بدر الدين بن الجوهري، وأبو بكر الجعبري، وجماعة من البصريين.

وسمع منه ابن الظاهري، وابنه أبو عمر، والقاضي أبو محمد الحارثي، والحافظ المزي، وأبو حيان، والحافظ عبد الكريم بن منير، وخلق سواهم.

وخرج له الحارثي مشيخة، سمعها منه أبو الحسن محمد بن نباتة.

وقال اليونيني: كان فاضلاً، عارفاً بالمذهب.

توفي يوم السبت سابع عشر ذي القعدة سنة خمس وثمانين وستمائة بالقاهرة. ودفن من الغد بمقابر باب النصر. رحمه الله تعالى.

وفي رجب من هذه السنة توفي الشيخ:-

موفق الدين أبو الحسن علي بن الحسين بن يوسف بن الصياد المقرئ الفقيه الحنبلي، المعدل ببغداد، ببعض أعمالها، وكان أحد المعيدين بالمستنصرية.

حدث عن ابن اللتي، وأجاز لجماعة من شيوخنا، وأبو العباس أحمد بن سنان بن تغلب، المؤدب الصالحي الكاتب، أحد المسندين في صفر بقاسيون.

روى عن حنبل، وابن طبرزد، والكندي، والطبقة، وله نظم جيد، وكذلك كان أبوه.

وفي آخر السنة توفي:-

أبو الفضل محمد بن محمد بن علي بن الزيات البابصري البغدادي الواعظ، أحد شيوخ بغداد المسندين: حدث عن ابن صرما، والمبارك بن أبي الجود، والفتح بن عبد السلام، وغيرهم.

وسمع منه خلق كثير، منهم الفرضي.

قال: وكان عالماً زاهداً، عارفاً، ثقة عدلاً، مسنداً، من بيت الحديث والزهد. وعظ في شبابه، ثم ترك.

وفي جمادى الأولى من السنة توشي:-

القاضي جلال الدين أبو إسحاق إسماعيل بن جمعة بن عبد الرزاق قاضي سامرَّا: وكان فاضلاً أديباً، له نظم حسن.

سمع من الشيخ جمال الدين عبد الرحمن بن طلحة بن غانم العلثي "فضائل القدس" لابن الجوزي بسماعه منه، وأجاز لغير واحد من أشياخنا

أحمد بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، الصالحي الفقيه، الزاهد الفرضي، شرف الدين أبو العباس: ولد في رابع عشر المحرم سنة أربع عشرة وستمائة.

وسمع من الشيخ موفق الدين- وهو جده لأمه، وعم أبيه- ومن البهاء عبد الرحمن وابن أبي لقمة، ومن ابن اللتي، وابن صصري، والحسين بن الزبيدي. وحضر علم موسى بن عبد القادر. وأجاز له ابن الحرستاني، وجماعة. وتفقه على التقي ابن العز.

وكان شيخاً صالحاً، زاهداً عابداً، ذا عفة وقناعة باليسير. وله معرفة بالفرائض والجبر والمقابلة. وله حلقة بالجامع المظفري، يشتغل بها احتساباً بغير معلوم، وانتفع به جماعة. حدث. روى عنه جماعة.

توفي ليلة الثلاثاء خامس المحرم سنة سبع وثمانين وستمائة. ودفن من الغد عند جده الشيخ موفق الدين بالروضة بالجبل. رحمه اللّه تعالى.

عبد الرحمن بن يوسف بن محمد بن نصر البعلي، الفقيه المحدث الزاهد، فخر الدين أبو محمد: ولد سنة إحدى عشرة وستمائة ببعلبك.

وقرأ القرآن على خاله صدر الدين عبد الرحيم بن نصر قاضي بعلبك.

وسمع الحديث من أبي المجد القزويني، والبهاء المقدسي، وابن اللتي؛ والناصح بن الحنبلي، ومكرم بن أبي الصقر، وغيرهم.

وتفقه على تقي الدين أحمد بن العزواني سليمان بن عبد الرحمن بن الحافظ، وشمس الدين عمر بن المنجا. وحفظ "علوم الحديث" وعرضه من حفظه على مؤلفه الحافظ تقي الدين بن الصلاح. وقرأ الأصول وشيئاً من الخلاف على السيف الآمدي، والقاضي نجم الدين بن راجح اللذين انتقلا إلى مذهب الشافعي.

وقرأ النحو على أبي عمرو بن الحاجب، ثم على مجد الدين بن الأربلي الحنبلي. وصحب الشيخ الفقيه اليونيني، وإبراهيم البطائحي، والنووي، وغيرهم.

وكان الشيخ الفقيه يحبه، ويقدمه على أولاده، حتى جعله إماماً لمسجد الحنابلة إلى أن انتقل إلى دمشق. ودرس بدمشق بالجوزية نيابة عن القاضي نجم الدين ابن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وبالصدرية والمسمارية نيابة عن بني المنجا. وباشر حلقة الجامع. وولي مشيخة الحديث بمشهد عروة، وبدار الحديث النورية وبالصدرية. وتخرج به جماعة من الفقهاء.

وكان دائم البشر، يحب الخمول ويؤثره، ويلازم قيام الليل من الثلث الآخر، ويتلو بين العشاءين، ويصوم الأيام البيض، وستاً من شوال، وعشر ذي الحجة والمحرم. ولا يخل بذلك. ذكر ذلك كله ولده الشيخ عز الدين.

قال: ولقد أخبر بأشياء، فوقعت كما قال لخلائق. وذلك مشهور عند من يعرفه. ولقد قال في صحته وعافيته: أنا أعيش عمر الإِمام أحمد، لكن شتان ما بيني وبينه، فكان كما قال. وقال لي: يا بني، تنزهت عن الأوقاف، إذ كان يمكنني. وكان لي شيء، فلما احتجت تناولت منها.

وقال ابن اليونيني: كان رجلاً صالحاً زاهداً، فاضلاً عابداً، وهو من أصحاب والدي، اشتغل عليه، وقدمه يصلَّي به في مسجد الحنابلة، رافقته في طريق مكة، فرأيته قليل المثل في ديانته وتعبده، وحسن أوصافه، وكان من خيار الشيوخ علماً وعملاَ، وصلاحاً وتواضعاً، وسلامة صدر، وحسن سمت، وصفاء قلب، وتلاوة قراَن وذكر. وكان أحد عباد الله الصالحين، ثم ذكر نحواً مما قال ولده، وقال: حدث بالكثير. وسمع منه جماعة من الأئمة والحفاظ.

وقال البرزالي: كان من خيار المسلمين، وكبار الصالحين.

توفي ليلة الأربعاء سابع رجب سنة ثمان وثمانين وستمائة بدمشق. ودفن من الغد بالقرب من قبر الشيخ موفق الدين بروضة الجبل. رحمه الله تعالى.

محمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن السعدي المقدسي، الصالحي، المحدث، الزاهد القدوة، شمس الدين، أبو عبد الله بن الكمال وهو ابن أخي الحافظ الضياء: ولد في ليلة الخميس حاثي عشر في الحجة سنة سبع وستمائة بقاسيون. وحضر على ابن الحرستاني، والكندي.

وسمع من ابن ملاعب، وابن أبي لقمة، والشيخ موفق الدين، وابن البني، والقزويني، وموسى بن عبد القادر، وابن صباح، وابن الزبيدي، وابن اللتي، وخلق كثير.

وقيل: إنه سمع ببغداد من المهذب ابن منده، وتحقق ذلك. ولازم عمه الحافظ الضياء، وتخرج به. وكتب الكثير بخطه. وخرج وانتخب، وقرأ على الشيوخ، وفي بالحديث، وتمم تصنيف "الأحكام" الذي جمعه عمه الحافظ ضياء الدين وخرج غير ذلك من الأجزاء والتخاريج، منها كتاب "فضل العيدين".

وكان يدرس الفقه بمدرسة عمه الشيخ ضياء الدين، وشيخ الحديث أيضاً بها وبدار الحديث الأشرفية بالسفح، وكان للطلبة عليه مواعيد يعلمهم فيها قراءة الحديث ويفيدهم، ويرد عليهم الغلط. انتفع به جماعة.

قال الذهبي: كان إماماً فقيهاً، محدثاً زاهداً عابداً، كثير الخير، له قدم راسخ في التقوى، ووقع في النفوس.

وقال اليونيني: كان صالحاً زاهداً عابداً، متقللاً من الدنيا. وعنده فضيلة.

وكان من سادات الشيوخ علماً وعملاً، وصلاحاً وعبادة.

وحكى لي عنه: أنه كان يحضر مكاناً في جبل الصالحية لبعض شأنه، فوجد جرة مملوءة دنانير، وكانت زوجته معه تعينه في الحفر، فاسترجع وطم المكان كما كان أولاً، وقال !زوجته: هذه فتنة، ولعل لها مستحقين لا نعرفهم، وعاهدها على أنها لا تشعر بذلك أحداً، ولا تتعرض إليه. وكانت صالحة مثله، فتركا ذلك تورعاً مع فقرهما وحاجتهما. وهذا غاية الورع والزهد. رحمهما الله تعالى.

حدث رحمه اللّه بالكثير نحواً من أربعين سنة. وسمع منه خلق كثير. وروى عنه جماعة من الأكابر.

وحدثنا عنه جماعة، منهم: ابن الخباز، وعبد اللّه بن محمد بن قيم الضيائية، وأحمد الحريري، وأبو الفضل بن الحموي، وعمر بن عثمان بن سالم المقدسي.

وتوفي بعد عشاء الآخرة من ليلة الثلاثاء تاسع جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وستمائة بمنزله بمدرسة عمه أبي عمر بالجبل. ودفن من الغد عند الشيخ موفق الدين بالروضة. رحمه الله تعالى.

أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، الصالحي، قاضي القضاة، شيخ الِإسلام، شمس الدين أبي محمد، ابن الشيخ أبي عمر، وقد سبق ذكر أبيه وجده: ولد في شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة.

وسمع الحديث ولم يبلغ أوان الرواية. وتفقه على والده. وولي القضاء في حياة والده بإشارته.

قال البرزالي: كان خطيب الجبل، وقاضي القضاة، ومدرس أكثر المدارس وشيخ الحنابلة، وكان فقيهاً فاضلاً، سريع الحفظ، جيد الفهم، كثير المكارم شهماً شجاعاً، ولي القضاء ولم يبلغ ثلاثين سنة، فقام به أتم قيام.

وقال اليونيني: كانت له الخطابة بالجامع المظفري، والإِمامة بحلقة الحنابلة بجامع دمشق، ونظر أوقاف الحنابلة. وكان مشكور السيرة في ولايته، وعنده معرفة بالأحكام، وفقه نفيس، وفضيلة ومشاركة في كثير من العلوم من غير استقلال، وكان يركب الخيل، ويلبس السلاح، ويحضر الغزوات. وحج مراراً.

وقال غيره: ودرس بدار الحديث الأشرفية بالسفح، وشهد فتح طرابلس مع السلطان الملك المنصور. وكان شاباً مليحاً مهيباً، تام الشكل يديناً، ليس له من اللحية إلا شعيرات يسيرة، وكان مليح السيرة، ذكياً مليح الدروس، له قدرة على الحفظ، ومشاركة جيدة في العلوم، وله شعر جيد، فمنه:

آيات كتب الغرام أدرسـهـا

 

وعَبرتي لا أطيق أحبسـهـا

لبس ثوب الضنى على جسدي

 

وحلة الصبر لست ألبسـهـا

وشادن ما رمى بمقـلـتـه

 

إلا سبى العالمين نرجسهـا

فوجهـه جـنة مـزخـرفة

 

لكن بنبل الجفون يحرسهـا

وريقة خـمـرة مـعـتـقة

 

دارت علينا من فيه أكؤسها

يا قمراً أصبحت ملاحـتـه

 

لا يعتريها عيب يدنـسـهـا

صِل هائماً إن جرت مدامعه

 

تلحقهما زفرة تـيبـسـهـا

توفي يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وستمائة، بمنزله بقاسيون وصلَّى عليه ضحوة يوم الأربعاء خارج جامع الجبل، وحضره نائب السلطنة والأمراء والقضاة والأعيان، ودفن عند أبيه وجلى، رحمهما الله تعالى وكان عمره ثمانية وثلاثين سنة.

عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الملك بن عثمان بن عبد الله بن سعد بن مفلح بن هبة الله بن نمير المقدسي، ثم الصالحي، المحدث الزاهد، شمس الدين أبو الفرج بن الزين: ولد في ذي القعدة سنة ست وستمائة بقاسيون.

وسمع بدمشق من الكندي، وابن الحرستاني، وابن مندويه، حضوراً وسماعاً من ابن البناء، وابن الجلاجلي، وابن ملاعب، والشيخ موفق الدين، وجماعة.

وببغداد من الفتح بن عبد السلام، والداهري، والعلثي، والسهروردي، والحسن بن الجواليقي، وابن بورانداز، وغيرهم.

وسمع بحلب وحران والموصل، وعني بالسماع. وكتب بخطه، وأثبت لنفسه وله إجازة من أسعد بن روح، وعائشة بنت الفاخر، وزاهر الثقفي، وغيرهم.

قال الذهبي: كان فقيهاً زاهداً، ثقة نبيلاً.

وقال أيضاً: كان من أولى العلم والعمل، والصدق والورع. وحدث بالكثير وأكثر عنه ابن نفيس، والمزي، والبرزالي، وحدثني عنه جماعة.

وتوفي يوم الإثنين تاسع عشرين ذي القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة، بالسفح، ودفن من يومه بالقرب من قبر الشيخ أبي عمر، رحمه الله.

وفي هذه السنة- أعني سنة تسع وثمانين- توفي من أصحابنا: الشيخ شمس الدين أبو الفضائل:-

محمد بن عبد الرزاق بن رزق الله الرسعني: وقد سبق ذكر أبيه. وكان ابنه هذا فقيهاً شاعراً، أديباً معدلاً.

حدث عن ابن روزبة، وابن القبيطي، وغيرهم.

وذكر أبوه في تفسيره غير مرة: أنه كان يسأله عن غوامض في التفسير، ويتكلم فيه بكلام جيد.

غرق بنهر الشريعة من الغور في جمادى الآخرة من هذه السنة.

وكان أحد الشهود بدمشق، ويؤم بمسجد الرماحين. ومن شعره:

ولو أن إنساناً يبلـغ لـوعـتـي

 

ووجدي وأشجاني إلى ذلك الرشا

لأسكنته عيني، ولم أرضهـا لـه

 

ولولا لهيب القلب أسكنته الحشا

وله:

أآيس من بر، وجودك واصـل

 

إلى كل مخلوق، وأنت كريم?

وأجزع من ذنب، وعفوك شامل

 

لكل الورى طراً، وأنت رحيم?

وأجهد في تدبير حالي جهـالة

 

وأنت بتدبير الأنـام حـكـيم?

وأشكو إلى نعماك ذلي وحاجتي

 

وأنت بحالي يا عزيز علـيم?

وتوفي في هذه السنة أيضاً:-

شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن عون الدين يحيى بن شمس الدين علي بن عز الدين محمد بن الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة: نزيل بلبيس، بها، وكان ناظراً على ديوانها: حدث عن الداهري، ونصر بن عبد الرزاق. وابن اللتي.

سمع منه الحارثي، والمزي، والقطب عبد الكريم، والبرزالي، والفرضي، وغيرهم. وكان فاضلاً. وله شعر حسن.

علي بن أحمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن السعدي، المقدسي الصالحي، الفقيه المحدث المعمر، سند الوقت، فخر الدين أبو الحسن، ابن الشيخ شمس الدين البخاري، وقد سبق ذكر أبيه، وعمه الحافظ الضياء. ولد في آخر سنة خمس وسبعين وخمسمائة، أو أول سنة ست وسبعين.

سمع بدمشق من ابن طبرزد، وحنبل، وأبي المحاسن بن كامل، وأبي اليمن الكندي، وابن الحرستاني، وابن الدنف، والخضر بن كامل، وابن ملاعب، وهبة اللّه بن طاوس، وأبي الفضل بن سيدهم، وأبي المعالي بن المنجا، وأخيه عبد الوهاب، والشيخ موفق الدين، وأخيه أبي عمر، وغيرهم.

وسمع بالقدس: من أبي على الأوقي، وبمصر: من أبي البركات بن الحباب، وأبي عبد اللّه بن الرداد، وبالإِسكندرية: من جعفر الهمداني، وظافر بن سحم، وابن رواح، وبحلب من ابن خليل الحافظ، وبحمص: من أبيه الشمس البخاري الفقيه، وببغداد: من عبد السلام الداهري، وعمر بن كرم. وتفرد بالرواية عن جماعة منهمْ، وقرأ بنفسه.

وسمع كثيراً من الكتب الكبار والأجزاء. واستجاز له عمه الحافظ الضياء من خلق، منهم: أبو المكارم اللبان، وأبو جعفر الصيدلاني، والكراني، وعفيفة الفارقانية، وأبو سعد الصفار، وأسعد العجلي، وعبد الواحد الصيدلاني، وأبو طاهر الخشوعي، وأبو الفرج بن الجوزي، والمبارك بن المعطوش، وهبة الله بن السبط وغيرهم. وتفرد في الدنيا بالرواية العالية.

وتفقه على الشيخ موفق الدين، وقرأ عليه المقنع، وأذن له في إقرائه، وقرأ مقدمة في النحو، وصار محدث الإِسلام وراويته، روى الحديث فوق ستين سنة وسمع منه الأئمة الحفاظ المتقدمون، وقد ماتوا قبله بدهر، وخرج له عمه الحافظ ضياء الدين جزءاً من عواليه، وحدث كثيراً، سمعنا من أصحابه.

وذكر عمر بن الحاجب في معجم شيوخه، فقال: تفقه على والده، وعلى الشيخ موفق الدين، قال: وهو فاضل، كريم النفس، كيس الأخلاق، حسن الوجه، قاضٍ للحاجة، كثير التعصب، محمود السيرة، سألت عمه الشيخ ضياء الدين عنه. فأثنى عليه، ووصفه بالخلق الجميل، والمروءة التامة.

وقال الفرضي في معجمه: كان شيخاً عالماً فقيهاً، زاهداً عابداً، مسنداً مكثراً، وقوراً، صبوراً على قراءة الحديث، مكرماً للطلبة، ملازماً لبيته، مواظباً على العبادة، ألحق الأحفاد بالأجداد، وحدث نحواً من ستين سنة، وتفرد بالرواية عن شيوخ كثيرة.

وقال الشيخ تاج الدين الفراوي في تاريخه: انتهت إليه الرياسة في الرواية، وقصده المحدثون من الأقطار.

وقال الحافظ البرزالي: كان يحفظ كثيراً من الأحاديث وألفاظها المشكلة، وكثيراً من الحكايات والنوادر، ويرد على من يقرأ عليه مواضع، يدل رده على فضل ومطالعة ومعرفة، سألت ابن عبد القوي عنه? وعن ابن عبد الدائم? فرجح فضيلته على فضيلة ابن عبد الدائم.

وقال الذهبي: كان فقيهاً عارفاً بالمذهب، فصيحاً، صادق اللهجة. يرد على الطلبة، مع الورع والتقوى، والسكينة والجلالة.

وقال أيضاً: كان فقيهاً إماماً فاضلاً، أديباً زاهداً صالحاً خَيِّراً، عدلاً مأموناً، وقال: سألت المزي عنه? فقال: أحد المشايخ الأكابر، والأعيان الأماثل، من بيت العلم والحديث، قال: ولا يعلم أن أحداً حصل له من الحظوة في الرواية في هذه الأزمان مثل ما حصل له.

قال شيخنا ابن تيمية: ينشرح صدري إذا أدخلت ابن البخاري بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث.

وكان الشيخ فخر الدين في أول أمره يتعاطى السفر للتجارة، فلما أسَن لزم بيته متوفراً على العبادة والرواية، ولم يتدنس من الأوقاف بشيء، بلى هو وقف على مدرسة عمه الحافظ ضياء الدين من ماله، حدث من بعد العشرين والستمائة، وسمع منه الحفاظ والمتقدمون عمر بن الحاجب- ومات سنة ثلاثين وستمائة- والحافظ زكي الدب. المنذري، والرشيد العطار، حافظ الديار المصرية، وتكاثر عليه الطلبة من نحو الخمسين والستمائة، وازدحموا بعد الثمانين، حتى كان يكون لهم في اليوم الواحد عليه ثلاثة مواعيد.

وحدث ببلاد كثيرة، بدمشق، ومصر، وبغداد، والموصل، وتدمر، والرحبة، والحديثة، وزرع.

وحدث بالغزوات أيام الملك الظاهر، وخرج له أبو القاسم علي بن بلبان مشيخة حدث بها، سمعناها من أبي عبد اللّه محمد بن الخباز عنه.

وفي آخر عمره: خرج له الحافظ بن الظاهري مشيخة بمصر، وأرسلها مع البريد ففودي لها بدمشق، وفوَهَ بذكرها المحدثون والفقهاء، وسارعوا إلى سماعها، وجمع لها صبيان كثير، وانتدب لقراءتها الشيخ شرف الدين الفزاري، فقرأها في ثلاثة مجالس، اجتمع لها في المجلس الأخير: ألف نفر أو أكثر، ولم يعهد في هذه الأزمان مثل ذلك، ثم حدث بها مراراً عديدة. ورحل إليه الحفاظ والطلبة "من الأقطار. وتكاثرت عليه الإِجازات من أطراف البلاد، ولزمه المحدثون.

قال الذهبي: لا يدري ما قرأه عليه الموصلي والمزي من الكتب والأجزاء. فأما البرزالي، فقال: سمعت منه بقراءتي عليه وقراءة غيري ثلاثة وعشرين مجلداً، وأكثر من خمسمائة جزء.

وممن سمع منه من الحفاظ والأكابر: الدمياطي، وابن دقيق العيد، والحارث، والقاضي !ي الدين سليمان بن حمزة، والشيخ شمس الدين بن الكمال- قرأ عليه عده أجزاء، ومات قبله- والشيخ تقي الدين ابن تيمية، وابن جماعة. ورحل إليه أبو انفتح بن سيد الناس. فوجده مات قبل وصوله بيومين، فتألم لذلك.

قال الذهبي: وهو آخر من كان في الدنيا بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال ثقات. قلت: يريد بالسماع المتصل.

قال: وإن كان للدنيا بقاء فليتأخرن أصحابه إن شاء الله تعالى إلى بعد السبعين وسبعمائة - يريد لكثرتهم - وكذا وقع. فإنا نحن الآن بعد السبعين. ومن رأى أصحابه جماعة أحياء وآخر من مات منهم. صلاح الدين محمد بن عبد الله بن احمد بن إبراهيم بر كبد الله بن الشيخ أبي عمر المقدسي، أقام بمدرسة جده أبي عمر.

توفي في شوال سنة ثمانين وسبعمائة، وله نظم جيد فمنه، أي لابن البخاري:

تكررت السنون علي حـتـى

 

بليت وصرت من ساقط المتاع

وقل النفع عندي، غـير أنـي

 

أعلل للـرواية والـسـمـاع

فإن بك خالصاً فـلـه جـزاء

 

وإن يك مانعاً فإلـى ضـياع

وله رحمه اللّه تعالى:

إليك اعتذاري من صلاتـي قـاعـداً

 

وعجزي عن سعي إلى الجمـعـات

وتركي، صلاة الفرض في كل مسجد

 

تجمع فيه النـاس لـلـصـلـوات

فيا رب لا تمقت صلاتي، ونجنـي

 

من النار، وأصفح لي عن الهفوات

 

 

 

 

 

 

 

وله أيضاً رحمه اللّه تعالى:

أتتك مقدمات الموت تسعـى

 

وقلبك غافل عنها وساهـي

فجدّ، فقد دنت منك المـنـايا

 

ودع عنك التشاغل بالملاهي

فلا تأمن لمكر اللّه، واحـذر

 

وكن متقاصراً عند التناهي

فكم ممن يساق إلى جـحـيم

 

صحائفه مسوّدة كما هـي

وليس كمن يساق إلى نعـيم

 

وجنات مزخرفة زواهـي

فلا تظنن بربك ظـن سـوء

 

فحسن الظن جد غير واهي

وله:

أتاك الموت يا ولد البـخـاري

 

فقدم صالحاً، واسمـح وداري

وأيقن أن يوم البـعـث يأتـي

 

فيؤخذ بالصغار وبالـكـبـار

كأنك فوق نعشك مـسـتـقـر

 

وتحملك الرجال إلى الصحاري

وتنزل مفرداً في قعـر لـحـد

 

ويحثي الترب فوقك بالمداري

فلا، واللّه، ما ينفعـك شـيء

 

تخلف من متـاع أو عـقـار

بلى إن كنت تتركه حـبـيسـاً

 

على الفقراء أطراف النهـار

لعل اللّه أن يعـفـو ويغـفـر

 

لما أسلفت يا ولد البـخـاري

سمعنا الكثير من خلق من أصحابه.

وتوفي- رضي الله عنه- ضحى يوم الأربعاء ثاني شهر ربيع الآخر سنة تسب وستمائة. وصلى عليه وقت الظهر بالجامع المظفري. ودفن عند والده بسفح قاسيون. وكانت له جنازة مشهودة. شهدها القضاة والأمراء والأعيان وخلق كثير. رحمه الله تعالى.

إبراهيم بن عبد الرحمن بن أحمد بن المعري، المعري البعلي، الفقيه الزاهد العابد، زكي الدين أبو إسحاق؛ حضر على الشيخ موفق الدين. وسمع من البهاء عبد الرحمن وغيره. وتفقه وحفظ "المقنع". وكان صالحاً، عالماً عابداَ، زاهداً ورعاً. اجتمعت الألسن على مدحه والثناء عليه. ذكره ابن اليونيني.

وقال الذهبي: كان من أعْبَد البشر.

توفي ليلة السبت سابع شوال سنة إحدى وتسعين وستمائة ببعلبك. وصلَى عليه من الغد. ودفن بمقابر باب بطحا، وله إحدى وثمانون سنة. رحمه الله تعالى.

إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل، الواسطي الصالحي، الفقيه الزاهد العابد، شيخ الإسلام، بركة الشام، قطب الوقت، تقي الدين أبو إسحاق، ولد سنة اثنتين وستمائة.

وسمع بدمشق من ابن الحرستاني، وابن البناء، وابن ملاعب، وابن الجلاجلي، والشمس العطار السلمي، وموسى بن عبد القادر، والشيخ موفق الدين وابن أبي لقمة، وجماعة آخرين. ورحل في طلب الحديث والعلم.

وسمع ببغداد من الشيخ أبي الفتح بن عبد السلام، وابن الجواليقي، والداهري، وعمر بن كرم، وعلي بن نورنداز، والسهروردي، وأبي منصور بن عفيجة، وأبي نصر النرسي، وابن الزبيدي، وخلق.

وسمع من عبد الرحمن بن علوان بحلب، ومن أحمد بن سلامة النجار بحران، ومحمود بن أبي العز بن الشطيطي بالموصل، وغيرهم.

وسمع كثيراً من الكتب الكبار والأجزاء. وعني بالحديث. وقرأ بنفسه وله إجازة من جماعة من الأصبهانيين والبغداديين، كأسعد بن روح، وعائشة بنت معمر، وزاهر الثقفي، وابن طبرزد، وابن سكينة، وابن الأخضر، وغيرهم.

وتفقه في المذهب، وأفتى، ودرس بالمدرسة الصاحبية بقاسيون نحواً من عشرين سنة، وبمدرسة الشيخ أبي عمر. وولي في آخر عمره مشيخة دار الحديث الظاهرية. وحدث بها مدة. وكان من خير خلق الله علماً وعملاً.

قال الذهبي: قرأت بخط العلامة كمال الدين بن الزملكاني في حقه: كان كبير القمر، له وقع في القلوب وجلالة، ملازم للتعبد ليلاَ ونهاراً، قائم بما يعجز عنه غيره، مبالغ في إنكار المنكر. بائع نفسه فيه، لا يبالي على من أنكر. يعود المرضى، ويشيع الجنائز، ويعظم الشعائر والحرمات. وعنده علم جيد. وفقه حسن. وكان داعية إلى عقيدة أهل السنة والسلف الصالح، مثابراً على السعي في هداية من يرى فيه زيغاً عنها. وكانت جنازته مشهودة. إلى آخر كلامه.

وقال البرزالي: تفرد بعلو الإِسناد، وكثرة الرواية والعبادة، ولم يخلق مثله.

قلت: حدث بالكثير. وروى عنه خلق كثير. وحدثنا عنه جماعة من أصحابه.

توفي في آخر نهار يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وستمائة. وصلَّى عليه بكرة السبت. ودفن بتربة الشيخ موفق الدين. وكانت جنازته مشهودة بكثرة الخلق. وحضرها القضاة والأمراء والصاحب بن السلعوس والأعيان. رحمه اللّه تعالى.

أحمد بن حمدان بن شبيب بن حمدان بن شبيب بن حمدان بن محمود بن شبيب بن غياث بن سابق بن وثاب النمري الحراني، الفقيه الأصولي، القاضي نجم الدين، أبو عبد الله بن أبي الثناء، نزيل القاهرة، وصاحب التصانيف: ولد سنة ثلاث وستمائة بحران.

وسمع الكثير بحران من الحافظ عبد القادر الرهاوي. وهو آخر من روى عنه، ومن الخطيب أبي عبد الله ابن تيمية، وابن روزبة، وغيرهم.

وسمع بحلب من الحافظ ابن خليل، وغيره، وبدمشق: من ابن غسان، وابن صباح، وبالقدس: من الأوتي، وغيرهم. وطلب بنفسه، وقرأ على الشيوخ.

وتفقه على الناصحين الحرانيين: ابن أبىِ الفهم، وابن جميع. وأخذ عن الخطيب فخر الدين، وجالس ابن عمه الشيخ مجد الدين، وبحث معه كثيراً، وبرع في الفقه، وانتهت إليه معرفة المذهب، ودقائقه وغوامضه.

وكان عارفاً بالأصلين والخلاف والأدب. وصنف تصانيف كثيرة.

منها "الرعاية الصغرى" في الفقه، و "الرعاية الكبرى" وفيها نُقُول كثيرة جداً، لكنها غير محررة، وكتابي "الوافي" في أصول الفقه، ومقدمة أصول الدين، وقصيدة طويلة في السنة، وكتاب "صفة المفتي والمستفتي".

وولي نيابة القضاء بالقاهرة. وأظنه ولي فضاء المحلة أيضاً.

وتفقه به وتخرج عليه جماعة، وحدث بالكثير. وعمر وأسن وأضر.

وروى عنه الدمياطي، والحارثي، وابنه، والمزي، وأبو الفتح اليعمري، والبرزالي، وغيرهم. وحدثنا عنه محمد بن أبي القاسم الفارقي الشاهد بالقاهرة.

وتوفي يوم الخميس سادس صفر سنة خمس وتسعين وستمائة بالقاهرة.

وتوفي أخوه:-

تقي الدين شبيب، الأديب البارع، الشاعر المفلق، الطبيب الكحال- في ربيع الآخر من السنة أيضاً. وهو في عشر الثمانين.

سمع من ابن روزبة، وطائفة، وقد عارض "بانت سعاد" بقصيدة عظيمة يقول فيها:

مجد كبا الوهم عن إدراك غايته

 

ورد عقل البرايا، وهو معقـول

طوبى لطيبة، بل طوبى لكل فتى

 

له بطيب ثراها الجعد تقـبـيل

المنجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا بن بركات بن المؤمل التنوخي، المعري الأصل، الدمشقي، الفقيه الأصولي، المفسر النحوي، زين الدين أبو البركات بن عز الدين أبي عمر بن القاضي وجيه الدين أبي المعالي: وقد سبق ذكر أبيه وجده، ولد في عاشر ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وستمائة!.

وحضر على أبي الحسن بن المقير، وجعفر الهمداني، وسالم بن صصري.

وسمع من السخاوي، وابن مسلمة، والقرطبي، وجماعة، وتفقه على أصحاب جده، وأصحاب الشيخ موفق الدين، وقرأ الأصول على كمال الدين التفليسي، وغيره.

وقرأ النحو على ابن مالك، وبرع في ذلك كله، ودرس وأفتى، وناظر وصنف، وانتهت إليه رئاسة المذهب بالشام في وقته.

ومن تصانيفه "شرح المقنع" في أربع مجلدات "وتفسير القرآن الكريم" وهو كبير، لكنه لم يبيضه، وألقاه جميعه دروساً، وشرع في "شرح المحمول" ولم يكمله. واختصر نصفه. وله تعاليق كثيرة، ومسودات في الفقه والأصول وغير ذلك لم تبيض.

وكان له في الجامع حلقة للاشتغال والفتوى نحو ثلاثين سنة، متبرعاً لا يتناول على ذلك معلوماً. وكانت له أوراد صالحة من صلاة وذكر، وله إيثار كثير وبر، يفطر عنده الفقراء في بعض الليالي، وفي شهر رمضان كله. وكان حسن الأخلاق.

ذكر ذلك بمعناه الذهبي، وقال: كان معروفاً بالذكاء، وصحة الذهن، وجودة المناظرة، وطول النفس في البحث.

وقال البرزالي: كان عالماً بفنون شتى: من الفقه، والأصلين، والنحو. له يد في التفسير. وانتهت إليه رئاسة مذهبه، وله مصنف في "أصول الفقه" وشرح المقنع في الفقه، وتعاليق في التفسير. واجتمع له العلم والدين، والمال والجاه وحسن الهيئة. وكان صحيح الذهن، جيد المناظرة صبوراً فيها. وله بر وصدقة. وكان ملازماً للإقراء بجامع دمشق من غير معلوم.

وسئل الشيخ جمال الدين بن مالك أن يشرح ألْفيته في النحو. فقال: ابن المنجا يشرحها لكم.

قلت: درس الشيخ زين الدين بالحنبلية والصدرية. وأخذ عنه الفقه الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ شمس الدين بن الفخر البعلي، والشيخ تقي الزريراني.

وحدث. وسمع منه ابن العطار، والمزي، والبرزالي. وحدثنا عنه أبو الفضل بن الحموي وغيره.

وتوفي يوم الخميس رابع شعبان سنة خمس وتسعين وستمائة بدمشق. وتوفيت زوجته أم محمد ست البهاء بنت الصدر الخُجندي ليلة الجمعة خامس الشهر، وصفَى عليهما معاً عقيب صلاة الجمعة بجامع دمشق، ودفنا بتربة بيت المنجا بسفح قاسيون. رحمهما الله تعالى.

الحسن بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الصالحي، قاضي القضاة، شرف الدين، أبو الفضل بن الخطيب شرف الدين بن أبي بكر ابن الشيخ أبي عمر: وقد سبق ذكر أبيه وجده. ولد في شوال سنة ثمان وثلاثين وستمائة.

وسمع من ابن القميرة، ولكن لم يظهر سماعة منه في حياته، ومن المرسي بن مسلمة، وغيرهم. وقرأ بنفسه على الكَفَرْطابي. وتفقه وبرع في المذهب. وشارك في الفضائل. وولي القضاء بعد نجم الدين أحمد ابن الشيخ شمس الدين. واستمر إلى حين وفاته.

قال البرزالي: كان قاضياً بالشام على مذهب الإِمام أحمد، ومدرساً بدار الحديث الأشرفية بسفح قاسيون، ومدرسة جده. وكان مليح الشكل، حسن المناظرة، كثير المحفوظ، عنده فقه ونحو ولغة. روى لنا عن ابن مسلمة.

وقال الذهبي: كان من أئمة المذهب، بقي في القضاء ست سنين.

ومات في ليلة الخميس ثاني عشر شوال سنة خمس وتسعين وستمائة، ودفن ضحى يوم الخميس بمقبرة جده بسفح قاسيون، وحضر جنازته نائب السلطنة، والقضاة والأكابر، وعمل عزاؤه بكرة الجمع بالجامع المظفري. وحضره خلق كثير ذكره البرزالي. وهو والد الشيخ شرف الدين أبي العباس أحمد، المعروف بابن قاضي الجبل.

عبد السلام بن محمد بن مرزوع بن أحمد بن عزاز المصري البصري، الفقيه، المحدث الحافظ، نزيل المدينة النبوية، عفيف الدين أبو محمد: ولد في شوال سنة خمس وعشرين وستمائة بالبصرة.

ورحل إلى بغداد، وسمع بها من ابن قميرة، وإبراهيم الزغبي، وعلي بن معالي الرصافي، والمبارك الخواص، وعلي بن الخيمي، وفضل الله الجيلي. وعني بالأثر وقرأ بنفسه.

وتفقه على الشيخ كمال الدين بن وضاح. وقرأ عليه "المحرر"، في الفقه. ثم انتقل إلى المدينة، واستوطنها نحواً من خمسين سنة، إلى أن مات بها. وحج منها أربعين حجة على الولاء، ودرس بها الفقه بالمدرسة الشهابية للحنابلة، والشافعية.

وحدث بالكثير بالحجاز، وببغداد، وبمصر، ودمشق.

وسمع منه جماعة من شيوخنا ببغداد، وبالحجاز: علي بن جابر الهاشمي، وعتيق العمري، والقاضي أبو عبد الله بن مسلم، وبدمشق: البرزالي، وابن الخباز شيخنا وغيره، وبالقاهرة الحارثي، وجماعة.

ذكره الفرضي في معجم شيوخه، فقال: إمام فاضل، عالم فقيه، زاهد عابد، عارف بفنون العلم والأدب.

وقال البرزالي: شيخ عالم، متدين، عارف بفن الأدب. جاور بالمدينة مدة طويلة، ودرس بها، وأفتى على مذهب الإِمام أحمد.

وقال أيضاً: الشيخ الإِمام الحافظ، اليد القدوة، عفيف الدين. كان رجلاً فاضلاً؛ عاقلاً خيراً، حسن الهيئة. سمع وحدث. وذكر: أنه سمع منه بدمشق والمدينة النبوية، وبرابغ، وخليص.

قال: وتوفي بالمدينة يوم الثلاثاء بعد الصبح، سابع عشرين صدر سنة ست وتسعين وستمائة. ودفن من يومه بالبقيع وقيل: إنه مات في ثالث عشرين صفر، وصفَى عليه بجامع دمشق صلاة الغائب في شهر رمضان.

وفي صفر أيضاً من هذه السنة: توفي قاضي القضاة بالديار المصرية:-

عز الدين أبو حفص عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي بالقاهرة. ودفن بتربة الحافظ عبد الغني، وله ست وستون سنة: حضر على ابن اللتي. وسمع من جعفر الهمداني، وابن رواح ودرس، وأفتى وكان محمود القضايا، مشكور السيرة، متثبتاً في الأحكام، مليح الشكل.

قرأت بخط الذهبي: إمام، جامع للفضائل، محمود القضايا، متثبت. كان ابن جماعة يعتمد على إثباتاته، وسمع منه الذهبي بالقاهرة.

وفي ذي الحجة من السنة: توفي الفقيه الزاهد القدوة:-

شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن حازم بن حامد بن حسن المقدسي بنابلس، في رجوعه من زيارة المسجد الأقصى، وهو في عشر الثمانين: وكان كثير الذكر، حسن السمت، فقيهاً فاضلاً، عابداً.

سمع من ابن صصري، والناس بن الحنبلي، وابن الزبيدي، وابن غسان، والضياء الحافظ، وأكثر عنه، حدث بالكثير. رحمه الله تعالى.

أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة، المقدسي، النابلسي العابد الفقيه المحدث، شهاب الدين أبو العباس، ابن الشيخ جمال الدين: وقد سبق ذكر أبيه. ولد ليلة الثلاثاء ثالث عشر شعبان سنة ثمان وعشرين وستمائة بنابلس.

وسمع بها من عمه تقي الدين يوسف، ومن الصاحب محي الدين بن الجوزي وحضر في الرابعة على سليمان الأسعردي، وسمع من ابن الحميري، وابن رواح، والساوي، وسبط السلفي وغيرهم.

ورحل إلى مصر، ودمشق، والإسكندرية. وقرأ بنفسه على القوصي، وأجاز له محمود بن منده، ومحمد بن عبد الواحد المديني والسهروردي، وابن روزبة. وتفقه في المذهب، وبرع في معرفة تعبير الرؤيا، وانفرد بذلك بحيث لم يشارك فيه، ولم يدرك شأوه. وكان الناس يتحيرون هذه إذا عبر الرؤيا، لما يخبر الرائي بأمور جرت له وربما أخبره باسمه وبلده ومنزله، ويكون من بلد ناء. وله في ذلك حكايات كثيرة غريبة مشهورة، وهي من أعجب العجب.

وكان جماعة من العلماء يقولون: إن له رِئيّاً من الجن، وكان- مع ذلك- كثير العبادة والأوراد والصلاة. لكن يقال: إنه كان يتعبد على وجوه غير مشروكة، كالصلاة في وقت النهي.

وذكر عنه بعض أقاربه: أنه رأى عنده شيئاً من آثار الجن.

وقد رأيت لأبي العباس القرافي المالكي صاحب "القواعد" كلاماً حسناً في التعبير، فرأيت أن أذكره ههنا.

قال: اعلم أن تفسير المنامات قد اتسعت تقييداته، وتشبعت تخصيصاته، وتنوعت تفريعاته بحيث صار لا يقدر الإنسان يعتمد على مجرد المنقولات لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين، بخلاف تفسير القرآن الكريم، والتحدث في الفقه، والكتاب والسنة، وغير ذلك من العلوم. فإن ضوابطها محصورة، أو قريبة من الحصر. وعلم المنامات منتشر انتشاراً شديداً، لا يدخل تحت ضبط. لا جرم إن احتاج الناظر فيه- مع ضوابطه وقوانينه- إلى قوة من قوى النفس المعينة على الفراسة والاطلاع على المغيبات، بحيث إذا توجه الحزر إلى شيء لا يكاد يخطئ، بسبب ما يخلفه الله تعالى في تلك النفس من القوة المعينة على تقريب الغيب أو تحقيقه. فمن الناس من هو كذلك. وقد يكون ذلك عاماً فيَ جميع الأنواع. وقد يهبه اللّه تعالى ذلك باعتبار المنامات فقط، أو بحسب علم الرمل فقط، فلا يفتح له صحة القول والنطق في غيره. ومن ليس له قوة نفس في هذا النوع صالحة في ذلك لعلم تعبير الرؤيا لا يكاد يصيب إلا على النذور، فلا ينبغي له التوجه لعلم التعبير. ومن كانت له قوة نفس هو الذي ينتفع بتعبيره. وقد رأيت من له قوة نفس مع القواعد. فكان يتحدث بالعجائب والغرائب في المنام اللطيف، ويخرج هذه الأشياء الكثيرة، والأحوال المتباينة، ويخبر فيه سن الماضيات والحاضرات والمستقبلات، وينتهي في المنام اليسير إلى نحو مائة من الأحكام بالعجائب والغرائب، حتى يقول من لا يعلم أحوال قوى النفوس: إن هذا من الجان والمكاشفة، وليس كما قال، بل هو قوة نقس، تجد بسببها تلك الأحوال عند توجهه للمنام. ورأيت أنا جماعة من هذا النوع واختبرتهم انتهى كلامه.

وأظنه يشير إلى الشيخ شهاب الدين المذكور، فإنه كان معاصره. وله مصنف في هذا العلم، سماه "النور المنير".

قال الذهبي: !ن إماماً فاضلاً. وله مصنف نفيس في الأحكام. وأقام مدة بالقاهرة، ومدة بدمشق. وبها مات. وولي بها مدة شهور مشيخة دار الحديث الأشرفية بسفح قاسيون? وأسمع بها الحديث، ثم صرف عنها. وذكر مدة لقضاء الحنابلة.

وحدث بدمشق ومصر وغيرها.

وسمع منه خلق من الحفاظ وغيرهم، كالمزي، والبرزالي، والذهبي وشيخنا ابن القيم. وحدثنا عنه غير واحد.

توفي يوم الأحد تاسع وعشرين ذي القعدة سنة سبع وتسعين وستمائة بدمشق، ودفن من يومه بمقابر باب الصغير بتربة ابن أبي الطيب. وكانت جنازته حافلة. وخرج نائب السلطنة للصلاة عليه والقضاة والأكابر. رحمة الله تعالى.

عبد العزيز بن أبي القاسم بن عثمان بن عبد الوهاب البابصري الفقيه الأديب الصوفي، عز الدين أبو محمد: نزيل دمشق. ولد في صفر سنة أربع وثلاثين وستمائة ببغداد.

وسمع بها من أبي الفضل يحيى بن محمد بن الأجل مشيخة الباقرجي سماعه من ذاكر بن كامل، ولم يظهر هذا إلا بعد موته.

وسمع أيضاً من إبراهيم بن أبي المفاخر الخياط، وبدمشق من الصيرفي بن الفقيه، وغيره. وأجاز له عبد الصمد بن أبي الجيش، والداعي الرشيدي.

قال الذهبي: سكن دمشق، وأقام بالخانقاه. وكان فقيهاً عالماً صالحاً.

وقال في تاريخه: كان عارفاً بالفقه، بصيراً بالأدب والشعر وأيام الناس، ضعف بصره. وطلب من الجماعة أن يسمعوا منه شيئاً لتناله بركة الحديث.

وقال البرزالي في معجمه: كان له نظم جيد، ومعرفة بالتاريخ، وكتب لنفسه استجازات منظومة. وأجابه جماعة من الشيوخ نظماً، منهم: ابن وضاح، وأبو اليمن بن عساكر. وكان فقيهاً فاضلاً، من أعيان الحنابلة، !م انقطع في آخر عمره بالخانقاه الشميساطية. وبها مات.

وقال غيره: سمع منه صديقه شمس الدين بن الفخر البعلي، والبرزالي، والذهبي، وغيرهم.

وتوفى يوم الأحد سابع عشر شوال سنة سبع وتسعين وستمائة. ودفن من الغد ضحى بمقابر الصوفية. رحمه اللّه تعالى.

أحمد بن محمد بن الأنجب بن الكسار، الواسطي الأصل، البغدادي المحدث الحافظ، صدر الدين أبو عبد الله: وُلد سنة ست وعشرين وستمائة.

وسمع ببغداد من ابن القطيعي، وابن اللتي، وابن القبيطي، وابن قميرة، وغيرهم. وكثر عن المتأخرين بعدهم.

وسمع بواسطة من الشريف الداعي الرشيدي، وقرأ كثيراً من الكتب والأجزاء، وعني بالحديث، وكانت له معرفة حسنة به.

قال شيخنا بالإجازة صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق: تفرد في زمانه بمعرفة الحديث وأسماء الرواة، وكتب بخطه كثيراً، وحصل أصولاً كثيرة، وكان ضنيناً بالفوائد، سمعت عليه كتاب "الفرج بعد الشدة" لابن أبي الدنيا، عن ابن قميرة، بقراءة أبي العلاء الفرضي.

وقال الذهبي: قال لنا الفرضي: كان فقيهاً محدثاً حافظاً، له معرفة بشيء من الشيوخ والعلل وغير ذلك.

وقال الذهبي: وبلغني أنه تكلم فيه، وهو متماسك، وله عمل كثير في الحديث، وشهرة بطلبه.

قلت: كان قارئاً بدار الحديث المستنصرية، أو معيداً بها. وكان حافظاً، ذا معرفة بالحديث وفقهه ومعانيه.

وبلغني: أن رجلاً من أهالي "سَامِرّا" أُشكل عليه الجمع بين حديثين، وهما قوله صلى الله عليه وسلم: "من هَمَّ بسيئة فلم يعملها: كتبت له حسنة" وقوله في الذي رأى ذا المال الذي ينفقه في المعاصي "لو أن لي مثل ما لفلان لفعلت مثل ما فعل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هما في الوِزْرِ سواء"، فقدم بغداد، فلم يجبه أحد بجواب شافٍ، حتى دلّ على ابن الكسار، فقال له على الفور ما معناه: إن المعْفو عنه إنما هو الهَمُّ المجرد. فأما إذا اقترن به القول أو العمل: لم يكن معفواً عنه. وذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه تجاوز لأمتي ما حدثت بها أنفسها، ما لم تكلم به، أو تعمل".

وكان رحمه اللّه زريَ اللباس، وسخ الثياب، على نحو طريقة أبي محمد بن الخشاب النحوي، كما سبق ذكره. وكان بعض الشيوخ الأكابر يتكلم فيه، وينسبه إلى التهاون في الصلاة. وكان الدقوقي يقول: إنهم كانوا يحسدونه؛ لأنه كان يبرز عليهم في الكلام في المجالس. والله أعلم بحقيقة أمره.

سمع منه خلق كثير من شيوخنا وغيرهم. وحدثنا عنه محمد بن عبد الرزاق بن الفوطي ببغداد. وقد سبقت الرواية عنه في ترجمة ابن هبيرة الوزير.

وتوفي في رجب سنة ثمان وتسعين وستمائة. ودفن بمقبرة باب حرب رحمه اللّه تعالى.

وفي هذه السنة توفي الفقيه:-

كمال الدين أبو غالب هبة الله بن أبي القاسم علي بن عبد الله بن محمد بن أحمد السامري الأصل، البغدادي، الأزجي ببغداد: وقد سبق ذكر جده. ولد سنة ست عشرة وستمائة.

وسمع من محاسن. الحراني، وابن القبيطي. وحدث.

وسمع منه ابن شامة، والفرضي، وقال في معجمه: كان شيخاً عالماً، فقيهاَ، زاهداً عابداً، جليلاً ثقة، من بيت العلم والحديث.

وفي ذي الحجة من هذه السنة أيضاً: توفي الفقيه الزاهد القدوة عماد الدين أبو محمد:-

عبد الحافظ بن بدران بن شبل بن طرخان، المقدسي، النابلسي بها:

ودفن بزاويته بطور عسكر، وله نحو تسمعين سنة. سمع من الشيخ الموفق، والبهاء، وموسى بن عبد القادر، وأبي المعالي بن طاوس. وأجاز له ابن الحرشاني، وابن ملاعب.

قال الذهبي: إمام فقيه عابد، بنى بنابلس مدرسة وطهارة. وكان مواظباً على التلاوة والانقطاع. فال: ورحلت إليه.

قلت: حدثنا عنه جماعة من أصحابه بدمشق ونابلس. وقرأت "سنن ابن ماجة" بدمشق على الشيخ جمال الدين يوسف بن عبد الله بن محمد النابلسي الفقيه الفرضي بسماعه منه.

محمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن محمد، البعلي، الدمشقي الفقيه، المناظر المتفنن، شمس الدين أبو عبد الله ابن الشيخ فخر الدين أبي محمد: وقد سبق ذكر أبيه. ولد في أواخر سنة أربع وأربعين وستمائة.

وسمع الكثير من خطيب مردا، وشيخ شيوخ حماة، وابن عبد الدايم، والفقيه اليونيني، وغيرهم. وتفقه، فبرع، وأفتى وناظر، وحفظ عمة كتب، ودرس بالمسمارية، وحلقة بالجامع، وكان موصوفاً بالذكاء المفرط، والتقدم في الفقه وأصوله، والعربية، والحديث، وغير ذلك، قاله الذهبي.

وقال أيضاً عنه: طلب الحديث، وقرأ وعلق، ولم يتفرغ له، كان مشغولاً بأصول المذهب وفروعه، حضرت بحوشه مع شيختا ابن تيمية، ولي منه إجازة. انتهى.

وبلغني: أنه كان يحفظ "الكافي" في الفقه.

قال البرزالي: كان من فضلاء الحنابلة في الفقه، والأصول، والنحو، والحديث، والأدب، وله ذهن جيد وبحث فصيح، ودرس وأعاد، وأفتى، وروى الحديث.

توفي ليلة الأحد بين العشاءين تاسع رمضان سمْة تسع وتسعين وستمائة بدمشق، وصلى عليه من الغد بالجامع الأموي وقت الظهر، ودفن بمقابر باب توما، قبل مقبرة الشيخ رسلان، وحضر جنازته جمع كثير، رحمه اللّه تعالى.

محمد بن عبد القوي بن بدران بن عبد الله المقدسي، المرداوي، الفقيه المحدث النحوي، شمس الدين أبو عبد الله: ولد سنة ثلاث وستمائة بمردا.

وسمع الحديث من خطيب مردا، وعثمان بن خطيب القرافة، وابن عبد الهادي، وإبراهيم بن خليل، وغيرهم. وطلب وقرأ بنفسه. وتفقه على الشيخ شمس الدين بن أبي عمر وغيرَه، وبرع في العربية واللغة، واشتغل ودرس، وأفتى وصنف.

قال الذهبي: كان حسن الديانة، دمث الأخلاَق، كثير الإفادة، مطرحاً للتكلف. ولي تدريس الصاحبية مدة. وكان يحضر دار الحديث، ويشتغل بها، وبالجبل. وله حكايات ونوادر. وكان من محاسن الشيوخ. قال: وجلست عنده، وسمعت كلامه، ولي منه إجازة.

قلت: درس بالمدرسة الصاحبية بعد ابن الواسطي. وتخرج به جماعهّ من الفضلاء.

وممن قرأ عليه العربية: الشيخ تقي الدين ابن تيمية. وله تصانيف، منها في الففه "القصيدة" الطويلة الدالية، وكتاب "مجمع البحرين" لم يتمه، وكتاب "الفروق" وعمل طبقات للأصحاب. وحدث. روى عنه إسماعيل بن الخباز في مشيخته.

وتوفي في ثاني عشر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وستمائة، ودفن بسفح قاسيون. رحمه الله تعالى.

عبد الله بن عبد الولي بن جبارة بن عبد الولي المقدسي، ثم الصالحي، تقي الدين أبو محمد: قاله الذهبي: إمام مفت، مدرس صالح، عارف بالمذهب، متبحر في الفرائض، والجبر والمقابلة، كبير السن.

توفي في العشر الأوسط من ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وستمائة بجبل قاسيون.

رحمه اللّه تعالى.

وممن عدم في هذه السنة من أصحابنا: الفقيه سيف الدين:-

أبو بكر بن الشهاب أبي العباس أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم النابلسي: لما انجفل من التتار بأهله عند دخولهم الشام. وكان مولد سنة سبعين وستمائة أو بعدها.

روى عنه الذهبي في معجمه، وقال: كان فقيهاً، مناظراً صالحاً، يتوسوس في الماء.

سمع بمصر من جماعة، وتفقه على ابن حمدان.

وسمع بدمشق بعد الثمانين. وسمع معنا كثيراً. وكان مطبوعاً.

وقال أيضاً عنه: كتب الطباق، ودار على الشيوخ. وكان عارفاً بالمذهب، مناظراً ذكياً، حسن المذاكر.

وقتل فيها الشيخ:-

أبو الحسن علي بن الشيخ شمس الدين بن عبد الرحمن بن أبى عمر المقدسي، قتله التتر على مرحلتين من البيرة.

قال البرزالي: كان رجلاً حسناً، درس بحلقة الحنابلة، بجامع دمشق، وبمدرسة الشيخ أبي عمر، وأَتمَ بالجامع المظفري، وقتل معه جماعة من الحنابلة- رحمهم اللّه تعالى.

وكان ببغداد في حدود السبعمائة جماعة لا أتحقق وفاتهم، فمنهم:

داود بن عبد الله بن كوشيار الحنبلي الفقيه، المناظر الأصولي، شرف الدين أبو أحمد: كان فقيهاً بارعاً، عارفاً بالفقه والأصلين، درس ببغداد بالمدرسة المستعصمية ثم درس المستنصرية بعد وفاة الشيخ نور الدين البصري المتقدم ذكره، وصنف في أصول الفقه كتاباً سماه "الحاوي" وفي أصول الدين كتاباً سماه "تحرير الدلائل".

وتوفي- فيما يغلب على ظني- بعد التسعين وستمائة، رحمه الله. ومنهم:-

عبد الرحمن بن سليمان بن عبد العزيز المجلخ الحربي، الضرير، الفقيه، مفيد الدين أبو محمد، معيد الحنابلة بالمستنصرية: سمع من الشيخ مجد الدين ابن تيمية، وغيره من المتأخرين، وروى كتاب "الخرقي" عن فضل الله بن عبد الرزاق الجيلي.

وكان من أكابر الشيوخ وأعيانهم، عالماً بالفقه والحديث. والعربية، قرأ عليه الفقه جماعة، وسمع منه ابن الدقوقي، وجماعة من شيوخنا. وبقي إلى قريب السبعمائة.

وبلغني: أنه توفي سنة سبعمائة. رحمه اللّه.

وفيات المائة الثامنة

من سنة 701 إلى سنة 751

علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد بن محمد اليونيني البعلي، الفقيه المحدث الزاهد شرف الدين أبو الحسين، ابن الشيخ الفقيه أبي عبد الله المتقدم ذكره: ولد في حادي عشر رجب سنة إحدى وعشرين وستمائة ببعلبك.

وحضر بها عدة أجزاء على البهاء عبد الرحمن المقدسي. وسمع بها من عبد الواحد بن أبي المضاو الأربلي، وابن رواحة، ووالده الشيخ الفقيه، وغيرهم.

وتردد إلى دمشق. وسمع بها من ابن الزبيدي، وابن اللتي، وابن الصلاح وجعفر الهمداني، ومكرم بن أبي الصقر، وابن الشيرازي، وغيرهم.

وارتحل بعد الأربعين إلى مصر لطلب العلم والحديث. فسمع بها من ابن الجميزي، وابن رواح، والساري، وغيرهم. ولازم الحافظ عبد العظيم المنذري، وتخرج به، وعني بعلم الحديث. وارتحل إلى مصر خمس مرات. واستنسخ "صحيح البخاري" واعتنى بأمره كثيراً.

قال الذهبي: حدثني أنه في سنة واحدة قابله، وأسمعه إحدى عشر مرة. وقرأ بنفسه. وكتب بخطه كثيراً. وتفقه. وأفتى ودرس، وعني باللغة، وحصل أطرافاً من العلوم.

وقال البرزالي: كان شيخاً جليلاً، حسن الوجه. بهيَّ المنظر. له سمت حسن، وعليه سكينة. ولديه فضل كثير. يحفظ كثيراَ من الأحاديث بلفظها، ويفهم معانيها، ويعرف كثيراً من اللغة. وكان فصيح العبارة، حسن الكلام وكان له قبول من الناس. وهو كثير التودد إليهم، قاضٍ للحقوق.

وقال الذهبي: كان إماماً محدثاً، متقناً مفيداً، فقيهاً مفتياً، خبيراً باللغة والغريب؛ غزير الفوائد، كثير التحري فيما يورده، مُكْرَماً بين الملوك والأئمة، مهيباً كثير التواضع حسن البشر، حلو المجالسة، يعطي كل في فضيلة حقه.

وقال أيضاً: كان ذا عناية بالغريب، والأسماء وضبطها، مديماً للمطالعة، كثير المحاسن، منور الشيبة، عظيم الهيبة.

وقال في آخر طبقات الحفاظ: انتفعت به، وتخرجت به. وكان عارفاً بقوانين الرواية، حسن الدراية، جيد المشاركة في الألفاظ والرجال، صاحب رحلة وأصول وكتب وأجزاء ومحاسن.

حدث بالكثير. وسمع منه خلق من الحفاظ والأئمة. وأكثر عنه البرزالي والذهبي بدمشق وبعلبك. وسمعنا من جماعة من أصحابه. وقد خرج له ابن أبي الفتح البعلي النحوي مشيخة في ثلاثة عشر جزءاً، والحافظ الذهبي عوالي. وحدث بالجميع.

وتوفي يوم الخميس حادي عشر رمضان سنة إحدى وسبعمائة ببعلبك. ودفن من يومه بباب سطحا. وصلَّى عليه يوم الجمعة بجامع دمشق صلاة الغائب، وأسف الناس عليه.

وكان موته بشهادة رحمه الله، فإنه دخل إليه- يوم الجمعة خامس رمضان وهو في خزانة الكتب بمسجد الحنابلة- شخص، فضربه بعصي على رأسه مرات وجرحه في رأسه بسكين، فاتقى بيده، فجرحه فيها، وأمسك الضارب، وضرب ضرباً عظيماً، وحبس وأظهر الاختلال. وحمل الشيخ في داره، وأقبل على أصحابه يحدثهم، وينشدهم على عادته، وأتم صيامه يومه. ثم حصل له بعد ذلك حمى، واشتد مرضه حتى توفي يوم الخميس المذكور في الساعة الثامنة منه. وغبطه الناس بموته شهيداً في رمضان ليلة الجمعة عقب رجوعه من دمشق، وإفادته الناس، وإسماعه الحديث رضي الله عنه.

ومات قبله في شعبان من السنة المذكورة: الشيخ وجيه الدين، صدر الرؤساء، أبو المعالي:-

محمد بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي، أخو الشيخ زين الدين بن المنجا بن عثمان المتقدم ذكره: وكان مولده سنة ثلاثين وستمائة.

حضر على ابن اللتي، ومكرم، وابن المقير. وسمع من جعفر الهمداني، والسخاوي، وجماعة.

وكان شيخاً عالماً فاضلاً، كثير المعروف والصدقات، والبر والتواضع للفقراء، موسعاً عليه في الدنيا، وله هيبة وسطوة، وجلالة وحرمة وافرة، عنده عبادة وخشوع، وبني بدمشق دار قرآن معروفة به.

ودرس في أول عمره بالمسمارية والصدرية، ثم تركهما لولده، ومات في حياته، وولي نظر الجامع، وأحسن فيه السيرة. وحدث، وروى عنه جماعة.

رفي شعبان أيضاً من السنة توفي ببعلبك: الفقيه المقرئ المحدث أمين الدين أبو عبد الله:-

محمد بن عبد الولي بن أبي محمد بن حولان، البعلي، التاجر: وكان مولده سنة أربع وأربعين وستمائة.

سمع من الشيخ الفقيه، ومن ابن عبد الدايم، وجماعة. وقرأ ونظر في علوم الحديث.

وقال الذهبي: سمعت منه ببعلبك والمدينة، وتبوك. وكان من خيار الناس وعلمائهم، وألف كتاباً سماه "العدة القوية في اللغة التركية" جوده، وذكره في معجمه.

وقال: كان مقرئاً فقيهاً، محدثاً متقناً، صالحاً عدلاً، ملازماً. للتحصيل، كل يثني عليه ببلده.

علي بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة بن سلطان بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر، المقدسي النابلسي، الفقيه، الإمام فخر الدين أبو الحسن، ابن الشيخ جمال الدين المتقدم ذكره: ولد سنة ثلاثين وستمائة بنابلس.

وسمع من ابن الجميزي، وابن رواج بمصر، ومن سبط السلفي بالإِسكندرية، ومن خطيب مردا، ومحيي الدين بن الجوزي لما قدم إلى الشام رسولاً. وتفقه بالمذهب، وأفتى. وكان مفتي الأرض المقدسة.

قال البرزالي: كان شيخاً صالحاً عالماً، كثير التواضع، محسناً إلى الناس أقام يفتي بنابلس مدة أربعين سنة.

قال الذهبي: كان عارفاً بالمذهب، ثقة صالحاً ورعاً، وذكر: أنه سمع منه بنابلس.

توفي ليلة الأحد مستهل المحرم سنة اثنتين وسبعمائة بمدينة نابلس. ودفن من الغد عند والده بمقبرة الزاهرية. واجتمع خلق كثير في جنازته، وحضر أهل القرى من البر. رحمه الله.

موسى بن إبراهيم بن يحيى بن علوان بن محمد الأزدي، الشقراوي، الصالحي، الفقيه المحدث، النحوي العدل، نجم الدين أبو إبراهيم: ولد في رمضان سنة أربع وعشرين وستمائة.

وسمع من أبيه والحافظين: إسماعيل بن ظفر، والضياء المقدسي، وخطيب مردا، ويوسف سبط ابن الجوزي. وقرأ الكثير على ابن عبد الدايم، ومن بعده، كابن أبي عمر، وطبقته. وعني بالحديث. وقرأ بنفسه على الحافظ الضياء ومن بعده. وكتب بخطه ما لا يوصف.

وتفقه وأفتى، وقرأ العربية واللغة والأدب، وولي مشيخة دار الحديث العالمية بالسفح، ودار الحديث المعزية بالشرف الأعلى.

قرأت بخط الذهبي: كان فقيهاً، إماماً مفتياً. له معرفة بالحديث واللغة والعربية، كثير المحفوظ والنوادر.

وقال غيره: كان ذا حظ من الأدب والنظم، ينقل كثيراً من اللغة، وعنده جملة من التاريخ، حسن المجالسة، مفيد المذاكرة. حدث وروى عنه الذهبي وجماعة.

توفي يوم الاِثنين مستهل جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعمائة. ودفن من الغد بسفح قاسيون رحمه الله.

إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي بن محمد بن عبد الكريم الرقي، الزاهد العالم، القدوة الرباني، أبو إسحاق: ولد سنة سبع وأربعين وستمائة- تقريباً - بالرقة.

وقرأ ببغداد بالروايات العشر على يوسف بن جامع القفصي المقدم ذكره. وسمع بها الحديث بعد الستين من الشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش، وصحبه.

قال الذهبي: وعني بتفسير القرآن، وبالفقه، وتقدم في علم الطب، وشارك في علوم الإِسلام، فبرع في التذكير. وله المواعظ المحركة إلى اللّه، والنظم العذب، والعناية بالآثار النبوية، والتصانيف النافعة، وحسن التربية، مع الزهد والقناعة باليسير في المطعم والملبس.

وقال أيضاً: كان إماماً زاهداً، عارفاً قدوة، سيد أهل زمانه. له التصانيف الكثيرة في الوعظ والطريق إلى الله تعالى "منها "أحاسن المحاسن" في الوعظ. اختصره من صفوة الصفوة. قاله في "كشف الظنون"، والآثار والخطب. وله النظم الرائق، يستحق أن تطوى إلى لقياه مراحل. وكان كلمة إجماع. وكان ربما حضر السماع، وتواجد. وله اعتقاد في سليمان الكلاب- يعني رجلاَ كان يخالط الكلاب، ولا يصلّي- وكان يغلط فيه، وله يد طولى في علوم كثيرة، ولقد كتب شيخنا كمال الدين- يعني ابن الزملكاني- في شأنه وبالغ، وأحسن ترجمته.

وقال البرزالي: كان رجلاً صالحاً، عالماً، كثير الخير، قاصداً للنفع، كبير القدر، زاهداً في الدنيا، صابراً على مرِّ العيش، عظيم السكون، ملازماً للخشوع والانقطاع، قائماً بعياله. وكان عارفاً بالتفسير والحديث والفقه والأصلين، وغير ذلك. ورزقه اللّه حسن العبارة، وسرعة الجواب. وله خطب حسنة، وأشعار في الزهد، ومواعظ ومجموعات.

قلت: صنف كثيراً في الرقائق والمواعظ. واختصر جملة من كتب الزهد، وصنف تفسيراً للقرآن، ولا أعلم هل كمله أم لا?. وحدث.

سمع منه البرازلي، والذهبي، وغيرهما. وكان يسكن بأهله في أسفل المأذنة الشرقية بالجامع.

وهناك: توفي ليلة الجمعة خامس عشر محرم سنة ثلاث وسبعمائة. وصلَّى عليه عقب الجمعة بالجامع، وحمل على الأعناق والرؤوس إلى سفح قاسيون، فدفن بتربة الشيخ أبي عمر. وتأسف المسلمون عليه رضي الله عنه.

إسماعيل بن إبراهيم بن سالم بن ركاب بن سعد بن ركاب بن سعد بن كامل بن عبد الله بن عمر بن عبد الباري بن عبيد بن عبد الباقي- وقيل: باقي بن وفاء.

ويقال: فايد - بن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري، العبادي، الصالحي، المحدث المكثر المؤدب، نجم الدين أبو الفداء: ولد سنة تسع وعشرين وستمائة.

وسمع من الحافظ ضياء الدين، وعبد الحق بن خلف، وعبد الله بن الشيخ أبي عمر، والمرسي، ثم طلب بنفسه، وجد واجتهد من سنة أربع وخمسين، وإلى أن مات.

وسمع وكتب ما لا يوصف كثرة من الرقائق وغيرها. وخرج لنفسه مشيخة في مائة جزء عن أكثر من ألفي شيخ؛ فإنه كتب العالي والنازل، وعمن دب ودرج؛ وخرج سيرة لابن أبي عمر في مائة وخمسين جزءاً. وخرج أجزاء كثيرة لنفسه من أصحاب ابن كليب، والخشوعي، وابن الجوزي، وحنبل، وابن طبرزد، وممن بعدهم. وبالغ حتى كتب عمن دونه أكثر من ستمائة جزء. وحدث بها أيام الجمع على كرسيه بالجامع، وخرج أحاديث كثيرة في الملاحم والفتن، وخرج لابن عبد الدايم مشيخة، ولغيره من الشيوخ. ولم يكن بالمتقن فيما يجمعه، وخطه رديء سقيم. وكان متودداً، حسن الأخلاق متواضعاً، وحصل كتباً وأصولاً جيدة.

سمع منه حلق من الحفاظ وغيرهم، كالمزي، والذهبي، وحدثنا عنه ولده مسند وقته أبو عبد اللّه محمد، وغير واحد.

توفي في يوم الثلاثاء حادي عشر صفر سنة ثلاث وسبعمائة بدمشق. ودفن من الغد بسفح قاسيون. رحمه الله تعالى.

علي بن مسعود بن نفيس بن عبد الله الموصلي، ثم الحلبي، الصوفي المحدث، الحافظ الزاهد أبو الحسن: نزيل دمشق. ولد سنة أربع وثلاثين وستمائة. وسمع بحلب من ابن رواحة، وإبراهيم بن خليل. وذكر أنه سمع بها من يوسف بن خليل الحافظ، لكنه لم يظفر بذلك.

وسمع بمصر من الكمال الضرير، والرشيد العطار، وغيرهما من أصحاب البوصيري، وابن ياسين وبدمشق: من ابن عبد الدائم، والكرماني، وجماعة من أصحاب الخشوعي، وأكثر من أصحاب حنبل، وابن طبرزد، وطبقتهما. وقرأ كتباً مطولة مراراً.

وعني بالحديث عناية تامة. وكانت قراءته مفسرة حسنة. وحصل الأصول. وكان يجوع ويشتري الأجزاء، ويتعفف ويقنع بكسرة فيسوء خلُقه، مع التقوى والصلاح. وكان فقيهاً على مذهب أحمد، ينقل منه، ووقف كتبه وأجزاءه.

وحدث. وسمع منه الذهبي، وجماعة.

وتوفي في صفر سنة أربع وسبعمائة بالمارستان الصغير بدمشق، وحمل إلى سفح قاسيون، فدفن به مقابر زاوية ابن قوام، وشيعه الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وجماعة. رحمه الله تعالى.

محمد بن إسماعيل بن أبي سعد بن علي بن المنصور بن محمد بن الحسين الشيباني، الآمدي، ثم المصري، الكبير الأديب، شمس الدين أبو عبد الله، ابن الصاحب الكبير شرف الدين بن أبي الفداء بن البني: ولد بمصر بكرة الأحد ثالث عشر المحرم سنة سبع وثمانين وستمائة.

وسمع بمصر: من ابن الجميزي، وابن المقير، وبدمشق: من جماعة. وبماردين: من عبد الخالق النشتري. ونشأ بماردين. وكان والده الصاحب شرف الدين من العلماء الفضلاء، جمع تاريخاً لمدينة "آمد" وله نظم ونثر، وسمع الحديث ورواه. وكان محدثاً فاضلاً، متقناً.

توفي سنة ثلاث وسبعين وستمائة.

وكان وزيراً للملك السعيد الأرتقي، صاحب ماردين، وصار ابنه شمس الدين هذا مع ابن الملك المظفر بن السعيد نائباً لمملكته، ومدبراً للدولة، إلى أن ذهب رسولاً من عند أمير أحمد ملك التتر إلى الملك المنصور قلاوون صاحب مصر، فحبسه ست سنين، حتى ولي ابنه الملك الأشرف، فأخرجه وأنعم عليه، وولاه نيابته بدار العدل. فباشرها مدة.

وكان عالماً فاضلاً أديباً منشئاً، ذا معرفة بالحديث والتاريخ، والسِّيَرِ والنحو واللغة، وافر العقل مليح العبارة، حسن الخط والنظم والنثر. جميل الهيئة. له خبرة تامة بسير الملوك والمتقدمين ودولهم، لا تمل مجالسته.

قال الإِمام صفي الدين ين عبد المؤمن بن عبد الحق: سمعته يتكلم على الحديث بعلم ومعرفة بالأسانيد، وكان يحفظ فوائد حسنة من الحديث واللغة والنحو.

وذكر الذهبي: أنه نسب إلى نقص في دينه، واللّه أعلم.

حدث. وسمع منه جماعة، منهم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والمزي، والبرزالي، والذهبي، وصفي الدين عبد المؤمن المذكور.

وتوفي بمصر ليلة الثلاثاء ثامن جمادى الآخرة سنة أربع وسبعمائة. ودفن بالقرافة، وكان سبب موته: ألْه سقط من فرس، فكسرت أعضاؤه، وبقي أياماً ثم مات رحمه اللّه تعالى وسامحه.

أحمد بن علي بن عبد الله بن أبي البدر القلانسي الباجسري ثم البغدادي جمال الدين أبو بكر محدث بغداد ومفيدها: ولد في جمادى الآخرة سنة أربعين وستمائة.

وعني بالحديث. وسمع الكثير من حدود الستين، وإلى حين وفاته. وسمع من ابن أبي الدينة، والشيخ عبد الصمد. وابن ورخز، والطبقة. وقرأ الكثير بنفسه، وكتب بخفه، وخطه جيد متقن، وخرج لغير واحد من الشيوخ.- الظاهر: أنه كان قارئ الحديث بالمستنصرية.

وسمعت بعض شيوخنا القدماء ببغداد، يحكي أنه ولي حسية بغداد، وحدث بالقليل.

سمع منه بعض شيوخنا، وغيرهم. وأجاز لجماعة، منهم: الحافظ الذهبي.

وتوفي في رجب سنة أربع وسبعمائة، ودفن بباب حرب، رحمه الله تعالى.

محمد بن عبد اللّه بن عمر بن أبي القاسم البغدادي المقرئ، المحدث الصوفي الكاتب، رشيد الدين أبو عبد الله بن أبي القاسم: ولد ليلة الثلاثاء ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين وستمائة.

وسمع الكثير من ابن روزبة، والسهروردي، وابن الخازن، وابن بهروز. وابن اللتي، والحسن بن مرتضى العلوي، وعمر بن كرم، وغيرهم.

وعني بالحديث. وسمع الكتب الكبار والأجزاء، وكتب بخطه الأجزاء والطباق، وكثيراً من الكتب المطولة، وخطه في غاية الحسن. وخرج لنفسه سباعيات ضعيفة من طريق "خراش" ونحوه، وكان عالماً صالحاً من محاسن البغداديين وأعيانهم، ذا لطف وسهولة، وحسن أخلاق، ومن أجلاء العدول. ولي مشيخة رباط الأرجوانية بدرب راخي ببغداد، ومشيخة دار الحديث المستنصرية، ولبس خرقة التصوف من السهروردي، وحدث بالكثير.

وسمع منه خلق من أهل بغداد والرحالين، وانتهى إليه علو الإِسناد، سمعنا من جماعة من أصحابه ببغداد ودمشق.

وتوفي في تاسع جمادى الآخرة سنة سبع وسبعمائة، ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب رحمه الله تعالى.

علي بن عبد الحميد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن بكير الفنيدقي الفقيه، نور الدين أبو الحسن: ولد سنة ست- أو خمس- وثلاثين وستمائة.

وسمع من أبي عبد اللّه بن سعد المقدسي، وجده لأمه خطيب مردا، وعبد الحميد بن عبد الهادي، وبمصر من الرشيد العطار، وجماعة. وتفقه وبرع، وأفتى، وكتب بخطه كتباً كثيرة، ودرس مع دين وتواضع وصدق، وسكن بنابلس مدة، ثم قدم دمشق. وأضر بآخره.

وسمع منه الذهبي، وروى عنه في معجمه.

وتوفي بجبل نابلس في رجب سنة سبع وسبعمائة، رحمه اللّه تعالى.

محمد بن عبد الرحمن بن شامة بن كوكب بن العز- أو ابن أبي العز- بن حميد الطائي، السنتبسي السوادي الحكمي- و "حَكَمه" بالفتح قرية من قرى السواد- المحدث الحافظ، الزاهد العابد، شمس الدين أبو عبد اللّه: ولد في رجب سنة اثنتين وستين وستمائة.

وحضر بدمشق على ابن عبد الدايم. وسمع من عبد الوهاب المقدسي. وطلب بمسه، وسمع من أحمد بن أبي الخير، وابن أبي عمر، وإبراهيم بن الدرجي، ويحيى بن الصيرفي الفقيه، وابن البخاري، وخلق من هذه الطبقة.

ورحل سنة ثلاث وثمانين إلى مصر. وسمع بها من العز الحراني، وابن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وابن الأنماطي، وابن القسطلاني، وغيرهم.

وسمع بالإسكندرية من ابن طرخان، وجماعة.

ورحل إلى بغداد. وسمع بها من أبي الفضل بن الزيات، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف البزاز، وابن المالحاني، والرشيد بن أبي القاسم، وابن الطبال، وغيرهم.

وسمع بأصبهان، والبصرة، وحلب، وواسط،. وعني بهذا الفن، وحصل الأصول، وكتب العالي والنازل، وخرج لنفسه.

قال الحافظ عبد الكريم الحلبي: كان إماماً عالماً، فاضلاً حسن القراءة، فصيحاً ضابطاً متقناً، كتب الكثير بخطه وطاف البلاد. وقرأ الكثير. وسمع من صغره إلى حين وفاته.

وقال البرزالي: سافر إلى حلب مرتين للسماع. وعلت همته، فسافر إلى العراق. ودخل إصبهان وغيرها من البلاد. وكان ثقة، ولديه فضل وقراءة حسنة فصيحة، صحيحة معربة، وخالط الفقراء. وصارت له أوراد كثيرة، وكثرة تلاوة. واستوطن ديار مصر، وتزوج وولد له بها، وصارت له بها حظوة وشهرة بالحديث وقراءته.

وكان يسكن مصر، ويتردد إلى القاهرة لوظائفه ومواعيده. وكان ملازماً للتلاوة في مشيه، مواظباً على قيام الليل، كثير القراءة للحديث والكتابة والنسخ، معمور الأوقات بالطاعات، ونسخ "الصحيحين" بخطه، وقابلهما وقرأهما، وبيعا في تركته بألف درهم رغبة فيه، وفي تصحيحه، واعتقاداً في فضيلته وديانته.

وقال الذهبي في معجمه: أحد الرحالين والحفاظ والمكثرين. دخل إلى أصبهان، طمعاً أن يجد بها رواة، فلم يلقَ شيوخاً ولا طلَبة فرجع. وكتب بخطه كتباً كباراً، وسمعها مراراً. وكان ثقة، صحيح النقل، عارفاً بالأسماء، من أهل الدين والعبادة، مفيداً للطلبة بمصر. وكان كثير التلاوة والصلاة، على طريقة السلف في لبسه وتواضعه، وترك التكلف.

ووصفه في موضع آخر بالفضيلة. والفصاحة وسرعة القراءة.

وحدث. وسمع منه البرزالي، والذهبي وعبد الكريم الحلبي؛ وذكروه في معاجمهم، وابن المهندس، وغيرهم.

توفي في آخر نهار الثلاثاء رابع عشري في القعدة سنة ثمان وسبعمائة بمصر. وصلى عليه من الغد بجامع عمرو بن العاص، ودفن بالقرافة بالقرب من الشافعي. رضي الله عنه.

محمد بن أبي الفتح بن أبي المفضل البعلي، الفقيه المحدث، النحوي اللغوي. شمس الدين أبو عبد الله: ولد سنة خمس وأربعين وستمائة. قاله الذهبي. وقال غيره: في أول سنة أربع وأربعين ببعلبك.

وسمع بها من الفقيه محمد اليونيني. وبدمشق: من إبراهيم بن خليل، ومحمد بن عبد الهادي، وابن عبد الدايم، وعمر الكرماني، وابن مهير البغدادي صاحب ابن بوش، وجماعة من أصحاب الخشوعي، وابن طبرزد. وطبقته.

وعني بالحديث. وطلب وقرأ بنفسه. وكتب بخطه، وتفقه على ابن أبيب عمر وغيره، حتى برع وأفتى. وقرأ العربيِة واللغة على ابن مالك، ولازمه حتى برع في ذلك.

وصنف تصانيف. منها: كتاب "شرح الجرجانية" في مجلدتين و "شرح الألفية" لابن مالك، وكتاب "المطلع على أبواب المقنع" في شرح غريب ألفاظه ولغاته، وابتدأ في "شرح الرعاية" في الفقه، لابن حمدان. وله تعاليق كثيرة في الفقه والنحو، وتخاريج كثيرة في الحديث، يروي فيها الحديث بأسانيده. وتكلم على المتون من جهة الإعراب والفقه، وغير ذلك وخرج لغيره أيضاً.

وأم بمحراب الحنابلة بجامع دمشق مدة طويلة، ودرس به بحلقة الصالح بن صاحب حمص. ودرس بالصدرية، فأظنه درس الحديث بها، وأعاد بمدرسة الحنبلية وغيرها من المدارس. ودرس بالحنبلية وقتاً. وأفتى زمناً طويلاً. وتصدى للاشتغال، وتخرج به جماعة، وانتفعوا به.

قال الذهبي: كان إماماً في المذهب، والعربية والحديث، غزير الفوائد متقناً. صنف كتباً كثيرة مفيدة. وكان ثقة صالحاً، متواضعاً على طريقة السلف، مطرح للتكلف في أموره، حسن البشر، حدثنا بدمشق وبعلبك وطرابلس.

وتوفي بالقاهرة في ثامن عشر المحرم سنة تسع وسبعمائة. وذلك بعد دخوله إياها بدون شهر. وكان زار القدس. وسار إلى مصر ليُسْمع ابنه، ويطلب له مدرسة، أو زيادة رزق.

وذكر في تاريخه: أنه توفي ليلة السبت وقت العشاء بالمدرسة المنصورية بمارستانها. ودفن عند الحافظ عبد الغني بالقرافة. وحصل التأسف عليه رحمه الله.

وفي ليلة الجمعة رابع عشر ربيع الأول من السنة: توفي قاضي قضاة الحنابلة بالديار المصرية الشيخ: شرف الدين عبد الغني بن يحيى بن محمد بن قاضي حران عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني: ودفن من بكرة الغد بالقرافة، وكان مولد في رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة.

روى جزء ابن عرفة عن شيخ الشيوخ الأنصاري. سمع منه الطلبة. وولي نظر الخزانة السلطانية مدة. ثم أضيف إليه القضاء، وتدريس الصالحية. وكان مشكور السيرة، كثير المكارم، حسن الخلق والخلق، مزجى البضاعة من العلم.

أحمد بن حسن بن عبد الله بن عبد الفني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، ثم الصالحي، الفقيه، قاضي القضاة، شهاب الدين أبو العباس ابن الشيخ شرف الدين بن الحافظ أبي موسى بن الحافظ الكبير أبي محمد: وقد تقدم ذكر آبائه.

ولد في ثاني عشر صفر سنة ست وخمسين وستمائة بسفح قاسيون.

وسمح من ابن عبد الدايم وغيره. وتفقه وبرع، ودرس وأفتى، وعرس بالمدرسة الصاحبية، وبحلقة الحنابلة بالجامع، وأم بمحراب الحنابلة بالجامع أيضاً. وولي القضاء بالشام نحو ثلاثة أشهر سنة تسع وسبعمائة في دولة المظفر الششنكير. ثم عزل لما عاد الملك الناصر إلى الملك. وأعيد القاضي تقي الدين سليمان.

قال البرزالي: كان رجلاَ جيداً من أعيان الحنابلة وفضلائهم. وكان فقيهاً، حسن العبارة. وقرأ الحديث، وروى لنا عن ابن عبد الدايم.

وتوفي يوم الأربعاء تاسع عشرين ربيع الأول سنة عشر وسبعمائة. ودفن من الغد بتربة الشيخ أبي عمر بسفح قاسيون. رحمه اللّه تعالى.

أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن مسعود بن عمر الواسطي الحزامي، الزاهد القدوة العارف، عماد الدين أبو العباس، ابن شيخ الحزاميين: ولد في حاثي عشر- أو ثاني عشر- ذي الحجة سنة سبع وخمسين وستمائة بشرقي واسط.

وكان أبوه شيخ الطائفة الأحمدية. ونشأ الشيخ عماد الدين بينهم، وألهمه اللّه من صغره طلب الحق ومحبته، والنفور عن البدع وأهلها، فاجتمع بالفقهاء بواسط كالشيخ عز الدين الفاروتي وغيره. وقرأ شيئاً من الفقه على مذهب الشافعي. ثم دخل بغداد، وصحب بها طوائف من الفقهاء، وحج واجتمع بمكة بجماعة منهم. وأقام بالقاهرة مدة ببعض خوانقها، وخالط طوائف الفقهاء، ولم يسكن قلبه إلى شيء من الطوائف المحدثة. واجتمع بالإِسكندرية بالطائفة الشاذلية، فوجد عندهم ما يطلبه من لوايح المعرفة، والمحبة والسلوك، فأخذ ذلك عنهم، وانتفع بهم، واقتفى طريقتهم وهديهم.

ثم قدم دمشق، فرأى الشيخ تقي الدين ابن تيمية وصاحبه، فدله على مطالعة السيرة النبوية، فأقبل على سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام، فلخصها واختصرها، وأقبل على مطالعة كتب الحديث والسنة والآثار، وتخلى من جميع طرائقه وأحواله، وأذواقه وسلوكه، واقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه، وطرائقه المأثورة عنه في كتب السنن والآثار، واعتنى بأمر السنة أصولاً وفروعاً، وشرع في الرد على طوائف المبتدعة الذين خالطهم وعرفهم من الاتحادية وغيرهم، وبين عوراتهم، وكشف أستارهم، وانتقل إلى مذهب الإمام أحمد. وبلغني: أنه كان يقرأ في "الكافي" على الشيخ مجد الدين الحراني الآتي ذكره إن شاء الله تعالى. واختصره في مجلد سماه "البلغة" وألف تآليف كثيرة في الطريقة النبوية، والسلوك الآثري والفقر المحمدي؛ وهي من أنفع كتب الصوفية للمريدين، انتفع بها خلق من متصوفة أهل الحديث ومتعبديها.

وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يعظمه ويجله، ويقول عنه: هو جنيد وقته. وكتب إليه كتاباً من مصر أوله "إلى شيخنا الإِمام العارف القدوة السالك".

قال البرزالي عنه في معجمه: رجل صالح عارف، صاحب نسك وعبادة، وانقطاع وعزوف عن الدنيا. وله كلام متين في التصوف الصحيح. وهو داعية إلى طريق الله تعالى، وقلمة أبسط من عبارته. واختصر السيرة النبوية. وكان يتقوت من النسخ، ولا يكتب إلا مقدار ما يدفع به الضرورة. وكان محباً لأهل الحديث، معظماً لهم. وأوقاته محفوظة.

وقال الذهبي: كان سيداً عارفاً كبير الشأن، منقطعاً إلى اللّه تعالى. وكان ينسخ بالأجرة ويتقوت، ولا يكاد يقبل من أحد شيئاً إلا في النادر. صنف أجزاء عديدة في السلوك والسير إلى اللّه تعالى، وفي الرد على الإتحادية والمبتدعة. وكان داعية إلى السنة، ومذهبه السلف الصالح في الصفات، يُمِزها كما جاءت، وقد انتفع به جماعة صحبوه، ولا أعلم خلف بدمشق محْي طريقته مثله.

قلت: ومن تصانيفه "شرح منازل السائرين" ولم يتمه، وله نظم حسن في السلوك.

كتب عنه الذهبي والبرزالي، وسمع منه جماعة من شيوخنا وغيرهم، وكان له مشاركة جيدة في العلوم، وعبارة حسنة قوية، وفهم جيد، وخط حسن في غاية الحسن. وكان معمور الأوقات بالأوراد والعبادات، والتصنيف، والمطالعة، والذكر والفكر، مصروف العناية إلى المراقبة والمحبة، والأنس باللّه، وقطع الشواغل والعوائق عنه، حثيث السير إلى وادي الفناء باللّه، والبقاء به، كثير اللهج بالأذواق والتجليات، والأنوار القلبية، منزوياً عن الناس، لا يجتمع إلا بمن يحبه، ويحصل له باجتماعه به منفعة دينية.

ولم يزل على ذلك إلى أن توفي آخر نهار السبت سادس عشر ربيع الآخر سنة إحدى عشر وسبعمائة. بالمارستان الصغير بدمشق، وصُلِّي عليه من الغد بالجامع. ودفن بسفح قاسيون، قبالة زاوية السيوفي، رضي الله عنه.

محمد بن أحمد بن أبي نصر بن الدباهي البغدادي، الزاهد شمس الدين، أبو عبد اللّه بن أبي العباس: ولد سنة ست- أو سبع- وثلاثين وستمائة ببغداد.

وصحب الشيخ يحيى الصرصري، وكان خال والدته، والشيخ عبد الله كتيلة مدة، وسافر معه، وأجاز له التستري من ماردين، وجاور بمكة عشر سنين، ودخل الروم، والجزيرة، ومصر، والشام، ثم استوطن دمشق، وتوفي بها.

قال الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عنه: شيخ صالح، عارف زاهد، كثير الرغبة في العلم وأهله، والحرص على الخير، والاجتهاد في العبادة، تخلى عن الدنيا، وخرج عنها، ولازم العبادة، والعمل الدائم والجد، واستغرق أوقاته في الخير، وكان لديه فضل. وعنده مشاركات جيدة في علوم. وله عبارة حسنة فيما يكتبه، وطلب الفوائد الدينية. متقشف ورع، صلب في الدين، مجانب لمن يخشى على دينه منه، محب للصالحين وأهل الخير، منقطع عن الناس مهيب. يقوم الليل ويكثر الصوم، ويطيل الصلاة بخشوع وإخبات واستغراق، ويتلو القران العظيم، لا يرى خالياً من أفعال الخير وأعمال البر، ويتصدق في السر، وينصح الإِخوان، ويسعى في مصالحهم، ويحسن القيام على عياله، ويلازم الجماعات عْي الجامع، ولا يغشى السلاطين ولا الولاة، ولا أهل الدنيا، إلا عند ضرورة دينية. وكان يخشن مأكله وملبسه، ويحب طريق السلف الصالح، وإذا رآه إنسان عرف الجد في وجهه، يقوم فيما يظهر له من الحق، ويأمر بما يمكنه من المعروف، وينهى عما يقمر على النهي عنه من المنكر، ولم يزل كذلك حتى توفي.

قال البرزالي: أحد المشايخ العارفين الصالحين، وله كلام حسن. وجمع وتأليف، وهو حسن الجملة، عديم التكلف، وافر الإخلاص، متبع للسنة، حسن المشاركة في العلم، سيد من السادات.

وقال الذهبي: كان إماماً فقيه النفس، عارفاً بمعاملات القلوب، صحب خلقاً من المشايخ، وأخذ عنهم أخلاق القوم وطريقهم، وكان حسن المجالسة، متبعاً للسنة، محذراً من البدعة، كثير الطلب، ترك أباه ونعمته وتجرد، ودخل الروم، والجزيرة، والشام، ومصر، والحجاز، يصحب بقايا الصوفية، ويقتفي آثارهم، وحفظ كثيراً عنهم وعن مشايخ الطريق، وأنفق كثيراً من الأموال من ميراثه على الفقراء.

وقرأ الفقه في شبيبته على مذهب أحمد، وجاور بالحرمين بضع عشرة سنة، وتأهَّلَ وولد له، فلما لمعت له أنوار شيخنا- يعني: ابن تيمية- وظفر بأضعاف تطلبه: ارتحل إلى دمشق بأهله، واستوطنها.

علقت عنه: أشياء، وسمعت من تأليفه خطبة بليغة، وصحبته بضع عشرة سنة، وسمعت منه جزءاً لإجازته من التشتبري.

قلت: سمع منه البرزالي، والذهبي، وذكراه في معجميهما.

قال الذهبي: ابتلي بضيق النَفَس سبعة أشهر، ثم بالاستسقاء.

وانتقل إلى رحمة الله يوم الخميس رابع عشر شهر ربيع الآخر، سنة إحدى عشر وسبعمائة. ودفن بقاسيون قبل الشيخ عماد الدين الواسطي بيومين. وأنشدني بعضهم:

الدهر ساومني عمري، فقلت له

 

لا بعت عمري بالدنيا وما فيها

ثم اشتراه تفاريقاً بـلا ثـمـن

 

تبَّت يدا صفقة قد خاب شاريها

وذكر البرزالي: أنه توفي آخر نهار الخميس المذكور عند الغروب، وصلى عليه ضحى نهار الجمعة بالجامع، ودفن غربي تربة الشيخ أبي عمر، رضي الله عنهما.

الحارثي البغدادي، ثم المصري الفقيه، المحدث الحافظ، قاضي القضاة سعد الدين أبو محمد، وأبو عبد الرحمن: ولد سنة اثنين- أو ثلاث- وخمسين وستمائة.

وسمع بمصر من الرضى بن البرهان، والنجيب الحراني، وابن علاف، وجماعة من أصحاب البوصيري وطبقته. وبالإِسكندرية: من عثمان بن عوف، وابن الفرات، وبدمشق: من أحمد بن أبي الخير. وأبي زكريا بن الصيرفي. وخلق من هذه الطبقة.

وعني بالحديث. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الكثير. وخرج لجماعة من الشيوخ معاجم. منهم: الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والأبرقوهي وغيرهما.

وتفقه على ابن أنجي عمر وغيره. وبرع وأفتى.

وصنف، شرح بعض سنن أبي داود. وخرج لنفسه أمالي. وتكلم فيها على الحديث ورجاله. وعلى التراحم. فأحسن وشفي. وشرح قطعة من كتاب "المقنع" في الفقه من العارية إلى آخر الوصايا، وكلامه في الحديث أجود من كلامه في الفقه؛ فإنه كان أجود فنونه.

وكان يكتب خطاً حسناً حلواً متقناً. وخطه معروف، وحج غير مرة. ودرس بعدة أماكن، كالمنصورية، جامع الحاكم، وولي القضاء سنتين ونصفاً. وكان سُنياً أثرتاً، متمسكاً بالحديث.

قال الذهبي في معجمه: كان فقيهاً مناظراً مفتياً، عالماً بالحديث وفنونه، حسن الكلام عليه وعلى الأسماء، ذا حظ من عربية وأصول. خرج لغير واحد، وأقرأ المذهب ودرس، ورأس الحنابلة.

وروى عنه إسماعيل بن الخباز- وهو أسن منه- وأبو الحجاج المزي، وأبو محمد البرزالي.

وذكره الذهبي أيضاً في طبقات الحفاظ، وقال: كان عارفاً بمذهبه ثقة، متقناً صيتاً، مليح الشكل. فصيح العبارة. وافر التجمل، كبير القدر. وروى عنه حديث من جزء ابن عرفة.

وقال في المعجم المختصر: كان عارفاً بمذهبه، بصيراً بكثير من الحديث وعلله ورجاله. مليح التخريج، من كبار أهل الفن.

قلت: حدث بالكثير، وروى عنه جماعة من شيوخنا، وغيرهم.

وتوفي في سحر يوم الأربعاء رابع عشر في الحجة سنة إحدى عشرة وسبعمائة بالقاهرة، ودفن من يومه بالقرافة، رحمه اللّه.

والحارثي: نسبة إلي "الحارثية لما قرية من قرى بغداد غربيها، كان أبوه منها، وكان تاجراً بخط حنش. ولد الشيخ بقرية قريبة من مقبرة معروف الكرخي غربي بغداد.

سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي. ثم الصالحي. قاضي القضاة، تقي الدين أبو الفضل: ولد في منتصف رجب، سنة ثمان وعشرين وستمائة.

وحضر على ابن الزبيدي صحيح البخاري، وعلى الفخر الأربلي، وابن المقير وجماعة. وسمع من ابن اللتي، وجعفر الهمداني، وكريمة القرشية، وابن الجميزي، وإسماعيل بن ظفر، والحافظ ضياء الدين، وابن قميرة، وغيرهم. وأكثر عن الحافظ ضياء الدين، حتى قال: سمعت منه نحو ألف جزء.

وقرأ بنفسه على ابن عبد الدايم وغيره كثيراً من الكتب الكبار والأجزاء، وأجاز له خلق من البغداديين: كالسهروردي والقطيعي، وابن روزبة، وعمر بن كرم، وإسماعيل بن باتكين، وزكريا العلثي، والأنجب الحمامي.

ومن المصريين: كابن العماد، وعيسى بن عبد العزيز، وابن باقا.

ومن الأصبهانيين: كمحمد بن عبد الواحد المديني، ومحمد بن. زهير شعرانة، وثابت بن محمد الخجندي، ومحمود بن منده، وطائفة وجماعة من الشاميين وغيرهم.

ولازم الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، وأخذ عنه الفقه والفرائض، وغير ذلك.

قال البرزالي: شيوخه بالسماع نحو مائة شيخ، وبالإجازة: أكثر من سبعمائة، وخرجت له المشيخات، والعوالي والمصافحات، والموافقات، ولم يزنا يقرأ عليه إلى قبيل وفاته بيوم.

قال: وكان شيخاً جليلاً. فقيهاً كبيراً، بهي المنظر، وضيء الشيبة، حسن الشكل، مواظباً على حضور الجماعات، وعلى قيام الليل والتلاوة والصيام، له أوراد وعبادة. وكان عارفاً بالفقه، خصوصاً كتاب "المقنع" قرأه وأقرأه مرات كثيرة. وكان له حلقة بالجامع المظفري. وقرأ عليه جماعة، ودرس "الكافي" جميعه. وكان يذكر الدرس ذكراً حسناً متقناً، ويحفظه من ثلاث مرات ونحوها. وكان قوي النفس، لين الجانب، حسن الخلق، متودداً إلى الناس، حريصاً على قضاء الحوائج، وعلى النصر المتعدي.

وحدث بثلاثيات البخاري سنة ست وخمسين وستمائة، وحدث بجميع الصحيح سنة ستين، وولي القضاء سنة خمس وتسعين.

قال الذهبي: كان فقيهاً إماماً محدثاً، أفتي نيفاً وخمسين سنة، ودرس بالجوزية وغيرها. وبرع في المذهب، وتخرج به الفقهاء، وروى الكثير، وتفرد في زمانه، وكان كيساً متواضعاً، حسن الأخلاق، وافر الجلالة، ذا تعبد وتهجد وإيثار.

وقال أيضاً: كان صاحب ليل ومعروف، ولين كلمة، وجبر للأرملة والضعيف، ولم يخلف مثله.

وقال أيضاً: ولكنه يجري في أحكامه ما الله به أعلم. والآفة من سبطه. والله المستعان. ولولا دخوله في القضاء لعُدَّ من العلماء العاملين. وهو مع هذا مسلم، ذو حظ من عبادة، وتواضع ولين وفتوة.

قلت: وسمعت شيخنا الحافظ أبا سعيد العلائي ببيت المقدس يقول: رحمه الله شيخنا القاضي"تقي الدين سليمان، سمعته يقول: لم أصل الفريضة قط منفرداً إلا مرتين، وكأني لم أصلهما قط.

حدث بالكثير. وسمع منه الأبيوردي، وذكره في معجمه- وتوفي قبله بدهر- وابن الخباز- وتوفي قبله بمدة- وحدث عنه من بعد الستين. وسمع منه أئمة وحفاظ، وروى عنه خلق كثير. حدثنا عنه جماعة كثيرة من أصحابه.

وتوفي ليلة الإثنين حادي عشر ذي القعدة سنة خمس عشرة وسبعمائة بمنزله بالدير فجأة. وكان قد حكم يوم الأحد بالمدينة. وطلع إلى الجبل إلى آخر النهار، فعرض له تغير يسير، وتوضأ للمغرب، ومات عقب الصلاة، ودفن من الغد بتربة جده الشيخ أبي عمر، وحضره خلق كثير رحمه اللّه تعالى.

سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد، الطوفي الصرصري ثم البغدادي، الفقيه الأصولي، المتفنن، نجم الدين أبو الربيع: ولد سنة بضع وسبعين وسبعمائة بقرية "طوفى" من أعمال "صرصر" وحفظ بها "مختصر الخرقي" في الفقه، و "اللمع" في النحو لابن جني. وتردد إلى صرصر. وقرأ الفقه بها على الشيخ زين الدين علي بن محمد الصرصري الحنبلي النحوي، ويعرف بابن البوقي. وكان فاضلاً صالحاً.

ثم دخل بغداد سنة إحدى وتسعين فحفظ المحرر في الفقه، وبحثه على الشيخ تقي الدين الزيرراتي.

وقرأ العربية والتصريف على أبي عبد الله محمد بن الحسين الموصلي، والأصول على النصر الفاروقي وغيره. وقرأ الفرائض وشيئاً من المنطق، وجالس فضلاء بغداد في أنواع الفنون، وعلق عنهم.

وسمع الحديث من الرشيد بن أبي القاسم، وإسماعيل بن الطبال، والمفيد عبد الرحمن بن سليمان الحراني، والمحدث أبي بكر القلانسي وغيرهم.

ثم سافر إلى دمشق سنة أربع وسبعمائة، فسمع بها الحديث من القاضي تقي الدين سلمان بن حمزة وغيره. ولقي الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والمزي والشيخ مجد الدين الحراني، وجالسهم. وقرأ على ابن أبي الفتح البعلي بعض ألفية ابن مالك.

ثم سافر إلى ديار مصر سنة خمس وسبعمائة، فسمع بها من الحافظ عبد المؤمن بن خلف، والقاضي سعد الدين الحارثي. وقرأ على أبي حيان النحوي، مختصره لكتاب سيبويه، وجالسه.

ثم سافر إلى الصعيد، ولقي بها جماعة، وحج، وجاور بالحرمين الشريفين، وسمع بها. وقرأ بنفسه كثيراً من الكتب والأجزاء، وأقام بالقاهرة مدة، وولي بها الإِعادة بالمدرستين: المنصورية، والناصرية، في ولاية الحارثي.

وصنف تصانيف كثيرة. ويقال: إن له بقوص خزانة كتب من تصانيفه فإنه أقام بها مدة.

ومن تصانيفه "بغية السائل في أمهات المسائل" في أصول الدين، وقصيدة في العقيدة وشرحها، "مختصر الروضة" في أصول الفقه، وشرحه في ثلاث مجلدات، "مختصر الحاصل" في أصول الفقه، "القواعد الكبرى" و "القواعد الصغرى"، "الإكسير في قواعد التفسير" "الرياض النواضر في الأشباه والنظائر"، "بغية الواصل إلى معرفة الفواصل" مصنف في الجدل، وآخر صغير، "درء القول القبيح في التحسين والتقبيح"، "مختصر المحصول"، "دفع التعارض عما يوهم التناقض" في الكتاب والسنة، "معراج الوصول إلى علم الأصول" في أصول الفقه، "الرسالة العلوية في القواعد العربيه"، "غفلة المجتاز في علم الحقيقة والمجاز"، "الباهر في أحكام الباطن والظاهر"، "رد على الاتحادية"، "مختصر المعالين" جزئين فيه: أن الفاتحة متضمنة لجميع القرآن. "الذريعة إلى معرفة أسرار الشريعة"، "الرحيق السلسل في الأدب المسلسل"، "تحفة أهل الأدب في معرفة لسان العرب"، "الانتصارات الإِسلامية في دفع شبه النصرانية"، "تعاليق" على الرد على جماعة من النصارى "تعاليق" على الأناجيل وتناقضها، شرح نصف "مختصر الخرقي" في الفقه، "مقدمة في علم الفرائض"، "شرح مختصر التبريزي"، "شرح مقامات الحريري" مجلدين، "موائد الحيس في شعر امرئ القيس"، "شرح أربعين النووي". واختصر كثيراً من كتب الأصول، ومن كتب الحديث أيضاً، ولكن لم يكن له فيه يد. ففي كلامه تخبيط كثير.

وله نظم كثير رائق، وقصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وقصيدة طويلة في مدح الإِمام أحمد. وكان مع ذلك كله شيعياً منحرفاً في الاعتقاد عن السنة، حتى إنه قال في نفسه:

حنبلي رافضي أشعري

 

هذه أحـد الـعـبـر

ووجد له في الرفض قصائد، وهو يلوح في كثير من تصانيفه، حتى إنه صنف كتاباً سماه "العذاب الواصب على أرواح النواصب".

ومن دسائسه الخبيثة: أنه قال في شرح الأربعين للنووي: اعلم أن من أسباب الخلاف الواقع بين العلماء: تعارض الروايات والنصوص، وبعض الناس يزعم أن السبب في ذلك: عمر بن الخطاب، وذلك أن الصحابة استأذنوه في تدوين السنة من ذلك الزمان، فمنعهم من ذلك وقال: لا أكتب مع القرآن غيره، مع علمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اكتبوا لأبي شاه خطبة الوداع"، وقال: "قيدوا العلم بالكتابة". قالوا: فلو ترك الصحابة يدون كل واحد منهم ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لانضبطت السنة، ولم يبقَ بين آخر الأمة وبين النبي صلى الله عليه وسلم في كل حديث إلا الصحابي الذي دون روايته، لأن تلك الدواوين كانت تتواتر عنهم إلينا، كما تواتر البخاري ومسلم ونحوهما.

فانظر إلى هذا الكلام الخبيث المتضمن: أن أمير المؤمنين عمر رضي اللّه عنه هو الذي أضل الأمة، قصداً مهْ وتعمداً. ولقد كذب في ذلك وفجر.

ثم إن تدوين السنة اكثر ما يفيد صحتها: وتواترها. وقد صحت بحمد الله تعالى، وحصل العلم بكثير من الأحاديث الصحيحة المتفق عليها- أو أكثرها- لأهل الحديث العارفين به من طرق كثيرة، دون من أعمى اللّه بصيرته، لاشتغاله عنها بشبه أهل البدع والضلال. والاختلاف لم يقع لعدم تواترها، بل وقع من تفاوت فهم معانيها. وهذا موجود، سواء دونت وتواترت أم لا. وفي كلامه إشارة إلى أن حقها اختلط بباطلها، ولم يتميز. وهذا جهل عظيم.

وقد كان الطوفي أقام بالمدينة النبوية مده يصحب الرافضة: السكاكيني المعتزلي ويجتمعان على ضلالتهما، وقد هتكه الله، وعجل الانتقام منه بالديار المصرية.

قال تاج الدين أحمد بن مكتوبم القيسي في حق الطوفي: قدم علينا- يعني الديار المصرية- في زيِّ أهل الفقر، وأقام على ذلك مدة، ثم تقدم عند الحنابلة، وتولى الإِعادة في بعض مدارسهم، وصار له ذكر بينهم. وكان يشارك في علوم، ويرجع إلى ذكاء وتحقيق، وسكون نفس، إلا أنه كان قليل النقل والحفظ، وخصوصاً للنحو على مشاركة فيه، واشتهر عنه الرفض، والوقوع في أبي بكر وابنته عائشة رضي الله عنهما، وفي غيرهما من جملة الصحابة رضي اللّه عنهم، وظهر له في هذا المعنى أشعار بخطه، نقلها عنه بعض من كان يصحبه ويظهر موافقة له، منها قوله في قصيدة:

كم بين من شك في خلافته

 

وبين من قيل: إنه الـلَّـه

فرفع أمر ذلك إلى قاضي قضاة الحنابلة سعد الدين الحارثي، وقامت علية بذلك البينة، فتقدم إلى بعض نوابه بضربه وتعزيزه وإشهاره، وطيف به، ونودي عليه بذلك، وصرف عن جميع ما كان بيده من المدارس، وحبس أياماً، ثم أطلق. فخرج من حينه مسافراً، فبلغ إلى "قوص" من صعيد مصر، وأقام بها مدة، ثم حج سنة أربع عشرة. وجاور سنة خمس عشرة. ثم حج، ثم نزل إلى الشام إلى الأرض المقدسة، فأدركه الأجل في بلد الخليل عليه السلام في شهر رجب سنة ست عشرة وسبعمائة.

قلت: وقد ذكره بعض شيوخنا عمق حدثه عن آخر: أنه أظهر له التوبة وهو محبوس. وهذا من تقيته ونفاقه؛ فإنه في آخر عمره لما جاور بالمدينة كان يجتمع هو والسكاكيني شيخ الرافضة، ويصحبه. ونظم في ذلك ما يتضمن السب لأبي بكر الصديق رضي اللّه عنه.

وقد ذكر ذلك عنه شيخنا المطريَ، حافظ المدينة ومؤرخها. وكان قد صحبه بالمدينة، وكان الطوفي بعد سجنه قد نفى إلى الشام، فلم يمكنه الدخول إليها؛ لأنه كان قد هجا أهلها وسبهم، فخشي منهم، فسار إلى دمياط، فأقام بها مدة، ثم توجه إلى الصعيد.

أبو القاسم بن محمد بن خالد بن إبراهيم، الحراني، الفقيه التاجر، بدر الدين، أخو الشيخ تقي الدين ابن تيمية لأمه: ولد سنة خمسين- وستمائة تقريباً- ولد سنة إحدى وخمسين- بحران.

وسمع بدمشق من ابن عبد الدايم، وابن أبي اليسر، وابن الصيرفي، وات أبي كمر، وغيرهم. وتفقه، ولازم الاشتغال على شيوخ المذهب مدة وأفتى، وأمَّ بالمدرسة الجوزية، بمسجد الرماحين، ودرس بالمدرسة الحنبلية نيابة عن أخيه الشيخ تقي الدين مدة.

قال البرزالي: كان فقيهاً مباركاً، كثير الخير، قليل الشر، حسن الخلق، منقطعاً عن الناس. وكان يتجر وتكسب، وخلف لأولاده تركة، وروى جزء ابن عرفة مرات عديدة.

وقال الذهبي: كان فقيهاً عالماً إماماً بالجوزية. وله رأس مال يتجر فيه. وكان قد تفقه على أبي زكريا بن الصيرفي، وابن المنجا؛ وغيرهما بدمشق. سمعنا منه جزء ابن عرفة غير مرة، ودرس بالحنبلية ثمانية أعوام. وكان خيراً متواضعاً.

قال البرزالي: وتوفي يوم الأربعاء ثامن جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبعمائة. ودفن من يومه بمقابر الصوفية عند والدته، وحضر جمع كثير. رحمه الله تعالى.

عبد الله بن أحمد بن تمام بن حسان المكي الصالحي، الأديب الزاهد، تقي الدين أبو محمد: ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة.

سمع الحديث من ابن قميرة، والمرسي، وإبراهيم بن خليل، والبلداني؛ وخطيب مردا. وجماعة.

وقرأ النحو والأدب على الشيخ جمال الدين بن مالك وعلى والده بدر الدين، وصحبه ولازمه مدة، وأقام بالحجاز مدة. واجتمع بالشيخ تقي الدين الحوراني الزاهد وغيره، وسافر إلى الديار المصرية، وأقام بها مدة. وله نظم كثير حسن رائق.

قال البرزالي: كان شيخاً فاضلاً، بارعاً في الأدب، حسن الصحبة، مليح المحاضرة، صحب الفقراء والفضلاء وتخلق بالأخلاق الجميلة، وخرج له فخر الدين ابن البعلبكي مشيخة قرأتها عليه وكتبنا عنه من نظمه وكان زاهداً متقللاً من الدنيا، نم يكن له أثاث ولا طاسة ولا فراش، ولا سراج ولا زبدية، بل كان بيته خالياً من ذلك كله. حدثني بذلك أخوه الشيخ محمد.

وقال لي القاضي شهاب الدين محمود الكاتب: صحبته أكثر من خمسين سنة. وأثنى عليه ثناء جميلاً، وعظمه وبَجقَه، ووصفه بالزهد والفراغ من الدنيا، وذكر نحو ذكر أخوه.

توفي ليلة السبت ثالث ربيع الآخر سنة ثمان عشرة وسبعمائة، ودفن من الغد بمقابر المرداويين بالقرب من تربة الشيخ أبي عمر. رحمه الله تعالى.

أنشدنا أبو العباس المقدسي. أنشدنا عبد الله بن تمام لنفسه:

أُشاهد من محاسنكم مـنـاراً

 

يكاد البدر يشبهه شـقـيقـا

وأصحب من جمالكـم خـيالاً

 

فأنَّى سرت يرشدني الطريقا

أرى لْجم الزمان بكم سعـيداً

 

ومعنى حسنكم معنى دقيقـا

وبدر التَم يزهى من سنـاكـم

 

وشمس جمالكم برزت شروقا

وروض عبير أرضكم نهـاراً

 

جرى ذهب الأصيل به خلوق

حديثي والغرام بـكـم قـديم

 

وشوقي يزعج القلب المشوقا

وأنفاسي بعثت بهـا إلـيكـم

 

سلوا عنها النسيم أو البروقـا

ولي صدق المودة في حمـاكـم

 

سقى اللّه الحمى، ورعى الصديقا

وأنشدنا أيضاً عن ابن تمام !نفسه:

أكرر فيكـم أبـداً حـديثـي

 

فيحلوا، والحديث بكم شجـون

وأنظمه عقوداً من دمـوعـي

 

فتنثره المحاجر والجـفـون

وأبتكر المعاني في هـواكـم

 

وفيكم كل قـافـية تـهـون

وأعتنق الـنـسـيم، لأن فـيه

 

شمائل من معاطفكم تـبـين

وأسأل عنكم النكـبـاء سـراً

 

وسر هواكم عندي مصـون

وكم لي في محبتكـم غـرام?

 

وكم لي في الغرام بكم فنون?

وفي ثالث ذي القعدة سنة ثمان عشرة أيضاً: توفي الفقيه الفاضل:-

برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن الشيخ عماد الدين عبد الحافظ بن أبي محمد عبد الحميد بن محمد بن أبي بكر، قاضي القدس الحنبلي. ودفن بتربة الشيخ موفق الدين. وكان من أبناء السبعين: حضر على خطيب مردا بنابلس. وأقام بدمشق. وتفقه بها وسمع. وكتب بخطه كثيراً.

وكان عدلاً وفقيهاً في المدارس، من أهل الدين والعفاف والفضيلة. وكان كثير السكوت، قليل الكلام. وله قصيدة حسنة ربى بها الشيخ شمس الدين بن أبي عمر. ذكر ذلك البرزالي.

وقال الذهبي: كان فقيهاً إماماً، عارفاً بالفقه والعربية: وفيه دين وتواضع وصلاح.

قال: وسمعت منه قصيدته التي رثى بها الشيخ شمس الدين، ثم روى عنه حديثاً.

محمد بن عمر بن عبد المحمود بن زباطر الحراني، الفقيه الزاهد، شمس الدين أبو عبد الله: نزيل دمشق. ولد سنة أربع وثلاثين وستمائة بحران.

وسمع بها من عيسى الخياط، والشيخ مجد الدين ابن تيمية.

وسمع بدمشق من إبراهيم بن خلْيل، ومحمد بن عبد الهادي، والبلداني، وابن عبد الدايم، وخطيب مرادا. وعني بسماع الحديث إلى آخر عمره. وكان يَرُد على القارئ وقت القراءة أشياء مفيدة، ولديه فقه وفضائل، وأمّ بمسجد الوزير ظاهر دمشق.

قال الذهبي: كان فقيهاً زاهداً ناسكاً، سلفي الجملة، عارفاً بمذهب الإمام أحمد. وحدث، سمع منه جماعة، منهم: الذهبي، وصفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق. وسافر سنة إحدى عشرة إلى مصر لزيارة الشيخ تقي الدين ابن تيمية، فأسر من سبخة بردويل، وبقي مدة في الأسر.

ويقال: إن الفرنج لما رأوا ديانته وأمانته واجتهاده أكرموه واحترموه؛ وبقي عندهم مدة، وانقطع خبره قبل العشرين؛ ويقال: إن وفاته كانت بقبرص سنة ثمان عشرة وسبعمائة. رحمه اللّه تعالى.

أحمد بن حامد المعروف بابن عصية، البغدادي، القاضي: جمال الدين:

قال الطوفي: حضرت درسه. وكان بارعاً في الفقه والتفسير والفرائض. وأما معرفة القضاء والأحكام: فكان أوحد عصره في ذلك.

قلت: كان ذا هيبة، وحسر شيبة. ولي القضاء بالجانب الشرقي ببغداد، ودرس للحنابلة بالبشيرية، ثم عزل، ونالته محنة، ثم أعيد إلى التدريس سنة ثلاث عشرة. وأظنه توفى في حدود العشرين وسبعمائة. رحمه الله تعالى.

عبد الرزاق بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عمر بن أبي المعالي محمد بن محمود بن أحمد بن محمد بن أبي المعالي الفضل بن العباس بن عبد الله بن معن بن زائدة الشيباني، المروزي الأصل؛ البغدادي الأخباري، المؤرخ الكاتب الأديب، كمال الدين أبو الفضل بن الصابوني، ويعرف بابن الفوطي، وهو جد أبيه لأمه.

ولد في سابع عشر المحرم سنة اثنتين وأربعين وستمائة بدار الخلافة من بغداد.

وسمع بها من الصاحب محي الدين بن الجوزي، ثم أسر في وقعة بغداد، وخلصه النصير الطوسي الفيلسوف وزير الملاحدة، فلازمه، وأخذ عنه علوم الأوائل، وبرع في الفلسفة وغيرها، وأمره بكتابة الزيج وغيره من علم النجوم، واشتغل على غيره في اللغة والأدب، حتى برع ومهر في التاريخ والشعر وأيام الناس، وأقام بمراغة مدة، وولي بها خزن كتب الرصد بضع عشرة سنة، وظفر بها بكتب نفيسة، وحصل من التواريخ ما لا مزيد عليه.

وسمع بها من المبارك بن المستعصم بالله سنة ست وستين، ثم عاد إلى بغداد، وولي خزن كتب المستنصرية، فبقي عليها إلى أن مات. ويقال: إنه ليس بالبلاد أكثر من كتب هاتين الخزانتين اللتين باشرهما.

وسمع ببغداد الكثير من محمد بن أبي الرينية وطبقته. وعني بالحديث. وقرأ وكتب الكثير بخطه المليح، وصنف في الأخبار والتاريخ والأنساب شيئاً كثيراً. ذكره الذهبي في طبقات الحفاظ، وقال: له النظم والنثر، والباع الأطول في ترصيع تراجم الناس، وله ذكاء مفرط، وخط منسوب رشيق، وفضائل كثيرة.

سمع الكثير، وعني بهذا الشأن، وجمع وأفاد، فلعل الحديث أن يُكَفِّر به عنه، وكتب من التواريخ ما لا يوصف. ومصنفاته وَقرَ بعير.

عمل تاريخاً كبيراً لم يبيضه، ثم عمل آخر دونه في خمسين مجلداً، سماه "مجمع الآداب في محجم الأسماء على معجم الألقاب" وألف كتاب "درر الأصداف في غرر إلأوصاف" وهو كبير جداً، وذكر: أنه جمعه من ألف مصنف من التواريخ والدواوين، الأنساب والمجاميع، عشرون مجلداً، بيض منها خمسة، وكتاب "المؤتلف والمختلف" رتبه مجدولاً. وله كتاب "التاريخ على الحوادث" وكتاب "حوادث المائة السابعة"، وإلى أن مات، وكتاب نظم "الدرر الناصعة في شعراء المائة السابعة" في عدة مجلدات.

وذكر الذهبي أيضاً في "المعجم المختصر": أن ابن الفوطي خرج معجماً لشيوخه، وبلغوا نحو خمسمائة شيخ بالسماع والإِجازة.

وذكر غيره: أنه جمع الوفيات من سنة ستمائة، سماه "الحوادث الجامعة، والتجارات النافعة، الواقعة في المائة السابعة" وهذا هو الذي أشار إليه الذهبي.

قال: وذيّل على تاريخ ابن الساعي شيخه نحواً من ثمانين مجلدة، عمله للصاحب عطاء الملك. وله "تلقيحَ الأفهام في تنقيح الأوهام" وله وفيات أخر، وأشياء كثيرة في الأنساب وغيرها، ونظم كثير حسن، وخصه في غاية الحسن. وقد تكلم في عقيدته وفي عدالته.

وسمعت من بعض شيوخنا ببغداد شيئاً من ذلك. وقد ذكر الذهبي طرفاً من ذلك، وأنه كان يترخص في إثبات ما يرصعه، ويبالغ في تقريظ المغول وأعوانهم.

قال: وهو في الجملة إخباري علامة، ما هو بدون أبي الفرج الإصبهاني. وكان ظريفاً متواضعاً، حسن الأخلاق، فالله يسامحه.

وقلت: حدث. سمع منه جماعة.

روى لنا عنه ولده أبو المعالي محمد، وغيره ببغداد. وقد سمع منه محمود بن خليفة، وغيره من أهل الشام.

وأصابه فالج في آخر عمره فوق سبعة أشهر. ثم توفي في آخر نهار الإِثنين غرة المحرم- وقيل: ثالث المحرم، وقيل: في ثاني عشرة- سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ببغداد. ودفن بالشونيزية. سامحه الله تعالى.

محمد بن سعد بن عبد الأحد بن سعد الله بن عبد القاهر بن عبد الأحد بن عمر بن نجيح الحراني، ثم الدمشقي؛ الفقيه الإمام، شرف الدين أبو عبد الله بن سعد الدين: سمع من الفخر بن البخاري وغيره. وطلب الحديث. وقرأ بنفسه. وتفقه وأفتى. وصحب الشيخ تقي الدين ابن تيمية، ولازمه. وكان صحيح الذهن، جيد المشاركة في العلوم، من خيار الناس وعقلائهم وعلمائهم.

توفي في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة بواديَ بني سالم في رجوعه من الحج، وحمل إلى المدينة النبوية على أعناق الرجال. ودفن بالبقيع. وكان كهلاً رحمه الله تعالى.

وفي يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين أيضاً: توفى الشيخ الإمام الفقيه شمس الدين أبو عبد اللّه،-

محمد بن محمود الجيلي. نزيل بغداد، المدرس للحنابلة بالبشيرية بها:

وكان فقيهاً فاضلاً. له مصنف في الفقه، سماه "الكفاية" لم يتمه. وذكر فيه: أن أحمد نص على أن من وصى بقضاء الصلاة المفروضة عنه نفذت وصيته.

محمد بن عثمان بن يوسف بن محمد بن الحداد الآمدي، ثم المصري الخطيب، الإمام، الصدر الرئيس، الفقيه، بدر الدين أبو عبد الله، خطيب دمشق وحلب: سمع الحديث. وتفقه بالديار المصرية، وحفظ "المحرر" وشرحه على ابن حمدان، ولازمه مدة من السنين حتى قرأه عليه، وبرع في الفقه. وكان ابن حمدان يشكره، ويثني عليه كثيراً، ثم اشتغل بالكتابة، واتصل بالأمير قَراسُنْقُر المنصوري بحلب، فولاه نظر الأوقاف، وخطابة جامع حلب.

ثم لما صار قراسنقر نائباً بدمشق ولاه خطابة جامعها في آخر ذي القعدة سنة تسع وسبعمائة، وصرف عنه جلال الدين القزويني، فاستمر يباشر الخطابة والإِمامة بالجامع إلى ثاني عشر محرم سنة عشر، فأعيد القزويني بمرسوم السلطان وولي ابن الحداد حينئذ نظر إلى المارستان، ثم ولي حسبة دمشق، ونظر الجامع، واستمر في نظره إلى حين وفاته، وعين لقضاء الحنابلة في وقت.

توفي ليلهّ الأربعاء سابع جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وسبعمائة. ودفن بمقبرة الباب الصغير. رحمه الله تعالى.

محمد بن المنجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي، الدمشقي، الشيخ شرف الدين أبو عبد اللّه، ابن الشيخ زين الدين أبي البركات: وقد سبق ذكر آبائه. ولد سنة خمس وسبعين وستمائة.

وأسمعه والده الكثير من المسلم بن علان، وابن أبي عمر، وجماعة من طبقتهما، وسمع "المسند" والكتب الكبار. وتفقه وأفتى، ودرس بالمسمارية. وكان من خواص أصحاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وملازميه حضراً وسفراً ومشهور بالديانة والتقوى، ذا خصال جميلة، وعلم وشجاعة.

روى عنه الذهبي في معجمه. وقال: كان فقيهاً إماماً، حسن الفهم صالحاً متواضعاً، كيس الجملة.

توفي إلى رضوان الله تعالى في رابع شوال سنة أربع وعشرين وسبعمائة وشيعه الخلق الكثير.. ودفن بسفح قاسيون. رحمه اللّه.

محمود بن سليمان بن فهد الحلبي، ثم الدمشقي، شهاب الدين أبو الثناء، كاتب السر، وعلامة الأدب: ولد سنة أربع وأربعين وستمائة بحلب، وانتقل مع والده إلى دمشق سنة أربع وخمسين.

وسمع بها من الرضى بن البرهان، وابن عبد الدايم، ويحيى بن الناصح بن الحنبلي وغيرهم- وتعلم الخط المنسوب، ونسخ بالأجرة بخطه الأنيق كثيراً.

واشتغل بالفقه على الشيخ شمس الدين بن أبي عمر. وأخذ العربية عن الشيخ جمال الدين بن مالك، وتأدب بالمجد بن الظهير وغيره. وفتح له في النظم والنثر، ثم ترقت حاله، واحتيج إليه، وطلب إلى الديار المصرية، واشتهر اسمه، وبَعُد صيته، وصار المشاء إليه في هذا الشأن في الديار الشامية والمصرية. وكان يكتب التقاليد الكبار بلا مسودة.

وله تصانيف في الإنشاء وغيره، ودون الفضلاء نظمه ونثره. ويقال: إنه لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله، وله من الخصائص ما ليس للفاضل من كثرة القصائد المطولة الحسنة الأنيقة، وبقي في ديوان الإِنشاء نحواً من خمسين سنة بدمشق ومصر، وولي كتابة السر بدمشق نحواً من ثمان سنين قبل وفاته.

وحدث. وروى عنه الذهبي في معجمه، وقال: كان ديناً متعبداً، مؤثراً للانقطاع والسكون، حسن المحاورة، كثير الفضائل.

توفي ليلة السبت ثاني عشرين شعبان سنة خمس وعشرين وسبعمائة بدمشق بداره، وهي دار القاضي الفاضل بالقرب من باب الناطفانيين. وشيعه أعيان الدولة. وحضر الصلاة عليه بسوق الخيل نائب السلطنة، ودفن بتربته التي أنشأها بالقرب من اليغمورية. رحمه اللّه تعالى.

يوسف بن عبد المحمود بن عبد السلام بن البتي البغدادي، المقرئ الفقيه، الأديب النحوي، المتفنن جمال الدين: قرأ بالروايات، وسمع الحديث من محمد بن حلاوة، وعلي بن حصين، وعبد الرزاق بن الفوطي، وغيرهم.

وقرأ بنفسه على ابن الطبال. وأخذ عن الشيخ عز الدين عبد العزيز بن جماعة بن القواس الموصلي شارح ألفية ابن معطي: الأدب والعربية والمنطق، وغير ذلك، واستفاد في الفقه من الشيخ تقي الدين بن الزريراني. ويقال: إنه قرأ عليه. وكان معيداً عنده بالمستنصرية.

وقال الطوفي: استفدت منه كثيراً. وكان نحوي العراق ومقرئه، عالماً بالقرآن والعربية والأدب. وله حظ من الفقه والأصول والفرائض والمنطق.

قلت: ودرس للحنابلة بالبشيرية غربي بغداد، ونالته في آخر عمره محنة، واعتقل بسبب موافقته الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مسألة الزيارة. وكاتبه عليها مع جماعة من علماء بغداد، وتخرج به جماعة، وأقرأ العلم مدة، ولا يعرف أنه حدث.

وتوفي في حادي عشر شوال سنة ست وعشرين وسبعمائة. ودفن بمقبرة الإِمام أحمد رضي اللّه عنه. وكان كهلاً. رحمه الله تعالى.

وفي هذا الشهر ليلة الخميس ثالث عشرة توفي المؤرخ:-

قطب الدين موسى ابن الشيخ الفقيه أبي عبد الله محمد بن أبي الحسين اليونيني ببعلبك: ودفن عند أخيه بباب سطحا. وكان مولده في ثامن صفر سنة أربعين وستمائة بدمشق.

وسمع من أبيه، وبدمشق من ابن عبد الدايم، وعبد العزيز شيخ شيوخ حماة، وبمصر من الرشيد العطار، وإسماعيل بن صارم، وجماعة. وأجاز له ابن رواج، و التشتبري.

قال الذهبي: كان عالماً فاضلاً، مليح المحاضرة، كريم النفس، معظماً جليلاً. حدثنا بدمشق وبعلبك، وجمع تاريخاَ حسناً، ذيل به على "مرآة الزمان" واختصر "المرآة".

قال: وانتفعت بتاريخه، ونقلت منه فوائد جمة. وقد حسنت في آخر عمره حالته، وأكثر من العزلة والعبادة وكان مقتصداً في لباسه وزيِّه، صدوقاً في نفسه، مليح الشيبة، كثير الهيبة، وافر الحرمة. رحمه الله تعالى.

محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع بن جعفر الزيني الصالحي، الفقيه الصالح الزاهد، قاضي القضاة، شمس الدين أبو عبد الله: ولد سنة اثنتين وستين وسْتمائة.

وتوفي أبوه سنة ثمان وستين- وكان من الصالحين- فنشأ يتيماً فقيراً. وكان قد حضر على ابن عبد الدايم، وعمر الكرماني. ثم سمع من ابن البخاري وطبقته، وكثر عن ابن الكمال. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه، وعني بالحديث، وتفقه وبرع وأفتى، وبرع في العربية، وتصدى للأَشغال والإفادة، واشتهر اسمه، مع الديانة والورع، والزهد والاقتناع باليسير.

ثم بعد موت القاضي تقي الدين سليمان: وود تقليده للقضاء في صفر سنة ست عشرة عوضه. فتوقف في القبول. ثم استخار الله وقبل، بعد أن شرط أن لا يلبس خلعة حرير، ولا يركب في المواكب، ولا يقتني مركوباً. فأجيب إلى ذلك.

ولما لبس الخلعة بدار السعادة: خرج بها ماشياً إلى الجامع، ومعه الصاحب وجماعة من الأعيان مشاة فقرئ تقليده، ثم خلعها، وتوجه إلى الصالحية.

قال الذهبي في معجمه المختصر برع في المذهب والعربية. وأقرأ الناس مدة. على ورع وعفاف. ومحاسن جمة. ثم ولي القضاء بعد تمنع، وشكِر وحُمِد. ولم يغير زيه ولا اقتنى دابة، ولا أخذ مدرسة. واجتهد في الخير وفي عمارة أوقاف الحنابلة.

وكان من قضاة العدل، مصمماً على الحق، لا يخاف في الله لومة لائم. وهو الذي حكم على ابن تيمية بمنعه من الفتيا بمسائل الطلاق وغيرها مما يخالف المذهب.

وقد حدث. وسمع منه جماعة. وخرج له المحدثون تخاريج عدة. وحج ثلاث مرات. ثم حج رابعة فتمرض في طريقه بعد رحيلهم من العُلى. فورد المدينة النبوية يوم الإِثنين ثالث عشري ذي القعدة سنة ست وعشرين وسبعمائة وهو ضعيف، فصلى في المسجد ثم سلم عْلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكان بالأشواق إلى ذلك في مرضه. ثم مات عشية ذلك اليوم.

وقيل: من أواخر الليلة المقبلة. وصلَّى عليه بالروضة. ودفن بالبقيع شرقي قبر عقيل رضي الله عنه. وتأسف أهل الخير لفقده. رحمه الله تعالى.

?محمد بن علي بن أبي القاسم بن أبي العشرين الوراق. الموصلي.

المقرئ الفقيه. المحدث النحوي. شمس الدين أبو عبد الله، ويعرف بابن خروف: ولد في حدود الأربعين وستمائة بالموصل، أو قبلها.

وقرأ بها القرآن على عبد اللّه بن إبراهيم الجزدي الزاهد. وقد تقدم ذكره. وقصد الإِمام أبا عبد الله شعلة، ليقرأ عليه، فوجده مريضاً مرض الموت. ثم رحل ابن خروف إلى بغداد بعد الستين، وقرأ بها القراءات بكتب كثيرة في السبع والعشر، على الشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش، ولازمه مدة طويلة. وقرأ القراءات أيضاً على أبي الحسن بن الوجوهي. وسمع الحديث منهما، ومن ابن وضاح.

وذكر البرزالي: أنه عرض عليه "المقنع" في الفقه للشيخ موفق الدين.

وذكر الذهبي: أنه حفظ "الخرقي" وعني بالحديث، وقرأ بالموصل على أبي العباس الكواسي المفسر كتابه "التلخيص" في التفسير. وقرأ بها على أبي عبد الله محمد بن مسعود بن عمر العجمي "جامع الترمذي" بسماعه من أبي الفتح الغزنوي. وقرأ عليه أيضاً "معالم التنزيل" للغوي، بسماعه من ابن أبي المجد القزويني.

ونظر في العربية، وشارك في الفضائل، وله نظم حسن. تصدى للأشغال والإقراء في بلده مدة. وقرأ عليه جماعة.

وقدم الشام سنة سبع عشرة، وولي بها مشيخة الإِقراء بالتربة الأشرفية بعد المجد اليونيني. وحدث بها.

وسمع منه الذهبي، والبرزالي، وذكره في معجمه، وقال: كان شيخاً صالحاً، متودداً إلى الناس، حسن المحاضرة، طيب المجالسة. مكرماً عند كل أحد؛ لحسن خلقه، وشيخوخته وفضله. ونزل بالحلبية بالجامع.

وسمع منه أيضاَ أبو حيان. في عبد الكريم الحلبي. وذكره في معجمه. وأظنه ذهب إلى الديار المصرية أيضاً.

ورجع إلى بلده. وبها توفي في ثامن جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبعمائة. ودفن بمقبرة المعافى بن عمران رضي اللّه عنه.

الّله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني، ثم الدمشقي، الفقيه الإمام، الزاهد، العابد القدوة المتفنن، شرف الدين أبو محمد، أخو الشيخ تقي الدين: ولد في حادي عشر محرم سنة ست وستين وستمائة بحران.

وقدم مع أهله إلى دمشق رضيعاً، فحضر بها على ابن أبي اليسر، وغيره. ثم سمع من ابن علان، وابن الصيرفي، وأحمد بن أبي الخير، ومن ابن أبي عمرة والقاسم الأربلي، وحلق من هذه الطبقة.

وسمع "المسند" و "الصحيحين" وكتب السنن. وتفقه في المذهب حتى برع وأفتى. وبرع أيضاً في الفرائض والحساب، وعلم الهيئة، وفي الأصلين والعربية. وله مشاركة قوية في الحديث. ودرس بالحنبلية مدة.

وكان صاحب صدق وإخلاص، قانعاً باليسير شريف النفس، شجاعاً مقداماً، مجاهداً زاهداً، عابداً ورعاً، يخرج من بيته ليلاً، ويأوي إليه ليلاً، ولا يجلس في مكان معين، بحيث يقصد فيه، لكنه يأوي إلى المساجد المهجورة خارج البلد، فيختلي فيها للصلاة والذكر. وكان كثير العبادة والتأله، والمراقبة والخوف من الله تعالى، ذا كرامات وكشوف.

ومما اشتهر عنه: أنه كثير الصدقات، والإِيثار بالذهب والفضة في حضره وسفره، مع فقره وقلة ذات يده. وكان رفيقه في المحمل في الحج يفتش رحله فلا يجد فيه شيئاً، ثم يراه يتصدق بذهب كثير جداً. وهذا أمر مشهور معروف عنه. وحج مرات متعددة.

وكان له يد طولى في معرفة تراجم السلف ووفياتهم، وهْي التواريخ المتقدمة والمتأخرة. وحبس مع أخيه بالديار المصرية مدة. وقد استدعي غير مرة وحده المناظرة، فناظر، وأفحم الخصوم.

وسئل عنه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني? فقال: هو بارع في فنون عديدة من الفقه، والنحو والأصول، ملازم لأنواع الخير، وتعليم العلم، حسن العبارة، قوي في دينه، جيد التفقه، مستحضر لمذهبه، مليح البحث، صحيح الذهن، قوي الفهم رحمه اللّه تعالى.

وذكره الذهبي في "المعجم المختصر" فقال: كان بصيراً بكثير من علل الحديث ورجاله، فصيح العبارة، عالماً بالعربية، نقالاً للفقه، كثير المطالعة لفنون العلم، حلو المذاكرة، مع الدين والتقوى، وإيثار الانقطاع، وترك التكلف والقناعة باليسير، والنصح للمسلمين رضي اللّه عنه.

وذكره أيضاً في معجم شيوخه، فقال: كان إماماً بارعاً، فقيهاً عارفاً بالمذهب وأصوله، وأصول الديانات، عارفاً بدقائق العربية، وبالفرائض والحساب والهيئة المحفوظ، له مشاركة جيدة في الحديث، ومشاهير الأئمة والحوادث، ويعرف قطعة كثيرة من السيرة. وكان متقناً للمناظرة وقواعدها. والخلاف. وكان حلو المحاضرة متواضعاً، كثير العبادة والخير، ذا حظ من صدق وإخلاص وتوجه وعرفان، وانقطاع بالكلية عن الناس، قانعاً بيسير اللباس.

توفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبعمائة بدمشق. وصلَّى عليه الظهر بالجامع، وحمل إلى باب القلعة فصلَّى عليه هناك مرة أخرى. وصلى عليه أخوه الشيخ تقي الدين، وزين الدين عبد الرحمن، وهما محبوسان بالقلعة، وخلق معهما من داخل القلعة. وكان التكبير يبلغهم، وكثر البكاء تلك الساعة. فكان وقتاً مشهوداً. ثم صلى عليه مرة ثالثة ورابعة، وحمل على الرؤوس والأصابع إلى مقابر الصوفية، فدفن بها. وحضر جنازته جمع كثير، وعالم عظيم، وكثر الثناء والتأسف عليه. رحمه الله.

محمد بن عبد المحسن بن أبي الحسن بن عبد الغفار بن الخراط، البغدادي، القطيعي، الأزجي، المحدث، الواعظ، عفيف الدين أبو عبد اللّه، ويعرف بابن الدواليبي: قرأت بخطه: مولدي في آخر سنة أربع وثلاثين وستمائة. وكان قد اختلف قوله في ذلك.

فنقل البرزالي عنه: أن مولده في ربيع الأول في سنة ثمان وثلاثين في ثالث عشرة- أو رابع عشرة- على الشك منه.

وذكر غيره عنه: أن مولده سنة تسع وثلاثين.

وسمع من عبد الملك بن قيبا، وإبراهيم بن الخير، والأعز بن العليق، ومحمد بن مقبل بن المنى، ويحيى بن قميرة، وأخيه أحمد، وعلي بن معالي الرصافي، وعبد الله بن علي النعال.

وسمع من أحمد الباذنيني "صحيح مسلم" ومن الشيخ مجد الدين ابن تيمية أحكامه، ونصف المحرر، ومن الصاحب أبي المظفر بن الجوزي، وعجيبة بنت الباقداري، وغيرهم. وأجاز له جماعة كثيرون

وسمع "المسند" من جماعة، ووعظ مدة طويلة، وشارك في العلوم، وعمَّر وصار مسند أهل العراق في وقته.

وحدث بالكثير: وكان قد سمع كثيراً من الكتب العوالي على شيوخه القدماء، ولكن لم يظفر أهل بغداد بذلك. وإنما اشتهر عندهم سماعه للمسند، و "صحيح مسلم" وقد شاركه في سماعهما بمثل إسناده خلق كثير، حتى أشركنا منهم جماعة. وسمعنا الكتابين على مثله.

سمع منه الفرضي، وذكره في معجمه، مع تقدم وفاته، فقال: كان شيخاً عالماً، فقيهاً فاضلاً، واعظاً زاهداً، عابداً ثقة ديناً. وقدم دمشق حاجاً.

وسمع منه جماعة، منهم: البرزالي. وذكره في معجمه، فقال: شيخ فاضل في الوعظ، تكلم على الناس مدة طويلة، وحفظ "الخرقي" في الفقه، و "اللمع" لابن جني، وحج مرات، وهو من أهل الصلاح، كثير القناعة والتعفف، ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وحرمته وافرة، ومكانته معروفة. قدم علينا حاجاً سنة ثمان وتسعين، ونزل ظاهر البلد، فخرجنا إليه، وسمعنا منه، وجلس للوعظ بجامع دمشق في أواخر رمضان من هذه السنة. وحضرنا مجلسه، وسمعنا تذكيره. وتفرد في زمانه، وولي مشيخة المستنصرية، وهو قادري. كان أبوه من أصحاب الشيخ أبي صالح نصر بن عبد الرزاق.

وذكره الذهبي في معجمه، وقال: كان عالماً واعظاً، حسن المحاضرة، صحبناه في طريق الحج. حدث ببغداد، ودمشق، والمدينة، والعلا.

وذكره شيخنا بالإجازة صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق في معجمه، فقال: شيخ جليل، كثير المسموعات، سكن برباط ابن الغزال بالقطيعة، من باب الأزج، ولازم الوعظ به مدهّ طويلة، ووعظ بجامع الخليفة. ورتب مسمعاً بدار الحديث المستنصرية بعد وفاة ابن حصين سنة ثمان عشرة.

قلت: سمع منه خلق كثير من شيوخنا وغيرهم، كأبي حفص القزويني، ومحمود بن خليفة، وابن الفصيح الكوفي؛ ووالدي، وعمر الزار. وكان ينظم الشعر.

توفي يوم الخميس رابع عشرين من جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.

وشيعه خلق كثير، ودفن بمقابر الشهداء من باب حرب. رحمه اللّه.

قال لي: وعظت زمن المستعصم. وأنشدني لنفسه- كان وكان- عند سماعي منه "صحيح مسلم":

ترى ربيع التواصل يقدم وتفنى شـقـوتـي

 

ويقبل الصيف وجيشو على الشتاء منصور

وابصر مجيمر هجري على المزابل مكسرة

 

وبيت كانون حزني أرجع أزَّيّ مهـجـور

وأخلع بنفسج صبري على عواذل سلوتـي

 

وياسمين انتظاري وري العدى مـنـثـور

أحمد بن محمد بن عبد الولي بن جبارة المقدسي المقرئ، الفقيه الأصولي النحوي، شهاب الدين، أبو العباس ابن الشيخ تقي الدين أبي عبد اللّه: وقد سبق ذكر والده. ولد سنة سبع- أو ثمان- وأربعين وستمائة.

وقال البرزالي: سنة تسع وأربعين. أظنه بقاسيون.

وسمع من خطيب مردا حضوراً، ومن ابن عبد الدايم، وجماعة.

وارتحل إلى مصر بعد الثمانين- كذا في الطبقات- وفي التاريخ: سنة ثلاث وسبعين، فقرأ بها القراءات على الشيخ حسن الراشدي، وصحبه إلى أن مات، وقرأ الأصول على شهاب الدين القرافي المالكي، والعربية على بهاء الدين بن النحاس، وبرع في ذلك، وتفقه في المذهب، لعله على ابنِ حمدان.

وقدم دمشق بعد التسعين، فأقرأ بها القراءات، ثم تحول إلى حلب، فأَقرأ بها أيضاً، ثم استوطن بيت المقدس، وتَصَدَّر لإِقراء القران، والعربية، وصنف شرحاً كبيراً للشاطبية، وشرحاً آخر للرائية في الرسم. وشرحاً لألفية ابن معطي، ولا أدري أكمله أم لا? وصنف تفسيراً وأشياء في القراءات.

قال الذهبي في طبقات القراء: هو صالح متعفف، خشن العيش، جمّ الفضائل، ماهر بالفن، قَلَّ من رأيت بعد رفيقه مجد الدين- يعني التونسي- مثله، وذكره في معجم شيوخه، فقال: كان إماماً مقرئاً بارعاً، فقيهاً متقناً، نحوياً، نشأ إلى اليوم في صلاح وزهد ودين. سمعت منه مجلس البطاقة، وانتهت. إليه مشيخة بيت المقدس.

وذكره البرزالي في تاريخه، وذكر: أنه حج وجاور بمكة، قال: وكان رجلاً صالحاً، مباركاً عفيفاً منقطعاً، يعد لمحي العلماء الصّالحين الأخيار، قرأت عليه بدمشق والقدس، عدة أجزاء.

وتوفي بالقدس سحر يوم الأحد رابع رجب سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. ودفن في اليوم المذكور بمقبرة ماملا، وصلى عليه بجامع دمشق صلاة الغائب، في سادس عشر الشهر.

وذكر الذهبي: أنه مات فجأة، رحمه الله تعالى.

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني، ثم الدمشقي، الإمام الفقيه، المجتهد المحدث، الحافظ المفسر، الأصولي الزاهد. تقي الدين أبو العباس، شيخ الإسلام وعلم الأعلام، وشهرته تغني عن الإطناب فعب ذكره، والإسهاب في أمره.

ولد يوم الإثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحران.

وقدم به والده وبإخوته إلى دمشق، عند استيلاء التتر على البلاد، سنة سبع وستين وستمائة.

فسمع الشيخ بها من ابن عبد الدايم، وابن أبي اليسر، وابن عبد، والمجد بن عساكر، ويحيى بن الصيرفي الفقيه، وأحمد بن أبي الخير الحداد، والقاسم الأربلي، والشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والمسلم بن علان، وإبراهيم بن الحرجي، وخلق كثير.

وعنى بالحديث. وسمع "المسند" مرات، والكتب الستة، ومُعجم الطبراني الكبير، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره. فأخذ الفقه والأصول. عن والده، وعن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والشيخ زين الدين بن المنجا. وبرع في ذلك، وناظر. وقرأ في العربية أياماً على سليمان بن عبد القوي، ثم أخذ كتاب سيبويه، فتأمله ففهمه. وأقبل على تفسير القرآن الكريم، فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من العلوم، ونظر في علم الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، ورد على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضاً، وأمده الله بكثرة الكَتْب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبُطء النسيان، حتى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئاً فينساه.

ثم توفي والده الشيخ شهاب الدين، المتقدم ذكره، وكان له حينئذ إحدى وعشرين سنة. فقام بوظائفه بعده. فدرس بدار الحديث السكرية في أول سنة ثلاث وثمانين وستمائة.

وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي. والشيخ تاج الدين الفزاري، وزير الدين بن المرجل. والشيخ زين الدين بن المنجا، وجماعة، وذكر درساً عظيماً فيم البسملة. وهو مشهور بين الناس، وعظمه الجماعة الحاضرون، وأثنوا عليه ثناءً كثيراً.

قال الذهبي: وكان الشيخ تاج الدين الفزاري، يبالغ في تعظيمه الشيخ تقي الدين، بحيث إنه علق بخطه درسه بالسكرية.

ثم جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع، لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن. فكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر، وبقي يفسر في سورة نوح، عدة سنين أيام الجمع.

وفي سنة تسعين: ذكر على الكرسي يوم جمعة شيئاً من الصفات، فقام بعض المخالفين، وسعوا في منعه من الجلوس، فلم يمكنهم ذلك.

وقال قاضي القضاة شهاب الدين الخوي: أنا على اعتقاد الشيخ تقي الدين، فعوتب في ذلك. فقال: لأن ذهنه صحيح، ومواده كثيرة. فهو لا يقول إلا الصحيح.

وقال الشيخ شرى الدين المقدسي: أنا أرجو بركته ودعاءه، وهو صاحبي، وأخي. ذكر ذلك البرزالي في تاريخه.

وشرع الشيخ في الجمع وإلتصنيف، من دون العشرين، ولم يزل في علو وازدياد من العلم والقدر إلى آخر عمره.

قال الذهبي في معجم شيوخه: أحمد بن عبد الحليم- وساق نسبه- الحراني، ثم الدمشقي، الحنبلي أبو العباس، تقي الدين، شيخنا وشيخ الإِسلام، وفريد لعصر علماً ومعرفة، وشجاعة وذكاء، وتنويراً إلهياً، وكرماً ونصحاً للأمة، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب وخرج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصله غيره. برع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر إلى مواقع الإِشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ ما يحفظه من الحديث، معزواً إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضاره له وقت إقامة لدليل. وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل يقوم بما دليله عنده. وأتقن العربية أصولاً وفروعاً، وتعليلاً واختلافاً. ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، وَرَدَّ عليهم، وَنبَّه على خطئهم، وحذر منهم ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأُوذي في ذات اللّه من المخالفين، وأُخيف في نصر السنة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وَكَبَتَ أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالباً، وعلى طاعته، أحيى به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولى الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظُنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشْرَأَب النفاق وأبدى صفحته. ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: إني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه.

وقد قرأت بخط الشيخ العلامة شيخنا كمال الدين بن الزملكاني، ما كتبه سنة بضع وتسعين تحت اسم "ابن تيمية" كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع: أنه لا يعرف غير ذاك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا منه في مذهبهم أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع منه، ولا تكلم في علم من العلوم- سواء كان من علوم الشرع أو غيرها- إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.

وقال الذهبي في معجمه المختصر: كان إماماً متبحراً في علوم الديانة، صحيح الذهن، سريع الإِدراك، سيال الفهم، كثير المحاسن، موصوفاً بفرط الشجاعة والكرم، فارغاً عن شهوات المأكل والملبس والجماع، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه.

قلت: وقد عرض عليه قضاء القضاة قبل التسعين، ومشيخة الشيوخ، فلم يقبل شيئاً من ذلك. قرأت ذلك بخطه.

قال الذهبي: ذكره أبو الفتح اليعمري الحافظ- يعني ابن سيد الناس- في جواب سؤالات أبي العباس بن الدمياطي الحافظ، فقال: ألْفَيتُه ممن أدرك عن العلوم حظاً. وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته. وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه، ذو روايته، أو حاضر بالنحل والملل لم يرَ أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته. برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه.

وقد كتب الذهبي في تاريخه الكبير للشيخ ترجمة مطولة، وقال فيها: وله خبرة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم، وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتولْه، التي انفرد يه، فلا يبلغ أحد من العصر رتبته يقاربه، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة، والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث.

وقال: ولما كان معتقلاً بالإِسكندرية: التمس منه صاحب سبتة أن يجيز لأولاده، فكتب لهم في ذلك نحواً من ستمائة سطر، منها سبعة أحاديث بأسانيدها، والكلام على صحتها ومعانيها، وبحث وعمل ما إذا نظر فيه المحدث خضع له من صناعة الحديث. وذكر أسانيده في عدة كتب. ونبَّه على العوالي. عمك ذلك كله من حفظه، من غير أن يكون عنده ثَبَت أو من يراجعه.

ولقد كان عجيباً في معرفة علم الحديث. فأما حفظه متون الصحاح وغالب متون السنن والمسند: فما رأيت من يُدانيه في ذلك أصلاً.

قال: وأما التفسير فمسلم إليه. وله من استحضار الآيات من القرآن- وقت إقامة الدليل بها على المسألة- قوة عجيبة. وإذا رآه المقرئ تحيز فيه. ولفرط إمامته في التفسير، وعظم اطلاعه. يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين. ويُوهي أقوالاً عديدة. وينصر قولاً واحداً، موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث. ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الرد على الفلاسفة والأوائلَ: نحواً من أربعة كراريس أو أزيد.

قلت: وقد كتب "الحموية" في قعدة واحدة. وهي أزيد من ذلك. وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما يبيض منه مجلد.

وكان رحمه اللّه فريد دهره في فهم القرآن. ومعرفة حقائق الإيمان. وله يد طولى في الكلام على المعارف والأحوال. والتمييز بين صحيح ذلك وسقيمه. ومعوجه وقويمه.

وقد كتب ابن الزملكاني بخطه على كتاب "إبطال التحليل" للشيخ ترجمة الكتاب واسم الشيخ. وترجم له ترجمة عظيمة. وأثنى عليه ثناء عظيماً.

وكتب أيضاً تحت ذلك:

ماذا يقول الواصفون لـه

 

وصفاته جلَّتْ عن الحصر

هو حجة لـلـه قـاهـرة

 

هو بيننا أعجوبة الدهـر

هو آية للخلق ظـاهـرة

 

أنوارها أربت على الفجر

وللشيخ أثير الدين أبي حيان الأندلسي النحوي- لما دخل الشيخ مصر واجتمع به- ويقال: إن أبا حيان لم يقل أبياتاً خيراً منها ولا أفحل:

لما رأينا تقـي الـدين لاح لـنـا

 

داعٍ إلى اللَّه فرداً. مـالـه وزر

على محياه من سيما الأولى صحبوا

 

خير البرية نورٌ دونه الـقـمـر

حَبْر تسربل منه دهـره حِـبَـراً

 

بحر تقاذفُ من أمواجـه الـدرر

قام ابن تيمية في نصر شرعتـنـا

 

مقام سيد تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُـضـر

فأظهر الـدين إذْ آثـاره درسـت

 

وأخمد الشرك إذ طارت له شرر

يا من تحدث عن علم الكتاب أصِخْ

 

هذا الإِمام الذي قد كان ينتـظـر

وحكى الذهبي عن الشيخ: أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قال له- عند اجتماعه به وسماعه لكلامه-: ما كنت أظن أن الله بقي يخلق مثلك.

ومما وجد في كتاب كتبه العلامة قاضي القضاة أبو الحسن السبكي إلى الحافظ عبد اللّه الذهبي في أمر الشيخ تقي الدين المذكور: أما قول سيدي في الشيخ فالمملوك يتحقق كبر قدره. وزخارة بحره. وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية. وفرط ذكائه واجتهاده. وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف. والمملوك يقول دائماً. وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجلّ. مع ما جمعه اللّه له من الزهادة والورع والديانة. ونصرة الحق. والقيام فيه لا لغرض سواه. وجريه على سنن السلف. وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى. وغرابة مثله في هذا الزمان. بل من أزمان.

وكان الحافظ أبو الحجاج المزي: يبالغ في تعظيم الشيخ والثناء عليه، حتى كان يقول: لم يُر مثله منذ أربعمائة سنة.

وبلغني من طريق صحيح عن ابن الزملكاني: أنه سئل عن الشيخ? فقال: لم يُرَ من خمسمائة سنة، أو أربعمائة سنة- الشك من الناقل. وغالب ظنه: أنه قال: من خمسمائة أحفظ منه.

وكذلك كان أخوه الشيخ شرف الدين يبالغ في تعظيمه جداً، وكذلك المِشايخ العارفون، كالقدوة أبي عبد الله محمد بن قوام. ويحكى عنه أنه كان يقول: ما أسلمت معارفنا إلا على يد ابن تيمية.

والشيخ عماد الدين الواسطي كان يعظمه جداً، وتتلمذ له، مع أنه كان أسن منه. وكان يقول: قد شارف مقام الأئمة الكبار، ويناسب قيامه في بعض الأمور الصديقيين.

وكتب رسالة إلى خواص أصحاب الشيخ يوصيهم بتعظيمه واحترامه، ويعرفهم حقوقه، ويذكر فيها: أنه طاف أعيان بلاد الإِسلام، ولم يرَ فيها مثل الشيخ علماً وعملاً وحالاً وخلقاً واتباعاً، وكرماً وحلماً في حق نفسه، وقياماً في حق الله تعالى، عند انتهاك حرماته. وأقسم على ذلك باللّه ثلاث مرات.

ثم قال: أصدق الناس عقداً، وأصحهم علماً وعزماً، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه، وأسخاهم كفاً، وأكملهم اتباعاً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ما رأينا قي عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، بحيث يشهد القلب الصحيح: أن هذا هو الاتباع حقيقة.

ولكن كان هو وجماعة من خواص أصحابه ربما أنكروا من الشيخ كلامه في بعض الأئمة الأكابر الأعيان، أو في أهل التخلي والانقطاع ونحو ذلك.

وكان الشيخ رحمه اللّه لا يقصد بذلك إلا الخير، والانتصار للحق إن شاء الله تعالى.

وطوائف من أئمة أهل الحديث وحفاظهم وفقهائهم: كانوا يحبون الشيخ ويعظمونه، ولم يكونوا يحبون له التوغل مع أهل الكلام ولا الفلاسفة، كما هو طريق أئمة أهل الحديث المتقدمين، كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم، وكذلك كثير هن العلماء من الفقهاء والمحدثين والصالحين كرهوا له التفرد ببعض شذوذ المسائل التي أنكرها السلف على من شذ بها، حتى إن بعض قضاة العدل من أصحابنا منعه من الإفتاء ببعض ذلك.

قال الذهبي: وغالب حطه على الفضلاء والمتزهدة فبحق، وفي بعضه هو مجتهد، ومذهبه توسعة العذر للخلق، ولا يكفر أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه.

قال: ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات، وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياماً لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المرَّ الذي أدَّاه إليه اجتهاده، وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السفن والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من اللّه، والتعظيم لحرمات اللّه.

فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فينجيه الله، فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، والاستعانة به، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يُدْمنها بكيفية وجمعية. وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً، بلسانه وقلمه.

وأما شجاعته: فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال. ولقد أقامه الله تعالى في نوبة قازان. والنقي أعباء الأمر بنفسه. وقام وقعد وطلع، ودخل وخرج، واجتمع بالملك- يعني قازان- مرتين، وبقَطْلوشاه، وبُولاي. وكان قيجق يتعجب من إقدامه وجراءته على المغول.

وله حدة قوية تعتريه في البحث، حتى كأنه ليث حرِب. وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته. وفيه قلة مداراة، وعدم تؤدة غالباً، واللّه يغفر له. وله إقدام وشهامة، وقوة نفس توقعه في أمور صعبة، فيدفع الله عنه.

وله نظم قليل وسط. ولم يتزوج، ولا تسري، ولا له من المعلوم إلا شيء قليل وأخوه يقوم بمصالحه، ولا يطلب منهم غذاء ولا عشاء في غالب الوقت.

وما رأيت في العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عن الدينار والمرهم، لا يذكره، ولا أظنه يدور في ذهنه. وفيه مروءة، وقيام مع أصحابه، وسعي في مصالحهم. وهو فقير مال له. وملبوسه كآحاد الفقهاء: فَرَّجِيَّه، ودِلْق، وعمامة تكون قيمة ثلاثين درهماً ومداس ضعيف الثمن. وشعره مقصوص.

وهو رَبْع القامة، بعيد ما بين المنكبين، كأن عينيه لسانان ناطقان، ويصلي بالناس صلاة لا تكون أطول من ركوعها وسجود. وربما قام لمن يجيء من سفر أو غاب عنه، وإذا جاء فربما يقومون له، الكل عنده سواء، كأنه فارغ من هذه الرسوم، ولم ينحنِ لأحد قط، وإنما يسلم ويصافح ويبتسم. وقد يعظم جليسه مرة، ويهينه في المحاورة مرات.

قلت: وقد سافر الشيخ مرة على البريد إلى الديار المصرية يستنفر السلطان عند مجيء التتر سنة من السنين، وتلا عليهم آيات الجهاد، وقال: إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله، والذبِّ عنهم، فإن الله تعالى يقيم لهمِ من ينصرهم غيركم، ويستبدل بكم سواكم. وتلا قوله تعالى: "وَإنْ تتولوا يَسْتَبْدِل قوماً غيرَكْم ثُمَ لاَ يكُونُوا أمْثَالَكم" "محمد: 38" وقوله تعالى: "إلا تَنْفرُوا يُعَذِّبْكم عَذَاباً ألِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيرَكم وَلاَ تَضُروهُ" "التوبة: 120".

وبلغ ذلك الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد- وكان هو القاضي حينئذ- فاستحسن ذلك، وأعجبه هذا الاستنباط، وتعجب من مواجهة الشيخ للسلطان بمثل هذا الكلام.

وأما مِحَنُ الشيخ: فكثيرة، وشرحها يطول جداً.

وقد اعتقله مرة بعض نواب السلطان بالشام قليلاً، بسبب قيامه على نصراني سب الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقل معه الشيخ زين الدين الفاروقي، ثم أطلقهما مكرمين.

ولما صنف المسألة "الحموية" في الصفات: شنع بها جماعة، ونودي عليها الأسواق على قصبة، وأن لا يستفتى من جهة بعض القَضاة الحنفية. ثم أنتصر للشيخ بعض الولاة، ولم يكن في البلد حينئذ نائب، وضُرب المنادي وبعض من معه، وسكن الأمر.

ثم امتحن سنة خمس وسبعمائة بالسؤال عن معتقده بأمر السلطان. فجمع نائبة القضاة والعلماء بالقصر، وأحضر الشيخ، وسأله عن ذلك? فبعث الشيخ من أحضر داره "العقيدة الواسطية" فقرءوها في ثلاث مجالس، وحاقَقُوه، وبحثوا معه، ووقع الاتفاق. بعد ذلك على أن هذه عقيدة سُنية سلفية، فمنهم من قال ذلك طوعاً، ومنهم من قاله كرهاً.

وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه: إنما قصدنا براءة ساحة الشيخ، وتبين لنا أنه على عقيدة السلف.

ثم إن المصريين دبروا الحيلة في أمر الشيخ، ورأوا أنه لا يمكن البحث معه، ولكن يعقد له مجلس، ويدَعى عليه، وتقام عليه الشهادات. وكان القائمون في ذلك منهم: بيبرس الجاشنكير، الذي تسلطن بعد ذلك، ونصر المنبجي وابن مخلوف قاضي المالكية، فطُلب الشيخ على البريد إلى القاهرة، وعُقد له ثاني يوم وصوله- وهو ثاني عشرين رمضان سنة خمس وسبعمائة- مجلس بالقلعة، وادعِي عليه عند ابن مخلوف قاضي المالكية، أنه يقول: إن الله تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنه على العرش بذاته، وأنه يشار إليه بالإِشارة الحسية.

وقال المدعي: أطلب تعزيره على ذلك، العزيز البليغ- يشير إلى القتل على مذهب مالك- فقال القاضي: ما تقول يا فقيه? فحمد الله وأثنى عليه، فقيل له: أسرع ما جئت لتخطب، فقال: أأُمنع من الثناء على اللّه تعالى? فقال القاضي: أجب، فقد حمدت الله تعالى. فسكت الشيخ، فقال: أجب. فقال الشيخ له: من هو الحاكم في? فأشاروا: القاضي هو الحاكم، فقال الشيخ لابن مخلوف: أنت خصمي، كيف تحكم في?. وغضب، ومراده: إني وإياك متنازعان في هذه المسائل، فكيف يحكم أحد الخصمين على الآخر عيها. فأقيم الشيخ ومعه أخواه، ثم رد الشيخ، وقال: رضيت أن تحكم فيَ، فلم يمكَّن من الجلوس، ويقال: إن أخاه الشيخ شرف الدين ابتهل، ودعا اللّه عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ، وقال له: بل قل: اللهم هب لهم نوراً يهتدون به إلى الحق.

ثم حبسوا في بُرْج أياماً، ونقلوا إلى الجب ليلة عيد الفطر، ثم بعث كتاب سلطاني إلى الشام بالحط على الشيخ، وألزم الناس- خصوصاً أهل مذهبه- بالرجوع عن عقيدته، والتهديد بالعزل والحبس، ونودي بذلك في الجامع والأسواق. ثم قرئ الكتاب بسدَّة الجامع بعد الجمعة، وحصل أذى كثير للحنابلة بالقاهرة، وحبس بعضهم، وأخذ خطوط بعضهم بالرجوع. وكان قاضيهم الحراني قليل العلم.

ثم في سلخ رمضان سنة ست: أحصْر سلار- نائب السلطان بمصر- القضاة والفقهاء، وتكلم في إخراج الشيخ، فاتفقوا على أنه يشترط عليه أمور، ويلزم بالرجوع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه من يحضره، وليتكلموا معه في ذلك، فلم يجب إلى الحضور، وتكرر الرسول إليه في ذلك ست مرات، وصمم على عدم الحضور، فطال عليهم المجلس، فانصرفوا من غير شيء.

ثم في آخر هذه السنة وصل كتاب إلى نائب السلطنة بدمشق من الشيخ، فأخبر بذلك جماعة ممن حضر مجلسه، وأثني عليه: وقال: ما رأيت مثله، ولا أشجع منه. وذكر هو عليه في السجن: من التوجه إلى الله تعالى، وأنه لا يقبل شيئاً من الكسوة السلطانية ولا من الأدرار السلطاني، ولا تدنس بشيء من ذلك.

ثم في ربيع الأول من سنة سبع وسبعمائة دخل مهنا بن عيسى أمير العرب إلى مصر، وحضر بنفسه إلى السجن، وأخرج الشيخ منه، بعد أن استأذن في ذلك، وعقد للشيخ مجالس حضرها أكابر الفقهاء، وانفصلت على خير.

وذكر الذهبي والبرزالي وغيرهما: أن الشيخ كتب لهم بخطه مجملاً من القول وألفاظاً فيها بعض ما فيها، لما خاف وهدد بالقتل، ثم أطلق وامتنع من المجيء إلى دمشق. وأقام بالقاهرة يقرىء العلم، ويتكلم في الجوامع والمجالس العامة، ويجتمع عليه خلق.

ثم في شوال من السنة المذكورة: اجتمع جماعة كثيرة من الصوفية، وشكواه الشيخ إلى الحاكم الشافعي، وعقد له مجلس لكلامه من ابن عربي وغيره، وادعى عليه ابن عطاء بأشياء، ولم يثبت منها شيئاً، لكنه اعترف أنه قال: لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم، استغاثة بمعنى العبادة، ولكن يتوسل به، فبعض الحاضرين قال: ليس في هذا شيء.

ورأى الحاكم ابن جماعة: أن هذا إساءة أدب، وعنفه على ذلك، فحضرت رسالة إلى القاضي: أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة في ذلك، فقال القاضي: قد قلت له ما يقال لمثله.

ثم إن الدولة خيروه بين أشياء، وهي الإِقامة بدمشق، أو بالإسكندرية، بشروط، أو الحبس، فاختار الحبس. فدخل عليه أصحابه في السفر إلى دمشق، ملزماً ما شرط عليه فأجابهم، فأركبوه خيل البريد، ثم ردوه في الغد، وحضر عند القاضي بحضور جماعة من الفقهاء، فقال له بعضهم: ما ترضى الدولة إلا بالحبس. فقال القاضي: وفيه مصلحة له واستناب التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس، فامتنع، وقال: ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي، فتحير، فقال الشيخ: أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال الزواوي المذكور: فيكون في موضع يصلح لمثله، فقيل له: ما ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس، فأرسل إلى حبس القاضي وأجلس في الموضع الذي أجلس فيه القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز لما حبس، وأذن أن يكون عنده من يخدمه. وكان جميع ذلك بإشارة نصر المنبجي.

واستمر الشيخ في الحبس يستفتى ويقصده الناس، ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء وأعيان الناس.

وكان أصحابه يدخلون عليه أولاً سراً، ثم شرعوا يتظاهرون بالدخول عليه، فأخرجوه في سلطنة الششنكير الملقب بالمظفر، إلى الإِسكندرية على البريد، وحبس فيها في برج حسن مضيء متسع، يدخل عليه من شاء، ويمنع هو من شاء، ويخرج إلى الحمام إذا شاء، وكان قد أخرج وحده، وأرجف الأعداء بقتله وتفريقه غير مرة، فضاقت بذلك صدور محبيه بالشام وغيره، وكثر الدعاء له. وبقي في الإِسكندرية مدة سلطنة المظفر.

فلما عاد الملك الناصر إلى السلطنة وتمكن، وأهلك المظفر، وحمل شيخه نصر المنبجي، واشتدت موجدة السلطان على القضاة لمداخلتهم المظفر، وعزل بعضهم: بادر بإحضار الشيخ إلى القاهرة مكرماً في شوال سنة تسع وسبعمائة، وأكرمه السلطان إكراماَ زائداً، وقام إليه، وتلقاه في مجلس حفل، فيه قضاة المصريين والشاميين، والفقهاء وأعيان الدولة. وزاد في إكرامه عليهم، وبقي يُساره ويستشيره سويعة، وأثنى عليه بحضورهم ثناء كثيراً، وأصلح بينه وبينهم. ويقال: إنه شاوره في أمرهم به في حق القضاة، فصرفه عن ذلك، وأثنى عليهم، وأن ابن مخلوف كان يقول: ما رأينا أفتى من ابن تيمية، سعينا في دمه. فلما قدر علينا عفا عنا.

واجتمع بالسلطان مرة ثانية بعد أشهر، وسكن الشيخ بالقاهرة، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند، وطائفة من الفقهاء، ومنهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع.

قال الذهبي: وفي شعبان سنة إحدى عشرة: وصل النبأ: أن الفقيه البكري- أحد المبغضين للشيخ- استفرد بالشيخ بمصر، ووثب عليه، ونتش بأطواقه، وقال: احضر معي إلى الشرع، فلي عليك دعوى، فلما تكاثر الناس انملص، فطلب من جهة الدولة، فهرب واختفى.

وذكر غيره: أنه ثار بسبب ذلك فتنة، وأراد جماعة الانتصار من البكري فلم يمكنهم الشيخ من ذلك.

واتفق بعد مدة: أن البكري همّ السلطان بقتله، ثم رسم بقطع لسانه، لكثرة فضوله وجراءته، ثم شفع فيه، فنفي إلى الصعيد، ومنع من الفتوى بالكلام في العلم. وكان الشيخ في هذه المدة يقرىء العلم، ويجلس للناس في مجالس عامة.

قدم إلى الشام هو وإخوته سنة اثنتي عشرة بنية الجهاد، لما قدم السلطان لكشف التتر عن الشام. فخرج مع الجيش، وفارقهم من عسقلان، وزار البيت المقدس.

ثم دخل دمشق بعد غيبته عنها فوق سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه، وسُرَّ الناس بمقدمه، واستمر على ما كان عليه أولاً، من إقراء العلم، وتدريسه بمدرسة السكرية، والحنبلية، وإفتاء الناس ونفعهم.

ثم في سنة ثمان عشرة: ورد كتاب من السلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير، وعقد له مجلس بدار السعادة، ومنع من ذلك، ونودي به في البلد ثم في سنة عشرة عقد له مجلس أيضاً كالمجلس الأول، وقرئ كتاب السلطان بمنعه من ذلك، وعوتب على فتياه بعد المنع، وانفصل المجلس على تكيد المنع.

ثم بعد مدة عقد له مجلس ثالث بسبب ذلك، وعوتب وحبس بالقلعة. ثم حبس لأجل ذلك مرة أخرى. ومنع بسبب من الفتيا مطلقة، فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: لا يسعني كتم العلم.

وفي آخر الأمر: دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وألزموه من ذلك التنقص بالأنبياء، وذلك كفر، وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء، وهم ثمانية عشر نفساً، رأسهم القاضي الإِخناني المالكي وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهراً. وبها مات رحمه الله تعالى.

وقد بين رحمه اللّه: أن ما حكم عليه به باطل بإجماع المسلمين من وجوه كثيرة جداً، وأفتى جماعة بأنه يخطئ في ذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة من علماء بغداد، وغيرهم. وكذلك ابنا أبي الوليد شيخ المالكية بدمشق أفتيا: أنه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلاً، وأنه نقل خلاف العلماء في المسألة، ورجح أحد القولين فيها.

وبقي مدة في القلعة يكتب العلم ويصنفه، ويرسل إلى أصحابه الرسائل، ويذكر ما فتح الله به عليه في هذه المرة من العلوم العظيمة، والأحوال الجسيمة.

وقال: قد فتح الله علي في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء، كان كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، ثم إنه منع من الكتابة، ولم يترك عنده دواة ولا قلم ولا ورق، فأقبل على التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر.

قال شيخنا أبو عبد اللّه بن القيم: سمعت شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، ونور ضريحه، يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. قال: وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي? أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أنا حبسي خلوة. وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان في حبسه في القلعة يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة أو قال: ما جزيتهم على ما نسبوا فيه من الخير - ونحو هذا.

وكان يقول في سجوده، وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله.

وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.

ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها نظر إليه وقال: "فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب" "الحديد: 13".

قال شيخنا: وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منة قط، مع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض: أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من رَوحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها.

وأما تصانيفه رحمه اللّه: فهي أشهر من أن تذكر، وأعرف من أن تنكر. سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار. قد جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن أحد حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعد المعروف منها، ولا ذكرها.

ولنذكر نبذة من أسماء أعيان المصنفات الكبار: كتاب "الإيمان" مجلد، كتاب "الاستقامة" مجلدان "جواب الاعتراضات المصرية على الفتاوى الحموية" أربع مجلدات، كتاب "تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية"، في ست مجلدات كبار، كتاب "المحنة المصرية" مجلدان "المسائل الإسكندرانية" مجلد "الفتاوى المصرية" سبع مجلدات.

وكل هذه التصانيف ما عدا كتاب "الإيمان" كتبه وهو بمصر في مدة سبع سنين صنفها في السجن. وكتب معها أكثر من مائة لَفَّة ورق أيضاً، كتاب "درء تعارض العقل والنقل" أربع مجلدات كبار. والجواب عما أورده للشيخ كمال الدين بن الشريشي على هذا الكتاب، نحو مجلد كتاب "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" أربع مجلدات "الجواب الصحيح لما بدل دين المسيح" مجلدان "شرح أول المحصل للرازي" مجلد "شرح بضعة عشر مسألة من الأربعين للرازي" مجلدان "الرد على المنطق" مجلد كبير "الرد على البكري في مسألة الاستغاثة" مجلد "الرد على أهل كسروان الروافض" مجلدان "الصفدية"، "جواب من قال: إن معجزات الأنبياء قوى نفسانية" مجلد "الهلاونية" مجلد "شرح عقيدة الأصبهاني" جلد "شرح العمدة" للشيخ موفق الدين. كتب منه نحو أربع مجلدات "تعليقة على المحرر في الفقه لجده عدة مجلدات "الصارم المسلول على شاتم الرسول" مجلد، "بيان الدليل على بطلان التحليل" مجلد "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم" مجلد "التحرير في مسألة حفير" مجلد في مسألة من القسمة، كتبها اعتراضاً على الخوي في حادثة حكم فيها "الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق" ثلاث مجلدات، كتاب "تحقيق الفرقان بين التطليق وإلأيمان" لما مجلد كبير "الرد على الأخنائي في مسألة الزيارة" مجلد. وأما القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوى: فلا يمكن الإِحاطة بها، لكثرتها وانتشارها وتفرقها. ومن أشهرها "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" مجلد لطيف "الفرقان بين الحق والبطلان" مجلد لطيف "الفرقان بين الطلاق والأيمان" مجلد لطيف "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" مجلد لطيف "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" مجلد لطيف.

ذكر نبذة من مفرداته وغرائبه

اختار ارتفاع الحديث بالمياه المتعصرة، كماء الورد ونحوه، واختار جواز المسح على النعلين، والقدمين، وكل ما يحتاج في نزعه من الرجل إلى معالجة باليد أو بالرجل الآخر، فإنه يجوز عنده المسح عليه مع القدمين.

واختار أن المسح على الخفين لا يتوقف مع الحاجة، كالمسافر على البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خيل البريد ويتوقف مع إمكان النزع وتيسره.

واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها.

واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت لْي حق عْير المعذور، كمن أخر الصلاة عمداً حتى تضايق وقتها. وكذا من خشي فوات الجمعة والعيدين وهو محدث. فأما من استيقظ أو ذكر في آخر وقت الصلاة: فإنه يتطهر بالماء ويصلي، لأن الوقت متسع في حقه.

واختار أن المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت، أو شق عليها النزول إلى الحمام وتكرره: أنها تتيمم وتصلَّي.

واختار أن لا حدَ لأقلِّ الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضتين، ولا لسن الإياس من الحيض. وأن ذلك راجع إلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها.

واختار أن تارك الصلاة عمداً: لا يجب عليه القضاء. ولا يشرع له. بل يكثر مز النوافل، وألن القصر يجوز في وقت السفر وطويله، وأن سجود التلاوة لا يشترط له طهارة.

ذكر وفاته

مكث الشيخ في القلعة من شعبان سنة لمست وعشرين إلي ذي القعدة سنة ثمان وعشرين، ثم مرض بضعة وعشرين يوماً، ولم يعلم اكثر الناس بمرضه، ولم يفجأهم إلا موته.

وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.

وذكر مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلم به الحرس على الأبراج، فتسامع الناس بذلك، وبعضهم أعلم به في منامه، وأصبح الناس، واجتمعوا حول القلعة حتى أهل الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئاً، ولا فتحوا كثيراً من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أول النهار. وفتح باب القلعة.

وكان نائب السلطنة غائباً عن البلد، فجاء الصاحب إلى نائب القلعة، فعزاه به وجلس عنده، واجتمع عند الشيخ في القلعة خلق كثير من أصحابه، يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين الدين عبد الرحمن: أنه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا إلى قوله تعالى: "إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر" "القمر: 54. 55".

فشرع حينئذ الشيخان الصالحان: عبد الله بن المحب الصالحي، والزرعي الضرير- وكان الشيخ يحب قراءتهما- فابتداء من سورة الرحمن حتى ختما القرآن. وخرج الرجال، ودخل النساء من أقارب الشيخ، فشاهدوه ثم خرجوا، واقتصروا على من يغسله، ويساعد على تغسيله، وكانوا جماعة من أكابر الصالحين وأهل العلم، كالمزي وغيره، ولم يفرغ من غسله حتى امتلأت القلعة بالرجال وما حولها إلى الجامع، فصلَى عليه بدركات القلعة: الزاهد القدوة محمد بن تمام. وضج الناس حينئذ بالبكاء والثناء، وبالدعاء والترحم.

وأخرج الشيخ إلى جامع دمشق في الساعة الرابعة أو نحوها. وكان قد امتلأ الجامع وصحنه، والكلاسة، وباب البريد، وباب الساعات إلى الميادين والفوارة. وكان الجمع أعظم من جمع الجمعة، ووضع الشيخ في موضع الجنائز، مما يلي المقصورة، والجند يحفظون الجنازة من الزحام، وجلس الناس على غير صفوف. بل مرصوصين، لا يتمكن أحد من الجلوس والسجود إلا بكلفة. وكثر الناس كثرة لا توصف.

فلما أذن المؤذن الظهر أقيمت الصلاة على السدة، بخلاف العادة، وصلوا الظهر، ثم صلوا على الشيخ، وكان الإِمام نائب الخطابة علاء الدين بن الخراط لغيبة الفزويني بالديار المصرية. ثم ساروا به، والناس في بكاء ودعاء وثناء، وتهليل وتأسف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يدعين ويبكين أيضاً. وكان يوماً مشهوداً، لم يعهد بدمشق مثله، ولم يتخلف من أهل البلد وحواضره إلا القليل من الضعفاء والمخدرات وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أئمة أهل السنة. فبكا الناس بكاء كثيراً عند ذلك.

وأخرج من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديل وعمائمهم، وصار النعش على الرؤوس، يتقدم تارة، ويتأخر أخرى. وخرج الناس أبواب الجامع كلها وهي مزدحمة. ثم من أبواب المدينة كلها، لكن كان المعظم من باب الفرج، ومنه خرجت الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية، وعظم الأمر بسوق الخيل.

وتقدم في الصلاة عليه هناك: أخوه زين الدين عبد الرحمن.

ودفن وقت العصر أو قبلها بيسير إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله بمقابر الصوفية، وحُزر الرجال: بستين ألفٍ وأكثر، إلى مائتي ألف، والنساء بخمسة عشر ألف، وظهر بذلك قول الإِمام أحمد" بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز".

وختم له ختمات كثيرة بالصالحية والمدينة، وتردد الناس إلى زيارة قبره أياماً كثيرة، ليلاً ونهاراً، ورئيت له منامات كثيرة صالحة. ورثاه خلق كثير من العلماء والشعراء بقص كثيرة من بلدان شتى، وأقطار متباعدة، وتأسف المسلمون لفقده. رضي اللّه عنه ورحمه وغفر له.

وصلى عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإِسلام القريبة والبعيدة، حتى في اليمن والصين. وأخبر المسافرون: أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم جمعة "الصلاة على ترجمان القرآن".

وقد أفرد الحافظ أبو عبد الله بن عبد الهادي له ترجمة في مجلدة، وكذلك أبو حفص عمر بن علي البزار البغدادي في كراريس، وإنما ذكرناها هنا على وجه الاقتصار ما يليق بتراجم هذا الكتاب.

وقد حدث الشيخ كثيراً. وسمع منه خلق من الحفاظ والأئمة من الحديث، ومن تصانيفه، وخرج ابن الواني أربعين حديثاً حدث بها.

أحمد بن يحيى بن محمد بن بدر الجزري، ثم الصالحي، المقرئ الفقيه، شهاب الدين أبو العباس: ولد في حدود السبعين وستمائة.

وقرأ بالروايات على الشيخ جمال الدين البدوي.

وسمع من جماعة من أصحاب ابن طبرزد، والكندي، ولزم المجد التونسي مدة. وأخذ عنه علم القراءات حتى مهر فيها، وأقبل على الفقه، وصحب القاضي ابن مسلم مدة، وانتفع به.

وكان من خيار الناس ديناً وعقلاً، وتعففاً ومروءة وحياءاً. أقرأ القرآن وحدث.

وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة رحمه الله تعالى.

إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن الفراء الحراني، ثم الدمشقي، الفقيه الإمام الزاهد، مجد الدين أبو الفداء، شيخ المذهب: ولد سنة خمس- أو ست- وأربعين وستمائة بحران.

وقدم دمشق مع أهله سنة إحدى وسبعين، وسمع بها الكثير من ابن أبي عمر، وابن الصيرفي، والكمال عبد الرحيم، وابن البخاري، والقاسم الأربلي، وأبي حامد بن الصابوني، وأبي بكر العامري، وغيرهم.

وطلب بنفسه، وسمع المسند، والكتب الكبار. وتفقه بالشيخ شمس الدين بن أبي عمر وغيره، ولازمه حتى برع في الفقه، وله معرفة بالحديث والأصول. وغير ذلك. وكتب بخطه الكثير، وتصدى للاشتغال والفتوى مدة طويلة. وانتفع به خلق كثير، مع الديانة والتقوى، وضبط اللسان، والورع في المنطق وغيره، واطراح التكلف في الملبس وغيره.

قال الطوفي: وكان من أصلح خلق اللّه وأدينهم، كأن على رأسه الطير. وكان عالماً بالفقه والحديث، وأصول الفقه، والفرائض، والجبر والمقابلة.

وقال الذهبي: كان شيخ الحنابلة. وكان حافظاً لأحاديث الأحكام. طلب مدة.

وقال غيره: وكان كثير النقل، له خبرة تامة بالمذهب، يقرئ "المقنع" و "الكافي" ويعرفهما، وكتب بخطه "المغني" و "الكافي"، وغيرهما. ويقال: إنه أقرأ "المقنع" مائة مرة.

وكان شيخاً صالحاً ملازماً للتعليم والاشتغال، وجواب الطلبة، بنقل صحيح محقق.

وكان يفتي، ويتحرى كثيراً. وكان عديم التكلف، ويحمل حاجته بنفسه، وليس له كلام في غير العلم، ولا يخالط أحداً، وأوقاته محفوظة.

وقال: ما وقع في قلبي الترفع على أحد من الناس، فإني خبير بنفسي، ولست أعرف أحوال الناس.

وكان يلازم وظائفه، ويحافظ عليها، لا ينقطع يوم بطالة ولا غيرها، بحيث ذكر عنه: أنه كان يتصدى يوم العيد، فإن حضر أحد أقرأه.

وأكثر الفقهاء الذين تنبهوا قرأوا عليه، ثم إن جماعة منهم درسوا في المدارس، وهو معيد عندهم، يلازم الحضور ويكرمهم. ويخاطبهم بالمشيخة. رحمه الله.

قلت: وكان سريع الدمعة.

وسمعت بعض شيوخنا يذكر عنه: أنه كان لا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في درسه إلا ودموعه جارية، ولا سيما إن ذكر شيئاً من الرقائق، أو أحاديث الوعيد. ونحو ذلك.

وقد قرأ عليه عامة أكابر شيوخنا ومن قبلهم، حتى الشيخ تقي الدين بن الزريراني شيخ العراق. وحدث، فسمع منه جماعة، منهم: الذهبي، وغيره.

وتوفي ليلة الأحد تاسع جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبعمائة بالمدرسة الجوزية. ودفن بمقابر الباب الصغير. رحمه اللّه تعالى.

وقد رأيت جزءاً فيه مسألتين- قيل: إنهما من كلامه- إحداهما: في طلاق الغضبان، وأنه لا يقع. والثاني: في مسألة الظفر، ونصر جواز الأخذ مطلقاً، والظاهر من حاله وورعه وشدة تمسكه بمذهبه: يشهد بعدم صحة ذلك عنه. والله أعلم.

محمد بن عبد العزيز بن محمد الخطائري، البغدادي، الأزجي، الفقيه الفرضي، الكاتب شمس الدين أبو عبد الله: تفقه على الشيخ تقي الدين الزريراني، وبرع في الفقه والفرائض، وكان فاضلاً ذكياً.

قدم دمشق، وتنقل في الخدم، وصار ناظراً على المساجد.

توفي بقباقب: إما سنة تسع عشرة، وإما سنة عشرين وسبعمائة. رحمه الله تعالى.

عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن أبي البركات بن مكي بن أحمد الزريراتي، ثم البغدادي، الِإمام فقيه العراق، ومفتي الآفاق، تقي الدين أبو بكر: ولد في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وستمائة.

وحفظ القراَن وله سبع سنين. وسمع الحديث من إسماعيل بن الطبال، ومحمد بن ناصر بن حلاوة، وأبي عنان الطيبي، وست الملوك فاطمة بنت أبي البدر، وغيرهم.

وتفقه ببغداد على جماعة، منهم: الشيخ مفيد الدين الحربي، وغيره.

ثم ارتحل إلى دمشق، فقرأ المذهب على الشيخ زين الدين بن المنجا، والشيخ مجد الدين الحراني، ثم عاد إلى بلده، وبرع في الفقه وأصوله، ومعرفة المذهب والخلاف، والفرائض ومتعلقاتها.

وكان عارفاً بأصول الدين، ومعرفة المذهب والخلاف، وبالحديث، وبأسماء الرجال والتواريخ، وباللغة العربية وغير ذلك، وانتهت إليه معرفة الفقه بالعراق.

ومن محفوظاته في المذهب: كتاب "الخرقي" و "الهداية" لأبي الخطاب. وذكر أنه طالع "المغنى" للشيخ موفق الدين ثلاثاً وعشرين مرة. وكان يستحضر كثيراً منه، أو أكثره، وعلق عليه حواشي، وفوائد. وشرع في شرح "المحرر" فكتب من أوله قطعة، وولي القضاء، ودرس بالبشيرية ثم بالمستنصرية، واستمر فيها إلى حين وفاته.

وكان يورد دروساً مطولة فصيحة منقحة. وله اليد الطولى في المناظرة والبحث، وكثرة النقل، ومعرفة مذاهب الناس. وانتهت إليه رياسة العلم ببغداد من غير مدافع. وأقر له الموافق والمخالف. وكان الفقهاء من سائر الطوائف يجتمعون به، يستفيدون منه في مذاهبهم، ويتأدبون معه، ويرجعون إلى قوله ونقله لمذاهبهم، ويردهم عن فتاويهم، فيذعنون له، ويرجعون إلى ما يقوله، ويعترفون له بإفادتهم في مذاهبهم، حتى ابن المطهر شيخ الشيعة: كان الشيخ تقي الدين يبين له خطأه في نقله لمذهب الشيعة فيذعن له. وقال له مرة بعض أئمة الشافعية- وقد بحث معه- أنت اليوم شيخ الطوائف ببغداد.

وقال العلامة الشيخ شمس الدين البرزبي والد الشيخ شمس الدين مدرس المستنصرية: ما درس أحد بالمستنصرية منذ فتحت إلى الآن أفقه منه.

ويوم وفاته قال الشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن عسكر شيخ المالكية: لم يبقَ ببغداد من يراجع في علوم الدين مثله.

قرأ عليه جماعة من الفقهاء، وتخرج به أئمة، وأجاز لجماعة، وما أظنه حدث.

وكان في مبدأ أمره متزهداً قبل دخوله في القضاء. وكان ذا جلالة ومهابة، وحسن شكل ولباس وهيئة، وذكاء مفرط، ولطف وكيس ومروءة، وتلطف بالطلبة، وعفة وصيانة في حكمه. وركبه دين في اَخر عمره.

توفي ليلة الجمعة ثاني عشرين جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبعمائة. وصلى عليه من الغد بالمستنصرية. وحضره خلق كثير. وكان يوماً مشهوداً، وكثر البكاء والتأسف والترحم عليه. ودفن بمقبرة الإِمام أحمد، قريباً من القاضي أبي يعلى رحمهم الله تعالى.

ولجماعة من أهل بغداد فيه مدائح ومراث كثيرة، منهم الشيخ تقي الدين الدقوقي محدث بغداد. فمن قوله فيه من مرثية له:

خدين التقى، مذ كان طفلاً ويافعـاً

 

تسامت به تقواه عن كـل مـأثـم

لقد كان شيخاً في الحـديث بـقـية

 

من السلف الماضين أهل التـقـدم

فلما مضى مات الحديث بمـوتـه

 

فأكرم به، أكـرم بـه، ثـم كـرم

لقد مات محموداً سعيداً، ولم نـجـد

 

له خلفاً، فاتبع مقـالـي وسـلـم

هنيئاً له من حـاكـم مـتـثـبـت

 

غزير النفس، سهل لعافيه مكـرم

فتى صيغ من فقه، بل الفقه صوغه

 

حَفـي بـإيضـاح الـدلائل قـيم

عليم بمنسوخ الحـديث وفـقـهـه

 

وناسخه، بحر من العلم مـفـعـم

لقد عظمت في المسلـمـين رزية

 

غداة نعي الناعون أورع مسـلـم

فمن ذا الذي يؤتَى فيسأل بـعـده?

 

ومن ذا ترى يجلو دحى كل مبهم?

فقدناه شيخاً عـالـمـاً، ذا نـزاهة

 

حيياً سـخـياً، ذا أيادٍ وأنـعـــم

وها سُدَةُ التدريس من بعـده وهـا

 

مشيد علاها الشامخ المـتـسـنـم

وجاور بعد الموت قبر ابن حنـبـل

 

إمام، إليه الزهد ينمى وينـتـمـي

وما خاب من أمسى مجاور قبـره

 

فحط رحال الشـوق ثَـمً، وخَـيم

وهي طويلة.

ومن فتاوى الشيخ تقي الدين الزريراتي المعروفة: أن من أغْرَى ظالماً بأخذ مال إنسان، ودلّه عليه: فإنه يلزمه الضمان بذلك.

ومن المعيدين عند بالمستنصرية:

جمال الدين الفيلوى: خطيب جامع المنصور كان ينافسه في التدريس، وكان طويل الروح على المشتغلين. اشتغل عليه جمال الدين الدارقزي خطيبها، وإمام الضيائية بدمشق المقرئ للسبيع.

توفي بدمشق في جمادى الأولى سنة إحدى وستين وسبعمائة، رحمه اللّه من الكيلانيين وغيرهم- والشيخ.

حمزة الضرير: إمام التعبير. كان يحفظ القرآن. يقرأ السورة من آخرها إلى أولها ذكياً. ولازمه محمد بن عبد الله المقرئ، ومحمد بن داود وإبراهيم الكاتب، والشيخ علي بن سوكة القطان الزاهد الحيري، وحموه الصالح محمد الحضايري. أخرج بعد مدة ودفن بمقبرة أحمد. وكفنه باقٍ وهو طري. وكان هو بنفسه يصحب محمد بن القيمة بباب الأزج. وانتفع به.

ومن خواصه الشيخ أحمد بن عبد الرحمن السقامُرَبي الطائفة، والشيخ أحمد بن محمد التماسكي المعيد، صنف كتاباً في الفقه وعرضه عليه، وولده محمد الفرضي، وشيخنا شهاب الدين أحمد بن محمد الشيرجي الزاهد، أعاد بعده بالمستنصرية، عند شمس الدين محمد بن سليمان النهرماري المدرس بالمستنصرية إلى الآن- توفي سنة أربع وستين.

والقاضي جمال الدين عبد الصمد بن خليل الخضري: المدرس بالبشيرية محدث بغداد. وكان يحدث بمسجد يانس، يقول تفسير الرسعني من حافظه، ويحضره الخلق، منهم المدرسون والأكابر. وله ديوان شعر حسن الخطابة والوعظ. وقد مدح الزريراتي بقصائد، ورثاه ورثى ابن تيمية أيضاً.

توفي سنة خمس وستين في رمضان وولي بعده الحديث بمسجد يانس:-

نور الدين محمد بن محمود المحدث الفقيه: المعيد المقرئ. كان شيخنا الدقوقي يقدمه علي المحيي بن الكواز، وغيره من أصحابه، ويقول: هو أحفظ الجماعة، وأضبط. وسمع وأفتى. وخرج وقرأ على شيخنا ابن مؤمن وتميز.

وتوفي سنة ست وستين وسبعمائة.

وكلهم دفن بمقبرة الإمام أحمد رحمهم الله أجمعين، ورضي عنا وعنهم، وجميع إخواننا.

إسحاق بن أبي بكر بن الدسبي بن أطس التركي، ثم المصري، الفقيه المحدث، الأديب الشاعر، نجم الدين أبو الفضل: ولد سنة سبعين وخمسمائة.

وسمع بمصر من الأبرقوهي.

ورحل. وسمع بالإِسكندرية من القرافي. وبدمشق: من ابن حفص بن القواس، وإسماعيل بن الفراء، وبحلب: من سنقر الزيني. وتفقه، وقال الشعر الحسن.

وسمع منه الحافظ الذهبي بحلب، ثم دخل العراق بعد السبعمائة وتنقل في البلاد، وسكن أذربيجان، ولم تكن سيرته هناك مشكورة، وبقي إلى بعد العشرين وسبعمائة، ولم يتحقق سنة وفاته.

وله قصيدة حسنة طويلة في مدح الشيخ تقي الدين ابن تيمية، منها:

يعنفني في بغيتـي رتـبة الـعـلـى

 

جهول أراه راكباً غـير مـركـبـي

له همة دون الحضيض مـحـلـهـا

 

ولي همة تسمو على كـل كـوكـب

فلو كان ذا جهـل بـسـيط عـذرتـه

 

ولكـن يدلـي بـجـهـل مـركـب

يقول: علام اخترت مذهب أحـمـد?

 

فقلت له: إذ كان أحـمـدَ مـذهـب

وهل في ابن شيبان مـقـال الـقـائل

 

وهل فيه من طعن لصاحب مضرب?

أليس الذي قد طار في الأرض ذكـره

 

وطبقهما ما بين شـرق ومـغـرب?

ثم ذكر محنته- إلى أن قال:

وأصحابه أهل الهدى لا يضرهـم

 

على دينهم طعن امرئ جاهل غبي

هم الظاهرون القائمون بـدينـهـم

 

إلى الحشر، لم يغلبهما ذو تغلـب

لنا منهم فـي كـل عـصـر أئمة

 

هداة إلى العليا، مصابيح مرقـب

وقد علم الرحمـن أن زمـانـنـا

 

تشعب فيه الرأي أي تـشـعـب

فجاء بحبر عالم مـن سَـراتـهـم

 

كسبع متين بعد هـجـرة يثـرب

يقيم قناة الدين بعد اعوجـاجـهـا

 

وينقذها من قبضة المتـعـصـب

فذاك فتـى تـيمـية خـير سـيد

 

نجيب أتانا من سلامة مـنـجـب

عليم بأدواء النفوس، يسـوسـهـا

 

بحكمته، فعل الطبيب المـجـرب

بعيد عن الفحشاء والبغـي والأذى

 

قريب إلى أهل التقى، ذو تحبـب

يرى نصْرةَ الإِسلام أكرم مغـنـم

 

وإظهار دين اللّه أربح مكـسـب

وكم قد غدا بالفعل والقول مبطـلاً

 

ضلالة كـذاب، ورأى مـكـذب

ولم يلقَ من أعداه غير مـنـافـق

 

وآخر عن نهج السبيل مـنـكـب

وهي طويلة. ومنها:

وليس له في الزهد والعلم مشـبـه

 

سوى الحسن البصري وابن المسيب

ومدح في آخرها شرف الدين عبد الله أخا الشيخ.

محمد برت سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن أبي عمر المقدسي، ثم الصالحي، قاضي القضاة، عز الدين أبو عبد الله، ابن قاضي القضاة تقي الدين بن أبي الفضل: ولد في عشرين ربيع الآخر سنة خمس وستين وستمائة.

وسمع من الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والفخر، وأبي بكر الهروي، وغيرهم. وأجاز له ابن عبد الدايم، وغيره.

ثم اشتغل وقرأ الفقه على أبيه وغيره. وناب عن والده في الحكم، وترك له والده تدريس الجوزية، فدرس بها في حياته، وكتب في الفتوى، ودرس بعد موت والده بدار الحديث الأشرفية بالسفح.

ثم ولي القضاء مستقلاً بعد موت ابن مسلم. وكان ذا فضل وعقل، وحسن خلق، وتودد، وقضاء لحوائح الناس، وتهجد من الليل وتلاوة، وحج ست مرات.

وتوفي في تاسع صفر سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة. ودفن بتربة جده الشيخ أبي عمر. وحضره خلق كثير. رحمه الله تعالى.

عبد الرحمن بن أبي محمد بن محمد بن سلطان بن محمد بن علي القرامزي، الفقيه العابد أبو محمد، وأبو الفرج: ولد سنة أربع وأربعين وستمائة تقريباً.

وقرأ بالروايات. وسمع من ابن عبد الدايم، وإسماعيل بن أبي اليسر وجماعة. وتفقه في المذهب، ثم تزهد، وأقبل على العبادة والطاعة، وملازمة الجامع، وكثرة الصلوات به. واشتهر بذلك. وصار له قبول وعظمة عند الأكابر.

وقد غمزه الذهبي بأنه نال بذلك سعادة دنيوية، وتمتع بالدنيا وشهواتها التي لا تناسب الزاهدين.

قال: وسمعت منه، "اقتضاء العلم" للخطيب. وكان قوي النفس لا يقوم لأحد. وله محبون. ومن حسناته أنه كان من اللعانين للاتحادية.

توفي مستهل المحرم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة ببستانه بأرض جوير وصلَّى عليه بجامع جراح. ودفن بمقبرة الباب الصغير. رحمه الله تعالى.

عبد القادر بن محمد بن إبراهبم المقريزي، البعلي، المحدث الفقيه، محي الدين أبو محمد: ولد في حدود سنة سبع وسبعن وستمائة.

وسمع بدمشق من عمر بن القواس وطائفة. وبمصر من أبي الحسن بن القسم وسبط زيادة، وغيرهما. وعني بالحديث. وقرأ وكتب بخطه كثيراً وخرج، وتفقه.

قال الذهبي: له مشاركة في علوم الإِسلام، ومشيخة الحديث بالبهائبة، وغير ذلك. علقت عنه فوائد. وسمع منه جماعة.

توفي ليل الإِثنين ثامن عشرين ربيع الأول سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة. ودفن بمقبرة الصوفية بالقرب من قبر الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى.

الحسين بن يوسف بن محمد بن أبي السري الدجيلي، ثم البغذادي، الفقيه، المقرئ الفرضي، النحوي الأديب، سراج الدين أبو عبد الله: ولد سنة أربع وستين وستمائة. وحفظ القرآن في صباه. ويقال: إنه تلقن سورة البقرة في مجلسين، والحواميم في سبعة أيام.

وسمع الحديث ببغداد من إسماعيل بن الطبال، ومفيد الدين الحربي الضرير وابن الدواليبي، وغيرهم.

وبدمشق من أبي الفتح البعلي، والمزي الحافظ، وغيرهما. وله إجازة من الكمال الزار، وعبد الحميد بن الزجاج، وجماعة من القدماء، وحفظ كتبً في العلوم، منها "المقنع" في الفقه و"الشاطبية"، و "الألفيتان" في النحو، و "مقامات الحريري" و "عروض ابن الحاجب" و "الدريدية" ومقدمة في الحساب. وقرأ الأصلين، وعني بالعربية واللغة، وعلوم الأدب.

وتفقه على الزيريراتي. وكان في مبدأَ أمره: يسلك طريق الزهد، والتقشف البليغ، والعبادة الكثيرة، ثم فتحت عليه الدنيا. وكان له مع ذلك أوراد ونوافل. وصنف كتاب "الوجيز" في الفقه، وعرضه على شيخه الزريراتي، فما كتب له عليه.

ألفيته كتاباً وجيزاً كما وسمه، جامعاً لمسائل كثيرة، وفوائد غزيرة قل أن يجتمع مثلها من أمثاله، أو يهيأ لمصنف أن ينسخ على منواله.

وصنف كتاباً في أصول الدين، وكتاب "نزهة الناظرين، وتنبيه الغفلين" وله قصيدة لامية في الفرائض.

وكان خيراً فاضلاً، متمسكاً بالسنة، كثير الذكاء، حسن الشكل، دمث الأخلاق، متواضعاً. اشتغل عليه جماعة، وانتفعوا به في الفقه وفي الفرائض، منهم: يوسف بن محمد السرمري، والشرف بن سلوم قاضي حري. وحدث.

وتوفي ليلة السبت سادس ربيع الأول سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة. ودفن بالشهيل، قرية من أعمال دجيل. رحمه اللّه تعالى.

عبد الله بن حسن بن عبد الله بن عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، الصالحي، الفقيه المحدث، قاضي القضاة، شرف الدين أبو محمد بن شهاب الدين أبي محمد بن الحافظ أبي موسى بن الحافظ الكبير أبي محمد: ولد في رمضان سنة ست وأربعين وستمائة.

وسمع من مكي بن علان، ومحمد بن عبد الهادي، والبلداني، وخطيب مردا وإبراهيم بن خليل وغيرهم. وأجاز له جماعة. وطلب بنفسه. وقرأ على ابن عبد الدائم وغيره.

وتفقه، وأفتى، وناب في الحكم عن أخيه، ثم عن ابن مسلم مدة ولايتهما.

ثم ولي القضاء في آخر عمره مستقلاً فوق سنة، ودرس بالصاحبية، وتولى، مشيخة الحديث بالصدرية والعالمية، ثم بدار الحديث الأشرفية. وكان فقيهاً عالماً خيراً صالحاً، منفرداً بنفسه، ذا فضيلة جيدة، حسن القراءة، حميد السيرة في القضاء، فعمر وتفرد وحدث. وسمع منه الذهبي، وخلق.

توفي فجأة- وهو يتوضأ للمغرب- آخر نهار الأربعاء مستهل جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة بمنزله بالدير. وكان قد حكم ذلك اليوم بالمدينة، ثم توجه آخر النهار إلى السفح. ودفن من الغد بتربة الشيخ أبي عمر. وحضره جمع كثير. رحمه الله تعالى.

عبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة، المقدسي، الفرضي، الزاهد القدوة، عز الدين أبو الفرج ابن الشيخ عز الدين أبي إسحاق ابن الخطيب شرف الدين، أبي بكر، ابن القدوة الكبير أبو عمرة ولد في تاسع عشر جمادى الأولى سنة ست وخمسين وستمائة.

وسمع من ابن عبد الدائم، وغيره. وحج صحبة الشيخ شمس الدين بن أبي عمر وكمل عليه قراءة كتاب "المقنع" بالمدينة النبوية. وحج بعد ذلك مرات. وكان ذا معرفة تامة بالفرائض ومتعلقاتها.

حدث. وسمع منه الذهبي، وذكره في معجمه. وقال: كان فقيهاً عالماً، متواضعاً صالحاً، على طريقة السلف. وكان عارفاً بمذهب أحمد. له فهم ومعرفة تامة بالفرائض. وفيه تودد وانطباع، وعدم تكلف.

وقال غيره: كان رجلاً صالحاً، بشوش الوجه، كثير الخير، مواظباً على أفعال البر. أخذ عنه الفرائض جماعة، وانتفعوا به.

توفي في ثامن شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة. ودفن بتربة الشيخ أبي عمر بسمْح قاسيون. رحمه الله تعالى.

عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن محمد بن نصر البعلي، ثم الدمشقي، الفقيه المحدث، فخر الدين أبو بكر محمد بن الشيخ شمس الدين أبي عبد الله، ابن الإمام فخر الدين أبي محمد: وقد سبق ذكر أبيه وجده. ولد يوم الخميس رابع عشرين ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وستمائة.

وسمع من ابن البخاري في الخامسة، ومن الشيخ تقي الدين الواسطي، وعمر بن القواس. وعني بالحديث. وارتحل فيه مرات، وكتب العالي والنازل من سنة خمس وسبعمائة، وهلم جراً. وخرج لغير واحد من الشيوخ. وأفاد وتفقه، وأفتى في آخر عمره، وولي مشيخة الصدرية والإِعادة بالمسمارية، وجمع عدة تآليف، وفسر بعض القرآن الكريم.

وحدث، وسمع منه الذهبي، وجماعة.

وكان فقيهاً محدث، كثير الاشتغال بالعلم، عفيفاً ديناً، حج مرات، وأقام بمكة شهراً، وكان مواظباً على قراءة جزءين من القرآن في الصلاة في كل ليلة. وله مواعيد كثيرة لقراءة الحديث، والرقائق على الناس، وجمع في ذلك مجموعات حسنة، منها كتاب "الثمر الرائق المجتبى من الحقائق" وانتفع بمجالسه الناس.

وتوفي يوم الخميس تاسع عشر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وصلَّى عليه بالجامع، وحضر جنازته جمع كثير، وحمل على الرقاب، ودفن بمقبرة الصوفية، ولم يعقب رحمه اللّه تعالى.

وأخبرني بعض أقاربه- وكان يخدمه في مرضه الني توفي فيه- قالَ: آخر ما سمعت عند موته، أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر قوله لا إله إلا اللّه" ثم مات.

عبد الرحمن بن مسعود بن أحمد بن مسعود بن زيد الحارثي، ثم المصري، الفقيه المناظر الأصولي، شمس الدين أبو الفرج، ابن الحافظ قاضي القضاة سعد الدين المتقدم ذكره: ولد سنة إحدى وسبعين وستمائة.

وسمع بقراءة والده الكثير بالديار المصرية من العز الحراني، ومن خطيب المزة، وغازي الحلاوي، وشامية بنت البكري، وغيرهم.

وبدمشق من ابن البخاري، وابن المنجا وجماعة. وسمع بالإسكندرية من القرافي. وقدم دمشق مرة ثانية بنفسه. فسمع من عمر بن القواس وغيره.

وعنى بالسماع والطلب، وتفقه في المذهب حتى برع، وأفتى وناظر، وأخذ الأصول عن ابن دقيق العيد، والعربية عن ابن النحاس، وناب عن والده وغيره في الحكم، ودرس بالمنصورية، وجامع ابن طولون وغيرهما، وتصدى للاشتغال.

وكان شيخ المذهب بالديار المصرية. وله مشاركة في التفسير والحديث، ويذكر لقضاء مصر والشام، مع الديانة والورع والجلالة، يعد من العلماء العاملين.

وحدت، وسمع منه جماعة.

وتوفي يوم الجمعة سادس عشر ذي الحجة سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة بالمدرسة الصالحية بالقاهرة. ودفن إلى جانب والده بالقرافة، رحمهما الله تعالى.

ومما رأيت في فتاويه: أن صلاة التراويح، قبل صلاة العشاء، لا تصح وأنها بدعة ينهى عنها، ووافقه على ذلك ابن جماعة قاضي الشافعية، وغيره من المالكية، وقد صرح بهذا القاضي أبو يعلى. مما قرأته بخطه على طهر جزء من خلافه. قال القاضي: ولكن يجوز تقديمها على الوتر، لأنها من قيام الليل، فتجوز قبل الوتر وبعده.

محمود بن علي بن محمود بن مقبل بن سليمان بن داود الدقوقي، ثم البغدادي، المحدث الحافظ الواعظ، تقي الدين أبو الثناء: ولى ت في بكرة الاثنين سادس عشرين جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وستمائة.

وسمع الكثير بإفادة والده، ومن عبد الصمد بن أبي الجيش، وعلي بن وضاح وابن الساعي، وعبد اللّه بن بلدجي، وعبد الجبار بن عكبر، وعبد الرحيم بن الزجاج، ومحمد بن الدنية، وأبي الحسن بن الوجوهي، ومحمد بن أحمد بن معضاد، وعبد اللّه بن ورخز، وخلق وأجاز له جماعة كثيرة من أهل الشام والعراق.

ثم طلب بنفسه وقرأ ما لا يوصف كثرة على الشيوخ بعد هذه الطبقة. قريباً من خمسين سنة، وكان قارئ الحديث بدار المستنصرية مدة. ثم ولي المشيخة بها بعد وفاة الدواليبي المتقدم ذكره.

وكان يقرأ الحديث في دار الحديث التي كانت تعرف بمسجد يانس، ويجتمع عنده خلق كثير، يبلغون عدة آلاف، ويعظ بها وبغيرها. وانتهى إليه علم الحديث والوعظ ببغداد، ولم يكن بها في وقته أحسن قراءة للحديث منه، ولا معرفة بلغاته وضبطه، وله اليد الطولى في النظم والنثر، وإنشاء الخطب والمواعظ.

كتب بخطه الكثير من الفقه والحديث، وله مشاركة في الفقه، وحفظ "الخرقى" في صغره، وكان لطيفاً، حلو النادرة، مليح الفكاهة، ذا حرمة وجلالة وهيبة، ومنزلة عند الأكابر، وجمع عدة أربعينيات في معارف مختلفة، وله كتاب "مطالع الأنوار، في الأحبار والآثار الخالية عن السند والتكرار"، وكتاب "الكواكب الحرية، في المناقب العلوية" وذكر: أنه جمع تاريخاً ولم يوجد. ويقال: إنه جمع كتاباً في الأسماء المبهمة في الحديث، ولم يوجد أيضاً، وله شعر كثير، لو جمع لجاء منه ديوان. تخرج به جماعة في علم الحديث، وانتفعوا به.

وسمع منه خلق، وحدث عنه طائفة.

توفى يوم الاثنين بعد العصر، عشري المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وصلى عليه من الغد بجامع القصر، ثم بالمستنصرية وغيرها، وشيعه خلق كثير من القضاة والعلماء والأعيان وغيرهم، وكثر البكاء والثناء عليه، ودفن بمقبرة الإِمام أحمد رضي اللّه عنه. ورثاه غير واحد. رحمه الله تعالى.

أنشدني والدي قال: أنشدنا أبو الثناء الدقوقي لنفسه:

جاهد بنفسك في الفضائل تـغـنـم

 

وخُض المهالك في المحبة تسـلـم

وذَرِ التعلل بالمنى، فهي الـعـنـا

 

واطرح سلاحك في الهوى واستسلم

من لم يذق في حبنا طعم الـفـنـا

 

لم يلفنا نكفيه ثـقـل الـمـغـرم

خاطر بنفسك في هوانا واسـتـرح

 

إن شئت تحظى بالمحل الأعـظـم

مَرِّغْ خدودك في ثرى أعـتـابـنـا

 

لتفوز بالحسنى وفـيض الأنـعـم

لا يَصْدِفَنَّك صادفٌ عن مـطـلـب

 

فالعز مقرون بـحـدّ الـمـخـذم

من ذا الذي ألفى بساحـل جـودنـا

 

فشكى الظما، أو خاف فوت الموسم

نحـن الـذين إذا أتـانـا ســائل

 

نوليه إحسانـاً وفـضـل تـكـرم

نعفو عن الجاني، ونقـبـل عـذره

 

ونقبل عَـثْـرَةَ تـائِبٍ مـتـنـدم

ونقول في الأسحار: "هل من سـائل

 

مستغفر" لينال طيب الـمـغـنـم.

لا يلهينك شاغـل عـن وصـلـنـا

 

وانهض على قدم الرجـاء وقـدم

وهي طويلة. مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي اللّه عنهم.

عبد الرحمن بن محمود بن عبيد البعلي، الفقيه الزاهد العارف، زين الدين أبو الفرج: ولد سنة خمس وسبعين وستمائة.

وسمع الحديث. وتفقه على الشيخ تقي الدين وغيره. وبرع وأفتى. وكان إماماً، عارفاً بالفقه وغوامضه، والأصول والحديث، والعربية والتصوف، زاهداً عابداً، ورعاً متألهاً ربانياً. صحب الشيخ عماد الدين الواسطي، وتخرج به في السلوك.

ويذكر له أحوال وكرامات. ويقال: إنه كان يطلع على ليلة القدر كل سنة وقد نالته مرة محنة بسبب حال حصل له، اطلع عليه بعض أصحابه، فأشاع ذلك عنه، وأظهر به خطة. فعقد له مجلس بدار السعادة بدمشق سنة ثمان عشرة، حضره القضاة والفقهاء، وأحضروا خطه بأنه: رأى الحق سبحانه وتعالى، وشاهد الملكوت الأعلى، ورأى الفردوس، ورفع إلى فوق العرش، وسمع الخطاب، وقيل له: قد وهبتك حال الشيخ عبد القادر، وأن اللّه تعالى أخذ شيئاً كالرداء من عبد القادر، فوضعه عليه، وأنه سقاه ثلاثة أشربة مختلفة الألوان، وأنه قعد بين يدي الله تعالى مع محمد وإبراهيم وموسى وعيسى والخضر عليهم السلام، وقيل له: هذا مكان ما يجاوزه ولي قط. وقيل له: إنك تبقى قطباً عشرين سنة.

وذكر أشياء أخر. فاعترف أنه خطه. فأنكر ذلك عليه، فبادر، وجدد إسلامه، وحكم الحاكم بحقن دمه، وأمر بتأديبه. وحبس أياماً.

ثم أخرج ومنع من الفتوى وعقود الأنكحة، ثم بان له غلطه، وأن هذا لم يكن له وجود في الخارج، وإنما هي أخيلة وشواهد وأنوار قلبية، لا أمور خارجية وشيخه الواسطي مع سائر أئمة الطريق أهل الاستقامة، وصوفية أهل الحديث يقررون ذلك، ويحذرون من الغلط فيه، كما زل في ذلك طوائف من أكابر الصوفية.

وكان أكثر إقامة الشيخ زين الدين بدمشق، يعيد بالمدارس، ويتصدى للاشتغال والإِفادة، وإقراء الحديث والفقه وأصوله، وانتفع به جماعة، وتحْرجوا به، منهم: الإمام العلامة عز الدين حمزة ابن شيخ السلامية وغيره.

وسافر مرة إلى حماة، واجتمع بقاضيها الشيخ شرف الدين بن البارزي. وكان إماماً متقناً، ذا قدم راسخ في السلوك. فبلغني عن ابن البارزي: أنه كان بعد ذلك يثني على الشيخ رين الدين ثناء كثيراً، ويذكر أنه لم يرَ مثله، هذا أو نحوه.

وصنف كتاباً في الأحكام على أبواب "المقنع" سماه "المطلع"، وشرح قطعة من أول "المقنع" وجمع "زوائد المحرر على المقنع"، وله كلام في التصوف وحدث بشيء من مصنفاته.

توفي في منتصف صفر سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ببعلبك، وشيعه عامة أهل البلد، وحمل على الرؤوس. ودفن بمقبرة باب سطحان. رحمه الله تعالى.

عبد الرحمن بن حسين بن يحيى بن عمر بن النجمي المصري القبابي، و "قباب"، قرية من قرى أشموم الرمان بالصعيد- نزيل حماة. الفقيه الزاهد العابد القدوة، نجم الدين أبو عمر: كان رجلاً صالحاً، زاهداً عابداً، عالماً قدوة، عارفاً فقيهاً، ذا فضيلة ومعرفة. وله اشتغال بالمذهب. أقام بحماة مدة في زاوية يزار بها. وكان معظماً عند الخاص والعام، وأئمة وقته يثنون عليه، كالشيخ تقي الدين ابن تيمية وغيره. وكان أماراً بالمعروف، نهاءاً عن المنكر، من العلماء الربانيين، وبقايا السلف الصالحين. وله كلام حسن يؤثر عنه.

توفي في آخر نهار الاثنين رابع عشر رجب سنة أربع وثلاثين وسبعمائة. بحماة. وكانت جنازته مشهودة عظيمة جداً، وحمل على الرؤوس. ودفن شمالي البلد، وتأسف الناس عليه. رضي الله عنه.

وتوفى ولده:-

سراج الدين عمر بالقدس. وكان جامعاً بين العلم والعمل واشتغل وانتفع بابن تيمية، ولم أرَ على طريقه في الصلاح مثله رحمه الله تعالى.

محمد بن محمد بن محمود بن قاسم بن البزرتي، البغدادي، الفقيه الأصولي، الأديب النحوي، شمس الدين أبو عبد اللّه، ابن الِإمام أبو الفضائل: قرأ الفقه على الشيخ تقي الدين بن الزريراتي. وكان إماماً عالماً، متقناً بارعاً في الفقه والأصلين، والأدب والتفسير، وغير ذلك. وله نظم حسن، وخط مليح، ودرس بالمستنصرية بعد سيخه الزريراتي. وكان من فضلاء أهل بغداد.

توفي أبو عبد الله بن البزرتي في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة ببغداد.

وكذلك كان والده أبو الفضل إماماً عالماً، مفتياً صالحاً!.

وتوفي في جمادى الأولى من السنة أيضاَ:

نصر بن عبد الباقي بن عكبر البغدادي: المعمر ببغداد، عن خمس وتسعين سنة. ودفن بباب حرب، سمع الكثير من عبد الصمد بن أبي الجيش، وابن وضاح، وابن أبي الدنية وابن الدباب وطبقتهم.

وحدث. سمع منه خلق، وتفقه. وأعاد بالمدرسة البشيرية للحنابلة، وأضر في آخر عمره، وانقطع في بيته رحمه الله تعالى.

وذكر: أنه من أولاد عكبر الني تاب هو وأصحابه من قطع الطريق، لرؤيته عصفوراً ينقل رطباً من نخلة حامل إلى أخرى حائل، فصعد فنظر، فإذا هو بحية عمياء، والعصفور يأتيها برزقها، فتاب هو وأصحابه. وذكره ابن الجوزي في "صفوة الصفوة" فنسبت بني عكبر إليه. والله أعلم.

وكان يحط على عبد الصمد بن أبي الجيش، ويقول: أنا أقدم منه، فكيف يقدم علي في مشيخة الحديث بالمستنصرية. ولم يبقَ في سني أحد ببغداد.

عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور، السعدي الصالحي، المقدسي الأصل، المحدث الصالح، القدوة الزاهد، محب الدين أبو محمد بن أبي العباس بن المحب: وقد سبق ذكر جده. ولد يوم الأحد ثاني عشر المحرم سنة اثنتين وثمانين وستمائة بقاسيون.

وأسمعه والده من الفخر بن البخاري، وابن الكمال، وزينب بنت مكي وجماعة. ثم طلب بنفسه، وسمع من عمر بن القواس، وأبي الفهم بن عساكر، ويوسف الفسولي، وخلق من بعدهم. وذكر كثرة شيوخه الذين أخذ عنهم نحواً من ألف شيخ. وقرأ بنفسه الكثير، وعني بهذا الشأن. وكتب بخطه الكثير، والعالي والنازل. وخرج التخاريج لجماعة من الشيوخ، وانتقى وأفاد.

وقال الذهبي: كان فصيح القراءة، جهوري الصوت، منطلق اللسان بالآثار، سريع القراءة، طيب الصوت بالقرآن، صالحاً خائفاً من الله صادقاً، انتفع الناس بتذكيره وبمواعيده.

وذكره أيضاً في "معجم" شيوخه، وقال: كان شاباً صالحاً، في سمعه ثقل ما. وقد حدث كثيراً. وسمع منه جماعة.

وتوفي يوم الاثنين سابع ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. وكانت جنازته مشهودة شيعه الخلق الكثير، وكثر الثناء والتأسف عليه.

ودفن بالقرب من الشيخ موفق الدين بسفح قاسيون رحمه الله تعالى.

وكان والده:-

أبو العباس من كبار الصالحين الأتقياء الأخفياء: حدث عن إبراهيم بن خليل وابن عبد الدايم، وجماعة. سمع منه الذهبي وجماعة، وقال: سألت عنه والده? قال: ما أعلم عليه شيئاً يشينه في دينه.

قال الذهبي: ما هو عندي بدون شيخنا محمد بن تمام. وذكره في "المعجم المختصر" فقال: الإِمام الزاهد الصالح. بقية السلف الأخيار.

ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة.

وعنى بطلب الحديث. وكتب وأفتى، ونسخ لنفسه وللناس. وكان بهي الشيبة، كثير الوقار والسكينة، ذا حظ من عبادة وتأله وتواضع، وحسن هدى، واتباع للأثر، وانقباض عن الناس، وانتقيت له جزءاً. وهو شيخ الحديث بالضيائية.

حدث بالكثير. وروى عنه ابن الخباز، وطائفة.

وتوفي في ذي الحجة سنة ثلاثين وسبعمائة. رحمه اللّه تعالى.

عبد اللّه بن محمد بن يوسف بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي، النابلسي، الفقيه الزاهد القدوة، شمس الدين، أبو محمد بن العفيف، ابن الشيخ تقي الدين: وقد سبق ذكر جده شيخ نابلس. ولد سنة تسع وأربعين وستمائة.

وحضر على خطيب مردا. وسمع من عم أبيه جمال الدين عبد الرحمن بن عبد المنعم. وأجاز له سبط السلفي. وتفقه وأفتى، وأمَ بمسجد الحنابلة بنابلس نحواً من سبعين سنة.

وكان كثير العبادة، حسن الشكل والصوت، عليه البهاء والوقار. حدث. وسمع منه طائفة.

توفي يوم الخميس ثاني عشرين ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وسبعمائة بنابلس، ودفن بها، وتأسف الناس عليه. رحمه الله تعالى.

وتوفي قبله في ربيع الأول من السنة بنابلس أيضاً: الإِمام المفتي.

عماد الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة.

عبد المؤمن بن عبد الحق بن عبد الله بن علي بن مسعود القطيعي الأصل، البغدادي، الفقيه، الِإمام الفْرضي المتقن، صفي الدين أبو الفضائل، ابن الخطيب كمال الدين أبي محمد: كان والده خطيباً بجامع ابن عبد المطلب ببغداد احتساباً. وكان جده يعرف بابن شمائل.

ولد الشيخ صفي الدين في سابع عشري جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وستمائة ببغداد.

وسمع بها الحديث من عبد الصمد بن أبي الجيش، وأبي الفضل بن الدباب، والكمال البزار، وابن الكسار. وغيرهم.

وسمع بدمشق: من الشرف أحمد بن هبة الله بن عساكر، وست الأهل بنت علوان، وجماعة، وبمكة من الفخر التوريزي. وأجاز له ابن البخاري، وأحمد بن شيبان، وزينب بنت مكي، وابن وضاح، وخلق من أهل الشام ومصر والعراق.

وتفقه على أبي طالب عبد الرحمن بن عمر البصري المتقدم ذكره، ولازمه حتى برع وأفتى، ومهر في علم الفرائض والحساب، والجبر والمقابلة والهندسة والمساحة، ونحو ذلك.

واشتغل في أول عمره- بعد الفقه- بالكتابة والأعمال الديوانية مدة، ثم ترك ذلك، وأقبل على العلم، ولازمه مدة مطالعة وكتابة، وتصنيفاً وتدريساً، واشتغالاً وإفتاءً، إلى حين وفاته.

وكتب الكثير بخطه الحسن المليح الحلو. وكان ذا ذهن حادّ، وذكاء وفطنة. وعنده خميرة جيدة من أول عمره في العلم، فأقبل آخراً على التصنيف، فصنف في علوم كثيرة. منها: ما لم يكن سبق له فيها اشتغال. وصنف في الفقه والأصلين، والجدل والحساب، والفرائض والوصايا، وفي التاريخ والحديث، والطب، وغير ذلك. واختصر كتباً كثيرة.

فمن تصانيفه "شرح المحرر"، في الفقه ست مجلدات، "شرح العمدة" في الفقه مجلدان "إدراك الغاية في اختصار الهداية" في الفقه مجلد لطيف، وشرحه في أربع مجلدات "شرح المسائل الحسابية" من "الرعاية الكبرى"، لابن حمدان، مجلد لطيف "تلخيص المنقح في الجدل"، "تحقيق الأمل، في علمي الأصول والجدل"، "تسهيل الوصول إلى علم الأصول"، "قواعد الأصول ومعاقد الفصول" و"اللامع المغيث في علم المواريث" و "أسرار المواريث"، جزء، تكلم فيه على حكم الإرث ومصالحه، واختصر "تاريخ الطبري" في أربع مجلدات، واختصر "الرد على الرافضي" للشيخ تقي الدين ابن تيمية في مجلدين لطيفين، واختصر "معجم البلدان" لياقوت الحموي وغير ذلك.

وعني بالحديث، فنسخ واستنسخ كثيراً من أجزائه، وخرج لنفسه معجماً لشيوخه بالسماع والإِجازة عن نحو ثلاثمائة شيخ، وأكثرهم بالإِجازة، وتكلم فيه على أحوالهم ووفياتهم، واستعان في معرفة أحوال الشاميين بالذهبي والبرزالي، وحدث به، وبكثير من مسموعاته، وغيرها بالإِجازة.

سمع منه خلق كثيرون. وأجاز لي ما يجوز له روايته غير مرة، وعرس بالمدرسة البشيرية للحنابلة.

وكان إماماً فاضلاً، ذا مروءة، وأخلاق حسنة، وحسن هيئة وشكل، عظيم الحرمة، شريف النفس، متفرداً في بيته، لا يغشى الأكابر ولا يخالطهم، ولا يزاحمهم في المناصب، بل الأكابر يترددون إليه، وقد نهى أصحابه عن السعي له في تدريس المستنصرية، ولم يتعرض لها، مع تمكنه من ذلك، ولما حبس الجماعة الذين كتبوا على مسألة الزيارة، موافقة للشيخ تقي الدين لم يتعرض له، هيبة له واحتراماً، وحبس سائرهم وأوذوا.

وله شعر كثير جيد، لعله ديوان تمام، وتفرد في وقته ببغداد، في علم الفرائض، والحساب، حتى يقال: إن الزريراتي كان يراجعه في ذلك، ويستفيد منه.

ونقل بعضهم عن القاضي برهان الدين الزرعي، أنه كان يقول: هو إمامنا في علم الفرائض، والجبر والقابلة، وأنه كان يثني عليه ويقول: لو أمكنني الرحلة إليه لرحلت إليه، وكان قد رأى الشيخ تقي الدين ابن تيمية بدمشق، واجتمع معه. ولما صنف "شرح المحرر" أرسل إلى الشيخ تقي الدين يسأله عن مسائل فيه وقد ذكر عنه في شرحه شيئاً من ذلك، في مسائل "ميراث المعتق بعضه" ولم يدرك ما قاله الشيخ على وجهه.

وله رحمه اللّه: أوهام كثيرة في تصانيفه، حتى في الفرائض، من حيث توجيه المسائل وتعليلها، رحمه اللّه تعالى وسامحه. فلقد كان من محاسن زمانه في بلده.

توفي إلى رحمة اللّه تعالى ليلة الجمعة عاشر صفر، سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وصلي عليه من الغد، وحمل على الأيدي والرؤوس، ودفن بمقبرة الإِمام أحمد بباب حرب، وكانت جنازته مشهودة، رحمه الله تعالى.

أنشدني الإِمام صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق، في كتابه لنفسه:

لا تَرْجُ غير الله سبـحـانـه

 

واقطع عُرَى الآمال من خلقه

لا تَطْلُبَنَ الفضل مـن غـيره

 

واضنن بماء الوجه واسْتَبْقِـهِ

فالرزق مقسوم، وما لامـرِئ

 

سوى الذي قدرَ مـن رزقـه

والفقر خير للفتى من غـنـى

 

يكون طول الدهر في رقـه

وأنشدني لنفسه في كتابه:

يا رب، أنت رجـائي

 

وفيك أحسنت ظنـي

يا رب، فاغفر ذنوبي

 

وعافني، واعف عني

وأعاد بعده بالبشيرية:-

النضر بن عكبر.

وبعده:

شمس الدين بن رمضان المرتب، الفقيه الأصولي: اختصر المذهب من المغنى. وتطاول زمن الزريراتي لتدريس المستنصرية، واشتغل عليه جماعة في الأصول والفروع، وله شعر أكثره هجو للتراقفي وغيره، حتى قال في نفسه:

تلامذة المرتب كـل فَـدْم

 

بعيد الذهن، لا فضل لديه

لقد صدق الذي قد قال قدماً

 

شبيه الشيء منجذب إلـيه

وقال لي طرافة أمل بغداد نفسي.

مولده سنة ست وستين وستمائة.

ومن أصحاب صفي الدين:-

عبد اللّه بن علام السامري: حفظ "المحرر" وقرأ عليه شرحه تصنيفه. وكان ذكياً. وتوفي بدمشق بالطاعون.

وكذلك منهم:-

عبد العزيز بن هاشولا: حفظ كتابه في الفقه والأصول، ووعظ ببغداد في الثوالث، ونظم الشعر، وكان حسناً.

توفي بالطاعون ببغداد.

وابن النباس: كان آية في الحفظ، غاص في البحر ولم يعلم له خبر.

قرأت عليه "مختصر الخرقي" من حفظي، وسمعت عليه أجزاء كثيرة من مصنفاته وصحبته إلى الممات، ورأى عند وفاته طيوراً بيضاء نازلة. رحمه الله تعالى.

عبادة بن عبد الغني بن منصور بن منصور بن عبادة الحراني، ثم الدمشقي، الفقيه المفتي، الشروطي، المؤذن، زين الدين، أبو محمد وأبو سعيد: ولد في رجب سنة إحدى وسبعين وستمائة.

وسمع من القاسم الأربلي، وأبي الفضل بن عساكر، وجماعة. وطلب الحديث، وكتب الأجزاء.

وتفقه على الشيخ زين الدين بن المنجا، ثم على الشيخ تقي الدين ابن تيميمة.

قال الذهبي: تقدم في الفقه، وناظر وتميز، عنده "صحيح مسلم" عن القاسم الأربلي. وذكره في معجم شيوخه. وقال: كان فقيهاً عالماً، جيد الفهم، يفهم شيئاً من العربية والأصول. وكان صالحاً ديناً، ذا حظ من تهجد، وإيثار وتواضع، اصطحبنا مدة، ونعم والله الصاحب هو. كان يسع الجماعة بالخدمة والإِفضال والحلم. خرجت له جزءاً. وحدث بصحيح مسلم. انتهى.

وكان يلي العقود والفسوخ، ويكثر الكتابة في الفتاوى، ثم منع من الفسوخ في آخر عمره، سمع منه جماعة.

وتوفي في شوالَ سنه تسع وثلاثين وسبعمائة. ودفن بمقبرة الباب الصغير، وشيعه خلق من القضاة والعلماء وغيرهم، وحسن الثناء عليه رحمه اللّه.

وكان أبوه:-

شرف الدين عبد الغني: فقيهاً أديباً، على لاَ مؤذناً أيضاً. أذن زماناً بجامع دمشق، وحدث عن عيسى الخياط، والشيخ مجد الدين ابن تيمية. سمع منهما بحران.

وتوفي في ربيع الآخر سنة خمس وسبعمائة رحمه الله تعالى.

ومما أفتى به عبادة- ورأيته بخطه- في أوقاف وقفها جماعة على جهة واحدة من جهات البر. فإذا خرب أحدها، وليس له ما يعمر به: أنه يجوز لمباشر الأوقاف: أن يعمره من الوقف الآخر. ووافقته طائفة من الحنفية.

محمد بن أحمد بن تمام بن حسان التلي، ثم الصالحي، القدوة الزاهد أبو عبد الله: ولد سنة إحدى وخمسين وستمائة.

وسمع من أبي حفص عمر بن عوة الجزري صاحب البوصيري. وهو آخر من حدث عنه، ومن أبي طالب بن السروري، وابن عبد الدائم وجماعة. وصحب الشيخ شمس الدين بن الكمال، وغيره من العلماء والصلحاء.

وكان صالحاً تقياً، من خيار عباد اللّه، يقتات من عمل يده. وكان عظيم الحرمة، مقبول الكلمة عند الملوك. وولاة الأمور، يرجع إلى قوله ورأيه، أماراً بالمعروف، نهاءاً عن المنكر.

ذكره الذهبي في معجم شيوخه، وقال: كان مشاراً إليه في الوقت بالإخلاص وسلامة الصدر، والتقوى والزهد، والتواضع التام، والبشاشة، ما أعلم فيه شيئاً يشينه لْي دينه أصلاً.

قلت: حدث بالكثير، وسمع منه خلق. وأجاز لي ما يجوز له روايته بخط يده.

توفي ثالث عشر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. ودفن بسفح قاسيون، رحمه الله تعالى.

إبراهيم بن أحمد بن هلال الزرعي، ثم الدمشقي، الفقيه الأصولي المناظر الفرضي، القاضي برهان الدين أبو إسحاق: سمع بدمشق من عمر بن القواس، وأبي الفضل بن عساكر، وأبي الحسين اليونيني، وتفقه وأفتر، قديماً، ودرس وناظر.

وولي نيابة الحكم عن القاضي عز الدين بين القاضي تقي الدين سليمان، ثم عن القاضي علاء الدين بن المنجا.

ودرس بالحنبلية من حين سجن الشيخ تقي الدين بالقلعة في المرة الني توفي فيها، فساء ذلك أصحاب الشيخ ومحبيه، وشق ذلك عليهم كثيراً، واستمر بها إلى حين وفاته.

وكان بارعاً في أصول الفقه، وفي القرائض والحساب، عارفاً بالمناظرة. وإليه المنتهى في التحري، وجودة الخط وصحة الذهن، وسرعة الإدراك، وقوة المناظرة، وجودة التقرير، وحسن الخلق، لكنه كان قليل الاستحضار لنقل المذهب. وكان فضلاء وقته يعظمونه، ويثنون عليه. وكان قاضي القضاة أبو الحسن السبكي يسميه: فقيه الشام. وكان فيه لعب، وعليه في دينه مأخذ، سامحه الله.

تفقه عليه جماعة وتخرجوا به في الفقه وأصوله. وحدث. ولم يصنف كتاباً معروفاً.

توفي وقت صلاة الجمعة سادس عشر رجب سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. ودفن بمقبرة الباب الصغير.

شافع بن عمر بن إسماعيل الجيلي، الفقيه الأصولي، ركن الدين: نزيل بغداد، سمع الحديث ببغداد على إسماعيل بن الطبال، وابن الدواليبي وغيرهما.

وتفقه على الشيخ تقي الدين الزريراتي، وصاهره على ابنته، وأعاد عنده بالمستنصرية، وكان رئيساً فاضلاً نبيلاً، عارفاً بالفقه والأصول، وبالطب، ومراعياً لقوانينه في مأكله ومشربه. وعرش بالمدرسة المجاهدية وأقرأ الفقه مدة.

قرأ عليه جماعة، منهم: والدي. وله تصنيف في مناقب أرباب المذاهب الأربعة، سماه "زبدة الأخبار في مناقب الأئمة الأربعة الأخيار".

وكان فقيهاً فاضلاً، لكنه قاصر العبارة، في لسانه عجمة.

توفي يوم الجمعة ثائي عشر شوال سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ودفن بدهليز تربة الإمام أحمد، رضي الله كنه.

عبد الرحيم بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن إسماعيل الزريراتي البغدادي، الفقيه، الإمام شرف الدين أبو محمد، ابن شيخ العراق تقي الدين أبي بكر المتقدم ذكره: وولد ببغداد، ونشأ بها وقرأ القرآن، وحفظ "المحرر" وسمع الحديث واشتغل.

ثم رحل إلى دمشق، سمع بها من زينب بنت الكمال، وجماعة من أصحاب ابن عبد الدائم، وخطيب مردا، وطبقتهما.

وارتحل إلى مصر، وسمع بها من مسندها يحيى بن المصري وغيره، ولقي بها أبا حيان وغيره.

وأقام بدمشق مدة، يقرأ في المحرر على القاضي برهان الدين الزرعي، ثم رجع إلى بغداد بفصْائل، ودرس بها بالمدرسة البشيرية للحنابلة بعد وفاة الشيخ صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق. ثم درس بالمجاهدية بعد موت صهره شافع المذكور قبله، ولم تطل بها مدته. وحضرت درسه وأنا إذْ ذاك صغير لا أحقه جيداً.

وناب في القضاء ببغداد، واشتهرت فضائله، وخطه في غاية الحسن، وقد اختصر "فروق السامري" وزاد عليها فوائد واستدراكات من كلام أبيه وغيره واختصر "طبقات الأصحاب" للقاضي أبي الحسين، وذيل عليها، وتطلبتها فلم أجدها. واختصر "المطلع" لابن أبي الفتح، وغير ذلك.

توفي يوم الثلاثاء ثاني عشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. ودفن عند والده بمقبرة الإِمام أحمد. وله من العمر نحو الثلاثين سنة. رحمه الله.

محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي، الجماعيلي الأصل، ثم الصالحي، ثم المقرئ الفقيه المحدث، الحافظ الناقد، النحوي المتفنن، شمس الدين أبو عبد الله بن العماد أبي العباس: ولد في رجب سنة أربع وسبعمائة.

وقرأ بالروايات، وسمع الكثير من القاضي أبي الفضل سليمان بن حمزة، وأبي بكر بن عبد الدايم، وعيسى المطعم، والحجار، وزينب بنت الكمال، وخلق كثير.

وعنى بالحديث وفنونه، ومعرفة الرجال والعلل. وبرع في ذلك. وتفقه في المذهب وأفتى. وقرأ الأصلين والعربية، وبرع فيها. ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية مدة. وقرأ عليه قطعة من الأربعين في أصول الدين للرازي.

قرأ الفقه على الشيخ مجد الدين الحراني، ولازم أبا الحجاج المزي الحافظ، حتى برع عليه في الرجال، وأخذ عن الذهبي وغيره.

وقد ذكره الذهبي في طبقات الحفاظ، قال: ولد سنة خمس- أو ست- وسبعمائة.

واعتنى بالرجال والعلل، وبرع وجمع، وتصدى للإفادة والاشتغال في القراءة والحديث، والفقه والأصلين، والنحو. وله توسع في العلوم وذهن سيال.

وذكره في معجمه المختص، وقال: عنى بفنون الحديث، ومعرفة رجاله، وذهنه مليح، وله عدة محفوظات وتآليف، وتعاليق مفيدة. كتب عني، واستفدت منه.

قال: وقد سمعت منه حديثاً يوم عرسه بالصدرية.

ثم قال: أخبرنا المزي إجازة أخبرنا أبو عبد اللّه السروجي أخبرنا ابن عبد الهادي- "فذكر حديثاً هذا لفظه: درس ابن عبد الهادي بالصدرية"، درس الحديث وبغيرها بالسفح. وكتب بخطه الحسن المتقن الكثير. وصنف تصانيف كثيرة بعضها كلمات، وبعضها لم يكمله، لهجوم المنية عليه في سن الأربعين.

فمن تصانيفه "تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق" لابن الجوزي مجلدان "الأحكام الكبرى" المرتبة على أحكام الحافظ الضياء، كمل منها سبع مجلدات "الرد على أبي بكر الخطيب الحافظ في مسألة الجهر بالبسملة" مجلد "المحرر في الأحكام" مجلد "فصل النزاع بين الخصوم في الكلام على أحاديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" مجلد لطيف الكلام على أحاديث مس الذكر جزء كبير "الكلام على أحاديث: "البحر هو الطهور ماؤه" جزء كبير "الكلام على أحاديث القلتين" جزء "الكلام على حديث معاذ في الحكم بالرأي" جزء كبير، الكلام على حديث "أصحابي كالنجوم" جزء، الكلام على حديث أبي سفيان "ثلاث أعطينهن يا رسول الله" والرد على ابن حزم في قوله: إنه موضوع. كتاب "العمدة" في الحفاظ، كمل منه مجلدان "تعليقة في الثقات" كمل منه مجلدان، الكلام على أحاديث "مختصر ابن الحاجب" مختصر ومطول، الكلام على أحاديث كثيرة فيها ضعف من "المستدرك" للحاكم، أحاديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، جزء منتقى من "مختصر المختصر" لابن خزيمة، ومناقشته على أحاديث أخرجها فيه، فيها مقال، مجلد، الكلام على "أحاديث الزيارة" جزء، مصنف في الزيارة مجلد، الكلام على أحاديث "محلل السباق" جزء، جزء في "مسافة القصر" جزء في قوله تعالى: "لمسجد أسس على التقوى" الآية. "التوبة: 108"، جزء في أحاديث "الجمع بين الصلاتين في الحضر"، "الإعلام في ذكر مشايخ الأئمة الأعلام"، أصحاب الكتب الستة. عدة أجزاء، الكلام على حديث "الطواف بالبيت صلاة"، "جزء كبير في مولد النبي صلى الله عليه وسلم" تعليقة على "سنن البيهقي الكبرى" كمل منها مجلدان، جزء كبير في "المعجزات والكرامات" جزء في "تحريم الربا" جزء في "تملك الأب من مال ولده ما شاء" جزء في "العقيقة" جزء في "الأكل من الثمار التي لا حائط عليها"، "الرد على ألْكيا الهِرَّاسي" جزء كبير، قي ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية" مجلد "منتقى من تهذيب الكمال للمزي كمل منه خمسة أجزاء" إقامة البرهان على عدم وجوب صوم يوم الثلاثين من شعبان" جزء، جزء في "فضائل الحسن البصري" رضي الله عنه "جزء في حجب الأم بالإخوة، وأنها تحجب بدون ثلاثة" جزء "في الصبر" جزء "في فضائل الشام" "صلاة التراويح" جزء كبير، الكلام على أحاديث "لبس الخفين للحرم" جزء كبير، جزء في "صفة الجنة" جزء في "المراسيل" جزء في مسألة "الجد والأخوة"، "منتخب من مسند الإِمام أحمد" مجلدان "منتخب من سنن البيهقي" مجلد "منتخب من سنن أبي داود" مجلد لطيف "تعليقه على التسهيل في النحو، كمل منها مجلدان، جزء في الكلام على حديث "أَفرَضَكم زيد" أحاديث "حياة الأنبياء في قبورهم" جزء تعليقة، على "العلل"، لابن أبي حاتم، كمل منها مجلدان. تعليقة على "الأحكام" لأبي البركات ابن تيمية لم تكمل "منتقى من علل الدارقطني"، مجلد، جزء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "شرح لألفية ابن مالك" جزء. ما أخذ على تصانيف أبي عبد اللّه الذهبي الحافظ شيخه عدة أجزاء. حواشي على كتاب "الإلمام" جزء في الرد على أبي حيان النحوي فيما رعه على ابن مالك وأخطأ فيه، جزء في "اجتماع الضميرين" جزء "في تحقيق الهمز والإِبدال في القراءات" وله رد على ابن طاهر، وابن دحية، وغيرهما، وتعاليق كثيرة في الفقه وأصوله، والحديث، ومنتخبات كثيرة في أنواع العلم.

وحدث بشيء من مسموعاته. وسمع منه غير واحد، وقد سمعت من أبيه، فإنه عاش بعده نحو عشر سنين.

توفي الحافظ أبو عبد الله في عاشر جمادى الأول سنة أربع وأربعين وسبعمائة ودفن بسفح قاسيون، وشيعه خلق كثير، وتأسفوا عليه، ورئيت له منامات حسنة. رحمه اللّه تعالى.

محمود بن علي بن عبد الولي بن خولان البعلي، الفقيه الفرضي، بهاء الدين أبو الثناء: ولد في حدود السبعمائة.

وسمع الحديث من جماعة وقرأ على الحافظ الذهبي عدة أجزاء. وتفقه على الشيخ في الدين الحراني، ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وبرع في الفرائض والوصايا، جبر والمقابلة.

وكان قيماً بنقل المذهب، واستحضار أكثر المسائل، فقيهاً مفتياَ، خيراً ديناً. وله معرفة بالنحو. وخطه حسن. وكتب كثيراً. وكان متواضعاً متودداً، ملازماً للأشغال، محصاً على إفادة الطلبة، باراً بهم، محسناً إليهم. تقه به جماعة، وانتفعوا به، وبرع منهم توفي في رجب سنة أربع وأربعين وسبعمائة ببعلبك رحمه اللّه تعالى.

وحدثني بعض أصحابه: أنه رآه في النوم بعد وفاته فقال له: أين أنت? قال: لي أيام هبطت إلى الفردوس. قال: فقلت له: فأين كنت قبلها? قال: لْي الضيافة.

أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغني العلاني، الحراني، ثم الدمشقي، الفقيه شهاب الدين أبو العباس: ولد سنة اثنتين وسبعمائة.

وسمع من ابن الموازيني، والدشتي، والقاضي سليمان بن حمزة، وجماعة. وطلب بنفسه، وسمع الكثير، وكتب الأجزاء. وتفقه. وقرأ أصول الفقه، وناظر. وهو الذي بيض "مسودة الأصول" لابن تيمية، ورتبها، وبيض من "شرح الهداية" أيضاً.

ذكره الذهبي في المعجم المختص، وقال: من أعيان مذهبه، فيه دين وتقوى ومعرفة بالفقه. أخذ عني ومعي، وقرأ عليَّ "سير النبلاء".

توفي في جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وسبعمائة بدمشق. ودفن بمقبرة الباب الصغير. رحمه اللّه.

محمد بن أحمد بن محمد بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي، الدمشقي، الفقيه المفْتي، المدرس المحتسب، عز الدين أبو عبد اللّه بن وجيه الدين: ولد ما سنة ثمان وثمانين وستمائة.

حضر على الفخر ابن البخاري، وزينب بنت مكي وغيرهما. وحدث.

كان ذكياً مخالطاً للشافعية، جماعاً للكتب.

وولي حسبة دمشق. ونظر الجامع. ودرس في أماكن. وكان صدراً رئيساً كثير الحشمة والمروءة، حسن الشكل، محباً لأهل العلم.

وتوفي في جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبعمائة. وهو والد فاطمة أم الحسن.

عبد القادر بن محمد بن أحمد بن الحسين اليونيني، محي الدين ابن الحافظ شرف الدين ابن الفقيه أبي عبد الله اليونيني: ولد سنة ثمانين وستمائة.

وتوفي سنة سبع وأربعين وسبعمائة. رحمه الله تعالى.

سليمان بن عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن يحيى بن أبي نوح الشيباني، النهرماري، ثم البغدادي، الفقيه الِإمام القاضي، نجم الدين، أبو المحامد الرافقي: قدم بغداد. وسمع بها. وأجاز له الكمال البزار، والرشيد بن أبي القاسم، وغيرهما.

وتفقه على الشيخ تقي الدين الزريراتي، حتى برع وأفتى، وأعاد عنده بالمستنصرية، ثم درس بالمستنصرية للحنابلة بعد موت ابن البرزي المتقدم ذكره.

وناب في القضاء وحدث. وسمع منه جماعة.

وتوفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وصلَّى عليه بجامع قصر الخلافة، وحضرت الصلاة عليه. ودفن بمقبرة الإِمام أحمد بباب حرب.

محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، الخطيب الصالح، العالم القدوة، عز الدين أبو عبد الله ابن الشيخ العز: ولد في رجب سنة ثلاث وستين وستمائة.

وسمع من ابن عبد الدايم، والكرماني حضوراً، وسمع الكثير من أبي عمر وطبقته، وتفقه قديماً بعم أبيه الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، ودرس بمدرسة جدهم الشيخ أبي عمر، وبالضيائية. وخطب بالجامع المظفري دهراً.

وكان من الصالحين الأخيار المتفق عليهم، وعَفر. وحدث بالكثير، وخرَجوا له مشيخة في أربعة أجزاء. سمع منه خلق، وأجاز لي مروياته.

ذكره الذهبي في معجم شيوخه، فقال: كان فقيهاً عالماً، صالحاً خيراً، متواضعاً، على طريقة سلفه.

توفي يوم الإِثنين عشرين رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. ودفن بتربة جده الشيخ أبي عمر. رحمه الله تعالى.

محمد بن أحمد بن عبد الله بن أبي الفرج بن أبي الحسن بن سرايا بن الوليد الحراني. نزيل مصر، الفقيه القاضي، بدر الدين أبو عبد اللِّه، ويعرف بابن الحبال: ولد بعد السبعين وستمائة تقريباً.

وسمع من العز الحراني، وابن خطيب المزة، والشيخ نجم الدين بن حمدان، وغيرهم. وتفقه وبرع، وأفتى، وأعاد بعدة مدارص، وناب في الحكم بظاهر القاهرة.

وصنف تصانيف عديدة، منها: "شرح الخرقى" وهو مختصر جداً، وكتاب "الفنون".

وحدث، وروى عنه جماعة، منهم: ابن رافع، وكان حسن المناظرة، لين الجانب، لطيف الذات، ذا ذهن ثاقب.

توفي في تاسع عشر ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وسبعمائة.

عمر بن سعد اللّه بن عبد الأحد الحراني، ثم الدمشقي، الفقيه الفرضي، القاضي، زين الدين أبو حفص بن سعد الدين بن نجيح، أخو شرف الدين محمد السابق ذكره: ولد سنة خمس وثمانين وستمائة.

وحضر على أبي الحسن بن البخاري. وسمع من يوسف الغسولي. وغيره، وسمع بالقاهرة وغيرها.

ودخل بغداد، وأقام بها ثلاثة أيام. وتفقه وبرع في الفقه والفرائض، ولازم الشيخ تقي الدين وغيره. وكتب بخطه الكثير من كتب المذهب.

وولي نيابة الحكم عن ابن المنجا. وكان خيراً ديناً، حسن الأخلاق، متواضعاً، بشوش الوجه، فقيهاً فرضياً فاضلاً منبتاً، سديداً في الأقضية والأحكام.

وحدثني الإمام العلامة عز الدين حمزة بن شيخ السلامية عنه: أنه قال له: لم أقضِ قضية إلا وقد أعددت لها الجواب بين يدي الله تعالى. وقد خرجوا له جزءاً عن شيوخه. وحدث به وبغيره.

ذكره الذهبي في المختصر، وقال: عالم ذكي، خير وقور، متواضع، بصير بالفقه والعربية. سمع الكثير، وولى مشيخة الضيائية، فألقى دروساً محررة. وتخرج بابن تيمية وغيره. وناب في الحكم.

توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة مطعوناً شهيداً. رحمه الله تعالى.

الحسين بن بمران بن داود البابَصري، البغدادي، الخطيب الفقيه، المحدث النحوي، الأديب، صفي الدين أبو عبد الله: ولد في آخر نهار عرفة سنة اثني عشرة وسبعمائة.

وسمع الحديث- متأخراً- من جماعة من شيوخنا وغيرهم. وعنى بالحديث، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الكثير، وتفقه، وبرع في العربية والأدب، ونظم الشعر الحسن.

وصنف في علوم الحديث وغيرها، واختصر "الإكمال" لابن ماكولا، وعلمه في حياته، وقرأ عليه بعضه، وسمعت بقراءته، "صحيح البخاري" على الشيخ جمال الدين مسافر بن إبراهيم الخالدي، بسماعه من الرشيد بن أبي القاسم.

وولى إفادة المحدثين بدار الحديث المستنصرية، فكان يقرئ بها علوم الحديث وغيرها، وحضرت مجالسه كثيراً. وكان له مشاركة حسنة في علوم الحديث والتواريخ مع براعة في الأدب والعربية، والصيانة والديانة.

توفي يوم الجمعة سابع عشر رمضان سنة تسع وأربعين وسبعمائة مطعوناً شهيداً. ودفن بمقبرة باب حرب. رحمه الله تعالى.

عمر بن علي بن موسى بن الخليل البغدادي، الأزجي، البزار، الفقيه المحدث، سراج الدين أبو حفص: ولد سنة ثمان وثمانين وستمائة تقريباً.

وسمع من إسماعيل بن الطبال، وعلىِ بن أبي القاسم أخو الرشيد وابن الدواليبي، وجماعة. وعنى بالحديث، وقرأ الكثير، ورحل إلى دمشق. وقرأ بها صحيح البخاري على الحجار بالحنبلية وحضر قراءته الشيخ تقي الدين ابن تيمية وخلق كثير، وجالس الشيخ تقي الدين وأخذ عنه، وتلا ببغداد ختمة لأبي عمر، وعلى شيخنا عبد الله بن عبد المؤمن الواسطي، وقرأ عليه بعض تصانيفه في القراءات. وحج مراراً، وأعاد بالمستنصرية.

وولي إمامة جامع الخليفة ببغداد مدة يسيرة، ثم أقام بدمشق مدة، أو أمَّ بها بالضيائية. وكان حسن القراءة للقرآن والحديث، ذا عبادة وتهجد، وصنف كثيراً في الحديث وعلومه، وفي الفقه والرقائق.

وقدم في آخر عمره إلى بغداد، فأقام بها يسيراً، ثم توجه إلى الحج سنة تسع وأربعين، وحججت أنا تلك السنة أيضاً مع والدي، فقرأت على شيخنا أبي حفص عمر ثلاثيات البخاري بالحلة اليزيدية.

ثم توفى رحمه الله قبل وصوله إلي مكة، بمنزلة حاجر، صبيحة يوم الثلاثاء حادي عشرين ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ويقال: إنه كان نوى الإحرام، وذلك قبل الوصول إلى الميقات.

ودفن بتلك المنزلة، ومعه نحو من خمسين نفساً بالطاعون. رحمهم اللّه تعالى.

وفي هذه المدة. توفى بدمشق المحدث الكبير المؤرخ الحافظ:-

أبو الخير سعيد بن عبد الله الذهبي، الحريري، مولى الصدر صلاح الدين عبد الرحمن بن عمر الحريري: وكان مولده- تقديراً- سنة اثني عشرة وسبعمائة.

سمع ببغداد من الدقوقي، وخلق، وبدمشق من زينب بنت الكمال، وأمم وبالقاهرة والإِسكندرية وبلدان شتى.

وعنى بالحديث، وأكثر من السماع والشيوخ، وخر وجمع تراجم كثيرة لأعيان أهل بعْداد، وخرج الكثير، وكتب بخطه الرديء كثيراً

وقال الذهبي: له رحلة. وعمل جيد، وهمة في التاريخ، وتكثير المشايخ، والأجزاء وهو ذكي، صحيح الذهن، عارف بالرجال حافظ.

أحمد بن علي بن محمد البابصري، البغدادي، الفقيه الفرضي، الأديب، جمال الدين أبو العباس: ولد سنة سبع وسبعمائة تقريباً.

وسمع الحديث متأخراً على شيوخنا، كالشيخ صفي الدين بن عبد الحق، وعلي بن عبد الصمد، وغيرهما.

وتفقه على الشيخ صفي الدين، ولازمه وعلى غيره، وبرع في الفقه والفرائض والحساب. وقرأ الأصول، والعربية، والعروض، والأدب، ونظم الشعر الحسن، وكتب بخطه الحسن كثيراً، وأعاد بالمستنصرية. واشتهر بالأشغال والفتيا، ومعرفة المذهب، وأثنى عليه فضلاء الطوائف. ودرس بالمدرسة المتعصمية للحنابلة.

وكان صالحاً ديناً متواضعاً، حسن الأخلاق، مطرحاً للتكلف، حضرت دروسه وأشغاله غير مرة. وسمعت بقراءته الحديث.

وتوفى في طاعون سنة خمسين وسبعمائة ببغداد بعد رجوعه من الحج، وصلَّى عليه وعلى جماعة من أعيان بغداد بدمشق صلاة الغائب رحمه الله تعالى، وممن اشتغل عليه- أعني البابصري- وانتفع به: القاضي:-

جمال الدين الأنباري: الشهيد، الإِمام في الترسل والنظم، له نظم في مسائل في الفوائض بحثته عليها. ولازمه مدة، والشرف بن سلوم قاضي حربي، وعلى الأواني الفرضي قاضي أوانا، والشيخ سعد الحصيني، وخلق، وبينه وبين قاضي القضاة شرف الدين مراسلات بأشعار حسنة، وكذلك المرداوي راسله أيضاً في مدة حكمه. رحمهم الله تعالى: وانتفع به أيضاً الشيخ:-

شمس الدين محمد ابن الشيخ أحمد ال!سقاء مربي الطائفة: ودرس بالمجاهدية، واشتغل على صفي الدين، وَحَفَّظه "مختصر الهداية" له، وكتب شرحه- وعنى به القاضي جمال الدين الأنباري- وعلا ببغداد قدره، واشتغل عليه جماعة، منهم: القاضي شمس الدين ببغداد الآن، محمد البرفطي، بعد الأنباري، ودرس بالبشيرية بعد ابن الحصري، والقاضي سعد، والحصيني، ونصر اللّه المحدث، وغيرهما.

وأما القاضي: جمال الدين عمر بن إدريس الأنباري: فإنه نصر المذهب وأقام السنة، وقمع البدعة ببغداد، وأزال المنكرات، وارتفع حتى لم يكن في المذهب أجمل منه في زمانه، ثم وزر لكبير بعض الرافضة فظفروا به، وعاقبوه مدة، فصبر. ثم إن أعداءه أهلكهم الله تعالى عاجلاً بعد استشهاده، وفرح أهل بغداد بهلاكهم، ودنك عقيب مولّده في سنة خمس وستين وسبعمائة.

ثم دفن بمقبرة الإمام أحمد عند المدرسة التي عمرها بها. وعمل له الختمات، ورثى، وتردد أهل بغداد إلى المقبرة مدة، وانتقم من أعدائه سريعاً. رحمه الله تعالى.

وقد جمعت بينه وبين قاضي قضاة مصر الموفق، وابن جماعة، بمنى يوم القَرَ عام ثلاث وستين. وستمائة.

وفي شعبان من هذه السنة: توفي قاضي القضاة:

علاء الدين أبو الحسن علي ابن الشيخ زين الدين المنجا عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي: بدمشق، ودفن بسفح قاسيون. وكان مولده في شعبان سنة ثلاث وسبعين وستمائة.

وسمع الكثير من ابن البخاري، وأحمد بن شيبان، وخلق. وولي القضاء من سنة اثنتين وثلاثين بعد وفاة ابن الحافظ.

وحدث بالكثير، قرأت عليه جزءاً فيه الأحاديث التي رواها مسلم في صحيحه عن الإِمام أحمد بسماعه الصحيح من أبي عبد اللّه محمد بن عبد السلام بن أبي عصرون، بإجازته من المؤيد.

محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن جريز الزرعي، ثم الدمشقي الفقيه الأصولي، المفسر النحوي، العارف، شمس الدين أبو عبد الله بن قيم الجوزية، شيخنا. ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة.

وسمع من الشهاب النابلسي العابر، والقاضي تقي الدين سليمان، وفاطمة بنت جوهر، وعيسى المطعم، وأبي بكر بن عبد الدايم، وجماعة.

وتفقه في المذهب، وبرع وأفتى، ولازم الشيخ تقي الدين وأخذ عنه. وتفنن في علوم الإِسلام. وكان عارفاً بالتفسير لا يجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيهما المنتهى. والحديث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله وبالعربية، وله فيها اليد الطولى، وتعلم الكلام والنحو وغير ذلك، وكان عالماً بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف، وإشاراتهم، ودقائقهم. له في كل فن من هذه الفنون اليد الطولى.

قال الذهبي في المختصر: عنى بالحديث ومتونه، وبعض رجاله. وكان يشتغل في الفقه، ويجيد تقريره وتدريسه، وفي الأصلين. وقد حبس مدة، لإِنكاره شد الرحال إلى قبر الخيل، وتصدى للأشغال، وإقراء العلم ونشره.

قلت: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشفف بالمحبة، والإِنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله، والإنكسار له، والإطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أرَ في معناه مثله. وقد امتحن وأوفي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة بالقلعة، منفرداً عنه، ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ.

وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القراَن بالتدبر والتفكر، ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف، والدخول في غوامضهم، وتصانيفه ممتلئة بذلك، وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة. وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة، وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه. ولازمت مجالسه قبل موته أزيد من سنة، وسمعت عليه "قصيدته النونية الطويلة" في السنة، وأشياء من تصانيفه، وغيرها.

وأخذ عنه العلم خلق كثير من حياة شيخه وإلى أن مات، وانتفعوا به، وكان الفضلاء يعظمونه، ويتتلمذون له، كابن عبد الهادي وغيره.

وقال القاضي برهان الدين الزرعي عنه: ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه.

ودرس بالصدرية. وأمَّ بالجوزية مدة طويلة. وكتب بخطه ما لا يوصف كثرة.

وصنف تصانيف كثيرة جداً في أنواع العلم. وكان شديد المحبة للعلم، وكتابته ومطالعته وتصنيفه، واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره.

فمن تصانيفه: كتاب "تهذيب سنن أبي داود" وإيضاح مشكلاته، والكلام على ما فيه من الأحاديث المعلولة مجلد، كتاب "سفر الهجرتين وباب السعادتين" مجلد ضخم، كتاب "مراحل السائرين بين منازل" إياكَ نَعْبُدُ وإياكَ نَسْتَعِين" مجلدان، وهو شرح "منازل السائرين" لشيخ الإِسلام الأنصاري، كتاب جليل القمر، كتاب "عقد محكم الأحباء، بين الكلم الطيب والعمل الصالح المرفوع إلى رب السماء" مجلد ضخم، كتاب "شرح أسماء الكتاب العزيز" مجلد، كتاب "زاد المسافرين إلى منازل السعداء في هدى خاتم الأنبياء" مجلد، كتاب "زاد المعاد في هدى خير العباد" أربع مجلدات، وهو كتاب عظيم جداً، كتاب "جلاء الأفهام في ذكر الصلاة والسلام على خير الأنام" وبيان أحاديثها وعللها مجلد، كتاب "بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل" مجلد، كتاب "نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول" مجلد، كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" ثلاث مجلدات، كتاب "بدائع الفوائد" مجلدان "الشافية الكافية في إلانتصار للفرقة الناجية" وهي "القصيدة النونية في السنة" مجلدان، كتاب "الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة لما في مجلدات، كتاب "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" وهو كتاب "صفة الجنة" مجلد، كتاب "نزهة المشتاقين وروضة المحبين" مجلد، كتاب "الداء والدواء" مجلد، كتاب "تحفة الودود في أحكام المولود" مجلد لطيف، كتاب "مفتاح دار السعادة" مجلد ضخم، كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية" مجلد، كتاب "مصائد الشيطان" مجلد، كتاب "الفرق الحكمية" مجلد "رفع اليدين في الصلاة" مجلد. كتاب "نكاح المحرم" مجلد "تفضيل مكة على المدينة" مجلد "فضل العلماء" مجلد "عدة الصابرين" مجلد كتاب "الكبائر" مجلد "حكم تارك الصلاة" مجلد، كتاب "نور المؤمن وحياته" مجلد، كتاب "حكم إغمام هلال رمضان"، "التحرير فيما يحل، ويحرم من لباس الحرير"، "جوابات عابدي الصلبان، وأن ما هم عليه دين الشيطان"، "بطلان الكيمياء من أربعين وجهاً" مجلد "الفرق بين الخلة والمحبة، ومناظرة الخليل لقومه" مجلد "الكلم الطيب والعمل الصالح" مجلد لطيف "الفتح القدسي"، "التحفة المكية" كتاب "أمثال القرآن" "شرح الأسماء الحسنى"، "أيمان القرآن"، "المسائل الطرابلسية" ثلاث مجلدات "الصراط المستقيم في أحكام أهل الجحيم" مجلدان، كتاب " الطاعون" مجلد لطيف.

توفى رحمه الله وقت عشاء الآخرة ليلة الخميس ثالث عشرين رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. وصلَّى عليه من الغد بالجامع عقيب الظهر، ثم بجامع جراح. ودفن بمقبرة الباب الصغير، وشيعه خلق كثير، ورئيت له منامات كثيرة حسنة رضي اللّه عنه.

وكان قد رأى قبل موته بمدة الشيخ تقي الدين رحمه الله في النوم، وسأله عن منزلته? فأشار إلى علوها فوق بعض الأكابر. ثم قال له: وأنت كدت تلحق بنا، ولكن أنت الآن في طبقة ابن خزيمة رحمه اللّه.

وقرئ على شيخنا الإمام العلامة أبي عبد اللّه محمد بن أبي بكر بن أيوب- وأنا أسمع- هذه القصيدة من نظمه في أول كتابه "صفة الجنة":

ومـا ذاك إلا غـيرة أن ينـالـهـا

 

سوى كفؤها، والرب بالخلق أعلـم

وإن حجبت عنـا بـكـل كـريهة

 

وحفت بما يؤذي النفـوس ويؤلـم

فللَّه ما في حشوها مـن مـسـرة

 

وأصناف لـذات بـهـا يتـنـعـم

وللَّه ذاك العيش بـين خـيامـهـا

 

وروضاتها والثغر في الروض يبسم

وللَّه واديها الذي هو مـوعـد الـم

 

زيد لوفد الحب لو كـنـت مـهـم

بذيالـك الـوادي يهـيم صـبــابة

 

محب يرى أن الصبـابة مَـغْـنَـم

وللَّه أفراح المحـبـين عـنـدمـا

 

يخاطبهم من فـوقـهـم ويسـلـم

وللَّه أبصار ترى الـلـه جـهـرة

 

فلا الضيم يغشاها، ولا هي تسـأم

فيا نظرة أهدت إلي الوجه نضـرة

 

أمن بعدها يسلو المحب الـمـتـيم

وللَّه كم من خِيرة إن تـبـسـمـت

 

أضاء لها نور من الفجر أعـظـم

فيا لذة الأبصار إذ هـي أقـبـلـت

 

ويا لذة الأسمـاع حـين تـكـلـم

ويا خجلة الغصن الرطيب إذا انثنت

 

ويا خجلة البحرين حـين تـبـسـم

فإن كنت ذا قلب عليل بـحـبـهـا

 

فلم يبقَ إلا وصلها لـك مـرهـم

وذكر أبياتاً، ثم قال:

فيا خاطب الحسناء، إن كنت باغياً

 

فهذا زمان المهر فهو المـقـدم

وكن مبغضاً للخائنات لحـبـهـا

 

فتحظى بها بينهـن وتـنـعـم

وكن أيِّما ممن سواها، فـإنـهـا

 

لمثلك في جنـات عـدن تـأيَّم

وصم يومك الأدنى لعلك في غـد

 

تفوز بعيد الفطر والناس صـوم

وأقدم، ولا تقنع بعيش منـغـص

 

فما فاز باللذات من لـيس يقـدم

وإن ضاقت الدنيا عليك بأسرهـا

 

ولم يك فيها منزل لـك يعـلـم

فحي على جنات عدن، فإنـهـا

 

منازلك الأولى، وفيها المـخـيم

ولكننا سبي العدو، فهـل تـرى

 

نعود إلى أوطاننـا ونـسـلـم?

وقد زعموا أن الغريب إذا نـأى

 

وشطت به أوطانه فهو مُـغـدم

وأي اغتراب فوق غربتنا التـي

 

لها أضحت الأعداء فينا تحكـم?

وحي على السوق الذي فيه يلتقي

 

المحبوب، ذاك السوق للقوم معلم

فما شئت خذ منه بلا ثمـن لـه

 

فقد أسلف التجار فيه وأسلمـوا

وحي على يوم المزيد الـذي بـه

 

زيارة رب العرش، فاليوم موسم

وحي على واد هنـالـك أفـيح

 

وتربته من أذفَرِ المسك أعظـم

منابر من نور هـنـاك وفـضة

 

ومن خالص العقيان لا تنفصـم

وكُثبان مسك قد جعلن مقـاعـداً

 

لمن دون أصحاب المنابر يعلـم

فبيناهم في عيشهم وسـرورهـم

 

وأرزاقهم تجري عليهم وتقسـم

إذا هم بنور ساطع أشرقـت لـه

 

بأقطارها الجنـات لا يتـوهـم

تجلى لهم رب السموات جهـرة

 

فيضحك فوق العرش ثم يكـلـم

سلام عليكم، يسمعون جميعـهـم

 

بآذانهبم تسـلـيمـه إذْ يُسَـلّـم

يقول: سلوني ما اشتهيتم، فكل ما

 

تريدون عندي، إنني أنـا أرحـم

فقالوا جميعاً: نحن نسألك الرضا

 

فأنت الذي تولى الجميل وترحـم

فيعطيهم هذا ويشهد جمـعـهـم

 

عليه، تعالى الله، فالـلّـه كـرم

فيا بائعاً هذا ببخـس مـعـجـل

 

كأنك لا تدري، بلى، فسوف تعلم

فإن كنت لا تدري فتلك مـصـيبة

 

وإن كنت تدري، فالمصيبة أعظم.

أحمد بن الحسن بن عبد الله ابن الشيخ أبي عمر قاضي القضاة، أبو العباس، أحد الأعلام: كان من أهل البراعة والفهم، والرياسة في العلم، متقناً عالماً بالحديث وعلله، والنحو والفقه، والأصلين، والمنطق، وغير ذلك.

وكان له باع طويل في التفسير، لا يمكن وصفه، كان له في الأصول والفروع القدم العالي، وفي شرف الدين والدنيا المحل السامي، وله معرفة بالعلوم الأدبية والفنون القديمة الأولية، وكيف لا? وهو تلميذ ابن تيمية، وقد قرأ عليه، واشتغل كثيراً، وقرأ عليه مصنفات في علوم شتى، منها: "المحصل"، للفخر الرازي، ولقد قال لي مرة: كنت في حال الشبوبية ما أتغدى إلا بعد عشاء الآخرة، للإشتغال بالعلم، وقال لي مرة: كم تقول إني أحفظ بيت شعر? فقلت: عشرة آلاف. فقال: بل ضعفها، وشرع يعدد قصائد للعرب، وكان إذا سرد الحديث يتعجب الإِنسان، وكان آية في حفظ سرد مذاهب العلماء.

ومن نظمه:

ولقد جهدت بأن أصاحب أشقـراً

 

فخذلت في جهدي لهذا المطلب

تنبو الطباع عن اللئيم كما نـبـت

 

عن كل سم في الأنام مجـرب

فاحذر شناطاً في الرجال وأشقراً

 

مع كويسح، أو أعرج، أو أحدب

أو غائر الصدغين، خارج جبهة

 

أو أَزْرَقاً بدراج، غير محبـب

هذا مقالي خـبـرة بـحـقـيقة

 

حقت، وإن خالفت ذاك فجـرب

نظم قول الشافعي في هؤلاء الجماعة.

وله مصنفات، منها "الفائق" في الفقه، مجلد كبير، وكتاب في "أصول الفقه" مجلد كبير، لم يتمه، وصل فيه إلى أوائل القياس، و "الرد على ألكيا الهراسي" كتب فيه مجلدين، وشرح من "المنتقى" للشيخ مجد الدين، قطعة في أوله، سماه "قطر الغمام في شرح أحاديث الأحكام" و "تنقيح الأبحاث في رفع التيمم للأحداث" مجلد صغير، و "مسألة المناقلة" مجلد صغير، وله مجاميع كثيرة، فيها فنون شتى.

والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.

وصلى اللّه على خير خلقه محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراٌ ، إلى يوم الدين.

تم ذيل الطبقات ويليه ملحق فيه تراجم الحنابلة الذين ذكرهم السيوطي في "بغية الوعاء".

فيعطيهم هذا ويشهد جمـعـهـم

 

عليه، تعالى الله، فالـلّـه كـرم

فيا بائعاً هذا ببخـس مـعـجـل

 

كأنك لا تدري، بلى، فسوف تعلم

فإن كنت لا تدري فتلك مـصـيبة

 

وإن كنت تدري، فالمصيبة أعظم.

أحمد بن الحسن بن عبد الله ابن الشيخ أبي عمر قاضي القضاة، أبو العباس، أحد الأعلام: كان من أهل البراعة والفهم، والرياسة في العلم، متقناً عالماً بالحديث وعلله، والنحو والفقه، والأصلين، والمنطق، وغير ذلك.

وكان له باع طويل في التفسير، لا يمكن وصفه، كان له في الأصول والفروع القدم العالي، وفي شرف الدين والدنيا المحل السامي، وله معرفة بالعلوم الأدبية والفنون القديمة الأولية، وكيف لا? وهو تلميذ ابن تيمية، وقد قرأ عليه، واشتغل كثيراً، وقرأ عليه مصنفات في علوم شتى، منها: "المحصل"، للفخر الرازي، ولقد قال لي مرة: كنت في حال الشبوبية ما أتغدى إلا بعد عشاء الآخرة، للإشتغال بالعلم، وقال لي مرة: كم تقول إني أحفظ بيت شعر? فقلت: عشرة آلاف. فقال: بل ضعفها، وشرع يعدد قصائد للعرب، وكان إذا سرد الحديث يتعجب الإِنسان، وكان آية في حفظ سرد مذاهب العلماء.

ومن نظمه:

ولقد جهدت بأن أصاحب أشقـراً

 

فخذلت في جهدي لهذا المطلب

تنبو الطباع عن اللئيم كما نـبـت

 

عن كل سم في الأنام مجـرب

فاحذر شناطاً في الرجال وأشقراً

 

مع كويسح، أو أعرج، أو أحدب

أو غائر الصدغين، خارج جبهة

 

أو أَزْرَقاً بدراج، غير محبـب

هذا مقالي خـبـرة بـحـقـيقة

 

حقت، وإن خالفت ذاك فجـرب

نظم قول الشافعي في هؤلاء الجماعة.

وله مصنفات، منها "الفائق" في الفقه، مجلد كبير، وكتاب في "أصول الفقه" مجلد كبير، لم يتمه، وصل فيه إلى أوائل القياس، و "الرد على ألكيا الهراسي" كتب فيه مجلدين، وشرح من "المنتقى" للشيخ مجد الدين، قطعة في أوله، سماه "قطر الغمام في شرح أحاديث الأحكام" و "تنقيح الأبحاث في رفع التيمم للأحداث" مجلد صغير، و "مسألة المناقلة" مجلد صغير، وله مجاميع كثيرة، فيها فنون شتى.

والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.

وصلى اللّه على خير خلقه محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراٌ ، إلى يوم الدين.

تم ذيل الطبقات ويليه ملحق فيه تراجم الحنابلة الذين ذكرهم السيوطي في "بغية الوعاء".

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قائمة الكتب وورد

    ·          كتب علوم الحديث العلل الصغير للترمذي الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث ألفية العراقي في علوم الحديث الإلماع إل...