ج2.
أدب الدنيا والدين
للماوردي
== وَمَنْ
بَرِئَ مِنْ الْبُخْلِ نَالَ الشَّرَفَ .
وَمَنْ بَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ نَالَ الْكَرَامَةَ .
وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ : التَّوَاضُعُ مَصَائِدُ الشَّرَفِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ دَامَ تَوَاضُعُهُ كَثُرَ صَدِيقُهُ .
وَقَدْ تُحْدِثُ الْمَنَازِلُ وَالْوِلَايَاتُ لِقَوْمٍ أَخْلَاقًا مَذْمُومَةً
يُظْهِرُهَا سُوءُ طِبَاعِهِمْ ، وَلِآخَرِينَ فَضَائِلَ مَحْمُودَةً يَبْعَثُ
عَلَيْهَا زَكَاءُ شِيَمِهِمْ ؛ لِأَنَّ تَقَلُّبَ الْأَحْوَالِ سَكَرَةٌ تُظْهِرُ
مِنْ الْأَخْلَاقِ مَكْنُونَهَا ، وَمِنْ السَّرَائِرِ مَخْزُونَهَا ، لَا
سِيَّمَا إذَا هَجَمَتْ مِنْ غَيْرِ تَدْرِيجٍ وَطَرَقَتْ مِنْ غَيْرِ تَأَهُّبٍ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : فِي تَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ تُعْرَفُ
جَوَاهِرُ الرِّجَالِ .
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ : مَنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ فَوْقَ قُدْرَةٍ
تَكَبَّرَ لَهَا ، وَمَنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ دُونَ قُدْرَةٍ تَوَاضَعَ لَهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : النَّاسُ فِي الْوِلَايَةِ رَجُلَانِ : رَجُلٌ
يُجِلُّ الْعَمَلَ بِفَضْلِهِ وَمُرُوءَتِهِ ، وَرَجُلٌ يَجِلُّ بِالْعَمَلِ
لِنَقْصِهِ وَدَنَاءَتِهِ .
فَمَنْ جَلَّ عَنْ عَمَلِهِ ازْدَادَ بِهِ تَوَاضُعًا وَبِشْرًا ، وَمَنْ جَلَّ
عَنْهُ عَمَلُهُ ازْدَادَ بِهِ تَجَبُّرًا وَتَكَبُّرًا .
حُسْنُ
الْخُلُقِ الْفَصْلُ الثَّانِي فِي حُسْنِ الْخُلُقِ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
اخْتَارَ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا فَأَكْرِمُوهُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ
وَالسَّخَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَكْمُلُ إلَّا بِهِمَا } .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَدْوَأِ الدَّاءِ ؟
قَالُوا بَلَى .
قَالَ الْخُلُقُ الدَّنِيُّ وَاللِّسَانُ الْبَذِيُّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ ضَاقَ رِزْقُهُ .
وَعِلَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْحَسَنُ الْخُلُقِ مَنْ نَفْسُهُ فِي رَاحَةٍ ،
وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي سَلَامَةٍ .
وَالسَّيِّئُ الْخُلُقِ النَّاسُ مِنْهُ فِي بَلَاءٍ ، وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي
عَنَاءٍ ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَاشِرْ أَهْلَك بِأَحْسَنِ أَخْلَاقِك
فَإِنَّ الثَّوَاءَ فِيهِمْ قَلِيلٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا لَمْ تَتَّسِعْ أَخْلَاقُ قَوْمٍ تَضِيقُ
بِهِمْ فَسِيحَاتُ الْبِلَادِ إذَا مَا الْمَرْءُ لَمْ يُخْلَقُ لَبِيبًا فَلَيْسَ
اللُّبُّ عَنْ قِدَمِ الْوِلَادِ فَإِذَا حَسُنَتْ أَخْلَاقُ الْإِنْسَانِ كَثُرَ
مُصَافُوهُ ، وَقَلَّ مُعَادُوهُ ، فَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ الصِّعَابُ
، وَلَانَتْ لَهُ الْقُلُوبُ الْغِضَابُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {
حُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجُوَارِ يُعَمِّرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي
الْأَعْمَارِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مِنْ سَعَةِ الْأَخْلَاقِ كُنُوزُ الْأَرْزَاقِ .
وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَثْرَةِ الْأَصْفِيَاءِ الْمُسْعِدِينَ ،
وَقِلَّةِ الْأَعْدَاءِ الْمُجْحِفِينَ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَحَبُّكُمْ
إلَيَّ أَحْسَنكُمْ أَخْلَاقًا ، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا ، الَّذِينَ
يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ } .
وَحُسْنُ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ سَهْلَ الْعَرِيكَةِ ، لَيِّنَ الْجَانِبِ ،
طَلِيقَ الْوَجْهِ ، قَلِيلَ النُّفُورِ ، طَيِّبَ الْكَلِمَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ
فَقَالَ : { أَهْلُ الْجَنَّةِ كُلُّ
هَيِّنٍ
لَيِّنٍ سَهْلٍ طَلْقٍ } .
وَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ حُدُودًا مُقَدَّرَةً وَمَوَاضِعَ
مُسْتَحَقَّةً ، مَا قَالَ الشَّاعِرُ : أَصْفُو وَأَكْدُرُ أَحْيَانًا
لِمُخْتَبِرِي وَلَيْسَ مُسْتَحْسَنًا صَفْوٌ بِلَا كَدَرِ وَلَيْسَ يُرِيدُ
بِالْكَدَرِ الَّذِي هُوَ الْبَذَاءُ وَشَرَاسَةُ الْخُلُقِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ
ذَمٌّ لَا يُسْتَحْسَنُ وَعَيْبٌ لَا يَرْتَضِي .
وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْكَفَّ وَالِانْقِبَاضَ فِي مَوْضِعٍ يُلَامُ فِيهِ
الْمُسَاعِدُ وَيُذَمُّ فِيهِ الْمُوَافِقُ ، فَإِذَا كَانَتْ لِمَحَاسِنِ
الْأَخْلَاقِ حُدُودٌ مُقَدَّرَةٌ وَمَوَاضِعُ مُسْتَحَقَّةٌ فَإِنْ تَجَاوَزَ
بِهَا الْحَدَّ صَارَتْ مَلَقًا وَإِنْ عَدْلَ بِهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا صَارَتْ
نِفَاقًا .
وَالْمَلَقُ ذُلٌّ ، وَالنِّفَاقُ لُؤْمٌ ، وَلَيْسَ لِمَنْ وُسِمَ بِهِمَا وُدٌّ
مَبْرُورٌ وَلَا أَثَرٌ مَشْكُورٌ .
وَقَدْ رَوَى حَكِيمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { شَرُّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ
الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ } .
وَرَوَى مَكْحُولٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَنْبَغِي لِذِي الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ
وَجِيهًا عِنْد اللَّهِ تَعَالَى } .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عُرْوَةَ : لَأَنْ يَكُونَ لِي نِصْفُ وَجْهٍ وَنِصْفُ
لِسَانٍ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنْ قُبْحِ الْمَنْظَرِ وَعَجْزِ الْمَخْبَرِ أَحَبُّ
إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ ذَا وَجْهَيْنِ وَذَا لِسَانَيْنِ وَذَا قَوْلَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : خَلِّ النِّفَاقَ لِأَهْلِهِ وَعَلَيْك فَالْتَمِسْ
الطَّرِيقَا وَارْغَبْ بِنَفْسِك أَنْ تُرَى إلَّا عَدُوًّا أَوْ صَدِيقَا وَقَالَ
إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ : وَكَمْ مِنْ صَدِيقٍ وُدُّهُ بِلِسَانِهِ خَئُونٌ
بِظَهْرِ الْغَيْبِ لَا يَتَذَمَّمُ يُضَاحِكُنِي عَجَبًا إذَا مَا لَقِيتُهُ
وَيَصْدُفُنِي مِنْهُ إذَا غِبْتُ أَسْهُمُ كَذَلِكَ ذُو الْوَجْهَيْنِ يُرْضِيك
شَاهِدًا وَفِي غَيْبِهِ إنْ غَابَ صَابٌ وَعَلْقَمُ وَرُبَّمَا تَغَيَّرَ حُسْنُ
الْخُلُقِ وَالْوَطَاءُ إلَى الشَّرَاسَةِ وَالْبَذَاءِ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ ،
وَأُمُورٍ
طَارِئَةٍ
، تَجْعَلُ اللِّينَ خُشُونَةً وَالْوَطَاءَ غِلْظَةً وَالطَّلَاقَةَ عُبُوسًا .
فَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْوِلَايَةُ الَّتِي تُحْدِثُ فِي الْأَخْلَاقِ
تَغَيُّرًا ، وَعَلَى الْخُلَطَاءِ تَنَكُّرًا ، إمَّا مِنْ لُؤْمِ طَبْعٍ ،
وَإِمَّا مِنْ ضِيقِ صَدْرٍ .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ تَاهَ فِي وِلَايَتِهِ ذَلَّ فِي عَزْلِهِ .
وَقِيلَ : ذُلُّ الْعَزْلِ يُضْحِكُ مِنْ تِيهِ الْوِلَايَةِ .
وَمِنْهَا : الْعَزْلُ فَقَدْ يَسُوءُ بِهِ الْخُلُقُ وَيَضِيقُ بِهِ الصَّدْرُ
إمَّا لِشِدَّةِ أَسَفٍ أَوْ لِقِلَّةِ صَبْرٍ .
حَكَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عُزِلَ عَنْ وِلَايَةٍ
فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : إنِّي وَجَدْتهَا حُلْوَةَ الرَّضَاعِ
مَرَّةَ الْفِطَامِ .
وَمِنْهَا : الْغِنَى فَقَدْ تَتَغَيَّرُ بِهِ أَخْلَاقُ اللَّئِيمِ بَطَرًا ،
وَتَسُوءُ طَرَائِقُهُ أَشَرًا .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ نَالَ اسْتَطَالَ .
وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ : غَضْبَانُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَالَ سَاقٍ لَهُ مَا
لَمْ يَسْقِهِ لَهُ دِينٌ وَلَا خُلُقُ فَمَنْ يَكُنْ عَنْ كِرَامِ النَّاسِ
يَسْأَلُنِي فَأَكْرَمُ النَّاسِ مَنْ كَانَتْ لَهُ وَرِقُ وَقَالَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ : فَإِنْ تَكُنْ الدُّنْيَا أَنَالَتْك ثَرْوَةً فَأَصْبَحْت ذَا
يُسْرٍ وَقَدْ كُنْت ذَا عُسْرِ لَقَدْ كَشَفَ الْإِثْرَاءُ مِنْك خَلَائِقًا مِنْ
اللُّؤْمِ كَانَتْ تَحْتَ ثَوْبٍ مِنْ الْفَقْرِ وَبِحَسَبِ مَا أَفْسَدَهُ الْغِنَى
كَذَلِكَ يُصْلِحُهُ الْفَقْرُ .
وَكَتَبَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ إلَى الْحَجَّاجِ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ
الْتَاثُوا عَلَيْهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اقْطَعْ عَنْهُمْ الْأَرْزَاقَ ،
فَفَعَلَ فَسَاءَتْ حَالُهُمْ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ فَقَالُوا : أَقِلْنَا .
فَكَتَبَ إلَى الْحَجَّاجِ فِيهِمْ فَكَتَبَ إلَيْهِ : إنْ كُنْت آنَسْتَ مِنْهُمْ
رُشْدًا فَأَجْرِ عَلَيْهِمْ مَا كُنْتَ تُجْرِي .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَقْرَ جُنْدُ اللَّهِ الْأَكْبَرَ يُذِلُّ بِهِ كُلَّ
جَبَّارٍ عَنِيدٍ يَتَكَبَّرُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {
لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذَلَّ ابْنَ آدَمَ بِثَلَاثٍ مَا طَأْطَأَ
رَأْسَهُ لِشَيْءٍ : الْفَقْرُ ، وَالْمَرَضُ ، وَالْمَوْتُ } .
وَمِنْهَا
: الْفَقْرُ فَقَدْ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْخُلُقُ إمَّا أَنَفَةً مِنْ ذُلِّ
الِاسْتِكَانَةِ أَوْ أَسَفًا عَلَى فَائِتِ الْغِنَى .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَادَ
الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا ، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ } .
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : وَأَعْجَبُ حَالَاتِ ابْنِ آدَمَ خَلْقُهُ
يَضِلُّ إذَا فَكَّرْتَ فِي كُنْهِهِ الْفِكْرُ فَيَفْرَحُ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ
بَقَاؤُهُ وَيَجْزَعُ مِمَّا صَارَ وَهُوَ لَهُ ذُخْرُ وَرُبَّمَا تَسَلَّى مِنْ
هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْأَمَانِي ، وَإِنْ قَلَّ صِدْقُهَا .
فَقَدْ قِيلَ : قَلَّمَا تَصْدُقُ الْأُمْنِيَّةُ وَلَكِنْ قَدْ يُعْتَاضُ بِهَا
سَلْوَةً مِنْ هَمٍّ أَوْ مَسَرَّةٍ بِرَجَاءٍ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : حَرِّكْ مُنَاك إذَا اغْتَمَمْت فَإِنَّهُنَّ
مَرَاوِحُ وَقَالَ آخَرُ : إذَا تَمَنَّيْت بِتَّ اللَّيْلَ مُغْتَبِطًا إنَّ
الْمُنَى رَأْسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ وَمِنْهَا الْهُمُومُ الَّتِي تُذْهِلُ
اللُّبَّ ، وَتَشْغَلُ الْقَلْبَ ، فَلَا تَتْبَعُ الِاحْتِمَالَ وَلَا تَقْوَى
عَلَى صَبْرٍ .
وَقَدْ قِيلَ : الْهَمُّ كَالسُّمِّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الْحُزْنُ كَالدَّاءِ الْمَخْزُونِ فِي فُؤَادِ
الْمَحْزُونِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : هُمُومُك بِالْعَيْشِ مَقْرُونَةٌ فَمَا تَقْطَعُ
الْعَيْشَ إلَّا بِهِمْ إذَا تَمَّ أَمْرٌ بَدَا نَقْصُهُ تَرَقَّبْ زَوَالًا إذَا
قِيلَ تَمْ إذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ تُزِيلُ
النِّعَمْ وَحَامِ عَلَيْهَا بِشُكْرِ الْإِلَهِ فَإِنَّ الْإِلَهَ سَرِيعُ
النِّقَمْ حَلَاوَةُ دُنْيَاك مَسْمُومَةٌ فَمَا تَأْكُلُ الشَّهْدَ إلَّا بِسُمْ
فَكَمْ قَدَرٌ دَبَّ فِي مُهْلَةٍ فَلَمْ يَعْلَمْ النَّاسُ حَتَّى هَجَمْ
وَمِنْهَا الْأَمْرَاضُ الَّتِي يَتَغَيَّرُ بِهَا الطَّبْعُ مَا يَتَغَيَّرُ
بِهَا الْجِسْمُ ، فَلَا تَبْقَى الْأَخْلَاقُ عَلَى اعْتِدَالٍ وَلَا يُقْدَرُ
مَعَهَا عَلَى احْتِمَالٍ .
وَقَدْ قَالَ الْمُتَنَبِّي : آلَةُ الْعَيْشِ صِحَّةٌ وَشَبَابُ فَإِذَا وَلَّيَا
عَنْ الْمَرْءِ وَلَّى وَإِذَا الشَّيْخُ قَالَ أُفٍّ فَمَا مَلَّ حَيَاةً
وَإِنَّمَا الضَّعْفَ مَلَّا وَإِذَا لَمْ تَجِدْ
مِنْ
النَّاسِ كُفُئًا ذَاتَ خِدْرٍ أَرَادَتْ الْمَوْتَ بَعْلَا أَبَدًا تَسْتَرِدُّ
مَا تَهَبُ الدُّنْيَا فَيَا لَيْتَ جُودَهَا كَانَ بُخْلَا وَمِنْهَا عُلُوُّ
السِّنِّ وَحُدُوثُ الْهَرَمِ لِتَأْثِيرِهِ فِي آلَةِ الْجَسَدِ كَذَلِكَ يَكُونُ
تَأْثِيرُهُ فِي أَخْلَاقِ النَّفْسِ ، فَكَمَا يَضْعُفُ الْجَسَدُ عَنْ
احْتِمَالِ مَا كَانَ يُطِيقُهُ مِنْ أَثْقَالٍ فَكَذَلِكَ تَعْجِزُ النَّفْسُ
عَنْ أَثْقَالِ مَا كَانَتْ تَصْبِرُ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْوِفَاقِ ،
وَمَضِيقِ الشِّقَاقِ .
وَكَذَلِكَ مَا ضَاهَاهُ .
وَقَالَ مَنْصُورٌ النَّمَرِيُّ : مَا كُنْتُ أُوفِي شَبَابِي كُنْهَ عِزَّتِهِ
حَتَّى مَضَى فَإِذَا الدُّنْيَا لَهُ تَبَعُ أَصْبَحْتُ لَمْ تُطْعِمِي ثُكْلَ
الشَّبَابِ وَلَمْ تَشْجَيْ لِغُصَّتِهِ فَالْعُذْرُ لَا يَقَعُ مَا كَانَ
أَقْصَرَ أَيَّامِ الشَّبَابِ وَمَا أَبْقَى حَلَاوَةَ ذِكْرَاهُ الَّتِي تَدَعُ
مَا وَاجَهَ الشَّيْبُ مِنْ عَيْنٍ وَإِنْ رَمَقَتْ إلَّا لَهَا نَبْوَةٌ عَنْهُ
وَمُرْتَدَعُ قَدْ كِدْت تَقْضِي عَلَى فَوْتِ الشَّبَابِ أَسًى لَوْلَا يُعَزِّيك
أَنَّ الْعُمْرَ مُنْقَطِعُ فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَسْبَابٍ أَحْدَثَتْ سُوءَ خُلُقٍ
كَانَ عَامًّا .
وَهَا هُنَا سَبَبٌ خَاصٌّ يُحْدِثُ سُوءَ خُلُقٍ خَاصٍّ وَهُوَ الْبُغْضُ الَّذِي
تَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ فَتُحْدِثُ نُفُورًا عَلَى الْمُبْغَضِ ، فَيَؤُولُ
إلَى سُوءِ خُلُقٍ يَخُصُّهُ دُونَ غَيْرِهِ .
فَإِذَا كَانَ سُوءُ الْخُلُقِ حَادِثًا بِسَبَبٍ كَانَ زَوَالُهُ مَقْرُونًا
بِزَوَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ ، ثُمَّ بِالضِّدِّ .
الْحَيَاءُ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْحَيَاءِ : اعْلَمْ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ
مَعَانٍ كَامِنَةٌ تُعْرَفُ بِسِمَاتٍ دَالَّةٍ كَمَا قَالَتْ الْعَرَبُ فِي
أَمْثَالِهَا : تُخْبِرُ عَنْ مَجْهُولِهِ مَرَآتُهُ وَكَمَا قَالَ سَلَمُ بْنُ
عَمْرٍو الشَّاعِرِ ، لَا تَسْأَلْ الْمَرْءَ عَنْ خَلَائِقِهِ فِي وَجْهِهِ
شَاهِدٌ مِنْ الْخَبَرِ فَسِمَةُ الْخَيْرِ الدَّعَةُ وَالْحَيَاءُ ، وَسِمَةُ
الشَّرِّ الْقِحَةُ وَالْبَذَاءُ .
وَكَفَى بِالْحَيَاءِ خَيْرًا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخَيْرِ دَلِيلًا ، وَكَفَى
بِالْقِحَةِ وَالْبَذَاءِ شَرًّا أَنْ يَكُونَا إلَى الشَّرِّ سَبِيلًا .
وَقَدْ رَوَى حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ
مِنْ الْإِيمَانِ ، وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنْ النِّفَاقِ } .
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعِيُّ فِي مَعْنَى الصَّمْتِ ، وَالْبَيَانُ فِي
مَعْنَى التَّشَادُقِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { إنَّ
أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ } .
وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْحَيَاءُ مِنْ
الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ ، وَالْبَذَاءُ مِنْ الْجَفَاءِ
وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ
النَّاسُ عَيْبَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : حَيَاةُ الْوَجْهِ بِحَيَائِهِ ، كَمَا أَنَّ
حَيَاةَ الْغَرْسِ بِمَائِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ الْعُلَمَاءُ : يَا عَجَبًا كَيْفَ لَا تَسْتَحْيِي
مِنْ كَثْرَةِ مَا لَا تَسْتَحْيِي وَتَبْقَى مِنْ طُولِ مَا لَا تَبْقَى .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ ، وَهُوَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : إذَا
قَلَّ مَاءُ الْوَجْهِ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَلَا خَيْرَ فِي وَجْهٍ إذَا قَلَّ
مَاؤُهُ حَيَاؤُك فَاحْفَظْهُ عَلَيْك وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ الْكَرِيمِ
حَيَاؤُهُ وَلَيْسَ لِمَنْ سُلِبَ الْحَيَاءَ صَادٌّ عَنْ قَبِيحٍ وَلَا زَاجِرٌ
عَنْ مَحْظُورٍ ، فَهُوَ يَقْدَمُ عَلَى مَا يَشَاءُ وَيَأْتِي مَا
يَهْوَى
، وَبِذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ .
رَوَى شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ رِبْعِيٍّ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْبَدْرِيِّ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِمَّا
أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى : يَا ابْنَ آدَمَ إذَا
لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ } .
وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ إغْرَاءً بِفِعْلِ الْمَعَاصِي عِنْدَ قِلَّةِ
الْحَيَاءِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ مَنْ جَهِلَ مَعَانِيَ الْكَلَامِ
وَمُوَاضَعَاتِ الْخِطَابِ ، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
إذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي وَلَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ
فَلَا وَاَللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ وَلَا الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ
الْحَيَاءُ يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ وَيَبْقَى الْعُودُ مَا
بَقِيَ اللِّحَاءُ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ ،
فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّاشِيُّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ : مَعْنَى
هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَحِ دَعَاهُ تَرْكُ الْحَيَاءِ إلَى أَنْ
يَعْمَلَ مَا يَشَاءُ لَا يَرْدَعُهُ عَنْهُ رَادِعٌ .
فَلِيَسْتَحِي الْمَرْءُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ يَرْدَعُهُ .
وَسَمِعْت مَنْ يَحْكِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ إذَا عُرِضَتْ عَلَيْك أَفْعَالُك الَّتِي
هَمَمْت بِفِعْلِهَا فَلَمْ تَسْتَحِ مِنْهَا لِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا فَاصْنَعْ
مَا شِئْت مِنْهَا .
فَجَعَلَ الْحَيَاءَ حَكَمًا عَلَى أَفْعَالِهِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَسَنٌ .
وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْرَجَ الذَّمِّ لَا مَخْرَجَ الْمَدْحِ .
لَكِنْ قَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ بِمَا يُضَاهِي الْقَوْلَ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا أَحْبَبْت أَنْ تَسْمَعَهُ أُذُنَاك
فَأْتِهِ ، وَمَا كَرِهْت أَنْ تَسْمَعَهُ أُذُنَاك فَاجْتَنِبْهُ } .
وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْمَعْنَى الصَّرِيحِ فِيهِ
وَيَكُونُ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ أَصَحَّ إذْ
لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهَا مُتَّفِقَةَ الْمَعَانِي بَلْ اخْتِلَافُ
مَعَانِيهَا أَدْخَلُ فِي الْحِكْمَةِ وَأَبْلَغُ فِي الْفَصَاحَةِ إذَا لَمْ
يُضَادَّ بَعْضُهَا بَعْضًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَيَاءَ فِي الْإِنْسَانِ قَدْ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ : أَحَدِهَا : حَيَاؤُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى .
وَالثَّانِي : حَيَاؤُهُ مِنْ النَّاسِ .
وَالثَّالِثِ : حَيَاؤُهُ مِنْ نَفْسِهِ .
فَأَمَّا حَيَاؤُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ
وَالْكَفِّ عَنْ زَوَاجِرِهِ .
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ .
فَقِيلَ : يَا رَسُولُ اللَّهِ فَكَيْفَ نَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
حَقَّ الْحَيَاءِ ؟ قَالَ : مَنْ حَفِظَ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى ، وَالْبَطْنَ
وَمَا وَعَى ، وَتَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ، وَذَكَرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ،
فَقَدْ اسْتَحَى مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ } .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَبْلَغِ الْوَصَايَا .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ ، مُصَنِّفُ الْكِتَابِ : رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ ذَاتَ لَيْلَةٍ
فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي : فَقَالَ : اسْتَحِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ .
ثُمَّ قَالَ : تَغَيَّرَ النَّاسُ .
قُلْتُ : وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : كُنْتُ أَنْظُرُ إلَى
الصَّبِيِّ فَأَرَى مِنْ وَجْهِهِ الْبِشْرَ وَالْحَيَاءَ ، وَأَنَا أَنْظُرُ
إلَيْهِ الْيَوْمَ فَلَا أَرَى ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ .
ثُمَّ تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَصَايَا وَعِظَاتٍ تَصَوَّرْتُهَا ،
وَأَذْهَلَنِي السُّرُورُ عَنْ حِفْظِهَا وَوَدِدْت أَنِّي لَوْ حَفِظْتهَا .
فَلَمْ يَبْدَأْ بِشَيْءٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ
بِالْحَيَاءِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَجَعَلَ مَا سَلَبَهُ الصَّبِيُّ مِنْ
الْبِشْرِ وَالْحَيَاءِ سَبَبًا لِتَغَيُّرِ النَّاسِ ، وَخَصَّ الصَّبِيَّ ؛
لِأَنَّ مَا يَأْتِيهِ بِالطَّبْعِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ .
فَصَلَّى اللَّهَ وَسَلِمْ عَلَى مَنْ هَدَى أُمَّتَهُ ، وَتَابَعَ إنْذَارَهَا ،
وَقَطَعَ
أَعْذَارَهَا ، وَأَوْصَلَ تَأْدِيبَهَا ، وَحَفِظَ تَهْذِيبَهَا ، وَجَعَلَ
لِكُلِّ عَصْرٍ حَظًّا مِنْ زَوَاجِرِهِ ، وَنَصِيبًا مِنْ أَوَامِرِهِ .
أَعَانَنَا اللَّهُ عَلَى قَبُولِهَا بِالْعَمَلِ ، وَعَلَى اسْتِدَامَتِهَا
بِالتَّوْفِيقِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
عِظْنِي .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَحِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
اسْتِحْيَاءَك مِنْ ذَوِي الْهَيْبَةِ مِنْ قَوْمِك } .
وَهَذَا الْحَيَاءُ يَكُونُ مِنْ قُوَّةِ الدَّيْنِ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قِلَّةُ
الْحَيَاءِ كُفْرٌ } .
يَعْنِي مِنْ اللَّهِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَيَاءُ نِظَامُ الْإِيمَانِ
فَإِذَا انْحَلَّ نِظَامُ الشَّيْءِ تَبَدَّدَ مَا فِيهِ وَتَفَرَّقَ } .
وَأَمَّا حَيَاؤُهُ مِنْ النَّاسِ فَيَكُونُ بِكَفِّ الْأَذَى وَتَرْكِ
الْمُجَاهَرَةِ بِالْقَبِيحِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ اتَّقَى النَّاسَ } .
وَرُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ أَتَى الْجُمُعَةَ فَوَجَدَ النَّاسَ
قَدْ انْصَرَفُوا فَتَنْكَبَّ الطَّرِيقَ عَنْ النَّاسِ ، وَقَالَ : لَا خَيْرَ
فِيمَنْ لَا يَسْتَحِي مِنْ النَّاسِ .
وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ : وَلَقَدْ أَصْرِفُ الْفُؤَادَ عَنْ الشَّيْءِ
حَيَاءً وَحُبُّهُ فِي السَّوَادِ أُمْسِكُ النَّفْسَ بِالْعَفَافِ وَأُمْسِي
ذَاكِرًا فِي غَدٍ حَدِيثَ الْأَعَادِي وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَيَاءِ قَدْ
يَكُونُ مِنْ كَمَالِ الْمُرُوءَةِ وَحُبِّ الثَّنَاءِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ
الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ } .
يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِقِلَّةِ مُرُوءَتِهِ ، وَظُهُورِ شَهْوَتِهِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ مُرُوءَةَ الرَّجُلِ مَمْشَاهُ وَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ
وَمَجْلِسُهُ وَإِلْفُهُ وَجَلِيسُهُ } .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَرُبَّ قَبِيحَةٍ مَا حَالَ بَيْنِي
وَبَيْنَ
رُكُوبِهَا إلَّا الْحَيَاءُ إذَا رُزِقَ الْفَتَى وَجْهًا وَقَاحًا تَقَلَّبَ فِي
الْأُمُورِ كَمَا يَشَاءُ وَقَالَ آخَرُ : إذَا لَمْ تَصُنْ عِرْضًا وَلَمْ تَخْشَ
خَالِقًا وَتَسْتَحِي مَخْلُوقًا فَمَا شِئْت فَاصْنَعْ وَأَمَّا حَيَاؤُهُ مِنْ
نَفْسِهِ فَيَكُونُ بِالْعِفَّةِ وَصِيَانَةِ الْخَلَوَاتِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لِيَكُنْ اسْتِحْيَاؤُك مِنْ نَفْسِك أَكْثَرَ مِنْ
اسْتِحْيَائِك مِنْ غَيْرِك .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ عَمِلَ فِي السِّرِّ عَمَلًا يَسْتَحِي مِنْهُ
فِي الْعَلَانِيَةِ فَلَيْسَ لِنَفْسِهِ عِنْدَهُ قَدْرٌ .
وَدَعَا قَوْمٌ رَجُلًا كَانَ يَأْلَفُ عِشْرَتَهُمْ ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ ،
وَقَالَ : إنِّي دَخَلْت الْبَارِحَةَ فِي الْأَرْبَعِينَ وَأَنَا أَسْتَحِي مِنْ
سِنِي .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : فَسِرِّي كَإِعْلَانِي وَتِلْكَ خَلِيقَتِي
وَظُلْمَةُ لَيْلِي مِثْلُ ضَوْءِ نَهَارِي وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَيَاءِ
قَدْ يَكُونُ مِنْ فَضِيلَةِ النَّفْسِ وَحُسْنِ السَّرِيرَةِ .
فَمَتَى كَمُلَ حَيَاءُ الْإِنْسَانِ مِنْ وُجُوهِهِ الثَّلَاثَةِ ، فَقَدْ
كَمُلَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْخَيْرِ ، وَانْتَفَتْ عَنْهُ أَسْبَابُ الشَّرِّ ،
وَصَارَ بِالْفَضْلِ مَشْهُورًا ، وَبِالْجَمِيلِ مَذْكُورًا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَإِنِّي لِيُثْنِيَنِي عَنْ الْجَهْلِ وَالْخَنَى
وَعَنْ شَتْمِ ذِي الْقُرْبَى خَلَائِقُ أَرْبَعُ حَيَاءٌ وَإِسْلَامٌ وَتَقْوَى
وَطَاعَةٌ لِرَبِّي وَمِثْلِي مَنْ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ وَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ
وُجُوهِ الْحَيَاءِ لَحِقَهُ مِنْ النَّقْصِ بِإِخْلَالِهِ بِقَدْرِ مَا كَانَ
يَلْحَقُهُ مِنْ الْفَضْلِ بِكَمَالِهِ .
وَقَدْ قَالَ الرِّيَاشِيُّ : يُقَالُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الشَّعْرِ : وَحَاجَةٌ دُونَ أُخْرَى
قَدْ سَخَتْ لَهَا جَعَلْتُهَا لِلَّتِي أَخْفَيْتُ عُنْوَانَا إنِّي كَأَنِّي
أَرَى مَنْ لَا حَيَاءَ لَهُ وَلَا أَمَانَةَ وَسْطَ الْقَوْمِ عُرْيَانَا
الْحِلْمُ
وَالْغَضَبُ الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الْحِلْمِ وَالْغَضَبِ : رَوَى مُحَمَّدُ
بْنُ حَارِثٍ الْهِلَالِيُّ { أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إنِّي أَتَيْتُك بِمَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } .
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ : يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا قَالَ
: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ .
ثُمَّ عَادَ جِبْرِيلُ ، وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إنَّ رَبَّك يَأْمُرُك أَنْ
تَصِلَ مَنْ قَطَعَك ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ }
.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ كَانَ
إذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي
عَلَى عِبَادِك } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَلِيمَ الْحَيِيَّ ، وَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءُ }
.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ حَلِمَ سَادَ ، وَمَنْ
تَفَهَّمَ ازْدَادَ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ غَرَسَ شَجَرَةَ الْحِلْمِ اجْتَنَى ثَمَرَةَ
السِّلْمِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَا ذَبٌّ عَنْ الْأَعْرَاضِ كَالصَّفْحِ
وَالْإِعْرَاضِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ جَهْدِي وَأَكْرَهُ
أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا وَأَصْفَحُ عَنْ سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا وَشَرُّ
النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السِّبَابَا وَمَنْ هَابَ الرِّجَالَ تَهَيَّبُوهُ وَمَنْ
حَقَرَ الرِّجَالَ فَلَنْ يُهَابَا فَالْحِلْمُ مِنْ أَشْرَفِ الْأَخْلَاقِ
وَأَحَقِّهَا بِذَوِي الْأَلْبَابِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ سَلَامَةِ الْعِرْضِ
وَرَاحَةِ الْجَسَدِ وَاجْتِلَابِ الْحَمْدِ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : أَوَّلُ
عِوَضِ الْحَلِيمِ عَنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ أَنْصَارُهُ .
وَحَدُ الْحِلْمِ ضَبْطُ النَّفْسِ عَنْ
هَيَجَانِ
الْغَضَبِ .
وَهَذَا يَكُونُ عَنْ بَاعِثٍ وَسَبَبٍ .
وَأَسْبَابُ الْحِلْمِ الْبَاعِثَةُ عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ عَشَرَةٌ : أَحَدُهَا
: الرَّحْمَةُ لِلْجُهَّالِ وَذَلِكَ مِنْ خَيْرٍ يُوَافِقُ رِقَّةً .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مِنْ أَوْكَدِ الْحِلْمِ رَحْمَةُ
الْجُهَّالِ .
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَجُلٍ أَسْمَعَهُ كَلَامًا :
يَا هَذَا لَا تُغْرِقَنَّ فِي سَبِّنَا ، وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا ، فَإِنَّا
لَا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ .
وَشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ : إنْ كُنْت مَا قُلْت فَغَفَرَ اللَّهُ لِي
، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا قُلْت فَغَفَرَ اللَّهُ لَك .
وَاغْتَاظَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى خَادِمٍ لَهَا ثُمَّ
رَجَعَتْ إلَى نَفْسِهَا فَقَالَتْ : لِلَّهِ دَرُّ التَّقْوَى مَا تَرَكَتْ لِذِي
غَيْظٍ شِفَاءً .
وَقَسَّمَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِطَافًا فَأَعْطَى شَيْخًا مِنْ
أَهْلِ دِمَشْقَ قَطِيفَةً فَلَمْ تُعْجِبْهُ ، فَحَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ بِهَا
رَأْسَ مُعَاوِيَةَ .
فَأَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ : أَوْفِ بِنَذْرِك وَلْيَرْفُقْ
الشَّيْخُ بِالشَّيْخِ .
وَالثَّانِي : مِنْ أَسْبَابِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الِانْتِصَارِ وَذَلِكَ مِنْ
سَعَةِ الصَّدْرِ وَحُسْنِ الثِّقَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ إذَا قَدَرْت عَلَى عَدُوِّك فَاجْعَلْ الْعَفْوَ شُكْرًا لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ
} .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَيْسَ مِنْ الْكَرَمِ عُقُوبَةُ مَنْ لَا يَجِدْ
امْتِنَاعًا مِنْ السَّطْوَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : أَحْسَنُ الْمَكَارِمِ عَفْوُ الْمُقْتَدِرِ ،
وُجُودُ الْمُفْتَقِرِ .
وَالثَّالِثُ : مِنْ أَسْبَابِهِ : التَّرَفُّعُ عَنْ السِّبَابِ وَذَلِكَ مِنْ
شَرَفِ النَّفْسِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ .
كَمَا قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : شَرَفُ النَّفْسِ أَنْ تَحْمِلَ الْمَكَارِهَ كَمَا
تَحْمِلُ الْمَكَارِمَ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
سَيِّدًا لِحِلْمِهِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : لَا يَبْلُغُ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ
وَإِنْ
كَرَمُوا حَتَّى يَذِلُّوا وَإِنْ عَزُّوا لِأَقْوَامِ وَيَشْتُمُوا فَتَى
الْأَلْوَانِ مُسْفِرَةً لَا صَفْحَ ذُلٍّ وَلَكِنْ صَفْحَ أَحْلَامِ وَالرَّابِعُ
مِنْ أَسْبَابِهِ : الِاسْتِهَانَةُ بِالْمُسِيءِ وَذَلِكَ عَنْ ضَرْبٍ مِنْ
الْكِبْرِ وَالْإِعْجَابِ ، مَا حُكِيَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ
لَمَّا وَلِيَ الْعِرَاقَ جَلَسَ يَوْمًا لِعَطَاءِ الْجُنْدِ وَأَمَرَ
مُنَادِيَهُ فَنَادَى أَيْنَ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ
أَبَاهُ الزُّبَيْرُ ، فَقِيلَ لَهُ : أَيُّهَا الْأَمِيرُ إنَّهُ قَدْ تَبَاعَدَ
فِي الْأَرْضِ .
فَقَالَ : أَوَيَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنِّي أُقِيدُهُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ؟
فَلْيَظْهَرْ آمِنًا لِيَأْخُذَ عَطَاءَهُ مُوَفَّرًا .
فَعَدَّ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ مُسْتَحْسَنِ الْكِبْرِ .
وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الزُّعَمَاءِ فِي شِعْرِهِ : أَوَكُلَّمَا طَنَّ
الذُّبَابُ طَرَدْتُهُ إنَّ الذُّبَابَ إذًا عَلَيَّ كَرِيمُ وَأَكْثَرُ رَجُلٌ
مِنْ سَبِّ الْأَحْنَفِ وَهُوَ لَا يُجِيبُهُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا مَنَعَهُ
مِنْ جَوَابِي إلَّا هَوَانِي عَلَيْهِ .
وَفِي مِثْلِهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ : نَجَا بِكَ لُؤْمُكَ مَنْجَى الذُّبَابِ
حَمَتْهُ مَقَاذِيرُهُ أَنْ يُنَالَا وَأَسْمَعَ رَجُلٌ ابْنَ هُبَيْرَةَ
فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : إيَّاكَ أَعَنَى .
فَقَالَ لَهُ : وَعَنْك أُعْرِضْ .
وَفِي مِثْلِهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ : فَاذْهَبْ فَأَنْتَ طَلِيقُ عِرْضِكَ إنَّهُ
عِرْضٌ عَزَزْتَ بِهِ وَأَنْتَ ذَلِيلُ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ : إذَا
نَطَقَ السَّفِيهُ فَلَا تُجِبْهُ فَخَيْرٌ مِنْ إجَابَتِهِ السُّكُوتُ سَكَتُّ
عَنْ السَّفِيهِ فَظَنَّ أَنِّي عَيِيتُ عَنْ الْجَوَابِ وَمَا عَيِيتُ
وَالْخَامِسُ مِنْ أَسْبَابِهِ : الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ جَزَاءِ الْجَوَابِ .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ صِيَانَةِ النَّفْسِ وَكَمَالِ الْمُرُوءَةِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : احْتِمَالُ السَّفِيهِ خَيْرٌ مِنْ
التَّحَلِّي بِصُورَتِهِ ، وَالْإِغْضَاءُ عَنْ الْجَاهِلِ خَيْرٌ مِنْ
مُشَاكَلَتِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَا أَفْحَشَ حَلِيمٌ وَلَا أَوْحَشَ كَرِيمٌ .
وَقَالَ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ : وَقُلْ لِبَنِي سَعْدٍ فَمَا لِي وَمَا لَكُمْ
تُرِقُّونَ
مِنِّي مَا اسْتَطَعْتُمْ وَأَعْتِقُ أَغَرَّكُمْ أَنِّي بِأَحْسَنِ شِيمَةٍ
بَصِيرٌ وَأَنِّي بِالْفَوَاحِشِ أَخْرَقُ وَإِنْ تَكُ قَدْ فَاحَشْتَنِي
فَقَهَرْتَنِي هَنِيئًا مَرِيئًا أَنْتَ بِالْفُحْشِ أَحْذَقُ .
وَالسَّادِسُ مِنْ أَسْبَابِهِ : التَّفَضُّلُ عَلَى السِّبَابِ .
فَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْكَرَمِ وَحُبِّ التَّأَلُّفِ ، كَمَا قِيلَ
لِلْإِسْكَنْدَرِ : إنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا يُنْقِصَانِك وَيَثْلُبَانِكَ فَلَوْ
عَاقَبْتَهُمَا .
فَقَالَ : هُمَا بَعْدَ الْعُقُوبَةِ أَعْذَرُ فِي تَنَقُّصِي وَثَلْبِي .
فَكَانَ هَذَا تَفَضُّلًا مِنْهُ وَتَأَلُّفًا .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ : مَا عَادَانِي أَحَدٌ
قَطُّ إلَّا أَخَذْت فِي أَمْرِهِ بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ : إنْ كَانَ أَعْلَى
مِنِّي عَرَفْت لَهُ قَدْرَهُ ، وَإِنْ كَانَ دُونِي رَفَعْت قَدْرِي عَنْهُ ،
وَإِنْ كَانَ نَظِيرِي تَفَضَّلْت عَلَيْهِ .
فَأَخَذَهُ الْخَلِيلُ ، فَنَظَمَهُ شِعْرًا فَقَالَ : سَأُلْزِمُ نَفْسِي
الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ إلَيَّ الْجَرَائِمُ فَمَا
النَّاسُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ شَرِيفٌ وَمَشْرُوفٌ وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ
فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ وَأَتْبَعُ فِيهِ الْحَقَّ
وَالْحَقُّ لَازِمُ وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَأَحْلُمُ دَائِبًا أَصُونُ بِهِ
عِرْضِي وَإِنْ لَامَ لَائِمُ وَأَمَّا الَّذِي مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا
تَفَضَّلْت إنَّ الْفَضْلَ بِالْفَخْرِ حَاكِمُ .
وَالسَّابِعُ مِنْ أَسْبَابِهِ : اسْتِنْكَافُ السِّبَابِ وَقَطْعُ السِّبَابِ .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْحَزْمِ ، كَمَا حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِضِرَارِ
بْنِ الْقَعْقَاعِ : وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت وَاحِدَةً لَسَمِعْت عَشْرًا .
فَقَالَ لَهُ ضِرَارٌ : وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً .
وَحُكِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ
لِعَامِرِ بْنِ مُرَّةَ الزُّهْرِيِّ : مَنْ أَحْمَقُ النَّاسِ ؟ قَالَ : مَنْ
ظَنَّ أَنَّهُ أَعْقَلُ النَّاسِ .
قَالَ : صَدَقْت ، فَمَنْ أَعْقَلُ النَّاسِ ؟ قَالَ مَنْ لَمْ يَتَجَاوَزْ الصَّمْتَ
فِي عُقُوبَةِ الْجُهَّالِ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : مَا أَدْرَكْت أُمِّي
فَأَبَرُّهَا
، وَلَكِنْ لَا أَسُبُّ أَحَدًا فَيَسُبُّهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : فِي إعْرَاضِك صَوْنُ أَعْرَاضِك .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَفِي الْحِلْمِ رَدْعٌ لِلسَّفِيهِ عَنْ الْأَذَى
وَفِي الْخَرْقِ إغْرَاءٌ فَلَا تَكُ أَخْرَقَا فَتَنْدَمَ إذْ لَا تَنْفَعَنَّكَ
نَدَامَةٌ كَمَا نَدِمَ الْمَغْبُونُ لَمَّا تَفَرَّقَا وَقَالَ آخَرُ : قُلْ مَا
بَدَا لَك مِنْ زُورٍ وَمِنْ كَذِبِ حِلْمِي أَصَمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءِ .
وَالثَّامِنُ مِنْ أَسْبَابِهِ : الْخَوْفُ مِنْ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْجَوَابِ .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ وَرُبَّمَا أَوْجَبَهُ الرَّأْيُ
وَاقْتَضَاهُ الْحَزْمُ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْحِلْمُ حِجَابُ الْآفَاتِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : اُرْفُقْ إذَا خِفْتَ مِنْ ذِي هَفْوَةٍ خَرَقًا لَيْسَ
الْحَلِيمُ كَمَنْ فِي أَمْرِهِ خَرَقُ .
وَالتَّاسِعُ مِنْ أَسْبَابِهِ : الرِّعَايَةُ لِيَدٍ سَالِفَةٍ ، وَحُرْمَةٍ
لَازِمَةٍ .
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْوَفَاءِ وَحُسْنِ الْعَهْدِ ، وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ
الْحِكَمِ : أَكْرَمُ الشِّيَمِ أَرْعَاهَا لِلذِّمَمِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إنَّ الْوَفَاءَ عَلَى الْكَرِيمِ فَرِيضَةٌ وَاللُّؤْمُ
مَقْرُونٌ بِذِي الْإِخْلَافِ وَتَرَى الْكَرِيمَ لِمَنْ يُعَاشِرُ مُنْصِفًا
وَتَرَى اللَّئِيمَ مُجَانِبَ الْإِنْصَافِ .
وَالْعَاشِرُ مِنْ أَسْبَابِهِ : الْمَكْرُ وَتَوَقُّعُ الْفُرَصِ الْخَلْفِيَّةِ
.
وَهَذَا يَكُونُ مِنْ الدَّهَاءِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ ظَهَرَ غَضَبُهُ قَلَّ كَيْدُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : غَضَبُ الْجَاهِلِ فِي قَوْلِهِ ، وَغَضَبُ
الْعَاقِلِ فِي فِعْلِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إذَا سَكَتَّ عَنْ الْجَاهِلِ فَقَدْ أَوْسَعْتَهُ
جَوَابًا وَأَوْجَعْتَهُ عِقَابًا .
وَقَالَ إيَاسُ بْنُ قَتَادَةَ : تُعَاقِبُ أَيْدِينَا وَيَحْلُمُ رَأْيُنَا
وَنَشْتُمُ بِالْأَفْعَالِ لَا بِالتَّكَلُّمِ وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ :
وَلَلْكَفُّ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمًا أَضَرُّ لَهُ مِنْ شَتْمِهِ حِينَ
يَشْتُمُ .
فَهَذِهِ عَشْرَةُ أَسْبَابٍ تَدْعُو إلَى الْحِلْمِ .
وَبَعْضُ الْأَسْبَابِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ .
وَلَيْسَ إذَا كَانَ بَعْضُ أَسْبَابِهِ
مَفْضُولًا
مَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نَتِيجَتُهُ مِنْ الْحِلْمِ مَذْمُومَةً .
وَأَمَّا الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَهُ لَلْحِلْمِ أَفْضَلُ
أَسْبَابِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْحِلْمُ كُلُّهُ فَضْلًا .
وَإِنْ عَرِيَ عَنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ كَانَ ذُلًّا وَلَمْ يَكُنْ
حِلْمًا ، لِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا فِي حَدِّ الْحِلْمِ أَنَّهُ ضَبْطُ
النَّفْسِ عَنْ هَيَجَانِ الْغَضَبِ ، فَإِذَا فَقَدَ الْغَضَبَ لِسَمَاعِ مَا
يُغْضِبُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ذُلِّ النَّفْسِ وَقِلَّةِ الْحَمِيَّةِ .
وَقَدْ قَالَ الْحُكَمَاءُ : ثَلَاثَةٌ لَا يُعْرَفُونَ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ
مَوَاطِنَ : لَا يُعْرَفُ الْجَوَادُ إلَّا فِي الْعُسْرَةِ ، وَالشُّجَاعُ إلَّا
فِي الْحَرْبِ ، وَالْحَلِيمُ إلَّا فِي الْغَضَبِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : لَيْسَتْ الْأَحْلَامُ فِي حَالِ الرِّضَى إنَّمَا
الْأَحْلَامُ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَقَالَ آخَرُ : مَنْ يَدَّعِي الْحِلْمَ
أَغْضِبْهُ لِتَعْرِفَهُ لَا يُعْرَفُ الْحِلْمُ إلَّا سَاعَةَ الْغَضَبِ
وَأَنْشَدَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَلَا خَيْرَ فِي حِلْمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَادِرُ
تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا وَلَا خَيْرَ فِي جَهْلٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ
حَلِيمٌ إذَا مَا أَوْرَدَ الْأَمْرَ أَصْدَرَا فَلَمْ يُنْكِرْ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ .
وَمَنْ فَقَدَ الْغَضَبَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُغْضِبَةِ حَتَّى اسْتَوَتْ
حَالَتَاهُ قَبْلَ الْإِغْضَابِ وَبَعْدَهُ ، فَقَدْ عَدِمَ مِنْ فَضَائِلِ
النَّفْسِ الشَّجَاعَةَ ، وَالْأَنَفَةَ ، وَالْحَمِيَّةَ ، وَالْغَيْرَةَ ،
وَالدِّفَاعَ ، وَالْأَخْذَ بِالثَّأْرِ ؛ لِأَنَّهَا خِصَالٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ
الْغَضَبِ .
فَإِذَا عَدِمَهَا الْإِنْسَانُ هَانَ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِبَاقِي فَضَائِلِهِ
فِي النُّفُوسِ مَوْضِعٌ ، وَلَا لِوُفُورِ حِلْمِهِ فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعٌ .
وَقَدْ قَالَ الْمَنْصُورُ : إذَا كَانَ الْحِلْمُ مَفْسَدَةً كَانَ الْعَفْوُ
مَعْجَزَةً .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَفْوُ يُفْسِدُ مِنْ اللَّئِيمِ بِقَدْرِ
إصْلَاحِهِ مِنْ الْكَرِيمِ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : أَكْرِمُوا سُفَهَاءَكُمْ فَإِنَّهُمْ
يَقُونَكُمْ
الْعَارَ
وَالشَّنَارَ .
وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ : مَا قَلَّ سُفَهَاءُ قَوْمٍ إلَّا ذَلُّوا .
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : وَالْحَرْبُ تَرْكَبُ رَأْسَهَا فِي
مَشْهَدٍ عَدْلُ السَّفِيهِ بِهِ بِأَلْفِ حَلِيمِ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ
إغْرَاءٌ بِتَحَكُّمِ الْغَضَبِ وَالِانْقِيَادِ إلَيْهِ عِنْدَ حُدُوثِ مَا
يُغْضِبُ ، فَيَكْسِبُ بِالِانْقِيَادِ لِلْغَضَبِ مِنْ الرَّذَائِلِ أَكْثَرَ
مِمَّا يَسْلُبُهُ عَدَمُ الْغَضَبِ مِنْ الْفَضَائِلِ .
وَلَكِنْ إذَا ثَارَ بِهِ الْغَضَبُ عِنْدَ هُجُومِ مَا يُغْضِبُهُ كَفَّ
سَوْرَتَهُ بِحَزْمِهِ ، وَأَطْفَأَ ثَائِرَتَهُ بِحِلْمِهِ ، وَوَكَّلَ مَنْ
اسْتَحَقَّ الْمُقَابَلَةَ إلَى غَيْرِهِ .
وَلَمْ يَعْدَمْ مُسِيئًا مُكَافِيًا كَمَا لَمْ يَعْدَمْ مُحْسِنًا مُجَازِيًا .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : دَخَلَ بَيْتًا مَا أُخْرِجَ مِنْهُ .
أَيْ إنْ أُخْرِجَ مِنْهُ خَيْرٌ دَخَلَهُ خَيْرٌ ، وَإِنْ أُخْرِجَ مِنْهُ شَرٌّ
دَخَلَهُ شَرٌّ .
وَأَنْشَدَ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ : إذَا أَمِنَ الْجُهَّالُ جَهْلَك
مَرَّةً فَعِرْضُك لِلْجُهَّالِ غُنْمٌ مِنْ الْغُنْمِ فَعَمِّ عَلَيْهِ الْحِلْمَ
وَالْجَهْلَ وَالْقِهِ بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْعَدَاوَةِ وَالسِّلْمِ إذَا أَنْتَ
جَازَيْت السَّفِيهَ كَمَا جَزَى فَأَنْتَ سَفِيهٌ مِثْلُهُ غَيْرُ ذِي حِلْمِ
وَلَا تُغْضِبَنَّ عِرْضَ السَّفِيهِ وَدَارِهِ بِحِلْمٍ فَإِنْ أَعْيَا
عَلَيْكُمْ فَبِالصَّرْمِ فَيَرْجُوك تَارَاتٍ وَيَخْشَاك تَارَةً وَيَأْخُذُ
فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بِالْحَزْمِ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ بُدًّا مِنْ الْجَهْلِ
فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِجُهَّالٍ فَذَاكَ مِنْ الْعَزْمِ وَهَذِهِ مِنْ أَحْكَمِ
أَبْيَاتٍ وَجَدْتُهَا فِي تَدْبِيرِ الْحِلْمِ وَالْغَضَبِ .
وَهَذَا التَّدْبِيرُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ بُدًّا
مِنْ مُقَارَنَتِهِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إطْرَاحِهِ وَمُتَارَكَتِهِ ، إمَّا
لِخَوْفِ شَرِّهِ أَوْ لِلُّزُومِ أَمْرِهِ .
فَأَمَّا مَنْ أَمْكَنَ إطْرَاحُهُ وَلَمْ يَضُرَّ إبْعَادُهُ ، فَالْهَوَانُ بِهِ
أَوْلَى وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ أَصْوَبُ .
فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْتُ اسْتَفَادَ بِتَحْرِيكِ الْغَضَبِ فَضَائِلَهُ
وَأَمِنَ بِكَفِّ نَفْسِهِ عَنْ الِانْقِيَادِ لَهُ
رَذَائِلَهُ
، وَصَارَ الْحِلْمُ مُدَبِّرًا لِلْأُمُورِ الْمُغْضِبَةِ بِقَدْرٍ لَا
يَعْتَرِيهِ نَقْصٌ بِعَدَمِ الْغَضَبِ ، وَلَا يَلْحَقُهُ زِيَادَةٌ بِفَقْدِ
الْحِلْمِ .
وَلَوْ عَزَبَ عَنْهُ الْحِلْمُ حَتَّى انْقَادَ لِغَضَبِهِ ضَلَّ عَنْهُ وَجْهُ
الصَّوَابِ فِيهِ ، وَضَعُفَ رَأْيُهُ عَنْ خِيرَةِ أَسْبَابِهِ وَدَوَاعِيهِ ،
حَتَّى يَصِيرَ بَلِيدَ الرَّأْيِ ، مَغْمُورَ الرَّوِيَّةِ ، مَقْطُوعَ
الْحُجَّةِ ، مَسْلُوبَ الْعَزَاءِ ، قَلِيلَ الْحِيلَةِ ، مَعَ مَا يَنَالُهُ
مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَجَسَدِهِ حَتَّى يَصِيرَ أَضَرَّ عَلَيْهِ
مِمَّا غَضِبَ لَهُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ كَثُرَ شَطَطُهُ كَثُرَ غَلَطُهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ سَلْمَانَ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا الَّذِي
يُبَاعِدُنِي عَنْ غَضَبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ : لَا تَغْضَبْ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ ، إذَا غَضِبَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءُ : مَنْ رَدَّ غَضَبَهُ هَدَّ مَنْ أَغْضَبَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَا هَيَّجَ جَأْشَك كَغَيْظٍ أَجَاشَكَ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ عِظْنِي .
قَالَ : لَا تَغْضَبْ .
فَيَنْبَغِي لِذِي اللُّبِّ السَّوِيِّ وَالْحَزْمِ الْقَوِيِّ أَنْ يَتَلَقَّى
قُوَّةَ الْغَضَبِ بِحِلْمِهِ فَيَصُدَّهَا ، وَيُقَابِلَ دَوَاعِيَ شِرَّتِهِ
بِحَزْمِهِ فَيَرُدُّهَا ، لِيَحْظَى بِأَجَلِّ الْخِبْرَةِ وَيَسْعَدَ بِحَمِيدِ
الْعَاقِبَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : فِي إغْضَابِك رَاحَةُ أَعْصَابِك .
وَسَبَبُ الْغَضَبِ هُجُومُ مَا تَكْرَهُهُ النَّفْسُ مِمَّنْ دُونَهَا ، وَسَبَبُ
الْحُزْنِ هُجُومُ مَا تَكْرَهُهُ النَّفْسُ مِمَّنْ فَوْقَهَا .
وَالْغَضَبُ يَتَحَرَّكُ مِنْ دَاخِلِ الْجَسَدِ إلَى خَارِجِهِ ، وَالْحُزْنُ
يَتَحَرَّك مِنْ خَارِجِ الْجَسَدِ إلَى دَاخِلِهِ .
فَلِذَلِكَ قَتَلَ الْحُزْنُ وَلَمْ يَقْتُلْ الْغَضَبُ لِبُرُوزِ الْغَضَبِ
وَكُمُونِ الْحُزْنِ .
وَصَارَ الْحَادِثُ عَنْ الْغَضَبِ السَّطْوَةَ وَالِانْتِقَامَ لِبُرُوزِهِ ، وَالْحَادِثُ
عَنْ الْحُزْنِ الْمَرَضَ وَالْأَسْقَامَ لِكُمُونِهِ .
وَلِذَلِكَ أَفْضَى الْحُزْنُ إلَى الْمَوْتِ وَلَمْ يُفِضْ
إلَيْهِ
الْغَضَبُ .
فَهَذَا فَرْقٌ مَا بَيْنَ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ .
وَاعْلَمْ
أَنَّ لِتَسْكِينِ الْغَضَبِ إذَا هَجَمَ أَسْبَابًا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى
الْحِلْمِ مِنْهَا : أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ إلَى
الْخَوْفِ مِنْهُ ، وَيَبْعَثُهُ الْخَوْفُ مِنْهُ عَلَى الطَّاعَةِ لَهُ ،
فَيَرْجِعُ إلَى أَدَبِهِ وَيَأْخُذُ بِنَدْبِهِ .
فَعِنْدَ ذَلِكَ يَزُولُ الْغَضَبُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيتَ } قَالَ عِكْرِمَةُ :
يَعْنِي إذَا غَضِبْتَ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ
فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ } وَمَعْنَى قَوْلِهِ يَنْزَغَنَّكَ أَيْ يُغْضِبَنَّكَ ،
فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يَعْنِي أَنَّهُ
سَمِيعٌ بِجَهْلِ مَنْ جَهِلَ ، عَلِيمٌ بِمَا يُذْهِبُ عَنْك الْغَضَبَ .
وَذُكِرَ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا يَا ابْنَ آدَمَ اُذْكُرْنِي حِينَ
تَغْضَبُ أَذْكُرُك حِينَ أَغْضَبُ ، فَلَا أَمْحَقُك فِيمَنْ أَمْحَقُ .
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْفُرْسِ كَتَبَ كِتَابًا وَدَفَعَهُ إلَى وَزِيرٍ
لَهُ وَقَالَ : إذَا غَضِبْتُ فَنَاوِلْنِيهِ .
وَكَانَ فِيهِ : مَا لَك وَالْغَضَبُ إنَّمَا أَنْتَ بَشَرٌ ، ارْحَمْ مَنْ فِي
الْأَرْضِ يَرْحَمْك مَنْ فِي السَّمَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ ذَكَرَ قُدْرَةَ اللَّهِ لَمْ يَسْتَعْمِلْ
قُدْرَتَهُ فِي ظُلْمِ عِبَادِ اللَّهِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ مُحَارِبٍ لِهَارُونَ الرَّشِيدِ : يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَسْأَلُك بِاَلَّذِي أَنْتَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَذَلُّ
مِنِّي بَيْنَ يَدَيْك ، وَبِاَلَّذِي هُوَ أَقْدَرُ عَلَى عِقَابِك مِنْك عَلَى
عِقَابِي لَمَا عَفَوْتَ عَنِّي .
فَعَفَا عَنْهُ لَمَّا ذَكَّرَهُ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَرُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا شَكَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْقَسْوَةَ فَقَالَ : اطَّلِعْ فِي الْقُبُورِ وَاعْتَبِرْ
بِالنُّشُورِ } .
وَكَانَ بَعْضُ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ إذَا غَضِبَ أُلْقِيَ عِنْدَهُ مَفَاتِيحُ
تُرَبِ الْمُلُوكِ فَيَزُولُ غَضَبُهُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنْ الدُّنْيَا
بِالْيَسِيرِ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ
الْحَالَةِ
الَّتِي هُوَ فِيهَا إلَى حَالَةٍ غَيْرِهَا ، فَيَزُولُ عَنْهُ الْغَضَبُ
بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَالتَّنَقُّلِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ .
وَكَانَ هَذَا مَذْهَبَ الْمَأْمُونِ إذَا غَضِبَ أَوْ شُتِمَ .
وَكَانَتْ الْفُرْسُ تَقُولُ : إذَا غَضِبَ الْقَائِمُ فَلْيَجْلِسْ وَإِذَا
غَضِبَ الْجَالِسُ فَلْيَقُمْ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَتَذَكَّرَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ الْغَضَبُ مِنْ النَّدَمِ
وَمَذَمَّةِ الِانْتِقَامِ .
وَكَتَبَ إبْرُوِيزُ إلَى ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ : إنَّ كَلِمَةً مِنْك تَسْفِكُ
دَمًا وَأُخْرَى مِنْك تَحْقِنُ دَمًا ، وَإِنَّ نَفَاذَ أَمْرِك مَعَ كَلَامِك ،
فَاحْتَرِسْ ، فِي غَضَبِك ، مِنْ قَوْلِك أَنْ تُخْطِئَ ، وَمِنْ لَوْنِك أَنْ
يَتَغَيَّرَ ، وَمِنْ جَسَدِك أَنْ يَخِفَّ ، فَإِنَّ الْمُلُوكَ تُعَاقِبُ
قُدْرَةً ، وَتَعْفُو حِلْمًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْغَضَبُ عَلَى مَنْ لَا تَمْلِكُ عَجْزٌ ،
وَعَلَى مَنْ تَمْلِكُ لُؤْمٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : إيَّاكَ وَعِزَّةَ الْغَضَبِ فَإِنَّهَا تُفْضِي
إلَى ذُلِّ الْعُذْرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَإِذَا مَا اعْتَرَتْك فِي الْغَضَبِ الْعِزَّةُ
فَاذْكُرْ تَذَلُّلَ الِاعْتِذَارِ وَمِنْهَا : أَنْ يَذْكُرَ ثَوَابَ الْعَفْوِ ،
وَجَزَاءَ الصَّفْحِ ، فَيَقْهَرُ نَفْسَهُ عَلَى الْغَضَبِ رَغْبَةً فِي
الْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ ، وَحَذَرًا مِنْ اسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {
يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : مَنْ لَهُ أَجْرٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فَلْيَقُمْ .
فَيَقُومُ الْعَافُونَ عَنْ النَّاسِ .
ثُمَّ تَلَا : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } } .
وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، فِي أُسَارَى
ابْنِ الْأَشْعَثِ : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاك مَا تُحِبُّ مِنْ الظَّفَرِ
فَأَعْطِ اللَّهَ مَا يُحِبُّ مِنْ الْعَفْوِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ الْخَيْرُ ثَلَاثُ خِصَالٍ فَمَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ :
مَنْ إذَا رَضِيَ لَمْ يُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِي بَاطِلٍ ، وَإِذَا غَضِبَ لَمْ
يُخْرِجْهُ غَضَبُهُ
مِنْ
حَقٍّ ، وَإِذَا قَدَرَ عَفَا } .
وَأَسْمَعَ رَجُلٌ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَلَامًا فَقَالَ عُمَرُ :
أَرَدْتَ أَنْ يَسْتَفِزَّنِي الشَّيْطَانُ لِعِزَّةِ السُّلْطَانِ فَأَنَالُ
مِنْك الْيَوْمَ مَا تَنَالُهُ مِنِّي غَدًا انْصَرِفْ رَحِمَك اللَّهُ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَذْكُرَ انْعِطَافَ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ ، وَمَيْلَ النُّفُوسِ
إلَيْهِ ، فَلَا يَرَى إضَاعَةَ ذَلِكَ بِتَغَيُّرِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَرْغَبُ
فِي التَّأَلُّفِ وَجَمِيلِ الثَّنَاءِ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ عَطِيَّةَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا ازْدَادَ أَحَدٌ
بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا ، فَاعْفُوا يُعِزُّكُمْ اللَّهُ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْكِرَامِ سُرْعَةُ
الِانْتِقَامِ ، وَلَا مِنْ شُرُوطِ الْكَرَمِ إزَالَةُ النِّعَمِ .
وَقَالَ الْمَأْمُونُ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ : إنِّي شَاوَرْتُ فِي
أَمْرِك فَأَشَارُوا عَلَيَّ بِقَتْلِك إلَّا أَنِّي وَجَدْتُ قَدْرَك فَوْقَ
ذَنْبِك فَكَرِهْتُ الْقَتْلَ لِلَازِمِ حُرْمَتِك .
فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْمُشِيرَ أَشَارَ بِمَا جَرَتْ بِهِ
الْعَادَةُ فِي السِّيَاسَةِ ، إلَّا أَنَّك أَبَيْت أَنْ تَطْلُبَ النَّصْرَ
إلَّا مِنْ حَيْثُ عَوَّدَتْهُ مِنْ الْعَفْوِ فَإِنْ عَاقَبْت فَلَكَ نَظِيرٌ ،
وَإِنْ عَفَوْتَ فَلَا نَظِيرَ لَك .
وَأَنْشَأَ يَقُولُ : الْبِرُّ بِي مِنْكَ وَطَّا الْعُذْرَ عِنْدَكَ لِي فِيمَا
فَعَلْتَ فَلَمْ تَعْذِلْ وَلَمْ تَلُمْ وَقَامَ عِلْمُكَ بِي فَاحْتَجَّ عِنْدَكَ
لِي مَقَامُ شَاهِدٍ عَدْلٍ غَيْرِ مُتَّهَمِ لَئِنْ جَحَدْتُكَ مَعْرُوفًا
مَنَنْتَ بِهِ إنِّي لَفِي اللُّؤْمِ أَحْظَى مِنْكَ بِالْكَرَمِ تَعْفُو بِعَدْلٍ
وَتَسْطُو إنْ سَطَوْتَ بِهِ فَلَا عَدِمْنَاكَ مِنْ عَافٍ وَمُنْتَقِمِ
الصِّدْقُ
وَالْكَذِبُ .
الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ
أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { دَعْ مَا
يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك فَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ وَالصِّدْقَ
طُمَأْنِينَةٌ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رَحِمَ
اللَّهُ امْرَأً أَصْلَحَ مِنْ لِسَانِهِ ، وَأَقْصَرَ مِنْ عِنَانِهِ ،
وَأَلْزَمَ طَرِيقَ الْحَقِّ مِقْوَلَهُ ، وَلَمْ يُعَوِّدْ الْخَطَلَ مَفْصِلَهُ
} .
وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ : { قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ : أَفَيَكُونُ بَخِيلًا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ : أَفَيَكُونُ كَذَّابًا ؟ قَالَ : لَا } .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } أَيْ لَا تَخْلِطُوا الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْكَذَّابُ لِصٌّ ؛ لِأَنَّ اللِّصَّ يَسْرِقُ
مَالَك ، وَالْكَذَّابُ يَسْرِقُ عَقْلَك .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْخَرَسُ خَيْرٌ مِنْ الْكَذِبِ وَصِدْقُ
اللِّسَانِ أَوَّلُ السَّعَادَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الصَّادِقُ مُصَانٌ خَلِيلٌ ، وَالْكَاذِبُ مُهَانٌ
ذَلِيلٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : لَا سَيْفَ كَالْحَقِّ ، وَلَا عَوْنَ كَالصِّدْقِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَمَا شَيْءٌ إذَا فَكَّرْتَ فِيهِ بِأَذْهَبَ
لِلْمُرُوءَةِ وَالْجَمَالِ مِنْ الْكَذِبِ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَأَبْعَدَ
بِالْبَهَاءِ مِنْ الرِّجَالِ وَالْكَذِبُ جِمَاعُ كُلِّ شَرٍّ ، وَأَصْلُ كُلِّ
ذَمٍّ لِسُوءِ عَوَاقِبِهِ ، وَخُبْثِ نَتَائِجِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ النَّمِيمَةَ
، وَالنَّمِيمَةُ تُنْتِجُ الْبَغْضَاءَ ، وَالْبَغْضَاءُ تُؤَوَّلُ إلَى
الْعَدَاوَةِ ، وَلَيْسَ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَمْنٌ وَلَا رَاحَةٌ .
وَلِذَلِكَ
قِيلَ : مَنْ قَلَّ صِدْقُهُ قَلَّ صَدِيقُهُ .
وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ يَدْخُلَانِ الْأَخْبَارَ الْمَاضِيَةَ ، كَمَا أَنَّ
الْوَفَاءَ وَالْخُلْفَ يَدْخُلَانِ الْمَوَاعِيدَ الْمُسْتَقْبَلَةَ .
فَالصِّدْقُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ ،
وَالْكَذِبُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ .
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَوَاعٍ .
فَدَوَاعِي الصِّدْقِ لَازِمَةٌ ، وَدَوَاعِي الْكَذِبِ عَارِضَةٌ ؛ لِأَنَّ
الصِّدْقَ يَدْعُو إلَيْهِ عَقْلٌ مُوجِبٌ وَشَرْعٌ مُؤَكَّدٌ ، فَالْكَذِبُ
يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَقْلُ وَيَصُدُّ عَنْهُ الشَّرْعُ .
وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تَسْتَفِيضَ الْأَخْبَارُ الصَّادِقَةُ حَتَّى تَصِيرَ
مُتَوَاتِرَةً ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْتَفِيضَ الْأَخْبَارُ الْكَاذِبَةُ ؛
لِأَنَّ اتِّفَاقَ النَّاسِ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ إنَّمَا هُوَ لِاتِّفَاقِ
الدَّوَاعِي ، فَدَوَاعِي الصِّدْقِ يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ
عَلَيْهَا ، حَتَّى إذَا تَلَقَّوْا خَبَرًا ، وَكَانُوا عَدَدًا يَنْتَفِي عَنْ
مِثْلِهِمْ الْمُوَاطَأَةُ ، وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ ؛ لِأَنَّ
الدَّوَاعِيَ إلَيْهِ نَافِعَةٌ ، وَاتِّفَاقُ النَّاسِ فِي الدَّوَاعِي
النَّافِعَةِ مُمْكِنٌ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ
مُوَاطَأَةُ مِثْلِهِمْ ، عَلَى نَقْلِ خَبَرٍ يَكُونُ كَذِبًا ؛ لِأَنَّ
الدَّوَاعِيَ إلَيْهِ غَيْرُ نَافِعَةٍ ، وَرُبَّمَا كَانَتْ ضَارَّةً .
وَلَيْسَ فِي جَارِي الْعَادَةِ أَنْ يَتَّفِقَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ عَلَى
دَوَاعٍ غَيْرِ نَافِعَةٍ .
وَلِذَلِكَ جَازَ اتِّفَاقُ النَّاسِ عَلَى الصِّدْقِ ؛ لِجَوَازِ اتِّفَاقِ
دَوَاعِيهِمْ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْكَذِبِ لِامْتِنَاعِ
اتِّفَاقِ دَوَاعِيهِمْ .
وَإِذَا كَانَ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ دَوَاعٍ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا سَنَحَ
بِهِ الْخَاطِرُ مِنْ دَوَاعِيهِمَا .
أَمَّا دَوَاعِي الصِّدْقِ فَمِنْهَا : الْعَقْلُ ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِقُبْحِ
الْكَذِبِ ، لَا سِيَّمَا إذَا لَمْ يَجْلِبْ نَفْعًا وَلَمْ يَدْفَعْ ضَرَرًا .
وَالْعَقْلُ يَدْعُو إلَى فِعْلِ مَا كَانَ مُسْتَحْسَنًا ، وَيَمْنَعُ مِنْ
إتْيَانِ مَا كَانَ
مُسْتَقْبَحًا
.
وَلَيْسَ مَا اُسْتُحْسِنَ مِنْ مُبَالَغَاتِ الشُّعَرَاءِ ، حَتَّى صَارَ كَذِبًا
صُرَاحًا ، اسْتِحْسَانًا لِلْكَذِبِ فِي الْعَقْلِ كَاَلَّذِي أَنَشَدَنِيهِ
الْأَزْدِيُّ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ : تَوَهَّمَهُ فِكْرِي فَأَصْبَحَ خَدُّهُ
وَفِيهِ مَكَانُ الْوَهْمِ مِنْ فِكْرَتِي أَثَرُ وَصَافَحَهُ كَفِّي فَآلَمَ
كَفَّهُ فَمِنْ لَمْسِ كَفِي فِي أَنَامِلِهِ عَقْرُ وَمَرَّ بِقَلْبِي خَاطِرًا
فَجَرَحْتُهُ وَلَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ يَجْرَحُهُ الْفِكْرُ وَكَقَوْلِ
الْعَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ وَإِنْ كَانَ دُونَ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ : تَقُولُ
وَقَدْ كَتَبْتُ دَقِيقَ خَطِّي إلَيْهَا : لِمَ تَجَنَّبْتَ الْجَلِيلَا فَقُلْت
لَهَا : نَحِلْتُ فَصَارَ خَطِّي مُسَاعَدَةً لِكَاتِبِهِ نَحِيلَا لِأَنَّهُ
خَرَجَ مُخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ وَالِاقْتِدَارِ عَلَى صَنْعَةِ
الشَّعْرِ ، وَأَنَّ شَوَاهِدَ الْحَالِ تُخْرِجُهُ عَنْ تَلْبِيسِ الْكَذِبِ ،
وَكَذَلِكَ مَا اُسْتُحْسِنَ فِي الصَّنْعَةِ وَلَمْ يُسْتَقْبَحْ فِي الْعَقْلِ
وَإِنْ كَانَ الْكَذِبُ مُسْتَقْبَحًا فِيهِ .
وَمِنْهَا : الدِّينُ الْوَارِدُ بِاتِّبَاعِ الصِّدْقِ وَحَظْرِ الْكَذِبِ ؛
لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ بِإِرْخَاصِ مَا حَظَرَهُ الْعَقْلُ ،
بَلْ قَدْ جَاءَ الشَّرْعُ زَائِدًا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْلُ مِنْ حَظْرِ
الْكَذِبِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِحَظْرِ الْكَذِبِ وَإِنْ جَرَّ نَفْعًا
أَوْ دَفَعَ ضَرَرًا .
وَالْعَقْلُ إنَّمَا حَظْرَ مَا لَا يَجْلِبُ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ ضَرَرًا .
وَمِنْهَا : الْمُرُوءَةُ فَإِنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الْكَذِبِ بَاعِثَةٌ عَلَى
الصِّدْقِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَمْنَعُ مَنْ فَعَلَ مَا كَانَ مُسْتَكْرَهًا ،
فَأَوْلَى مَنْ فَعَلَ مَا كَانَ مُسْتَقْبَحًا .
وَمِنْهَا : حُبُّ الثَّنَاءِ وَالِاشْتِهَارِ بِالصِّدْقِ حَتَّى لَا يُرَدَّ
عَلَيْهِ قَوْلٌ وَلَا يَلْحَقُهُ نَدَمٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لِيَكُنْ مَرْجِعُك إلَى الْحَقِّ
وَمَنْزَعُكَ إلَى الصِّدْقِ ، فَالْحَقُّ أَقْوَى مُعِينٍ ، وَالصِّدْقُ أَفْضَلُ
قَرِينٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : عَوِّدْ لِسَانَك قَوْلَ الصِّدْقِ تَحْظَ بِهِ
إنَّ اللِّسَانَ لِمَا عَوَّدْتَ مُعْتَادُ مُوَكَّلٌ
بِتَقَاضِي مَا سَنَنْتَ لَهُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَانْظُرْ كَيْفَ تَرْتَادُ .
وَأَمَّا
دَوَاعِي الْكَذِبِ فَمِنْهَا : اجْتِلَابُ النَّفْعِ وَاسْتِدْفَاعُ الضُّرِّ ،
فَيَرَى أَنَّ الْكَذِبَ أَسْلَمُ وَأَغْنَمُ فَيُرَخِّصُ لِنَفْسِهِ فِيهِ
اغْتِرَارًا بِالْخُدَعِ ، وَاسْتِشْفَافًا لِلطَّمَعِ .
وَرُبَّمَا كَانَ الْكَذِبُ أَبْعَدَ لِمَا يُؤَمِّلُ وَأَقْرَبَ لِمَا يَخَافُ ؛
لِأَنَّ الْقَبِيحَ لَا يَكُونُ حَسَنًا وَالشَّرَّ لَا يَصِيرُ خَيْرًا .
وَلَيْسَ يُجْنَى مِنْ الشَّوْكِ الْعِنَبُ وَلَا مِنْ الْكَرْمِ الْحَنْظَلُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ تَحَرَّوْا الصِّدْقَ وَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنَّ فِيهِ الْهَلَكَةَ فَإِنَّ فِيهِ
النَّجَاةَ ، وَتَجَنَّبُوا الْكَذِبَ وَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنَّ فِيهِ النَّجَاةَ
فَإِنَّ فِيهِ الْهَلَكَةَ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَأَنْ يَضَعَنِي
الصِّدْقُ وَقَلَّمَا يَفْعَلُ ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَرْفَعَنِي الْكَذِبُ
وَقَلَّمَا يَفْعَلُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الصِّدْقُ مُنْجِيك وَإِنْ خِفْته ، وَالْكَذِبُ
مُرْدِيك وَإِنْ أَمِنْته .
وَقَالَ الْجَاحِظُ : الصِّدْقُ وَالْوَفَاءُ تَوْأَمَانِ ، وَالصَّبْرُ
وَالْحِلْمُ تَوْأَمَانِ فِيهِنَّ تَمَامُ كُلِّ دِينٍ ، وَصَلَاحُ كُلِّ دُنْيَا
، وَأَضْدَادُهُنَّ سَبَبُ كُلِّ فُرْقَةٍ وَأَصْلُ كُلِّ فَسَادٍ .
وَمِنْهَا : أَنْ يُؤْثِرَ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ مُسْتَعْذَبًا وَكَلَامُهُ
مُسْتَظْرَفًا ، فَلَا يَجِدُ صِدْقًا يُعْذَبُ وَلَا حَدِيثًا يُسْتَظْرَفُ ،
فَيَسْتَحْلِي الْكَذِبَ الَّذِي لَيْسَتْ غَرَائِبُهُ مَعُوزَةً ، وَلَا
ظَرَائِفُهُ مُعْجِزَةً .
وَهَذَا النَّوْعُ أَسْوَأُ حَالًا مِمَّا قَبْلُ ؛ لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ
مَهَانَةِ النَّفْسِ وَدَنَاءَةِ الْهِمَّةِ .
وَقَدْ قَالَ الْجَاحِظُ : لَمْ يَكْذِبْ أَحَدٌ قَطُّ إلَّا لِصِغَرِ قَدْرِ
نَفْسِهِ عِنْدَهُ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : لَا تَتَهَاوَنْ بِإِرْسَالِ الْكِذْبَةِ مِنْ
الْهَزْلِ فَإِنَّهَا تُسْرِعُ إلَى إبْطَالِ الْحَقِّ .
وَمِنْهَا : أَنْ يَقْصِدَ بِالْكَذِبِ التَّشَفِّيَ مِنْ عَدُوِّهِ فَيُسَمِّهِ
بِقَبَائِحَ يَخْتَرِعُهَا عَلَيْهِ ، وَيَصِفُهُ بِفَضَائِحَ يَنْسُبُهَا إلَيْهِ
.
وَيَرَى أَنَّ مَعَرَّةَ الْكَذِبِ غُنْمٌ
وَأَنَّ
إرْسَالَهَا فِي الْعَدُوِّ سَهْمٌ وَسُمٌّ .
وَهَذَا أَسْوَأُ حَالًا مِنْ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلِينَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ
جَمَعَ بَيْنَ الْكَذِبِ الْمُعِرِّ وَالشَّرِّ الْمُضِرِّ .
وَلِذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِرَدِّ شَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ .
وَمِنْهَا : أَنْ تَكُونَ دَوَاعِي الْكَذِبِ قَدْ تَرَادَفَتْ عَلَيْهِ حَتَّى
أَلِفَهَا ، فَصَارَ الْكَذِبُ لَهُ عَادَةً ، وَنَفْسُهُ إلَيْهِ مُنْقَادَةٌ ،
حَتَّى لَوْ رَامَ مُجَانَبَةَ الْكَذِبِ عَسِرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ
طَبْعٌ ثَانٍ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : مَنْ اسْتَحْلَى رَضَاعَ الْكَذِبِ عَسِرَ
فِطَامُهُ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا يَلْزَمُ الْكَذَّابَ شَيْءٌ إلَّا غَلَبَ
عَلَيْهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْكَذَّابِ قَبْلَ خِبْرَتِهِ أَمَارَاتٍ دَالَّةً عَلَيْهِ .
فَمِنْهَا : أَنَّك إذَا لَقَّنْتَهُ الْحَدِيثَ تَلَقَّنَهُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ
مَا لَقَّنْته وَبَيْنَ مَا أَوْرَدَهُ فَرْقٌ عِنْدَهُ .
وَمِنْهَا : أَنَّك إذَا شَكَّكْتَهُ فِيهِ تَشَكَّكَ حَتَّى يَكَادَ يَرْجِعُ
فِيهِ ، وَلَوْلَاك مَا تَخَالَجَهُ الشَّكُّ فِيهِ .
وَمِنْهَا : أَنَّك إذَا رَدَدْت عَلَيْهِ قَوْلَهُ حُصِرَ وَارْتَبَكَ وَلَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ نُصْرَةُ الْمُحْتَجِّينَ ، وَلَا بُرْهَانُ الصَّادِقِينَ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ :
الْكَذَّابُ كَالسَّرَابِ .
وَمِنْهَا : مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ رِيبَةِ الْكَذَّابِينَ وَيَنُمُّ
عَلَيْهِ مِنْ ذِلَّةِ الْمُتَوَهِّمِينَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ لَا يُمْكِنُ
الْإِنْسَانُ دَفْعَهَا عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِمَا فِي الطَّبْعِ مِنْ آثَارِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : الْعَيْنَانِ أَنَمُّ مِنْ اللِّسَانِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْوُجُوهُ مَرَايَا تُرِيك أَسْرَارَ الْبَرَايَا
.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : تُرِيكَ أَعْيُنُهُمْ مَا فِي صُدُورِهِمْ إنَّ الْعُيُونَ
يُؤَدِّي سِرَّهَا النَّظَرُ وَإِذَا اتَّسَمَ بِالْكَذِبِ نُسِبَتْ إلَيْهِ
شَوَارِدُ الْكَذِبِ الْمَجْهُولَةُ ، وَأُضِيفَتْ إلَى أَكَاذِيبِهِ زِيَادَاتٌ
مُفْتَعَلَةٌ حَتَّى يَصِيرَ الْكَاذِبُ مَكْذُوبًا عَلَيْهِ ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ
مَعَرَّةِ الْكَذِبِ مِنْهُ
وَمَضَرَّةِ
الْكَذِبِ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : حَسْبُ الْكَذُوبِ مِنْ الْبَلِيَّةِ بَعْضُ مَا
يُحْكَى عَلَيْهِ فَإِذَا سَمِعْت بِكِذْبَةٍ مِنْ غَيْرِهِ نُسِبَتْ إلَيْهِ
ثُمَّ إنَّهُ إنْ تَحَرَّى الصِّدْقَ اُتُّهِمَ ، وَإِنْ جَانَبَ الْكَذِبَ
كُذِّبَ ، حَتَّى لَا يُعْتَقَدُ لَهُ حَدِيثٌ يُصَدَّقُ ، وَلَا كَذِبٌ
مُسْتَنْكَرٌ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا عُرِفَ الْكَذَّابُ بِالْكَذِبِ لَمْ يَكَدْ
يُصَدَّقُ فِي شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ صَادِقَا وَمِنْ آفَةِ الْكَذَّابِ نِسْيَانُ
كِذْبِهِ وَتَلْقَاهُ ذَا حِفْظٍ إذَا كَانَ صَادِقَا وَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ
بِإِرْخَاصِ الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ عَلَى وَجْهِ
التَّوْرِيَةِ ، وَالتَّأْوِيلِ دُونَ التَّصْرِيحِ بِهِ .
فَإِنَّ السُّنَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَرِدَ بِإِبَاحَةِ الْكَذِبِ ؛ لِمَا فِيهِ
مِنْ التَّنْفِيرِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّوْرِيَةِ
وَالتَّعْرِيضِ ، كَمَا { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَدْ تَطَرَّفَ بِرِدَاءٍ وَانْفَرَدَ عَنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ
لَهُ رَجُلٌ : مِمَّنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : مِنْ مَاءٍ } ، فَوَرَّى عَنْ
الْإِخْبَارِ بِنَسَبِهِ بِأَمْرٍ يَحْتَمِلُ .
فَظَنَّ السَّائِلُ أَنَّهُ عَنَى الْقَبِيلَةَ الْمَنْسُوبَةَ إلَى ذَلِكَ ،
وَإِنَّمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
مِنْ الْمَاءِ الَّذِي يُخْلَقُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ ، فَبَلَغَ مَا أَحَبَّ مِنْ
إخْفَاءِ نَفْسِهِ وَصَدَقَ فِي خَبَرِهِ .
وَكَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
كَانَ يَسِيرُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
هَاجَرَ مَعَهُ فَتَلْقَاهُ الْعَرَبُ وَهُمْ يَعْرِفُونَ أَبَا بَكْرٍ وَلَا
يَعْرِفُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ :
يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا ؟ فَيَقُولُ : هَادٍ يَهْدِينِي السَّبِيلَ
فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ يَعْنِي هِدَايَةَ الطَّرِيقِ ، وَهُوَ إنَّمَا يُرِيدُ
هِدَايَةَ سَبِيلِ الْخَيْرِ ، فَيَصْدُقُ فِي قَوْلِهِ وَيُوَرِّي عَنْ مُرَادِهِ
.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
:
{ إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ
مَا يَكْفِي أَنْ يَعِفَّ الرَّجُلَ عَنْ الْكَذِبِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْله تَعَالَى { لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا
نَسِيتُ } .
أَنَّهُ لَمْ يَنْسَ وَلَكِنَّهُ مَعَارِيضُ الْكَلَامِ .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : الْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يُصَرَّحَ فِيهِ
بِالْكَذِبِ .
وَاعْلَمْ
أَنَّ مِنْ الصِّدْقِ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْكَذِبِ فِي الْقُبْحِ وَالْمَعَرَّةِ
وَيَزِيدُ عَلَيْهِ فِي الْأَذَى وَالْمَضَرَّةِ ، وَهِيَ الْغِيبَةُ
وَالنَّمِيمَةُ وَالسِّعَايَةُ .
فَأَمَّا الْغِيبَةُ فَإِنَّهَا خِيَانَةٌ وَهَتْكُ سِتْرٍ يَحْدُثَانِ عَنْ
حَسَدٍ وَغَدْرٍ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } .
يَعْنِي أَنَّهُ كَمَا لَا يَحِلُّ لَحْمُهُ مَيِّتًا لَا تَحِلُّ غِيبَتُهُ
حَيًّا .
وَرُوِيَ { أَنَّ امْرَأَتَيْنِ صَامَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَتَا تَغْتَابَانِ النَّاسَ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : صَامَتَا عَمَّا أُحِلَّ
لَهُمَا ، وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمَا } .
وَرَوَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِظَهْرِ
الْغَيْبِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُحَرِّمَ لَحْمَهُ
عَلَى النَّارِ } .
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ : الْغِيبَةُ رَعْيُ اللِّئَامِ .
وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، يَقُولُ : الْغِيبَةُ
فَاكِهَةُ النِّسَاءِ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنِّي اغْتَبْتُك
فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ .
فَقَالَ مَا أُحِبُّ أَنْ أَحِلَّ لَك مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك .
وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ : لَا تُعِنْ النَّاسَ عَلَى عَيْبِك بِسُوءِ غَيْبِك .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : لَا تَلْتَمِسْ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سَتَرُوا
فَيَهْتِكَ اللَّهُ سِتْرًا مِنْ مَسَاوِيكَا وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ
إذَا ذُكِرُوا وَلَا تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَا وَرُبَّمَا عَذَرَ
الْمُغْتَابُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَقُولُ حَقًّا وَيُعْلِنُ فِسْقًا .
وَيَسْتَشْهِدُ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ لَيْسَتْ غِيبَتُهُمْ بِغِيبَةٍ الْإِمَامُ
الْجَائِرُ وَشَارِبُ الْخَمْرِ وَالْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ } .
فَيَبْعُدُ مِنْ الصَّوَابِ وَيُجَانِبُ الْأَدَبَ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ
بِالْغِيبَةِ
صَادِقًا فَقَدْ هَتَكَ سِتْرًا كَانَ بِصَوْنِهِ أَوْلَى وَجَاهَرَ مَنْ أَسَرَّ
وَأَخْفَى .
وَرُبَّمَا دَعَا الْمُغْتَابَ ذَلِكَ إلَى إظْهَارِ مَا كَانَ يَسْتُرُهُ ، وَالْمُجَاهَرَةِ
بِمَا كَانَ يُضْمِرُهُ ، فَلَمْ يَفِدْ ذَلِكَ إلَّا فَسَادَ أَخْلَاقِهِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَلَاحٌ لِغَيْرِهِ .
وَقَدْ قِيلَ لِأَنُوشِرْوَان : مَا الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ ؟ قَالَ : مَا
ضَرَّنِي وَلَمْ يَنْفَعْ غَيْرِي ، أَوْ ضَرَّ غَيْرِي وَلَمْ يَنْفَعْنِي ،
فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خَيْرًا .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا تُبْدِ مِنْ الْعُيُوبِ مَا سَتَرَهُ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ .
وَقَدْ رَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ الْغِيبَةِ فَقَالَ : هِيَ أَنْ تَقُولَ لِأَخِيك مَا فِيهِ فَإِنْ كُنْتَ
صَادِقًا فَقَدْ اغْتَبْتَهُ ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَقَدْ بَهَتَهُ } .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا
مِنْهُمْ } إنَّهُ اسْتِهْزَاءُ الْمُسْلِمِ بِمَنْ أَعْلَنَ بِفِسْقِهِ .
{ وَدَخَلَتْ امْرَأَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَفْتِيَةً
فَلَمَّا خَرَجَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَا أَقْصَرَهَا .
فَقَالَ : مَهْلًا إيَّاكِ وَالْغِيبَةَ .
فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا قُلْت مَا فِيهَا .
قَالَ : أَجَلْ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ بُهْتَانًا } .
وَسُئِلَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ عَنْ صِفَةِ اللَّئِيمِ ، فَقَالَ : اللَّئِيمُ إذَا
غَابَ عَابَ ، وَإِذَا حَضَرَ اغْتَابَ .
فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْإِنْكَارِ لِأَفْعَالِ هَؤُلَاءِ وَلَا
يَكُونُ الْإِنْكَارُ غِيبَةً ؛ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ
إنْكَارِ الْمُجَاهِرِ وَغِيبَةِ الْمُسَاتَرِ .
وَأَمَّا النَّمِيمَةُ : فَهِيَ أَنْ تَجْمَعَ إلَى مَذَمَّةِ الْغِيبَةِ
رَدَاءَةً وَشَرًّا ، وَتَضُمَّ إلَى لُؤْمِهَا دَنَاءَةً وَغَدْرًا .
ثُمَّ تُؤَوَّلُ إلَى تَقَاطُعِ الْمُتَوَاصِلِينَ ، وَتَبَاغُضِ
الْمُتَحَابِّينَ
.
وَرَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا أُخْبِرُكُمْ
بِشِرَارِكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : مِنْ شِرَارِكُمْ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ
الْأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ الْعُيُوبَ } .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَلْعُونٌ
ذُو الْوَجْهَيْنِ ، مَلْعُونٌ ذُو اللِّسَانَيْنِ مَلْعُونٌ كُلُّ شَفَّارٍ ،
مَلْعُونٌ كُلُّ قَتَّاتٍ ، مَلْعُونٌ كُلُّ مَنَّانٍ } .
الشَّفَّارُ الْمُحَرِّشُ بَيْنَ النَّاسِ يُلْقِي بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ ،
وَالْقَتَّاتُ النَّمَّامُ وَقِيلَ النَّمَّامُ الَّذِي يَكُونُ مَعَ الْقَوْمِ
يَتَحَدَّثُونَ فَيَنُمُّ حَدِيثَهُمْ ، وَالْقَتَّاتُ هُوَ الَّذِي يَسْتَمِعُ
عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَيَنُمُّ حَدِيثَهُمْ ، وَالْمَنَّانُ هُوَ
الَّذِي يَصْنَعُ الْخَيْرَ وَيَمُنُّ بِهِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : النَّمِيمَةُ سَيْفٌ قَاتِلٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : لَمْ يَمْشِ مَاشٍ شَرٌّ مِنْ وَاشٍ .
فَأَمَّا السِّعَايَةُ فَهِيَ شَرُّ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَجْمَعُ إلَى
مَذَمَّةِ الْغِيبَةِ وَلُؤْمِ النَّمِيمَةِ ، التَّغْرِيرَ بِالنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ
، وَالْقَدَحَ فِي الْمَنَازِلِ وَالْأَحْوَالِ .
وَرَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { الْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا دَيُّوثٌ وَلَا قَلَّاعٌ } .
الدَّيُّوثُ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، سُمِّيَ
بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَدُثُّ بَيْنَهُمْ .
وَالْقَلَّاعُ هُوَ السَّاعِي الَّذِي يَقَعُ فِي النَّاسِ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ ،
سُمِّيَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي الرَّجُلَ الْمُتَمَكِّنَ عِنْدَ الْأَمِيرِ
فَلَا يَزَالُ يَقَعُ فِيهِ حَتَّى يَقْلَعَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : السَّاعِي بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ قَبِيحَتَيْنِ :
إمَّا أَنْ يَكُونَ صَدَقَ فَقَدْ خَانَ الْأَمَانَةَ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
قَدْ كَذَبَ فَخَالَفَ الْمُرُوءَةَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ
:
الصِّدْقُ يُزَيِّنُ كُلَّ أَحَدٍ إلَّا السُّعَاةَ ، فَإِنَّ السَّاعِيَ أَذَمُّ
وَآثَمُ مَا يَكُونُ إذَا صَدَقَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : النَّمِيمَةُ دَنَاءَةٌ وَالسِّعَايَةُ رَدَاءَةٌ ،
وَهُمَا رَأْسُ الْغَدْرِ وَأَسَاسُ الشَّرِّ فَتَجَنَّبْ سُبُلَهُمَا ،
وَاجْتَنِبْ أَهْلَهُمَا .
وَوَقَعَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ عَلَى قِصَّةِ سَاعٍ سَعَى إلَيْهِ : نَحْنُ نَرَى
قَبُولَ السِّعَايَةِ شَرًّا مِنْهَا ؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ دَلَالَةٌ ،
وَالْقَبُولَ إجَازَةٌ ، فَاتَّقُوا السَّاعِيَ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ فِي
سِعَايَتِهِ صَادِقًا كَانَ فِي صِدْقِهِ آثِمًا ، إذْ لَمْ يَحْفَظْ الْحُرْمَةَ
وَيَسْتُرْ الْعَوْرَةَ .
وَقَالَ الْإِسْكَنْدَرُ لِرَجُلٍ سَعَى إلَيْهِ بِرَجُلٍ : أَتُحِبُّ أَنْ
نَقْبَلَ مِنْك مَا تَقُولُ فِيهِ عَلَى أَنْ نَقْبَلَ مِنْهُ مَا يَقُولُ فِيك ؟
قَالَ : لَا .
قَالَ : فَكُفَّ عَنْ الشَّرِّ يَكُفَّ عَنْك الشَّرُّ .
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَى مُوسَى - عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ
السَّلَامُ - أَنَّ فِي بَلَدِك سَاعِيًا وَلَسْتُ أُخْبِرُك وَهُوَ فِي أَرْضِك .
قَالَ يَا رَبِّ دُلَّنِي عَلَيْهِ حَتَّى أُخْرِجَهُ فَقَالَ : يَا مُوسَى
أَكْرَهُ النَّمِيمَةَ وَأَنُمُّ .
الْحَسَدُ
وَالْمُنَافَسَةُ .
الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي الْحَسَدِ وَالْمُنَافَسَةِ : اعْلَمْ أَنَّ الْحَسَدَ
خُلُقٌ ذَمِيمٌ مَعَ إضْرَارِهِ بِالْبَدَنِ وَفَسَادِهِ لِلدَّيْنِ ، حَتَّى
لَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : {
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ } وَنَاهِيكَ بِحَالِ ذَلِكَ شَرًّا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
دَبَّ إلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْبَغْضَاءُ وَالْحَسَدُ هِيَ
الْحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعْرِ وَاَلَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَلَا أُنَبِّئُكُمْ
بِأَمْرٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ اُفْشُوَا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ } .
فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ الْحَسَدِ وَأَنَّ
التَّحَابُبَ يَنْفِيهِ وَأَنَّ السَّلَامَ يَبْعَثُ عَلَى التَّحَابُبِ ، فَصَارَ
السَّلَامُ إذًا نَافِيًا لِلْحَسَدِ .
وَقَدْ جَاءَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } قَالَ مُجَاهِدٌ : مَعْنَاهُ
ادْفَعْ بِالسَّلَامِ إسَاءَةَ الْمُسِيءِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : قَدْ يَلْبَثُ النَّاسُ حِينًا لَيْسَ بَيْنُهُمْ وُدٌّ
فَيَزْرَعُهُ التَّسْلِيمُ وَاللُّطْفُ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْحَسَدُ
أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي السَّمَاءِ ، يَعْنِي حَسَدَ إبْلِيسَ
لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي الْأَرْضِ
، يَعْنِي حَسَدَ ابْنِ آدَمَ لِأَخِيهِ حَتَّى قَتَلَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ رَضِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ
يَسْخَطْهُ أَحَدٌ ، وَمَنْ قَنَعَ بِعَطَائِهِ لَمْ يَدْخُلْهُ حَسَدٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : النَّاسُ حَاسِدٌ وَمَحْسُودٌ ، وَلِكُلِّ نِعْمَةٍ
حَسُودٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَا رَأَيْتُ ظَالِمًا أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنْ
الْحَسُودِ نَفَسٌ دَائِمٌ ، وَهَمٌّ لَازِمٌ ، وَقَلْبٌ هَائِمٌ .
فَأَخَذَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : إنَّ الْحَسُودَ الظَّلُومَ فِي كَرْبٍ
يَخَالُهُ
مَنْ
يَرَاهُ مَظْلُومَا ذَا نَفَسٍ دَائِمٍ عَلَى نَفَسٍ يُظْهِرُ مِنْهَا مَا كَانَ
مَكْتُومَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَمِّ الْحَسَدِ إلَّا أَنَّهُ خُلُقٌ دَنِيءٌ
يَتَوَجَّهُ نَحْوَ الْأَكْفَاءِ وَالْأَقَارِبِ ، وَيَخْتَصُّ بِالْمُخَالِطِ
وَالْمُصَاحِبِ ، لَكَانَتْ النَّزَاهَةُ عَنْهُ كَرَمًا ، وَالسَّلَامَةُ مِنْهُ
مَغْنَمًا .
فَكَيْفَ وَهُوَ بِالنَّفْسِ مُضِرٌّ ، وَعَلَى الْهَمِّ مُصِرٌّ ، حَتَّى
رُبَّمَا أَفْضَى بِصَاحِبِهِ إلَى التَّلَفِ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةٍ فِي عَدُوٍّ
وَلَا إضْرَارٍ بِمَحْسُودِ .
وَقَدْ قَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ فِي خِصَالِ الشَّرِّ
أَعْدَلُ مِنْ الْحَسَدِ ، يَقْتُلُ الْحَاسِدَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى
الْمَحْسُودِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : يَكْفِيك مِنْ الْحَاسِدِ أَنَّهُ يَغْتَمُّ فِي
وَقْتِ سُرُورِك .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : عُقُوبَةُ الْحَاسِدِ مِنْ نَفْسِهِ .
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : قُلْتُ لِأَعْرَابِيٍّ : مَا أَطْوَلَ عُمُرَك ، قَالَ :
تَرَكْتُ الْحَسَدَ فَبَقِيتُ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِشُرَيْحٍ الْقَاضِي : إنِّي لَأَحْسُدُك عَلَى مَا أَرَى مِنْ
صَبْرِك عَلَى الْخُصُومِ ، وَوُقُوفِك عَلَى غَامِضِ الْحُكْمِ .
فَقَالَ : مَا نَفَعَك اللَّهُ بِذَلِكَ وَلَا ضَرَّنِي .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : اصْبِرْ
عَلَى كَيْدِ الْحَسْوِ دِ فَإِنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُهُ فَالنَّارُ تَأْكُلُ
بَعْضَهَا إنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُهُ وَحَقِيقَةُ الْحَسَدِ شِدَّةُ الْأَسَى
عَلَى الْخَيْرَاتِ تَكُونُ لِلنَّاسِ الْأَفَاضِلِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُنَافَسَةِ
، وَرُبَّمَا غَلِطَ قَوْمٌ فَظَنُّوا أَنَّ الْمُنَافَسَةَ فِي الْخَيْرِ هِيَ
الْحَسَدُ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنُّوا ؛ لِأَنَّ الْمُنَافَسَةَ
طَلَبُ التَّشَبُّهِ بِالْأَفَاضِلِ مِنْ غَيْرِ إدْخَالِ ضَرَرٍ عَلَيْهِمْ .
وَالْحَسَدُ مَصْرُوفٌ إلَى الضَّرَرِ ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَعْدَمَ
الْأَفَاضِلُ فَضْلَهُمْ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ الْفَضْلُ لَهُ ، فَهَذَا
الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُنَافَسَةِ وَالْحَسَدِ .
فَالْمُنَافَسَةُ إذًا فَضِيلَةٌ ؛ لِأَنَّهَا دَاعِيَةٌ إلَى اكْتِسَابِ
الْفَضَائِلِ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَخْيَارِ الْأَفَاضِلِ
.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ الْمُؤْمِنُ يَغْبِطُ وَالْمُنَافِقُ يَحْسُدُ } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : نَافِسْ عَلَى الْخَيْرَاتِ أَهْلَ الْعُلَا فَإِنَّمَا
الدُّنْيَا أَحَادِيثُ كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ كَادِحٌ فَوَارِثٌ مِنْهُمْ
وَمَوْرُوثُ وَاعْلَمْ أَنَّ دَوَاعِيَ الْحَسَدِ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهُمَا :
بُغْضُ الْمَحْسُودِ فَيَأْسَى عَلَيْهِ بِفَضِيلَةٍ تَظْهَرُ ، أَوْ مَنْقَبَةٍ
تُشْكَرُ ، فَيُثِيرُ حَسَدًا قَدْ خَامَرَ بُغْضًا .
وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَكُونُ عَامًّا وَإِنْ كَانَ أَضَرَّهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
يُبْغِضُ كُلَّ النَّاسِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَظْهَرَ مِنْ الْمَحْسُودِ فَضْلٌ يَعْجِزُ عَنْهُ فَيَكْرَهُ
تَقَدُّمَهُ فِيهِ وَاخْتِصَاصَهُ بِهِ ، فَيُثِيرُ ذَلِكَ حَسَدًا لَوْلَاهُ
لَكَفَّ عَنْهُ .
وَهَذَا أَوْسَطُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُدُ الْأَكْفَاءُ مَنْ دَنَا ،
وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِحَسَدِ مِنْ عَلَا .
وَقَدْ يَمْتَزِجُ بِهَذَا النَّوْعِ ضَرْبٌ مِنْ الْمُنَافَسَةِ وَلَكِنَّهَا
مَعَ عَجْزٍ فَلِذَلِكَ صَارَتْ حَسَدًا .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ فِي الْحَاسِدِ شُحٌّ بِالْفَضَائِلِ ، وَبُخْلٌ بِالنِّعَمِ
وَلَيْسَتْ إلَيْهِ فَيَمْنَعُ مِنْهَا ، وَلَا بِيَدِهِ فَيَدْفَعُ عَنْهَا ؛
لِأَنَّهَا مَوَاهِبُ قَدْ مَنَحَهَا اللَّهُ مَنْ شَاءَ فَيَسْخَطُ عَلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ فِي قَضَائِهِ ، وَيَحْسُدُ عَلَى مَا مَنَحَ مِنْ عَطَائِهِ ،
وَإِنْ كَانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ أَكْثَرَ ، وَمِنَحُهُ
عَلَيْهِ أَظْهَرَ .
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَسَدِ أَعَمَّهَا وَأَخْبَثُهَا إذْ لَيْسَ
لِصَاحِبِهِ رَاحَةٌ ، وَلَا لِرِضَاهُ غَايَةٌ ، فَإِنْ اقْتَرَنَ بِشَرٍّ
وَقُدْرَةٍ كَانَ بُورًا وَانْتِقَامًا ، وَإِنْ صَادَفَ عَجْزًا وَمَهَانَةً
كَانَ كَمَدًا وَسَقَامًا .
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : الْحَسُودُ مِنْ الْهَمِّ كَسَاقِي السُّمِّ ،
فَإِنْ سَرَى سُمُّهُ زَالَ عَنْهُ غَمُّهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ بِحَسَبِ فَضْلِ الْإِنْسَانِ وَظُهُورِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ
يَكُونُ حَسَدُ النَّاسِ لَهُ .
فَإِنْ كَثُرَ فَضْلُهُ كَثُرَ حُسَّادُهُ ، وَإِنْ قَلَّ قَلُّوا ؛ لِأَنَّ
ظُهُورَ الْفَضْلِ يُثِيرُ الْحَسَدَ ،
وَحُدُوثَ
النِّعْمَةِ يُضَاعِفُ الْكَمَدَ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اسْتَعِينُوا
عَلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ بِسَتْرِهَا فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا كَانَتْ نِعْمَةُ
اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ إلَّا وَجَدَ لَهَا حَاسِدًا ، فَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ
أَقْوَمَ مِنْ الْقَدْحِ لَمَا عَدِمَ غَامِزًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : إنْ يَحْسُدُونِي فَإِنِّي غَيْرُ لَائِمِهِمْ قَبْلِي
مِنْ النَّاسِ أَهْلُ الْفَضْلِ قَدْ حُسِدُوا فَدَامَ لِي وَلَهُمْ مَا بِي وَمَا
بِهِمْ وَمَاتَ أَكْثَرُنَا غَيْظًا بِمَا يَجِدُ وَرُبَّمَا كَانَ الْحَسَدُ
مُنَبِّهًا عَلَى فَضْلِ الْمَحْسُودِ وَنَقْصِ الْحَسُودِ ، كَمَا قَالَ أَبُو
تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ طُوِيَتْ
أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ لَوْلَا اشْتِعَالُ النَّارِ فِيمَا جَاوَرَتْ مَا
كَانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ الْعُودِ لَوْلَا التَّخَوُّفُ لِلْعَوَاقِبِ لَمْ
يَزَلْ لِلْحَاسِدِ النُّعْمَى عَلَى الْمَحْسُودِ فَأَمَّا مَا يَسْتَعْمِلُهُ
مَنْ كَانَ غَالِبًا عَلَيْهِ الْحَسَدُ ، وَكَانَ طَبْعُهُ إلَيْهِ مَائِلًا
لِيَنْفِيَ عَنْهُ وَيُكْفَاهُ وَيَسْلَمُ مِنْ ضَرَرِهِ وَعَدَاوَتِهِ ،
فَأُمُورٌ هِيَ لَهُ حَسْمٌ إنْ صَادَفَهَا عَزْمٌ .
فَمِنْهَا : اتِّبَاعُ الدِّينِ فِي اجْتِنَابِهِ ، وَالرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ فِي آدَابِهِ ، فَيَقْهَرُ نَفْسَهُ عَلَى مَذْمُومِ خُلُقِهَا ،
وَيَنْقُلُهَا عَنْ لَئِيمِ طَبْعِهَا .
وَإِنْ كَانَ نَقْلُ الطِّبَاعِ عَسِرًا لَك بِالرِّيَاضَةِ وَالتَّدْرِيجِ
يَسْهُلُ مِنْهَا مَا اُسْتُصْعِبَ ، وَيُحَبَّبُ مِنْهَا مَا أَتْعَبَ وَإِنْ
تَقَدَّمَ قَوْلُ الْقَائِلِ : مَنْ رَبُّهُ خَلَقَهُ كَيْفَ يُخَلِّي خَلْقَهُ ،
غَيْرَ أَنَّهُ إذَا عَانَى تَهْذِيبَ نَفْسِهِ تَظَاهَرَ بِالتَّخَلُّقِ دُونَ
الْخُلُقِ ، ثُمَّ بِالْعَادَةِ يَصِيرُ كَالْخُلُقِ .
قَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : فَلَمْ أَجِدْ الْأَخْلَاقَ إلَّا تَخَلُّقًا
وَلَمْ أَجِدْ الْأَفْضَالَ إلَّا تَفَضُّلَا وَمِنْهَا : الْعَقْلُ الَّذِي
يَسْتَقْبِحُ بِهِ مِنْ نَتَائِجِ الْحَسَدِ مَا لَا يُرْضِيهِ ، وَيَسْتَنْكِفُ
مِنْ
هُجْنَةِ مُسَاوِيهِ ، فَيُذَلِّلُ نَفْسَهُ أَنَفَةً ، وَيَقْهَرُهَا حَمِيَّةً ،
فَتُذْعِنُ لِرُشْدِهَا ، وَتُجِيبُ إلَى صَلَاحِهَا .
وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ لِذِي النَّفْسِ الْأَبِيَّةِ ، وَالْهِمَّةِ
الْعَلِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ ذُو الْهِمَّةِ يَجِلُّ عَنْ دَنَاءَةِ الْحَسَدِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : أَبِيٌّ لَهُ نَفْسَانِ نَفْسٌ زَكِيَّةُ وَنَفْسٌ إذَا
مَا خَافَتْ الظُّلْمَ تُشْمِسُ وَمِنْهَا : أَنْ يَسْتَدْفِعَ ضَرَرَهُ ،
وَيَتَوَقَّى أَثَرَهُ ، وَيَعْلَمَ أَنَّ مَكَانَتَهُ فِي نَفْسِهِ أَبْلُغُ
وَمِنْ الْحَسَدِ أَبْعَدُ ، فَيَسْتَعْمِلُ الْحَزْمَ فِي دَفْعِ مَا كَدَّهُ
وَأَكْمَدَهُ لِيَكُونَ أَطْيَبَ نَفْسًا وَأَهْنَأَ عَيْشًا .
وَقَدْ قِيلَ : الْعَجَبُ لِغَفْلَةِ الْحُسَّادِ عَنْ سَلَامَةِ الْأَجْسَادِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : بَصِيرٌ بِأَعْقَابِ الْأُمُورِ كَأَنَّمَا يَرَى
بِصَوَابِ الرَّأْيِ مَا هُوَ وَاقِعُ وَمِنْهَا : مَا يَرَى مِنْ نُفُورِ
النَّاسِ عَنْهُ وَبُعْدِهِمْ مِنْهُ فَيَخَافُهُمْ إمَّا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ
عَدَاوَةٍ ، أَوْ عَلَى عِرْضِهِ مِنْ مَلَامَةٍ ، فَيَتَأَلَّفُهُمْ
بِمُعَالَجَةِ نَفْسِهِ وَيَرَاهُمْ إنْ صَلَحُوا أَجْدَى نَفْعًا وَأَخْلَصُ
وُدًّا .
وَقَالَ ابْنُ الْعَمِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : دَاوِي جَوًى بِجَوًى
وَلَيْسَ بِحَازِمٍ مَنْ يَسْتَكِفُّ النَّارَ بِالْحَلْفَاءِ وَقَالَ
الْمُؤَمَّلُ بْنُ أُمَيْلٍ : لَا تَحْسَبُونِي غَنِيًّا عَنْ مَوَدَّتِكُمْ إنِّي
إلَيْكُمْ وَإِنْ أَيَسَرْتُ مُفْتَقِرُ وَمِنْهَا : أَنْ يُسَاعِدَ الْقَضَاءَ
وَيَسْتَسْلِمَ لِلْمَقْدُورِ ، وَلَا يَرَى أَنْ يُغَالِبَ قَضَاءَ اللَّهِ
فَيَرْجِعُ مَغْلُوبًا ، وَلَا أَنْ يُعَارِضَهُ فِي أَمْرِهِ فَيُرَدُّ
مَحْرُومًا مَسْلُوبًا .
وَقَدْ قَالَ أَزْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ : إذَا لَمْ يُسَاعِدْنَا الْقَضَاءُ
سَاعَدْنَاهُ .
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ : قَدْرُ اللَّهِ كَائِنٌ حِينَ يَقْضِي وُرُودُهُ
قَدْ مَضَى فِيك عِلْمُهُ وَانْتَهَى مَا يُرِيدُهُ فَأَرِدْ مَا يَكُونُ إنْ لَمْ
يَكُنْ مَا تُرِيدُهُ فَإِنْ أَظْفَرَتْهُ السَّعَادَةُ بِأَحَدِ هَذِهِ
الْأَسْبَابِ ، وَهَدَتْهُ الْمَرَاشِدُ إلَى اسْتِعْمَالِ الصَّوَابِ ، سَلِمَ
مِنْ سَقَامِهِ ، وَخَلُصَ مِنْ
غَرَامِهِ
، وَاسْتَبْدَلَ بِالنَّقْصِ فَضْلًا وَاعْتَاضَ مِنْ الذَّمِّ حَمْدًا .
وَلَمَنْ اسْتَنْزَلَ نَفْسَهُ عَنْ مَذَمَّةٍ فَصَرَفَهَا عَنْ لَائِمَةٍ هُوَ
أَظْهَرُ حَزْمًا وَأَقْوَى عَزْمًا مِمَّنْ كَفَتْهُ النَّفْسُ جِهَادَهَا ،
وَأَعْطَتْهُ قِيَادَهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : خِيَارُكُمْ
كُلُّ مُفَتَّنٍ تَوَّابٍ .
وَإِنْ صَدَّتْهُ الشَّهْوَةُ عَنْ مَرَاشِدِهِ ، وَأَضَلَّهُ الْحِرْمَانُ عَنْ
مَقَاصِدِهِ ، فَانْقَادَ لِلطَّبْعِ اللَّئِيمِ ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْخُلُقُ
الذَّمِيمِ ، حَتَّى ظَهَرَ حَسَدُهُ وَاشْتَدَّ كَمَدُهُ ، فَقَدْ بَاءَ
بِأَرْبَعِ مَذَامَّ : إحْدَاهُنَّ : حَسَرَاتُ الْحَسَدِ وَسَقَامُ الْجَسَدِ ،
ثُمَّ لَا يَجِدُ لِحَسْرَتِهِ انْتِهَاءً ، وَلَا يُؤَمِّلُ لِسَقَامِهِ شِفَاءً
.
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ : الْحَسَدُ دَاءُ الْجَسَدِ .
وَالثَّانِيَةُ : انْخِفَاضُ الْمَنْزِلَةِ وَانْحِطَاطُ الْمَرْتَبَةِ
لِانْحِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ ، وَنُفُورِهِمْ مِنْهُ وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ
الْحِكَمِ : الْحَسُودُ لَا يَسُودُ .
وَالثَّالِثَةُ : مَقْتُ النَّاسِ لَهُ حَتَّى لَا يَجِدَ فِيهِمْ مُحِبًّا ،
وَعَدَاوَتُهُمْ لَهُ حَتَّى لَا يَرَى فِيهِمْ وَلِيًّا ، فَيَصِيرُ
بِالْعَدَاوَةِ مَأْثُورًا ، وَبِالْمَقْتِ مَزْجُورًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { شَرُّ
النَّاسِ مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَيُبْغِضُوهُ } .
وَالرَّابِعَةُ : إسْخَاطُ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُعَارَضَتِهِ ، وَاجْتِنَاءِ
الْأَوْزَارِ فِي مُخَالَفَتِهِ ، إذْ لَيْسَ يَرَى قَضَاءَ اللَّهِ عَدْلًا ،
وَلَا لِنِعَمِهِ مِنْ النَّاسِ أَهْلًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَسَدُ
يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ : الْحَاسِدُ مُغْتَاظٌ عَلَى مَنْ لَا
ذَنْبَ لَهُ ، بَخِيلٌ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ ، طَالِبُ مَا لَا يَجِدُهُ .
وَإِذَا بُلِيَ الْإِنْسَانُ بِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ مِنْ حُسَّادِ النِّعَمِ
وَأَعْدَاءِ الْفَضْلِ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهِ ، وَتَوَقَّى مَصَارِعَ
كَيْدِهِ ، وَتَحَرَّزَ مِنْ غَوَائِلِ حَسَدِهِ ،
وَأَبْعَدَ
عَنْ مُلَابَسَتِهِ .
وَإِدْنَائِهِ لِعَضْلِ دَائِهِ ، وَإِعْوَازِ دَوَائِهِ .
فَقَدْ قِيلَ : حَاسِدُ النِّعْمَةِ لَا يُرْضِيهِ إلَّا زَوَالُهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ ضَرَّ بِطَبْعِهِ فَلَا تَأْنَسْ بِقُرْبِهِ ،
فَإِنَّ قَلْبَ الْأَعْيَانِ صَعْبُ الْمَرَامِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : أَسَدٌ تُقَارِبُهُ خَيْرٌ مِنْ حَسُودٍ تُرَاقِبُهُ
.
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ : أَعْطَيْتُ كُلَّ النَّاسِ مِنْ نَفْسِي الرِّضَى
إلَّا الْحَسُودَ فَإِنَّهُ أَعْيَانِي مَا إنَّ لِي ذَنْبًا إلَيْهِ عَلِمْتُهُ
إلَّا تَظَاهَرَ نِعْمَةَ الرَّحْمَنِ وَأَبَى فَمَا يُرْضِيهِ إلَّا ذِلَّتِي
وَذَهَابُ أَمْوَالِي وَقَطْعُ لِسَانِي وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ
مِنْهُنَّ : الطِّيَرَةُ وَسُوءُ الظَّنِّ ، وَالْحَسَدُ .
فَإِذَا تَطَيَّرْت فَلَا تَرْجِعْ ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تَتَحَقَّقْ ،
وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ } .
الْمُوَاضَعَةُ
وَالْإِصْلَاحُ .
فَصْلٌ : وَأَمَّا آدَابُ الْمُوَاضَعَةِ وَالِاصْطِلَاحِ فَضَرْبَانِ :
أَحَدُهُمَا مَا تَكُونُ الْمُوَاضَعَةُ فِي فُرُوعِهِ ، وَالْعَقْلُ مُوجِبٌ
لِأُصُولِهِ .
وَالثَّانِي مَا تَكُونُ الْمُوَاضَعَةُ فِي فُرُوعِهِ وَأُصُولِهِ .
وَذَلِكَ مُتَّضِحٌ فِي الْفُصُولِ الَّتِي نَذْكُرُهَا إذَا سُبِرَتْ وَهِيَ
ثَمَانِيَةٌ .
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْكَلَامِ وَالصَّمْتِ : اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ
تَرْجُمَانٌ يُعَبِّرُ عَنْ مُسْتَوْدَعَاتِ الضَّمَائِرِ ، وَيُخْبِرُ
بِمَكْنُونَاتِ السَّرَائِرِ ، لَا يُمْكِنُ اسْتِرْجَاعُ بَوَادِرِهِ ، وَلَا
يُقْدَرُ عَلَى رَدِّ شَوَارِدِهِ .
فَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ زَلَلِهِ بِالْإِمْسَاكِ عَنْهُ
أَوْ بِالْإِقْلَالِ مِنْهُ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ خَيْرًا فَغَنِمَ ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : { يَا مُعَاذُ أَنْتَ
سَالِمٌ مَا سَكَتَّ ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ فَعَلَيْك أَوْ لَك } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : اللِّسَانُ
مِعْيَارٌ أَطَاشَهُ الْجَهْلُ وَأَرْجَحَهُ الْعَقْلُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْزَمْ الصَّمْتَ تُعَدُّ حَكِيمًا ، جَاهِلًا
كُنْتَ أَوْ عَالِمًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : سَعِدَ مَنْ لِسَانُهُ صَمُوتٌ ، وَكَلَامُهُ قُوتٌ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مِنْ أَعْوَذِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْعَاقِلُ
أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ إلَّا لِحَاجَتِهِ أَوْ مَحَجَّتِهِ ، وَلَا يُفَكِّرُ إلَّا
فِي عَاقِبَتِهِ أَوْ فِي آخِرَتِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْزَمْ الصَّمْتَ فَإِنَّهُ يُكْسِبُك صَفْوَ
الْمَحَبَّةِ ، وَيُؤْمِنُك سُوءَ الْمَغَبَّةِ ، وَيُلْبِسُك ثَوْبَ الْوَقَارِ ،
وَيَكْفِيكَ مَئُونَةَ الِاعْتِذَارِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : اعْقِلْ لِسَانَك إلَّا عَنْ حَقٍّ تُوَضِّحُهُ ،
أَوْ بَاطِلٍ تَدْحَضُهُ ، أَوْ حِكْمَةٍ تَنْشُرُهَا ، أَوْ نِعْمَةٍ تَذْكُرُهَا
.
وَقَالَ الشَّاعِرُ : رَأَيْتُ الْعِزَّ فِي أَدَبٍ وَعَقْلٍ وَفِي الْجَهْلِ
الْمَذَلَّةُ وَالْهَوَانُ وَمَا حُسْنُ الرِّجَالِ لَهُمْ بِحُسْنٍ إذَا لَمْ
يُسْعِدْ
الْحُسْنَ الْبَيَانُ كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ تَرَاهُ لَهُ وَجْهٌ
وَلَيْسَ لَهُ لِسَانُ وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْكَلَامِ شُرُوطًا لَا يَسْلَمُ
الْمُتَكَلِّمُ مِنْ الزَّلَلِ إلَّا بِهَا ، وَلَا يَعْرَى مِنْ النَّقْصِ إلَّا
بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ : فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ
يَكُونَ الْكَلَامُ لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهِ إمَّا فِي اجْتِلَابِ نَفْعٍ أَوْ
دَفْعِ ضَرَرٍ .
وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ ، وَيَتَوَخَّى بِهِ
إصَابَةَ فُرْصَتِهِ .
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ .
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ : أَنْ يَتَخَيَّرَ اللَّفْظَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ .
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ مَتَى أَخَلَّ الْمُتَكَلِّمُ بِشَرْطٍ مِنْهَا
فَقَدْ أَوْهَنَ فَضِيلَةَ بَاقِيهَا .
وَسَنَذْكُرُ تَعْلِيلَ كُلِّ شَرْطٍ مِنْهَا بِمَا يُنَبِّئُ عَنْ لُزُومِهِ .
فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الدَّاعِي إلَى الْكَلَامِ ؛ فَلِأَنَّ
مَا لَا دَاعِيَ لَهُ هَذَيَانٌ ، وَمَا لَا سَبَبَ لَهُ هَجْرٌ .
وَمَنْ سَامَحَ نَفْسَهُ فِي الْكَلَامِ ، إذَا عَنَّ وَلَمْ يُرَاعِ صِحَّةَ
دَوَاعِيهِ ، وَإِصَابَةَ مَعَانِيهِ ، كَانَ قَوْلُهُ مَرْذُولًا ، وَرَأْيُهُ
مَعْلُولًا ، كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَائِشَةَ أَنَّ شَابًّا كَانَ
يُجَالِسُ الْأَحْنَفَ وَيُطِيلُ الصَّمْتَ ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْأَحْنَفَ
فَخَلَتْ الْحَلْقَةُ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ الْأَحْنَفُ : تَكَلَّمْ يَا ابْنَ
أَخِي .
فَقَالَ : يَا عَمِّ لَوْ أَنَّ رَجُلًا سَقَطَ مِنْ شُرَفِ هَذَا الْمَسْجِدِ
هَلْ كَانَ يَضُرُّهُ شَيْءٌ ؟ قَالَ : يَا ابْنَ أَخِي لَيْتَنَا تَرَكْنَاك
مَسْتُورًا .
ثُمَّ تَمَثَّلَ الْأَحْنَفُ بِقَوْلِ الْأَعْوَرِ الشَّنِّيُّ : وَكَائِنٌ تَرَى
مِنْ صَاحِبٍ لَك مُعْجِبٌ زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ لِسَانُ
الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ
وَالدَّمِ وَكَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْفَقِيهِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ
يَجْلِسُ إلَيْهِ فَيُطِيلُ الصَّمْتَ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ : أَلَا
تَسْأَلُ ؟ قَالَ : بَلَى .
مَتَى يُفْطِرُ الصَّائِمُ ؟ قَالَ : إذَا غَرَبَتْ
الشَّمْسُ
.
قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَغْرُبْ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ؟ قَالَ : فَتَبَسَّمَ أَبُو
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَمَثَّلَ بِبَيْتِيِّ الْخَطَفِيِّ جَدِّ جَرِيرٍ :
عَجِبْتُ لِإِزْرَاءِ الْعَيِيِّ بِنَفْسِهِ وَصَمْتِ الَّذِي قَدْ كَانَ
بِالْعِلْمِ أَعْلَمَا وَفِي الصَّمْتِ سِتْرٌ لِلْغَبِيِّ وَإِنَّمَا صَحِيفَةُ
لُبِّ الْمَرْءِ أَنْ يَتَكَلَّمَا وَمِمَّا أُطْرِفُك بِهِ عَنِّي أَنِّي كُنْتُ
يَوْمًا فِي مَجْلِسِي بِالْبَصْرَةِ وَأَنَا مُقْبِلٌ عَلَى تَدْرِيسِ أَصْحَابِي
إذْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ مُسِنٌّ قَدْ نَاهَزَ الثَّمَانِينَ أَوْ جَاوَزَهَا .
فَقَالَ لِي : قَدْ قَصَدْتُك بِمَسْأَلَةٍ اخْتَرْتُك لَهَا .
فَقُلْت : اسْأَلْ - عَافَاك اللَّهُ - وَظَنَنْتُهُ يَسْأَلُ عَنْ حَادِثٍ نَزَلَ
بِهِ ، فَقَالَ : أَخْبِرْنِي عَنْ نَجْمِ إبْلِيسَ ، وَنَجْمِ آدَمَ ، مَا هُوَ ؟
فَإِنَّ هَذَيْنِ لِعِظَمِ شَأْنِهِمَا لَا يُسْأَلُ عَنْهُمَا إلَّا عُلَمَاءُ
الدِّينِ .
فَعَجِبْتُ وَعَجِبَ مَنْ فِي مَجْلِسِي مِنْ سُؤَالِهِ وَبَدَرَ إلَيْهِ قَوْمٌ
مِنْهُمْ بِالْإِنْكَارِ وَالِاسْتِخْفَافِ فَكَفَفْتُهُمْ وَقُلْتُ : هَذَا لَا
يَقْنَعُ مَعَ مَا ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ إلَّا بِجَوَابٍ مِثْلِهِ .
فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ ، وَقُلْتُ : يَا هَذَا إنَّ الْمُنَجِّمِينَ يَزْعُمُونَ
أَنَّ نُجُومَ النَّاسِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ مَوَالِيدِهِمْ فَإِنْ
ظَفَرْتَ بِمَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَاسْأَلْهُ .
فَحِينَئِذٍ أَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ : جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا .
ثُمَّ انْصَرَفَ مَسْرُورًا .
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ عَادَ وَقَالَ : مَا وَجَدْت إلَى وَقْتِي هَذَا
مَنْ يَعْرِفُ مَوْلِدَ هَذَيْنِ .
فَانْظُرْ إلَى هَؤُلَاءِ كَيْفَ أَبَانُوا بِالْكَلَامِ عَنْ جَهْلِهِمْ ،
وَأَعْرَبُوا بِالسُّؤَالِ عَنْ نَقْصِهِمْ ، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَاعٍ
إلَيْهِ ، وَلَا رَوِيَّةٌ فِيمَا تَكَلَّمُوا بِهِ .
وَلَوْ صَدَرَ عَنْ رَوِيَّةٍ وَدَعَا إلَيْهِ دَاعٍ لَسَلِمُوا مِنْ شَيْنِهِ ،
وَبَرِئُوا مِنْ عَيْبِهِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لِسَانُ
الْعَاقِلِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ فَإِذَا أَرَادَ الْكَلَامَ رَجَعَ إلَى
قَلْبِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَكَلَّمَ وَإِنْ كَانَ
عَلَيْهِ
أَمْسَكَ .
وَقَلْبُ الْجَاهِلِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا عَرَضَ لَهُ
} .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : مَنْ لَمْ يَعُدَّ كَلَامَهُ مِنْ
عَمَلِهِ كَثُرَتْ خَطَايَاهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَقْلُ الْمَرْءِ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : احْبِسْ لِسَانَك قَبْلَ أَنْ يُطِيلَ حَبْسَك أَوْ
يُتْلِفَ نَفْسَك ، فَلَا شَيْءَ أَوْلَى بِطُولِ حَبْسٍ مِنْ لِسَانٍ يَقْصُرُ
عَنْ الصَّوَابِ ، وَيُسْرِعُ إلَى الْجَوَابِ .
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : وَمِمَّا كَانَتْ الْحُكَمَاءُ قَالَتْ
لِسَانُ الْمَرْءِ مِنْ تَبَعِ الْفُؤَادِ وَكَانَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ يَحْسِمُ
الرُّخْصَةَ فِي الْكَلَامِ وَيَقُولُ : إذَا جَالَسْت الْجُهَّالَ فَأَنْصِتْ
لَهُمْ ، وَإِذَا جَالَسْت الْعُلَمَاءَ فَأَنْصِتْ لَهُمْ ، فَإِنَّ فِي إنْصَاتِك
لِلْجُهَّالِ زِيَادَةً فِي الْحِلْمِ ، وَفِي إنْصَاتِك لِلْعُلَمَاءِ زِيَادَةً
فِي الْعِلْمِ .
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْكَلَامِ فِي مَوْضِعِهِ
؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي غَيْرِ حِينِهِ لَا يَقَعُ مَوْقِعَ الِانْتِفَاعِ بِهِ
، وَمَا لَا يَنْفَعُ مِنْ الْكَلَامِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ
هَذَيَانٌ وَهَجْرٌ ، فَإِنْ قَدَّمَ مَا يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ كَانَ عَجَلَةً
وَخَرَقًا وَإِنْ أَخَّرَ مَا يَقْتَضِي التَّقْدِيمَ كَانَ تَوَانِيًا وَعَجْزًا
؛ لِأَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ قَوْلًا ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ عَمَلًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : تَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى مَوَاضِعِهِ وَكَلَامُهَا مِنْ
بَعْدِهَا نَزْرُ وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ
عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ .
فَإِنَّ الْكَلَامَ إنْ لَمْ يَنْحَصِرْ بِالْحَاجَةِ ، وَلَمْ يُقَدَّرْ
بِالْكِفَايَةِ ، لَمْ يَكُنْ لِحَدِّهِ غَايَةٌ ، وَلَا لِقَدْرِهِ نِهَايَةٌ .
وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْكَلَامِ مَحْصُورًا كَانَ حَصْرًا إنْ قَصُرَ ،
وَهَذْرًا إنْ كَثُرَ .
وَرُوِيَ { أَنَّ أَعْرَابِيًّا تَكَلَّمَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَوَّلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : كَمْ دُونَ لِسَانِك مِنْ حِجَابٍ ؟ قَالَ : شَفَتَايَ
وَأَسْنَانِي
.
قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَكْرَهُ الِانْبِعَاقَ فِي الْكَلَامِ } .
فَنَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَ امْرِئٍ أَوْجَزَ فِي كَلَامِهِ ، فَاقْتَصَرَ عَلَى
حَاجَتِهِ .
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ رَأَى رَجُلًا يُكْثِرُ الْكَلَامَ وَيُقِلُّ
السُّكُوتَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَلْقَ لَك أُذُنَيْنِ وَلِسَانًا
وَاحِدًا لِيَكُونَ مَا تَسْمَعُهُ ضِعْفَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَتْ آثَامُهُ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : أُنْذِرُكُمْ فُضُولَ الْمَنْطِقِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : كَلَامُ الْمَرْءِ بَيَانُ فَضْلِهِ ،
وَتَرْجُمَانُ عَقْلِهِ ، فَاقْصُرْهُ عَلَى الْجَمِيلِ وَاقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى
الْقَلِيلِ ، وَإِيَّاكَ مَا يُسْخِطُ سُلْطَانَك ، وَيُوحِشُ إخْوَانَك ، فَمَنْ
أَسْخَطَ سُلْطَانَهُ تَعَرَّضَ لِلْمَنِيَّةِ وَمَنْ أَوْحَشَ إخْوَانَهُ تَبَرَّأَ
مِنْ الْحُرِّيَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَزِنْ الْكَلَامَ إذَا نَطَقْتَ فَإِنَّمَا
يُبْدِي عُيُوبَ ذَوِي الْعُيُوبِ الْمَنْطِقُ وَلِمُخَالَفَةِ قَدْرِ الْحَاجَةِ
مِنْ الْكَلَامِ حَالَتَانِ : تَقْصِيرٌ يَكُونُ حَصْرًا ، وَتَكْثِيرٌ يَكُونُ
هَذْرًا ، وَكِلَاهُمَا شَيْنٌ .
وَشَيْنُ الْهَذَرِ أَشْنَعُ ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْغَالِبِ أَخْوَفَ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ
عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَقْتَلُ الرَّجُلِ بَيْنَ فَكَّيْهِ ، وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْحَصْرُ خَيْرٌ مِنْ الْهَذْرِ ؛ لِأَنَّ الْحَصْرَ
يُضَعِّفُ الْحُجَّةَ ، وَالْهَذْرَ يُتْلِفُ الْمَحَجَّةَ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : رَأَيْت اللِّسَانَ عَلَى أَهْلِهِ إذَا سَاسَهُ
الْجَهْلُ لَيْثًا مُغِيرَا وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : يَا رُبَّ أَلْسِنَةٍ
كَالسُّيُوفِ تَقْطَعُ أَعْنَاقَ أَصْحَابِهَا .
وَمَا يَنْقُصُ مِنْ هَيْئَاتِ الرِّجَالِ يَزِيدُ فِي بِهَائِهَا وَأَلْبَابِهَا
.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْكَلَامَ إذَا كَثُرَ عَنْ قَدْرِ
الْحَاجَةِ ، وَزَادَ عَلَى حَدِّ الْكِفَايَةِ ، وَكَانَ صَوَابًا لَا يَشُوبُهُ
خَطَلٌ
، وَسَلِيمًا لَا يَتَعَوَّدُهُ زَلَلٌ ، فَهُوَ الْبَيَانُ وَالسَّحَرُ
الْحَلَالُ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ، وَقَدْ ذُمَّ الْكَلَامُ فِي
مَجْلِسِهِ : كَلًّا إنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَسْكُتَ
فَيُحْسِنَ ، وَلَيْسَ مَنْ سَكَتَ فَأَحْسَنَ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ
فَيُحْسِنَ .
وَوَصَفَ بَعْضُهُمْ الْكَاتِبَ فَقَالَ : الْكَاتِبُ مَنْ إذَا أَخَذَ شِبْرًا
كَفَاهُ ، وَإِذَا وَجَدَ طُومَارًا أَمْلَاهُ .
وَأَنْشُدَ بَعْضُهُمْ فِي خُطَبَاءِ إيَادٍ : يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ
وَتَارَةً وَحْيَ الْمَلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ
صَالِحٍ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ إذَا أَقْلَلْتَ مِنْ الْكَلَامِ أَكْثَرْتَ مِنْ
الصَّوَابِ .
فَقَالَ : يَا أَبَتِ فَإِنْ أَنَا أَكْثَرْتُ وَأَكْثَرْت يَعْنِي كَلَامًا
وَصَوَابًا .
فَقَالَ : يَا بُنَيَّ مَا رَأَيْتُ مَوْعُوظًا أَحَقَّ بِأَنْ يَكُونَ وَاعِظًا
مِنْك .
وَأَنْشَدْت لِأَبِي الْفَتْحِ الْبُسْتِيِّ : تَكَلَّمْ وَسَدِّدْ مَا اسْتَطَعْت
فَإِنَّمَا كَلَامُكَ حَيٌّ وَالسُّكُوتُ جَمَادُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَوْلًا
سَدِيدًا تَقُولُهُ فَصَمْتُكَ عَنْ غَيْرِ السَّدَادِ سَدَادُ وَقِيلَ لِإِيَاسِ
بْنِ مُعَاوِيَةَ : مَا فِيك عَيْبٌ إلَّا كَثْرَةُ الْكَلَامِ ، فَقَالَ :
أَفَتَسْمَعُونَ صَوَابًا أَوْ خَطَأً ؟ قَالُوا : لَا بَلْ صَوَابًا .
قَالَ : فَالزِّيَادَةُ مِنْ الْخَيْرِ خَيْرٌ .
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْجَاحِظُ : لِلْكَلَامِ غَايَةٌ ، وَلِنَشَاطِ
السَّامِعِينَ نِهَايَةٌ .
وَمَا فَضَلَ عَنْ مِقْدَارِ الِاحْتِمَالِ ، وَدَعَا إلَى الِاسْتِثْقَالِ
وَالْمَلَالِ ، فَذَلِكَ الْفَاضِلُ هُوَ الْهَذْرُ .
وَصَدَقَ أَبُو عُثْمَانَ ؛ لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ صَوَابًا
يُمِلُّ السَّامِعَ وَيُكِلُّ الْخَاطِرَ وَهُوَ صَادِرٌ عَنْ إعْجَابٍ بِهِ
لَوْلَاهُ قَصُرَ عَنْهُ .
وَمَنْ أُعْجِبَ بِكَلَامِهِ اسْتَرْسَلَ فِيهِ ، وَالْمُسْتَرْسِلُ فِي
الْكَلَامِ كَثِيرُ الزَّلَلِ دَائِمُ الْعِثَارِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أُعْجِبَ بِقَوْلِهِ أُصِيبَ بِعَقْلِهِ .
وَلَيْسَ لِكَثْرَةِ الْهَذْرِ رَجَاءٌ يُقَابِلُ خَوْفَهُ ، وَلَا نَفْعٌ
يُوَازِي ضُرَّهُ ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ
مِنْ
نَفْسِهِ الزَّلَلَ ، وَمِنْ سَامِعِيهِ الْمَلَلَ .
وَلَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ هَذَيْنِ حَاجَةٌ دَاعِيَةٌ وَلَا نَفْعٌ مَرْجُوٌّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ أَبْغَضُكُمْ إلَيَّ الْمُتَفَيْهِقُ الْمِكْثَارُ وَالْمُلِحُّ الْمِهْذَارُ }
.
وَسَأَلَ رَجُلٌ حَكِيمًا فَقَالَ : مَتَى أَتَكَلَّمُ ؟ قَالَ : إذَا اشْتَهَيْتَ
الصَّمْتَ .
فَقَالَ : مَتَى أَصْمُتُ ؟ قَالَ : إذَا اشْتَهَيْتَ الْكَلَامَ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى : إذَا كَانَ الْإِيجَازُ كَافِيًا كَانَ
الْإِكْثَارُ عِيًّا ، وَإِنْ كَانَ الْإِكْثَارُ وَاجِبًا كَانَ التَّقْصِيرُ
عَجْزًا .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : إذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلَامُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ أَطَالَ صَمْتَهُ اجْتَلَبَ مِنْ الْهَيْبَةِ
مَا يَنْفَعُهُ ، وَمِنْ الْوَحْشَةِ مَا لَا يَضُرُّهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : عِيٌّ تَسْلَمُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ مَنْطِقٍ
تَنْدَمُ عَلَيْهِ فَاقْتَصِرْ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُقِيمُ حُجَّتَك ،
وَيُبَلِّغُ حَاجَتَك ، وَإِيَّاكَ وَفُضُولَهُ فَإِنَّهُ يُزِلُّ الْقَدَمَ ،
وَيُورِثُ النَّدَمَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : فَمُ الْعَاقِلِ مُلَجَّمٌ إذَا هَمَّ بِالْكَلَامِ
أَحْجَمَ ، وَفَمُ الْجَاهِلِ مُطْلَقٌ كُلَّمَا شَاءَ أَطْلَقَ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إنَّ الْكَلَامَ يَغُرُّ الْقَوْمَ جِلْوَتُهُ
حَتَّى يَلِجَّ بِهِ عِيٌّ وَإِكْثَارُ وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ : وَهُوَ
اخْتِيَارُ اللَّفْظِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ ؛ فَلِأَنَّ اللِّسَانَ عُنْوَانُ
الْإِنْسَانِ يُتَرْجِمُ عَنْ مَجْهُولِهِ ، وَيُبَرْهِنُ عَنْ مَحْصُولِهِ ،
فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِتَهْذِيبِ أَلْفَاظِهِ حَرِيًّا وَبِتَقْوِيمِ
لِسَانِهِ مَلِيًّا .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ
لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ : يُعْجِبُنِي جَمَالُك .
قَالَ : وَمَا جَمَالُ الرَّجُلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِسَانُهُ } .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ : مَا الْإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ هَلْ إلَّا
بَهِيمَةٌ مُهْمَلَةٌ أَوْ صُورَةٌ مُمَثَّلَةٌ ؟ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ :
اللِّسَانُ وَزِيرُ الْإِنْسَانِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : كَلَامُ الْمَرِيدِ وَافِدُ أَدَبِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : يُسْتَدَلُّ عَلَى عَقْلِ الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ ،
وَعَلَى أَصْلِهِ بِفِعْلِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَإِنَّ لِسَانَ الْمَرْءِ مَا لَمْ تَكُنْ لَهُ
حَصَاةٌ عَلَى عَوْرَاتِهِ لَدَلِيلُ وَلَيْسَ يَصِحُّ اخْتِيَارُ الْكَلَامِ لَا
لِمَنْ أَخَذَ نَفْسَهُ بِالْبَلَاغَةِ ، وَكَلَّفَهَا لُزُومَ الْفَصَاحَةِ ،
حَتَّى يَصِيرَ مُتَدَرِّبًا بِهَا مُعْتَادًا لَهَا ، فَلَا يَأْتِيَ بِكَلَامٍ
مُسْتَكْرَهِ اللَّفْظِ وَلَا مُخْتَلِّ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الْبَلَاغَةَ
لَيْسَتْ عَلَى مَعَانٍ مُفْرَدَةٍ وَلَا لِأَلْفَاظِهَا غَايَةٌ ، وَإِنَّمَا
الْبَلَاغَةُ أَنْ تَكُونَ بِالْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ مُسْتَوْدَعَةٌ فِي
أَلْفَاظٍ فَصَيْحَةٍ .
فَتَكُونُ فَصَاحَةُ الْأَلْفَاظِ مَعَ صِحَّةِ الْمَعَانِي هِيَ الْبَلَاغَةُ .
وَقَدْ قِيلَ لِلْيُونَانِيِّ ؛ مَا الْبَلَاغَةُ ؟ قَالَ : اخْتِيَارُ الْكَلَامِ
وَتَصْحِيحُ الْأَقْسَامِ .
وَقِيلَ ذَلِكَ لِلرُّومِيِّ ، فَقَالَ : حَسَنُ الِاخْتِصَارِ عِنْدَ
الْبَدِيهَةِ وَالْغَزَارَةُ يَوْمَ الْإِطَالَةِ .
وَقِيلَ لِلْهِنْدِيِّ فَقَالَ : مَعْرِفَةُ الْفَصْلِ مِنْ الْوَصْلِ .
وَقِيلَ لِلْعَرَبِيِّ فَقَالَ : مَا حَسُنَ إيجَازُهُ وَقَلَّ مَجَازُهُ .
وَقِيلَ لِلْبَدْوِيِّ فَقَالَ : مَا دُونَ السَّحَرِ وَفَوْقَ الشِّعْرِ ،
يَفُتُّ الْخَرْدَلَ وَيَحُطُّ الْجَنْدَلَ .
وَقِيلَ لِلْحَضَرِيِّ فَقَالَ : مَا كَثُرَ إعْجَازُهُ وَتَنَاسَبَتْ صُدُورُهُ
وَأَعْجَازُهُ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : الْبَلَاغَةُ قِلَّةُ الْحَصْرِ وَالْجَرَاءَةُ
عَلَى الْبَشَرِ .
وَسَأَلَ الْحَجَّاجُ ابْنَ الْقَرْيَةِ عَنْ الْإِيجَازِ قَالَ : أَنْ تَقُولَ
فَلَا تُبْطِئَ وَأَن تُصِيبَ فَلَا تُخْطِئَ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : خَيْرُ الْكَلَامِ قَلِيلٌ عَلَى كَثِيرٍ دَلِيلُ وَالْعِيُّ
مَعْنًى قَصِيرٌ يَحُوبُهُ لَفْظٌ طَوِيلُ وَفِي الْكَلَامِ فُضُولٌ وَفِيهِ قَالٌ
وَقِيلُ وَأَمَّا صِحَّةُ الْمَعَانِي فَتَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : إيضَاحُ تَفْسِيرِهَا حَتَّى لَا تَكُونَ مُشْكِلَةً وَلَا مُجْمَلَةً
.
وَالثَّانِي : اسْتِيفَاءُ تَقْسِيمِهَا حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِيهَا مَا لَيْسَ
مِنْهَا
وَلَا يَخْرُجَ عَنْهَا مَا هُوَ فِيهَا .
وَالثَّالِثُ : صِحَّةُ مُقَابَلَاتِهَا .
وَالْمُقَابَلَةُ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا مُقَابَلَةُ الْمَعْنَى
بِمَا يُوَافِقُهُ وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْمُقَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ
تَصِيرُ مُتَشَاكِلَةً .
وَالثَّانِي مُقَابَلَتُهُ بِمَا يُضَادُّهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمُقَابَلَةِ .
وَلَيْسَ لِلْمُقَابَلَةِ إلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : الْمُوَافَقَةُ
فِي الِائْتِلَافِ وَالْمُضَادَّةُ مَعَ الِاخْتِلَافِ .
فَأَمَّا فَصَاحَةُ الْأَلْفَاظِ فَتَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا :
مُجَانَبَةُ الْغَرِيبِ الْوَحْشِيِّ حَتَّى لَا يَمُجَّهُ سَمْعٌ وَلَا يَنْفِرُ
مِنْهُ طَبْعٌ .
وَالثَّانِي : تَنَكُّبُ اللَّفْظِ الْمُسْتَبْذَلِ ، وَالْعُدُولُ عَنْ
الْكَلَامِ الْمُسْتَرْذَلِ ، حَتَّى لَا يَسْتَسْقِطَهُ خَاصِّيٌّ وَلَا يَنْبُوَ
عَنْ فَهْمِهِ عَامِّيٌّ .
كَمَا قَالَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ : أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَرَ
قَوْمًا أَمْثَلَ طَرِيقَةً فِي الْبَلَاغَةِ مِنْ الْكُتَّابِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
قَدْ الْتَمَسُوا مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَوَعِّرًا وَحْشِيًّا وَلَا
سَاقِطًا عَامِّيًّا .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ كَالْقَوَالِبِ لِمَعَانِيهَا
فَلَا تَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا تَنْقُصُ عَنْهَا .
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ ، فِي وَصِيَّتِهِ فِي الْبَلَاغَةِ : إذَا
لَمْ تَجِدْ اللَّفْظَةَ وَاقِعَةً مَوْقِعَهَا ، وَلَا صَائِرَةً إلَى
مُسْتَقَرِّهَا ، وَلَا حَالَّةً فِي مَرْكَزِهَا ، بَلْ وَجَدْتهَا قَلِقَةً فِي
مَكَانِهَا ، نَافِرَةً عَنْ مَوْضِعِهَا ، فَلَا تُكْرِهُهَا عَلَى الْقَرَارِ
فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ، فَإِنَّك إنْ لَمْ تَتَعَاطَ قَرِيضَ الشِّعْرِ
الْمَوْزُونِ ، وَلَمْ تَتَكَلَّفْ اخْتِيَارَ الْكَلَامِ الْمَنْثُورِ ، لَمْ
يَعِبْك بِتَرْكِ ذَلِكَ أَحَدٌ .
وَإِذَا أَنْتَ تَكَلَّفْتَهُمَا وَلَمْ تَكُنْ حَاذِقًا فِيهِمَا عَابَك مَنْ
أَنْتَ أَقَلُّ عَيْبًا مِنْهُ ، وَأَزْرَى عَلَيْك مَنْ أَنْتَ فَوْقَهُ .
وَأَمَّا الْمُنَاسَبَةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَلِيقُ بِبَعْضِ
الْأَلْفَاظِ إمَّا لِعُرْفٍ مُسْتَعْمَلٍ ، أَوْ لِاتِّفَاقٍ مُسْتَحْسَنٍ ،
حَتَّى إذَا
ذَكَرْت
تِلْكَ الْمَعَانِيَ بَعْدَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ كَانَتْ نَافِرَةً عَنْهَا ، وَإِنْ
كَانَتْ أَفْصَحَ وَأَوْضَحَ لِاعْتِيَادِ مَا سِوَاهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا يَكُونُ الْبَلِيغُ بَلِيغًا حَتَّى يَكُونَ
مَعْنَى كَلَامُهُ أَسْبَقَ إلَى فَهْمِك مِنْ لَفْظِهِ إلَى سَمْعِك .
وَأَمَّا مُعَاطَاةُ الْإِعْرَابِ وَتَجَنُّبُ اللَّحَنِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ
صِفَاتِ الصَّوَابِ وَالْبَلَاغَةُ أَعْلَى مِنْهُ رُتْبَةً ، وَأَشْرَفُ
مَنْزِلَةً .
وَلَيْسَ لِمَنْ لَحَنَ فِي كَلَامِهِ مُدْخَلٌ فِي الْأُدَبَاءِ فَضْلًا عَنْ
أَنْ يَكُونَ فِي عِدَادِ الْبُلَغَاءُ .
وَاعْلَمْ
أَنَّ لِلْكَلَامِ آدَابًا إنْ أَغْفَلَهَا الْمُتَكَلِّمُ أَذْهَبَ رَوْنَقَ
كَلَامِهِ ، وَطَمَسَ بَهْجَةَ بَيَانِهِ ، وَلَهَا النَّاسَ عَنْ مَحَاسِنِ
فَضْلِهِ بِمُسَاوِي أَدَبِهِ ، فَعَدَلُوا عَنْ مَنَاقِبِهِ بِذِكْرِ مَثَالِبِهِ
.
فَمِنْ آدَابِهِ : أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ فِي مَدْحٍ وَلَا يُسْرِفَ فِي ذَمٍّ
وَإِنْ كَانَتْ النَّزَاهَةُ عَنْ الذَّمِّ كَرَمًا وَالتَّجَاوُزُ فِي الْمَدْحِ
مَلَقًا يَصْدُرُ عَنْ مَهَانَةٍ .
وَالسَّرَفُ فِي الذَّمِّ انْتِقَامٌ يَصْدُرُ عَنْ شَرٍّ ، وَكِلَاهُمَا شَيْنٌ
وَإِنْ سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ .
يُرْوَى أَنَّهُ { لَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَفْدُ تَمِيمٍ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْأَهْتَمِ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ فَمَدَحَهُ ،
فَقَالَ قَيْسٌ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَنِّي خَيْرٌ
مِمَّا وَصَفَ وَلَكِنْ حَسَدَنِي ، فَذَمَّهُ عَمْرٌو وَقَالَ : وَاَللَّهِ يَا
رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَدَقْت فِي الْأُولَى وَمَا كَذَبْت فِي الْأُخْرَى ؛
لِأَنِّي رَضِيتُ فِي الْأُولَى فَقُلْت أَحْسَنَ مَا عَلِمْت وَسَخِطْت فِي
الْأُخْرَى فَقُلْت أَقْبَحَ مَا عَلِمْت .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ مِنْ
الْبَيَانِ لَسِحْرًا } .
عَلَى أَنَّ السَّلَامَةَ مِنْ الْكَذِبِ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مُتَعَذِّرَةٌ
لَا سِيَّمَا إذَا مَدَحَ تَقَرُّبًا وَذَمَّ تَحَنُّقًا .
وَحُكِيَ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ : سَهِرْت لَيْلَتِي
أُفَكِّرُ فِي كَلِمَةٍ أُرْضِي بِهَا سُلْطَانِي وَلَا أُسْخِطُ بِهَا رَبِّي
فَمَا وَجَدْتهَا .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ الرَّجُلَ لَيَدْخُلُ عَلَى
السُّلْطَانِ وَمَعَهُ دِينُهُ فَيَخْرُجُ وَمَا مَعَهُ دِينُهُ .
قِيلَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ يُرْضِيهِ بِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
.
وَسَمِعَ ابْنُ الرُّومِيِّ رَجُلًا يَصِفُ رَجُلًا وَيُبَالِغُ فِي مَدْحِهِ
فَأَنْشَأَ يَقُولُ : إذَا مَا وَصَفْتَ امْرَأً لِامْرِئٍ فَلَا تَغْلُ فِي
وَصْفِهِ وَاقْصِدْ فَإِنَّك إنْ تَغْلُ تَغْلُ الظُّنُونُ فِيهِ إلَى الْأَمَدِ
الْأَبْعَدِ فَيَضْأَلُ مِنْ حَيْثُ عَظَّمْتَهُ
لِفَضْلِ الْمَغِيبِ عَلَى الْمَشْهَدِ
وَمِنْ
آدَابِهِ : أَنْ لَا تَبْعَثَهُ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ
فِي وَعْدٍ أَوْ وَعِيدٍ يَعْجِزُ عَنْهُمَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ
بِهِمَا .
فَإِنَّ مَنْ أَطْلَقَ بِهِمَا لِسَانَهُ وَأَرْسَلَ فِيهِمَا عِنَانَهُ ، وَلَمْ
يَسْتَثْقِلْ مِنْ الْقَوْلِ مَا يَسْتَثْقِلُهُ مِنْ الْعَمَلِ ، صَارَ وَعْدُهُ
نَكْثًا وَوَعِيدُهُ عَجْزًا .
وَحُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، مَرَّ
بِعُصْفُورٍ يَدُورُ حَوْلَ عُصْفُورَةٍ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : هَلْ تَدْرُونَ
مَا يَقُولُ لَهَا ؟ قَالُوا : لَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ .
قَالَ : إنَّهُ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ وَيَقُولُ لَهَا زَوِّجِينِي نَفْسَك
أُسْكِنُكِ أَيَّ غُرَفِ دِمَشْقَ شِئْتِ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ : كَذَبَ الْعُصْفُورُ فَإِنَّ غُرَفَ دِمَشْقَ مَبْنِيَّةٌ
بِالصُّخُورِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُسْكِنَهَا هُنَاكَ ، وَلَكِنْ كُلُّ خَاطِبٍ
كَاذِبٌ .
وَمِنْ آدَابِهِ : إنْ قَالَ قَوْلًا حَقَّقَهُ بِفِعْلِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ
بِكَلَامٍ صَدَّقَهُ فَعَمِلَهُ ، فَإِنَّ إرْسَالَ الْقَوْلِ اخْتِيَارٌ ،
وَالْعَمَلَ بِهِ اضْطِرَارٌ .
وَلَئِنْ يَفْعَلَ مَا لَمْ يَقُلْ أَجْمَلُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَفْعَلْ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَحْسَنُ الْكَلَامِ مَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى
الْكَلَامِ أَيْ يَكْتَفِي بِالْفِعْلِ مِنْ الْقَوْلِ .
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ : الْقَوْلُ مَا صَدَّقَهُ الْفِعْلُ وَالْفِعْلُ
مَا وَكَّدَهُ الْعَقْلُ لَا يَثْبُتُ الْقَوْلُ إذَا لَمْ يَكُنْ يُقِلُّهُ مِنْ
تَحْتِهِ الْأَصْلُ
وَمِنْ
آدَابِهِ : أَنْ يُرَاعِيَ مَخَارِجَ كَلَامِهِ بِحَسَبِ مَقَاصِدِهِ
وَأَغْرَاضِهِ فَإِنْ كَانَ تَرْغِيبًا قَرَنَهُ بِاللِّينِ وَاللُّطْفِ ، وَإِنْ
كَانَ تَرْهِيبًا خَلَطَهُ بِالْخُشُونَةِ وَالْعُنْفِ ، فَإِنَّ لِينَ اللَّفْظِ
فِي التَّرْهِيبِ وَخُشُونَتُهُ فِي التَّرْغِيبِ خُرُوجٌ عَنْ مَوْضِعِهِمَا
وَتَعْطِيلٌ لِلْمَقْصُودِ بِهِمَا ، فَيَصِيرُ الْكَلَامُ لَغْوًا وَالْغَرَضُ
الْمَقْصُودُ لَهْوًا .
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ إنْ كُنْت
فِي قَوْمٍ فَلَا تَتَكَلَّمْ بِكَلَامِ مَنْ هُوَ فَوْقَك فَيَمْقُتُوك ، وَلَا
بِكَلَامِ مَنْ هُوَ دُونَك فَيَزْدَرُوك .
وَمِنْ
آدَابِهِ : أَنْ لَا يَرْفَعَ بِكَلَامِهِ صَوْتًا مُسْتَنْكَرًا وَلَا يَنْزَعِجَ
لَهُ انْزِعَاجًا مُسْتَهْجَنًا ، وَلْيَكُفَّ عَنْ حَرَكَةٍ تَكُونُ طَيْشًا
وَعَنْ حَرَكَةٍ تَكُونُ عِيًّا ، فَإِنَّ نَقْصَ الطَّيْشِ أَكْثَرُ مِنْ فَضْلِ
الْبَلَاغَةِ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ : أَخَطِيبٌ أَنَا ؟ قَالَ
: نَعَمْ لَوْلَا أَنَّك تُكْثِرُ الرَّدَّ ، وَتُشِيرُ بِالْيَدِ ، وَتَقُولُ
أَمَّا بَعْدُ .
وَمِنْ
آدَابِهِ : أَنْ يَتَجَافَى هَجَرَ الْقَوْلِ وَمُسْتَقْبَحَ الْكَلَامِ ،
وَلْيَعْدِلْ إلَى الْكِنَايَةِ عَمَّا يُسْتَقْبَحُ صَرِيحُهُ وَيُسْتَهْجَنُ فَصِيحُهُ
؛ لِيَبْلُغَ الْغَرَضَ وَلِسَانُهُ نَزِهٌ وَأَدَبُهُ مَصُونٌ .
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا مَرُّوا
بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } .
قَالَ : كَانُوا إذَا ذَكَرُوا الْفُرُوجَ كَنَّوْا عَنْهَا .
وَكَمَا أَنَّهُ يَصُونُ لِسَانَهُ عَنْ ذَلِكَ فَهَكَذَا يَصُونُ عَنْهُ سَمْعَهُ
، فَلَا يَسْمَعُ خَنَاءً وَلَا يُصْغِي إلَى فُحْشٍ فَإِنَّ سَمَاعَ الْفُحْشِ
دَاعٍ إلَى إظْهَارِهِ ، وَذَرِيعَةٌ إلَى إنْكَارِهِ .
وَإِذَا وَجَدَ عَنْ الْفُحْشِ مَعْرِضًا كَفَّ قَائِلُهُ وَكَانَ إعْرَاضُهُ
أَحَدَ النَّكِيرَيْنِ ، كَمَا أَنَّ سَمَاعَهُ أَحَدُ الْبَاعِثَيْنِ .
وَأَنْشَدَنِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْحَارِثِ الْهَاشِمِيُّ : تَحَرَّ مِنْ
الطُّرُقِ أَوْسَاطَهَا وَعُدْ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمُشْتَبِهْ وَسَمْعَك صُنْ
عَنْ قَبِيحِ الْكَلَا مِ كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنْ النُّطْقِ بِهِ فَإِنَّك
عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقَبِيحِ شَرِيكٌ لِقَائِلِهِ فَانْتَبِهْ وَمِمَّا يَجْرِي
مَجْرَى فُحْشِ الْقَوْلِ وَهَجْرِهِ فِي وُجُوبِ اجْتِنَابِهِ ، وَلُزُومِ
تَنَكُّبِهِ ، مَا كَانَ شَنِيعَ الْبَدِيهَةِ مُسْتَنْكَرَ الظَّاهِرِ ، وَإِنْ
كَانَ عَقِبَ التَّأَمُّلِ سَلِيمًا ، وَبَعْدَ الْكَشْفِ وَالرَّوِيَّةِ
مُسْتَقِيمًا ، كَاَلَّذِي رَوَاهُ الْأَزْدِيُّ عَنْ الصُّولِيِّ لِبَعْضِ
الْمُتَكَلِّفِينَ مِنْ الشُّعَرَاءِ إنَّنِي شَيْخٌ كَبِيرٌ كَافِرٌ بِاَللَّهِ
سِيرِي أَنْتِ رَبِّي وَإِلَهِي رَازِقُ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ
كَافِرٌ أَيْ لَابِسٌ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ التَّغْطِيَةُ .
وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْكَافِرُ بِاَللَّهِ كَافِرًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ غَطَّى
نِعْمَةَ اللَّهِ بِمَعْصِيَتِهِ .
وَقَوْلُهُ بِاَللَّهِ سِيرِي يُقْسِمُ عَلَيْهَا أَنْ تَسِيرَ .
وَقَوْلُهُ أَنْتَ رَبِّي يَعْنِي رَبِّي وَلَدَك مِنْ التَّرْبِيَةِ .
وَإِلَهِي رَازِقُ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ كَمَا أَنَّهُ رَازِقُ الْوَلَدِ
الْكَبِيرِ .
فَانْظُرْ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ الشَّنِيعِ ، وَالتَّعَمُّقِ الْبَشِيعِ ، مَا
اعْتَاضَ مِنْ حَيْثُ
الْبَدِيهَةُ
إذَا سَلَّمَ بَعْدَ الْفِكْرِ وَالرَّوِيَّةِ إلَّا لُؤْمًا إنْ حَسُنَ فِيهِ
الظَّنُّ ، أَوْ ذَمًّا إنْ قَوِيَ فِيهِ الِارْتِيَابُ .
وَقَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ خَلِيعٍ بَطِرٍ أَوْ مُرْتَابٍ أَشِرٍ .
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ } فَخَارِجٌ مِنْ
هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّلْبِيسِ .
وَفِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ
الصَّلَاةِ فِي الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ الْمُحْدَوْدِبِ ، مَأْخُوذٌ مِنْ
النَّبْوَةِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَرَادَ الطَّرِيقَ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ رُسُلُ اللَّهِ
أَنْبِيَاءَ ؛ لِأَنَّهُمْ الطُّرُقُ إلَيْهِ .
إنَّمَا زَالَ عَنْهُ التَّلْبِيسُ إذَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ تَلْبِيسًا شَنِيعًا ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ
خِطَابِهِ وَشَوَاهِدَ أَحْوَالِهِ يَصْرِفَانِ كَلَامَهُ عَنْ التَّجَوُّزِ
وَالِاسْتِرْسَالِ فِي أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ إلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ بِهِ
شَرْعٌ وَيَنْهَى عَنْهُ نَبِيٌّ .
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ وَلِذَلِكَ افْتَرَقَ وُجُودُهُ مِنْهُ
وَمِنْ غَيْرِهِ .
وَمِنْ
آدَابِهِ أَنْ يَجْتَنِبَ أَمْثَالَ الْعَامَّةِ الْغَوْغَاءِ وَيَتَخَصَّصَ
بِأَمْثَالِ الْعُلَمَاءِ الْأُدَبَاءِ فَإِنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ النَّاسِ
أَمْثَالًا تُشَاكِلُهُمْ ، فَلَا تَجِدْ لِسَاقِطٍ إلَّا مَثَلًا سَاقِطًا
وَتَشْبِيهًا مُسْتَقْبَحًا .
وَلِلسُّقَّاطِ أَمْثَالٌ فَمِنْهَا تَمَثُّلُهُمْ لِلشَّيْءِ الْمُرِيبِ ، كَمَا
قَالَ الصَّنَوْبَرِيُّ : إذَا مَا كُنْتَ ذَا بَوْلٍ صَحِيحٍ أَلَا فَاضْرِبْ
بِهِ وَجْهَ الطَّبِيبِ وَلِذَلِكَ عِلَّتَانِ .
إحْدَاهُمَا : أَنَّ الْأَمْثَالَ مِنْ هَوَاجِسِ الْهِمَمِ وَخَطِرَاتِ
النُّفُوسِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِذِي الْهِمَّةِ السَّاقِطَةِ إلَّا مَثَلٌ مَرْذُولٌ
، وَتَشْبِيهٌ مَعْلُولٌ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ الْأَمْثَالَ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ أَحْوَالِ
الْمُتَمَثِّلِينَ بِهَا ، فَبِحَسَبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ تَكُونُ أَمْثَالُهُمْ .
فَلِهَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَمْثَالِ الْخَاصَّةِ
وَأَمْثَالِ الْعَامَّةِ .
وَرُبَّمَا أَلَّفَ الْمُتَخَصِّصُ مَثَلًا عَامِّيًّا أَوْ تَشْبِيهًا رَكِيكًا ؛
لِكَثْرَةِ مَا يَطْرُقُ سَمْعَهُ مِنْ مُخَالَطَةِ الْأَرَاذِلِ فَيَسْتَرْسِلُ
فِي ضَرْبِهِ مَثَلًا فَيَصِيرُ بِهِ مَثَلًا ، كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ
الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الرَّشِيدَ سَأَلَهُ يَوْمًا عَنْ أَنْسَابِ بَعْضِ
الْعَرَبِ فَقَالَ : عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .
فَقَالَ لَهُ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ : أَسْقَطَ اللَّهُ جَنْبَيْك أَتَخَاطَبُ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ ؟ فَكَانَ الْفَضْلُ بْنُ
الرَّبِيعِ ، مَعَ قِلَّةِ عِلْمِهِ أَعْلَمَ بِمَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ الْكَلَامِ
فِي مُحَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ مِنْ الْأَصْمَعِيِّ الَّذِي هُوَ وَاحِدُ عَصْرِهِ
وَقَرِيعُ دَهْرِهِ .
وَلِلْأَمْثَالِ مِنْ الْكَلَامِ مَوْقِعٌ فِي الْأَسْمَاعِ وَتَأْثِيرٌ فِي
الْقُلُوبِ لَا يَكَادُ الْكَلَامُ الْمُرْسَلُ يَبْلُغُ مَبْلَغَهَا ، وَلَا
يُؤَثِّرُ تَأْثِيرَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ بِهَا لَائِحَةٌ ، وَالشَّوَاهِدَ
بِهَا وَاضِحَةٌ ، وَالنُّفُوسَ بِهَا وَامِقَةٌ ، وَالْقُلُوبَ بِهَا وَاثِقَةٌ ،
وَالْعُقُولُ لَهَا مُوَافِقَةٌ .
فَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ
وَجَعَلَهَا
مِنْ دَلَائِلِ رُسُلِهِ وَأَوْضَحَ بِهَا الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ ؛ لِأَنَّهَا
فِي الْعُقُولِ مَعْقُولَةٌ ، وَفِي الْقُلُوبِ مَقْبُولَةٌ .
وَلَهَا أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : صِحَّةُ التَّشْبِيهِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهَا سَابِقًا وَالْكُلُّ عَلَيْهَا
مُوَافِقًا .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يُسْرِعَ وُصُولُهَا لِلْفَهْمِ ، وَيُعَجَّلَ تَصَوُّرُهَا
فِي الْوَهْمِ ، مِنْ غَيْرِ ارْتِيَاءٍ فِي اسْتِخْرَاجِهَا وَلَا كَدٍّ فِي
اسْتِنْبَاطِهَا .
وَالرَّابِعُ : أَنْ تُنَاسِبَ حَالَ السَّامِعِ لِتَكُونَ أَبْلَغَ تَأْثِيرًا
وَأَحْسَنَ مَوْقِعًا .
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِي الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ هَذِهِ الشُّرُوطُ
الْأَرْبَعَةُ كَانَتْ زِينَةً لِلْكَلَامِ وَجَلَاءً لِلْمَعَانِي وَتَدَبُّرًا
لِلْأَفْهَامِ .
الصَّبْرُ
وَالْجَزَعُ الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الصَّبْرِ وَالْجَزَعِ : اعْلَمْ أَنَّ مِنْ
حُسْنِ التَّوْفِيقِ وَإِمَارَاتِ السَّعَادَةِ الصَّبْرُ عَلَى الْمُلِمَّاتِ
وَالرِّفْقِ عِنْدَ النَّوَازِلِ ، وَبِهِ نَزَلَ الْكِتَابُ وَجَاءَتْ السُّنَّةُ
.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
يَعْنِي اصْبِرُوا عَلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ، وَصَابِرُوا
عَدُوَّكُمْ ، وَرَابَطُوا فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى الْجِهَادِ .
وَالثَّانِي : عَلَى انْتِظَارِ الصَّلَوَاتِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يُحْبِطُ اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا
وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَى إلَى
الْمَسْجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ } .
فَنَزَلَ الْكِتَابُ بِتَأْكِيدِ الصَّبْرِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَدَبَ إلَيْهِ ،
وَجَعَلَهُ مِنْ عَزَائِمِ التَّقْوَى فِيمَا افْتَرَضَهُ وَحَثَّ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
الصَّبْرُ سِتْرٌ مِنْ الْكُرُوبِ وَعَوْنٌ عَلَى الْخُطُوبِ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : الصَّبْرُ
مَطِيَّةٌ لَا تَكْبُو ، وَالْقَنَاعَةُ سَيْفٌ لَا يَنْبُو .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : لَمْ أَسْمَعْ أَعْجَبَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَوْ أَنَّ الصَّبْرَ وَالشُّكْرَ
يُعَيِّرَانِ مَا بَالَيْت أَيَّهُمَا رَكِبْتُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَفْضَلُ
الْعُدَّةِ الصَّبْرُ عَلَى الشِّدَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ خَيْرِ خِلَالِك الصَّبْرُ عَلَى اخْتِلَالِك
.
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ أَحَبَّ الْبَقَاءَ فَلْيُعِدَّ
لِلْمَصَائِبِ قَلْبًا صَبُورًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِالصَّبْرِ عَلَى مَوَاقِعِ الْكُرْهِ تُدْرَكُ
الْحُظُوظُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ ،
وَهُوَ
عُبَيْدُ بْنُ الْأَبْرَصِ : صَبِّرْ النَّفْسَ عِنْدَ كُلِّ مُلِمٍّ إنَّ فِي
الصَّبْرِ حِيلَةَ الْمُحْتَالِ لَا تُضَيِّقَنَّ فِي الْأُمُورِ فَقَدْ تُكْشَفُ
غِمَاؤُهَا بِغَيْرِ احْتِيَالِ رُبَّمَا تَجْزَعُ النُّفُوسُ مِنْ الْأَمْرِ لَهُ
فُرْجَةٌ كَحِلِّ الْعِقَالِ وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ فِي كِتَابِ الْيَتِيمَةِ
: الصَّبْرُ صَبْرَانِ : فَاللِّئَامُ أَصْبَرُ أَجْسَامًا ، وَالْكِرَامُ
أَصْبَرُ نُفُوسًا .
وَلَيْسَ الصَّبْرُ الْمَمْدُوحُ صَاحِبُهُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَوِيَّ
الْجَسَدِ عَلَى الْكَدِّ وَالْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ ،
وَلَكِنْ أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ غَلُوبًا ، وَلِلْأُمُورِ مُتَحَمِّلًا ،
وَلِجَأْشِهِ عِنْدَ الْحِفَاظِ مُرْتَبِطًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ ، وَهُوَ فِي كُلِّ قِسْمٍ
مِنْهَا مَحْمُودٌ .
فَأَوَّلُ أَقْسَامِهِ وَأَوْلَاهَا : الصَّبْرُ عَلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَ
اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ ، وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ؛
لِأَنَّ بِهِ تَخْلُصُ الطَّاعَةُ وَبِهَا يَصِحُّ الدِّينُ وَتُؤَدَّى الْفُرُوضُ
وَيُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ ، كَمَا قَالَ فِي مُحْكِمِ الْكِتَابِ : { إنَّمَا
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وَلِذَلِكَ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّبْرُ مِنْ الْإِيمَانِ
بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ } .
وَلَيْسَ لِمَنْ قَلَّ صَبْرُهُ عَلَى طَاعَةٍ حَظٌّ مِنْ بِرٍّ وَلَا نَصِيبٌ
مِنْ صَلَاحٍ ، وَمَنْ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ صَبْرًا يُكْسِبُهَا ثَوَابًا .
وَيَدْفَعُ عَنْهَا عِقَابًا ، كَانَ مِنْ سُوءِ الِاخْتِيَارِ بَعِيدًا مِنْ
الرَّشَادِ حَقِيقًا بِالضَّلَالِ .
وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا مَنْ
يَطْلُبُ مِنْ الدُّنْيَا مَا لَا يَلْحَقُهُ أَتَرْجُو أَنْ تَلْحَقَ مِنْ
الْآخِرَةِ مَا لَا تَطْلُبُهُ .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَرَاك امْرَأً تَرْجُو
مِنْ اللَّهِ عَفْوَهُ وَأَنْتَ عَلَى مَا لَا يُحِبُّ مُقِيمُ تَدُلُّ عَلَى
التَّقْوَى وَأَنْتَ مُقَصِّرٌ فَيَا مَنْ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ سَقِيمُ
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الصَّبْرِ إنَّمَا يَكُونُ لِفَرْطِ
الْجَزَعِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ فَإِنَّ مَنْ خَافَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَصَبَرَ عَلَى طَاعَتِهِ ، وَمَنْ جَزَعَ مِنْ عِقَابِهِ وَقَفَ عِنْدَ أَوَامِرِهِ .
وَالْقِسْمُ
الثَّانِي : الصَّبْرُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ أَوْقَاتُهُ مِنْ رَزِيَّةٍ قَدْ
أَجْهَدَهُ الْحُزْنُ عَلَيْهَا ، أَوْ حَادِثَةٍ قَدْ كَدَّهُ الْهَمُّ بِهَا
فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَيْهَا يَعْقُبُهُ الرَّاحَةُ مِنْهَا ، وَيُكْسِبُهُ
الْمَثُوبَةَ عَنْهَا .
فَإِنْ صَبَرَ طَائِعًا وَإِلَّا احْتَمَلَ هَمَّا لَازِمًا وَصَبَرَ كَارِهًا
آثِمًا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي وَيَصْبِرْ عَلَى
بَلَائِي فَلْيَخْتَرْ رَبًّا سِوَايَ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِلْأَشْعَثِ بْنِ
قَيْسٍ : إنَّك إنْ صَبَرْت جَرَى عَلَيْك الْقَلَمُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ ، وَإِنْ
جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْك الْقَلَمُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ .
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو تَمَّامٍ فِي شَعْرِهِ فَقَالَ : وَقَالَ عَلِيٌّ فِي
التَّعَازِي لِأَشْعَثَ وَخَافَ عَلَيْهِ بَعْضَ تِلْكَ الْمَآثِمِ : أَتَصْبِرُ
لِلْبَلْوَى عَزَاءً وَخَشْيَةً فَتُؤْجَرُ أَوْ تَسْلُو سُلُوَّ الْبَهَائِمْ
وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ لِلْمَهْدِيِّ : إنَّ أَحَقَّ مَا تَصْبِرُ
عَلَيْهِ مَا لَمْ تَجِدْ إلَى دَفْعِهِ سَبِيلًا .
وَأَنْشَدَ : وَلَئِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ فَاصْبِرْ لَهَا عَظُمَتْ مُصِيبَةُ
مُبْتَلٍ لَا يَصْبِرُ وَقَالَ آخَرُ : تَصَبَّرْتُ مَغْلُوبًا وَإِنِّي لَمُوجَعٌ
كَمَا صَبَرَ الظَّمْآنُ فِي الْبَلَدِ الْقَفْرِ وَلَيْسَ اصْطِبَارِي عَنْك
صَبْرَ اسْتِطَاعَةٍ وَلَكِنَّهُ صَبْرٌ أَمَرُّ مِنْ الصَّبْرِ
وَالْقِسْمُ
الثَّالِثُ : الصَّبْرُ عَلَى مَا فَاتَ إدْرَاكُهُ مِنْ رَغْبَةٍ مَرْجُوَّةٍ ،
وَأَعْوَزَ نَيْلُهُ مِنْ مَسَرَّةٍ مَأْمُولَةٍ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنْهَا
يُعْقِبُ السَّلْوَ مِنْهَا ، وَالْأَسَفُ بَعْدَ الْيَأْسِ خَرَقٌ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
مَنْ أُعْطِيَ فَشَكَرَ ، وَمُنِعَ فَصَبَرَ ، وَظُلِمَ فَغَفَرَ ، وَظَلَمَ
فَاسْتَغْفَرَ ، فَأُولَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : اجْعَلْ مَا طَلَبْته مِنْ الدُّنْيَا فَلَمْ
تَنَلْهُ مِثْلَ مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِك فَلَمْ تَقُلْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا مَلَكَ الْقَضَاءُ عَلَيْك أَمْرًا فَلَيْسَ
يَحِلُّهُ غَيْرُ الْقَضَاءِ فَمَا لَك وَالْمُقَامُ بِدَارِ ذُلٍّ وَدَارُ
الْعِزِّ وَاسِعَةُ الْفَضَاءِ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنْ كُنْت تَجْزَعُ
عَلَى مَا فَاتَ مِنْ يَدِك فَاجْزَعْ عَلَى مَا لَا يَصِلُ إلَيْك .
فَأَخَذَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : لَا تُطِلْ الْحُزْنَ عَلَى فَائِتٍ
فَقَلَّمَا يُجْدِي عَلَيْكَ الْحَزَنْ سِيَّانِ مَحْزُونٌ عَلَى فَائِتٍ
وَمُضْمِرٌ حُزْنًا لِمَا لَمْ يَكُنْ
وَالْقِسْمُ
الرَّابِعُ : الصَّبْرُ فِيمَا يُخْشَى حُدُوثُهُ مِنْ رَهْبَةٍ يَخَافُهَا ، أَوْ
يَحْذَرُ حُلُولَهُ مِنْ نَكْبَةٍ يَخْشَاهَا فَلَا يَتَعَجَّلْ هَمَّ مَا لَمْ
يَأْتِ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْهُمُومِ كَاذِبَةٌ وَإِنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ
الْخَوْفِ مَدْفُوعٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ بِالصَّبْرِ يُتَوَقَّعُ الْفَرْجُ وَمَنْ يُدْمِنُ قَرْعَ بَابٍ يَلِجُ } .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَحْمِلَنَّ عَلَى يَوْمِك
هَمَّ غَدِك ، فَحَسْبُ كُلِّ يَوْمٍ هَمُّهُ .
وَأَنْشَدَ الْجَاحِظُ لِحَارِثَةَ بْنِ زَيْدٍ : إذَا الْهَمُّ أَمْسَى وَهُوَ
دَاءٌ فَأَمْضِهِ وَلَسْتَ بِمُمْضِيهِ وَأَنْتَ تُعَاذِلُهْ وَلَا تُنْزِلَنَّ
أَمْرَ الشَّدِيدَةِ بِامْرِئٍ إذَا هَمَّ أَمْرًا عَوَّقَتْهُ عَوَاذِلُهْ وَقُلْ
لِلْفُؤَادِ إنْ تَجِدْ بِك ثَوْرَةً مِنْ الرَّوْعِ فَافْرَحْ أَكْثَرُ الْهَمِّ
بَاطِلُهْ
وَالْقِسْمُ
الْخَامِسُ : الصَّبْرُ فِيمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ رَغْبَةٍ يَرْجُوهَا ،
وَيَنْتَظِرُ مِنْ نِعْمَةٍ يَأْمُلُهَا فَإِنَّهُ إنْ أَدْهَشَهُ التَّوَقُّعُ
لَهَا ، وَأَذْهَلَهُ التَّطَلُّعُ إلَيْهَا انْسَدَّتْ عَلَيْهِ سُبُلُ
الْمَطَالِبِ وَاسْتَفَزَّهُ تَسْوِيلُ الْمَطَامِعِ فَكَانَ أَبْعَدَ لِرَجَائِهِ
وَأَعْظَمَ لِبَلَائِهِ .
وَإِذَا كَانَ مَعَ الرَّغْبَةِ وَقُورًا وَعِنْدَ الطَّلَبِ صَبُورًا انْجَلَتْ
عَنْهُ عَمَايَةُ الدَّهَشِ وَانْجَابَتْ عَنْهُ حِيرَةُ الْوَلَهِ ، فَأَبْصَرَ
رُشْدَهُ وَعَرَفَ قَصْدَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ الصَّبْرُ ضِيَاءٌ } .
يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ يَكْشِفُ ظُلْمَ الْحِيرَةِ ،
وَيُوَضِّحُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ .
وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ : مَنْ صَبَرَ ظَفِرَ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : كَانَ مَكْتُوبًا فِي قَصْرِ أَزْدَشِيرِ :
الصَّبْرُ مِفْتَاحُ الدَّرَكِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِحُسْنِ التَّأَنِّي تَسْهُلُ الْمَطَالِبُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ صَبَرَ نَالَ الْمُنَى ، وَمَنْ شَكَرَ
حَصَّنَ النُّعْمَى .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ : إنَّ الْأُمُورَ إذَا سُدَّتْ مَطَالِبُهَا
فَالصَّبْرُ يَفْتَقُ مِنْهَا كُلَّ مَا ارْتَتَجَا لَا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ
طَالَتْ مُطَالَبَةٌ إذَا اسْتَعَنْتَ بِصَبْرٍ أَنْ تَرَى فَرَجَا أَخْلِقْ بِذِي
الصَّبْرِ أَنْ يَحْظَى بِحَاجَتِهِ وَمُدْمِنِ الْقَرْعِ لِلْأَبْوَابِ أَنْ
يَلِجَا
وَالْقِسْمُ
السَّادِسُ : الصَّبْرُ عَلَى مَا نَزَلَ مِنْ مَكْرُوهٍ أَوْ حَلَّ مِنْ أَمْرٍ
مَخُوفٍ .
فَبِالصَّبْرِ فِي هَذَا تَنْفَتِحُ وُجُوهُ الْآرَاءِ ، وَتُسْتَدْفَعُ مَكَائِدُ
الْأَعْدَاءِ ، فَإِنَّ مَنْ قَلَّ صَبْرُهُ عَزَبَ رَأْيُهُ ، وَاشْتَدَّ
جَزَعُهُ ، فَصَارَ صَرِيعَ هُمُومِهِ ، وَفَرِيسَةَ غُمُومِهِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك إنَّ ذَلِكَ مِنْ
عَزْمِ الْأُمُورِ } .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ
لِلَّهِ بِالرِّضَى فِي الْيَقِينِ فَافْعَلْ ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاصْبِرْ
فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا } .
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ، وَالْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ ،
وَالْيُسْرَ مَعَ الْعُسْرِ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الصَّبْرُ
مُسْتَأْصِلُ الْحِدْثَانِ ، وَالْجَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ الزَّمَانِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِمِفْتَاحِ عَزِيمَةِ الصَّبْرِ تُعَالَجُ
مَغَالِيقُ الْأُمُورِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : عِنْدَ انْسِدَادِ الْفَرَجِ تَبْدُو مَطَالِعُ
الْفَرَجِ .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا اسْتَكَدَّ شَيَاطِينَهُ فِي الْبِنَاءِ شَكَوْا
ذَلِكَ إلَى إبْلِيسَ ، لَعَنَهُ اللَّهُ ، فَقَالَ : أَلَسْتُمْ تَذْهَبُونَ
فَرْغًا وَتَرْجِعُونَ مَشَاغِيلَ ؟ قَالُوا : بَلَى .
قَالَ : فَفِي ذَلِكَ رَاحَةٌ .
فَبَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ -
فَشَغْلَهُمْ ذَاهِبِينَ وَرَاجِعِينَ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى إبْلِيسَ ، لَعَنَهُ
اللَّهُ ، فَقَالَ : أَلَسْتُمْ تَسْتَرِيحُونَ بِاللَّيْلِ ؟ قَالُوا : بَلَى .
قَالَ فَفِي هَذَا رَاحَةٌ لَكُمْ نِصْفُ دَهْرِكُمْ .
فَبَلَغَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَغْلَهُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى إبْلِيسَ ، لَعَنَهُ اللَّهُ ، فَقَالَ :
الْآنَ جَاءَكُمْ الْفَرَجُ ، فَمَا لَبِثَ أَنْ أُصِيبَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مَيِّتًا عَلَى عَصَاهُ .
فَإِذَا
كَانَ هَذَا فِي نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ يَعْمَلُ بِأَمْرِهِ وَيَقِفُ عَلَى حَدِّهِ فَكَيْفَ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْدَارُ مِنْ أَيْدٍ عَادِيَةٍ ، وَسَاقَهُ الْقَضَاءُ مِنْ حَوَادِثَ نَازِلَةٍ ، هَلْ تَكُونُ مَعَ التَّنَاهِي إلَّا مُنْقَرِضَةً وَعِنْدَ بُلُوغِ الْغَايَةِ إلَّا مُنْحَسِرَةً ؟ وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : خَلِيلَيَّ لَا وَاَللَّهِ مَا مِنْ مُلِمَّةٍ تَدُومُ عَلَى حَيٍّ وَإِنْ هِيَ جَلَّتْ فَإِنْ نَزَلَتْ يَوْمًا فَلَا تَخْضَعَنَّ لَهَا وَلَا تُكْثِرْ الشَّكْوَى إذَا النَّعْلُ زَلَّتْ فَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ قَدْ بُلِي بِنَوَائِبَ فَصَابَرَهَا حَتَّى مَضَتْ وَاضْمَحَلَّتْ وَكَمْ غَمْرَةٍ هَاجَتْ بِأَمْوَاجِ غَمْرَةٍ تَلَقَّيْتهَا بِالصَّبْرِ حَتَّى تَجَلَّتْ وَكَانَتْ عَلَى الْأَيَّامِ نَفْسِي عَزِيزَةٌ فَلَمَّا رَأَتْ صَبْرِي عَلَى الذُّلِّ ذَلَّتْ فَقُلْتُ لَهَا : يَا نَفْسُ مُوتِي كَرِيمَةً فَقَدْ كَانَتْ الدُّنْيَا لَنَا ثُمَّ وَلَّتْ
وَلِتَسْهِيلِ
الْمَصَائِبِ وَتَخْفِيفِ الشَّدَائِدِ أَسْبَابٌ إذَا قَارَنْت حَزْمًا ،
وَصَادَفْت عَزْمًا .
هَانَ وَقْعُهَا ، وَقَلَّ تَأْثِيرُهَا وَضَرَرُهَا .
فَمِنْهَا : إشْعَارُ النَّفْسِ بِمَا تَعْلَمُهُ مِنْ نُزُولِ الْفَنَاءِ
وَتَقَضِّي الْمُسِرِّ وَأَنَّ لَهَا آجَالًا مُنْصَرِمَةٌ وَمُدَدًا مُنْقَضِيَةٌ
، إذْ لَيْسَ لِلدُّنْيَا حَالٌ تَدُومُ وَلَا لِمَخْلُوقٍ فِيهَا بَقَاءٌ .
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إلَّا
كَمَثَلِ رَاكِبٍ مَالَ إلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ثُمَّ رَاحَ
وَتَرَكَهَا } .
وَسُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الدُّنْيَا
فَقَالَ : تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ .
وَسَأَلَ بَعْضُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ جَلِيسًا لَهُ عَنْ الدُّنْيَا
فَقَالَ : إذَا أَقْبَلَتْ أَدْبَرَتْ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ : الدُّنْيَا أَمَدٌ وَالْآخِرَةُ أَبَدٌ .
وَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ : إنْ أَحْبَبْت أَنْ لَا تَغْتَمَّ فَلَا تَقْتَنِ مَا
بِهِ تَهْتَمُّ .
فَأَخَذَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ الدَّهْرَ مِنْ سُوءِ
فِعْلِهِ يُكَدِّرُ مَا أَعْطَى وَيَسْلُبُ مَا أَسْدَى فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ لَا
يَرَى مَا يَسُوءُهُ فَلَا يَتَّخِذْ شَيْئًا يَخَافُ لَهُ فَقْدَا وَأَنْشَدَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لِحَكِيمِنَا بُقْرَاطَ خَيْرُ قَضِيَّةٍ وَوَصِيَّةٍ
تَنْفِي الْهُمُومَ الرُّكَّدَا قَالَ الْهُمُومُ تَكُونُ مِنْ طَبْعِ الْوَرَى
فِي لُبْثِ مَا فِي طَبْعِهِ أَنْ يَنْفَدَا فَإِذَا اقْتَنَيْتَ مِنْ الزُّجَاجَةِ
قَابِلًا لِلْكَسْرِ فَانْكَسَرَتْ فَلَا تَكُ مُكْمَدَا وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ
أَهْلِ الْعِلْمِ لِسَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ : إنَّمَا الدُّنْيَا هِبَاتٌ وَعَوَارٍ
مُسْتَرَدَّهْ شِدَّةٌ بَعْدَ رَخَاءٍ وَرَخَاءٌ بَعْدَ شِدَّهْ وَلَمَّا قُتِلَ
بَزَرْجَمْهَرُ وُجِدَ فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ رُقْعَةٌ فِيهَا مَكْتُوبٌ : إذَا
لَمْ يَكُنْ جَدٌّ فَفِيمَ الْكَدُّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ دَوَامٌ
فَفِيمَ السُّرُورُ ، وَإِذَا لَمْ يُرِدْ اللَّهُ دَوَامَ مُلْكٌ فَفِيمَ
الْحِيلَةُ .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : رَأَيْتُ
حَيَاةَ
الْمَرْءِ رَهْنًا بِمَوْتِهِ وَصِحَّتُهُ رَهْنًا كَذَلِكَ بِالسَّقَمِ إذَا
طَابَ لِي عَيْشٌ تَنَغَّصَ طِيبُهُ بِصِدْقِ يَقِينِي أَنْ سَيَذْهَبُ
كَالْحُلْمِ وَمَنْ كَانَ فِي عَيْشٍ يُرَاعِي زَوَالَهُ فَذَلِكَ فِي بُؤْسٍ
وَإِنْ كَانَ فِي نِعَمِ وَمِنْهَا : أَنْ يَتَصَوَّرَ انْجِلَاءَ الشَّدَائِدِ
وَانْكِشَافَ الْهُمُومِ ، وَأَنَّهَا تُقَدَّرُ بِأَوْقَاتٍ لَا تَنْصَرِمُ
قَبْلَهَا ، وَلَا تَسْتَدِيمُ بَعْدَهَا ، فَلَا تَقْصُرُ بِجَزَعٍ وَلَا تَطُولُ
بِصَبْرٍ ، وَأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَمُرُّ بِهَا يَذْهَبُ مِنْهَا بِشَطْرٍ
وَيَأْخُذُ مِنْهَا بِنَصِيبٍ ، حَتَّى تَنْجَلِيَ وَهُوَ عَنْهَا غَافِلٌ .
وَحُكِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ حَبَسَ رَجُلًا ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ بَعْدَ زَمَانٍ ،
فَقَالَ لِلْمُتَوَكِّلِ بِهِ : قُلْ لَهُ كُلُّ يَوْمٍ يَمْضِي مِنْ نِعَمِهِ
يَمْضِي مِنْ بُؤْسِي مِثْلُهُ ، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ وَالْحُكْمُ لِلَّهِ
تَعَالَى .
فَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : لَوْ أَنَّ مَا
أَنْتُمُو فِيهِ يَدُومُ لَكُمْ ظَنَنْتُ مَا أَنَا فِيهِ دَائِمًا أَبَدَا
لَكِنَّنِي عَالِمٌ أَنِّي وَأَنَّكُمْ سَنَسْتَجْدِي خِلَافَ الْحَالَتَيْنِ
غَدَا وَأَنْشَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حَضَرَتْهُ
الْوَفَاةُ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ رَبَّك لَيْسَ تُحْصَى أَيَادِيهِ الْحَدِيثَةُ
وَالْقَدِيمَهْ تَسَلَّ عَنْ الْهُمُومِ فَلَيْسَ شَيْءٌ يَقُومُ وَلَا هُمُومُكَ
بِالْمُقِيمَهْ لَعَلَّ اللَّهَ يَنْظُرُ بَعْدَ هَذَا إلَيْك بِنَظْرَةٍ مِنْهُ
رَحِيمَهْ وَمِنْهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِي مَا وُقِيَ مِنْ الرَّزَايَا ،
وَكُفِيَ مِنْ الْحَوَادِثِ ، مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ رَزِيَّتِهِ وَأَشَدُّ مِنْ
حَادِثَتِهِ ؛ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ مَمْنُوحٌ بِحُسْنِ الدِّفَاعِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ لِلَّهِ
تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ كُلِّ مِحْنَةٍ مِنْحَةٌ } .
وَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ فِي نَائِبَةٍ كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ قَالَ : بَيْنَ
نِعْمَتَيْنِ : خَيْرٌ مَنْشُورٌ وَشَرٌّ مَسْتُورٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : لَا تَكْرَهْ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ حَوْلِهِ إنَّ
الْعَوَاقِبَ لَمْ تَزَلْ مُتَبَايِنَهْ كَمْ نِعْمَةٍ لَا تَسْتَقِلُّ
بِشُكْرِهَا
لِلَّهِ فِي طَيِّ الْمَكَارِهِ كَامِنَهْ وَمِنْهَا : أَنْ يَتَأَسَّى بِذَوِي
الْغِيَرِ ، وَيَتَسَلَّى بِأُولِي الْعِبَرِ .
وَيَعْلَمَ أَنَّهُمْ الْأَكْثَرُونَ عَدَدًا وَالْأَسْرَعُونَ مَدَدًا ،
فَيَسْتَجِدَّ مِنْ سَلْوَةِ الْأَسَى وَحُسْنِ الْعَزَا مَا يُخَفِّفُ شَجْوَهُ ،
وَيُقِلُّ هَلَعَهُ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَلْصِقُوا بِذَوِي
الْغِيَرِ تَتَّسِعْ قُلُوبُكُمْ .
وَعَلَى مِثْلِ ذَلِكَ كَانَتْ مَرَاثِي الشُّعَرَاءِ .
قَالَ الْبُحْتُرِيُّ : فَلَا عُجْبَ لِلْأُسْدِ إنْ ظَفِرَتْ بِهَا كِلَابُ
الْأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِي فَحَرْبَةُ وَحْشِيٍّ سَقَتْ حَمْزَةَ
الرَّدَى وَمَوْتُ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابْنِ مُلْجِمِ وَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ :
الْمَرْءُ بَيْنَ مَصَائِب لَا تَنْقَضِي حَتَّى يُوَارَى جِسْمُهُ فِي رَمْسِهِ
فَمُؤَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى فِي أَهْلِهِ وَمُعَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى فِي
نَفْسِهِ وَمِنْهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ النِّعَمَ زَائِرَةٌ ، وَأَنَّهَا لَا
مَحَالَةَ زَائِلَةٌ ، وَأَنَّ السُّرُورَ بِهَا إذَا أَقْبَلَتْ مَشُوبٌ
بِالْحَذَرِ مِنْ فِرَاقِهَا إذَا أَدْبَرَتْ ، وَأَنَّهَا لَا تَفْرَحُ بِإِقْبَالِهَا
فَرَحًا حَتَّى تُعْقِبَ بِفِرَاقِهَا تَرَحًا ، فَعَلَى قَدْرِ السُّرُورِ
يَكُونُ الْحُزْنُ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمَفْرُوحُ بِهِ هُوَ الْمَحْزُونُ
عَلَيْهِ .
وَقِيلَ : مَنْ بَلَغَ غَايَةَ مَا يُحِبُّ فَلْيَتَوَقَّعْ غَايَةَ مَا يَكْرَهُ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ نَائِبَةٍ إلَى انْقِضَاءٍ
حَسُنَ عَزَاؤُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ .
وَقِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : كَيْفَ تَرَى الدُّنْيَا ؟
قَالَ : شَغَلَنِي تَوَقُّعُ بَلَائِهَا عَنْ الْفَرَحِ بِرَخَائِهَا .
فَأَخَذَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ : تَزِيدُهُ الْأَيَّامُ إنْ أَقْبَلَتْ
شِدَّةَ خَوْفٍ لِتَصَارِيفِهَا كَأَنَّهَا فِي حَالِ إسْعَافِهَا تُسْمِعْهُ
وَقْعَ تَخْوِيفِهَا وَمِنْهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ سُرُورَهُ مَقْرُونٌ بِمُسَاءَةِ
غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ حُزْنُهُ مَقْرُونٌ بِسُرُورِ غَيْرِهِ .
إذْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَنْقُلُ مِنْ صَاحِبٍ إلَى صَاحِبٍ ، وَتَصِلُ صَاحِبًا
بِفِرَاقِ
صَاحِبٍ .
فَتَكُونُ سُرُورًا لِمَنْ وَصَلَتْهُ وَحُزْنًا لِمَنْ فَارَقَتْهُ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا قَرَعْت عَصَا
عَلَى عَصَا إلَّا فَرِحَ لَهَا قَوْمٌ وَحَزِنَ آخَرُونَ } .
وَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ : مَتَى أَرَتْ الدُّنْيَا نَبَاهَةَ خَامِلٍ فَلَا
تَرْتَقِبْ إلَّا خُمُولَ نَبِيهِ وَقَالَ الْمُتَنَبِّي : بِذَا قَضَتْ
الْأَيَّامُ مَا بَيْنَ أَهْلِهَا مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ : أَلَا إنَّمَا الدُّنْيَا غَضَارَةُ
أَيْكَةٍ إذَا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ فَلَا تَفْرَحَنَّ مِنْهَا
لِشَيْءٍ تُفِيدُهُ سَيَذْهَبُ يَوْمًا مِثْلَ مَا أَنْتَ ذَاهِبُ وَمَا هَذِهِ
الْأَيَّامُ إلَّا فَجَائِعٌ وَمَا الْعَيْشُ وَاللَّذَّاتُ إلَّا مَصَائِبُ
وَمِنْهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ طَوَارِقَ الْإِنْسَانِ مِنْ دَلَائِلِ فَضْلِهِ
، وَمِحَنَهُ مِنْ شَوَاهِدِ نُبْلِهِ .
وَلِذَلِكَ إحْدَى عِلَّتَيْنِ : إمَّا ؛ لِأَنَّ الْكَمَالَ مُعْوِزٌ وَالنَّقْصُ
لَازِمٌ ، فَإِذَا تَوَاتَرَ الْفَضْلُ عَلَيْهِ صَارَ النَّقْصُ فِيمَا سِوَاهُ .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ زَادَ فِي عَقْلِهِ نَقَصَ مِنْ رِزْقِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
مَا انْتَقَصَتْ جَارِحَةٌ مِنْ إنْسَانٍ إلَّا كَانَتْ ذَكَاءً فِي عَقْلِهِ } .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : مَا جَاوَزَ الْمَرْءُ مِنْ أَطْرَافِهِ طَرَفًا
إلَّا تَخَوَّنَهُ النُّقْصَانُ مِنْ طَرَفِ وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْأَدَبِ ، لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ هِلَالٍ الْكَاتِبِ : إذَا جَمَعَتْ بَيْنَ
امْرَأَيْنِ صِنَاعَةٌ فَأَحْبَبْتَ أَنْ تَدْرِيَ الَّذِي هُوَ أَحْذَقُ فَلَا
تَتَفَقَّدْ مِنْهُمَا غَيْرَ مَا جَرَتْ بِهِ لَهُمَا الْأَرْزَاقُ حِينَ
تُفَرَّقُ فَحَيْثُ يَكُونُ النَّقْصُ فَالرِّزْقُ وَاسِعٌ وَحَيْثُ يَكُونُ
الْفَضْلُ فَالرِّزْقُ ضَيِّقُ وَإِمَّا ؛ لِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ مَحْسُودٌ ،
وَبِالْأَذَى مَقْصُودٌ ، فَلَا يَسْلَمُ فِي بِرِّهِ مِنْ مُعَادٍ وَاشْتِطَاطِ
مُنَاوٍ .
وَقَالَ الصَّنَوْبَرِيُّ : مِحَنُ الْفَتَى يُخْبِرْنَ عَنْ فَضْلِ الْفَتَى
كَالنَّارِ مُخْبِرَةٌ بِفَضْلِ الْعَنْبَرِ وَقَلَّمَا تَكُونُ مِحْنَةُ
فَاضِلٍ
إلَّا مِنْ جِهَةِ نَاقِصٍ ، وَبَلْوَى عَالِمٍ إلَّا عَلَى يَدِ جَاهِلٍ .
وَذَلِكَ لِاسْتِحْكَامِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا بِالْمُبَايَنَةِ ، وَحُدُوثِ
الِانْتِقَامِ ؛ لِأَجَلِ التَّقَدُّمِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : فَلَا غَرْوَ أَنْ يُمْنَى عَلِيمٌ بِجَاهِلِ فَمِنْ
ذَنَبِ التِّنِّينِ تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ وَمِنْهَا : مَا يَعْتَاضُهُ مِنْ
الِارْتِيَاضِ بِنَوَائِبِ عَصْرِهِ ، وَيَسْتَفِيدُهُ مِنْ الْحُنْكَةِ بِبَلَاءِ
دَهْرِهِ ، فَيَصْلُبُ عُودُهُ وَيَسْتَقِيمُ عَمُودُهُ ، وَيَكْمُلُ بِأَدْنَى
شِدَّتِهِ وَرَخَائِهِ ، وَيَتَّعِظُ بِحَالَتَيْ عَفْوِهِ وَبَلَائِهِ .
حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ قَالَ : دَخَلْت عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ
بْنِ وَهْبٍ وَعَلَيْهِ خُلَعُ الرِّضَا بَعْدَ النَّكْبَةِ فَلَمَّا مَثُلْت
بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لِي : يَا أَبَا الْعَبَّاسِ اسْمَعْ مَا أَقُولُ :
نَوَائِبُ الدَّهْرِ أَدَّبَتْنِي وَإِنَّمَا يُوعَظُ الْأَدِيبُ قَدْ ذُقْتُ
حُلْوًا وَذُقْتُ مُرًّا كَذَاك عَيْشُ الْفَتَى ضُرُوبُ لَمْ يَمْضِ بُؤْسٌ وَلَا
نَعِيمٌ إلَّا وَلِيَ فِيهِمَا نَصِيبُ كَذَاكَ مَنْ صَاحَبَ اللَّيَالِي
تَغْدُوهُ مِنْ دَرِّهَا الْخُطُوبُ فَقُلْت : لِمَنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ ؟ قَالَ
: لِي .
وَمِنْهَا : أَنْ يَخْتَبِرَ أُمُورَ زَمَانِهِ ، وَيَتَنَبَّهُ عَلَى صَلَاحِ
شَأْنِهِ ، فَلَا يَغْتَرُّ بِرَخَاءٍ ، وَلَا يَطْمَعُ فِي اسْتِوَاءٍ ، وَلَا
يُؤَمِّلُ أَنْ تَبْقَى الدُّنْيَا عَلَى حَالَةٍ ، أَوْ تَخْلُو مِنْ تَقَلُّبٍ
وَاسْتِحَالَةٍ ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا وَخَبَرَ أَحْوَالَهَا هَانَ
عَلَيْهِ بُؤْسُهَا وَنَعِيمُهَا .
وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : إنِّي رَأَيْتُ عَوَاقِبَ الدُّنْيَا فَتَرَكْتُ
مَا أَهْوَى لِمَا أَخْشَى فَكَّرْتُ فِي الدُّنْيَا وَعَالَمِهَا فَإِذَا جَمِيعُ
أُمُورِهَا تَفْنَى وَبَلَوْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا فَإِذَا كُلُّ امْرِئٍ فِي
شَأْنِهِ يَسْعَى أَسْنَى مَنَازِلِهَا وَأَرْفَعُهَا فِي الْعِزِّ أَقْرَبُهَا
مِنْ الْمَهْوَى تَعْفُو مَسَاوِيهَا مَحَاسِنَهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّعْيِ
وَالْبُشْرَى وَلَقَدْ مَرَرْتُ عَلَى الْقُبُورِ فَمَا مَيَّزْتُ بَيْنَ
الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى أَتُرَاكَ تَدْرِي كَمْ رَأَيْتَ مِنْ الْأَحْيَاءِ ثُمَّ
رَأَيْتُهُمْ
مَوْتَى فَإِذَا ظَفِرَ الْمُصَابُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ تَخَفَّفَتْ
عَنْهُ أَحْزَانُهُ ، وَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ أَشْجَانُهُ ، فَصَارَ وَشْيَك
السَّلْوَةِ قَلِيلَ الْجَزَعِ حَسَنَ الْعَزَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ حَاذَرَ لَمْ يَهْلَعْ ، وَمَنْ رَاقَبَ لَمْ
يَجْزَعْ ، وَمَنْ كَانَ مُتَوَقِّعًا لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّعًا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : مَا يَكُونُ الْأَمْرُ سَهْلًا كُلُّهُ إنَّمَا
الدُّنْيَا سُرُورٌ وَحُزُونُ هَوِّنْ الْأَمْرَ تَعِشْ فِي رَاحَةٍ قَلَّ مَا
هَوَّنْتَ إلَّا سَيَهُونُ تَطْلُبُ الرَّاحَةَ فِي دَارِ الْفَنَا ضَلَّ مَنْ
يَطْلُبُ شَيْئًا لَا يَكُونُ فَإِنْ أَغْفَلَ نَفْسَهُ عَنْ دَوَاعِي السَّلْوَةِ
وَمَنَعَهَا مِنْ أَسْبَابِ الصَّبْرِ ، تَضَاعَفَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْأَسَى
وَهَمِّ الْجَزَعِ مَا لَا يُطِيقُ عَلَيْهِ صَبْرًا وَلَا يَجِدُ عَنْهُ سَلْوًا
.
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : إنَّ الْبَلَاءَ يُطَاقُ غَيْرُ مُضَاعَفٍ فَإِذَا
تَضَاعَفَ صَارَ غَيْرَ مُطَاقِ فَإِذَا سَاعَدَهُ جَزَعُهُ بِالْأَسْبَابِ
الْبَاعِثَةِ عَلَيْهِ ، وَأَمَدَّهُ هَلَعُهُ بِالذَّرَائِعِ الدَّاعِيَةِ
إلَيْهِ ، فَقَدْ سَعَى فِي حَتْفِهِ وَأَعَانَ عَلَى تَلَفِهِ .
فَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ : تَذَكُّرُ الْمُصَابِ حَتَّى لَا يَتَنَاسَاهُ ،
وَتَصَوُّرُهُ حَتَّى لَا يَعْزُبَ عَنْهُ ، وَلَا يَجِدُ مِنْ التَّذْكَارِ
سَلْوَةً ، وَلَا يَخْلِطُ مَعَ التَّصَوُّرِ تَعْزِيَةً .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تَسْتَفِزُّوا
الدُّمُوعَ بِالتَّذَكُّرِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَلَا يَبْعَثُ الْأَحْزَانَ مِثْلُ التَّذَكُّرِ وَمِنْهَا
: الْأَسَفُ وَشِدَّةُ الْحَسْرَةِ فَلَا يَرَى مِنْ مُصَابِهِ خَلَفًا ، وَلَا
يَجِدُ لِمَفْقُودِهِ بَدَلًا ، فَيَزْدَادُ بِالْأَسَفِ وَلَهًا ،
وَبِالْحَسْرَةِ هَلَعًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا بُلِيتَ فَثِقْ بِاَللَّهِ وَارْضَ بِهِ إنَّ
الَّذِي يَكْشِفُ الْبَلْوَى هُوَ اللَّهُ إذَا قَضَى اللَّهُ فَاسْتَسْلِمْ
لِقُدْرَتِهِ مَا لِامْرِئٍ حِيلَةٌ فِيمَا قَضَى اللَّهُ
الْيَأْسُ
يَقْطَعُ أَحْيَانًا بِصَاحِبِهِ لَا تَيْأَسَنَّ فَإِنَّ الصَّانِعَ اللَّهُ
وَمِنْهَا : كَثْرَةُ الشَّكْوَى وَبَثُّ الْجَزَعِ .
فَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا } .
إنَّهُ الصَّبْرُ الَّذِي لَا شَكْوَى فِيهِ وَلَا بَثَّ .
رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { مَا صَبَرَ مَنْ بَثَّ } .
وَحَكَى كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ : مَنْ
أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَشَكَا إلَى النَّاسِ فَإِنَّمَا يَشْكُو رَبَّهُ .
وَحُكِيَ أَنَّ أَعْرَابِيَّةً دَخَلَتْ مِنْ الْبَادِيَةِ فَسَمِعَتْ صُرَاخًا
فِي دَارٍ فَقَالَتْ : مَا هَذَا ؟ فَقِيلَ لَهَا : مَاتَ لَهُمْ إنْسَانٌ .
فَقَالَتْ : مَا أَرَاهُمْ إلَّا مِنْ رَبِّهِمْ يَسْتَغِيثُونَ ، وَبِقَضَائِهِ
يَتَبَرَّمُونَ ، وَعَنْ ثَوَابِهِ يَرْغَبُونَ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ ضَاقَ قَلْبُهُ اتَّسَعَ لِسَانُهُ .
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا تُكْثِرْ الشَّكْوَى إلَى الصَّدِيقِ
وَارْجِعْ إلَى الْخَالِقِ لَا الْمَخْلُوقِ لَا يَخْرُجُ الْغَرِيقُ بِالْغَرِيقِ
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : لَا تَشْكُ دَهْرَكَ مَا صَحَحْتَ بِهِ إنَّ
الْغِنَى هُوَ صِحَّةُ الْجِسْمِ هَبْكَ الْخَلِيفَةَ كُنْتَ مُنْتَفِعًا
بِغَضَارَةِ الدُّنْيَا مَعَ السَّقَمِ وَمِنْهَا : الْيَأْسُ مِنْ خَيْرِ
مُصَابِهِ ، وَدَرَكِ طُلَّابِهِ ، فَيَقْتَرِنُ بِحُزْنِ الْحَادِثَةِ قُنُوطُ
الْإِيَاسِ فَلَا يَبْقَى مَعَهَا صَبْرٌ ، وَلَا يَتَّسِعُ لَهَا صَدْرٌ .
وَقَدْ قِيلَ : الْمُصِيبَةُ بِالصَّبْرِ أَعْظَمُ الْمُصِيبَتَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : اصْبِرِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ فَإِنَّ الصَّبْرَ
أَحْجَى رُبَّمَا خَابَ رَجَاءٌ وَأَتَى مَا لَيْسَ يُرْجَى وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ
أَهْلِ الْعِلْمِ : أَتَحْسَبُ أَنَّ الْبُؤْسَ لِلْحُرِّ دَائِمٌ وَلَوْ دَامَ
شَيْءٌ عَدَّهُ النَّاسُ فِي الْعَجَبْ لَقَدْ عَرَّفَتْكَ الْحَادِثَاتُ
بِبُؤْسِهَا وَقَدْ أُدِّبْتَ إنْ كَانَ يَنْفَعُكَ الْأَدَبْ وَلَوْ طَلَبَ
الْإِنْسَانُ مِنْ صَرْفِ دَهْرِهِ دَوَامَ الَّذِي يَخْشَى لَأَعْيَاهُ مَا
طَلَبْ وَمِنْهَا : أَنْ يَعْرَى بِمُلَاحَظَةِ مِنْ حِيطَتْ سَلَامَتُهُ
وَحُرِسَتْ
نِعْمَتُهُ
حَتَّى الْتَحَفَ بِالْأَمْنِ وَالدَّعَةِ ، وَاسْتَمْتَعَ بِالثَّرْوَةِ
وَالسَّعَةِ .
وَيَرَى أَنَّهُ قَدْ خُصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالرَّزِيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ
مُسَاوِيًا ، وَأُفْرِدَ بِالْحَادِثَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُكَافِيًا ، فَلَا
يَسْتَطِيعُ صَبْرًا عَلَى بَلْوَى ، وَلَا يَلْزَمُ شُكْرًا عَلَى نُعْمَى .
وَلَوْ قَابَلَ بِهَذِهِ النَّظْرَةِ مُلَاحَظَةَ مَنْ شَارَكَهُ فِي الرَّزِيَّةِ
وَسَاوَاهُ فِي الْحَادِثَةِ لَتَكَافَأَ الْأَمْرَانِ فَهَانَ عَلَيْهِ الصَّبْرُ
وَحَانَ مِنْهُ الْفَرَجُ .
وَأَنْشَدْتُ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْعَرَبِ : أَيُّهَا الْإِنْسَانُ صَبْرًا إنَّ
بَعْدَ الْعُسْرِ يُسْرَا كَمْ رَأَيْنَا الْيَوْمَ حُرًّا لَمْ يَكُ بِالْأَمْسِ
حُرَّا مَلَكَ الصَّبْرَ فَأَضْحَى مَالِكًا خَيْرًا وَشَرَّا اشْرَبْ الصَّبْرَ
وَإِنْ كَانَ مِنْ الصَّبْرِ أَمَرَّا وَأَنْشَدْتُ لِبَعْضِ أَهْلِ الْأَدَبِ :
يُرَاعُ الْفَتَى لِلْخَطْبِ تَبْدُو صُدُورُهُ فَيَأْسَى وَفِي عُقْبَاهُ يَأْتِي
سُرُورُهُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّيْلَ لَمَّا تَرَاكَمَتْ دُجَاهُ بَدَا وَجْهُ
الصَّبَاحِ وَنُورُهُ فَلَا تَصْحَبَنَّ الْيَأْسَ إنْ كُنْتَ عَالِمًا لَبِيبًا
فَإِنَّ الدَّهْرَ شَتَّى أُمُورُهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى
حَادِثَةٍ وَتَمَاسَكَ فِي نَكْبَةٍ إلَّا أَنَّ انْكِشَافَهَا وَشِيكًا ، وَكَانَ
الْفَرَجُ مِنْهُ قَرِيبًا .
أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْكَاتِبَ حُبِسَ فِي
السِّجْنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى ضَاقَتْ حِيلَتُهُ وَقَلَّ صَبْرُهُ
فَكَتَبَ إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ يَشْكُو لَهُ طُولَ حَبْسِهِ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ
جَوَابَ رُقْعَتُهُ بِهَذَا : صَبْرًا أَبَا أَيُّوبَ صَبْرٌ مُبَرِّحُ فَإِذَا
عَجَزْت عَنْ الْخُطُوبِ فَمَنْ لَهَا إنَّ الَّذِي عَقَدَ الَّذِي انْعَقَدَتْ
لَهُ عُقَدُ الْمَكَارِهِ فِيكَ يَمْلِكُ حَلَّهَا صَبْرًا فَإِنَّ الصَّبْرَ
يُعْقِبُ رَاحَةً وَلَعَلَّهَا أَنْ تَنْجَلِي وَلَعَلَّهَا فَأَجَابَهُ أَبُو
أَيُّوبَ يَقُولُ : صَبَّرْتَنِي وَوَعَظْتَنِي وَأَنَا لَهَا وَسَتَنْجَلِي بَلْ
لَا أَقُولُ لَعَلَّهَا وَيَحُلُّهَا مَنْ كَانَ صَاحِبَ عَقْدِهَا كَرَمًا بِهِ
إذْ كَانَ يَمْلِكُ حَلَّهَا فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ
فِي
السَّجْنِ إلَّا أَيَّامًا حَتَّى أُطْلِقَ مُكَرَّمًا .
وَأَنْشَدَ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ : إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ
الْقُلُوبُ وَضَاقَ لِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ وَأَوْطَنَتْ الْمَكَارِهُ
وَاطْمَأَنَّتْ وَأَرْسَتْ فِي مَكَانَتِهَا الْخُطُوبُ وَلَمْ تَرَ لِانْكِشَافِ
الضُّرِّ وَجْهًا وَلَا أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الْأَرِيبُ أَتَاك عَلَى قُنُوطٍ مِنْك
غَوْثٌ يَمُنُّ بِهِ اللَّطِيفُ الْمُسْتَجِيبُ وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إذَا
تَنَاهَتْ فَمَوْصُولٌ بِهَا الْفَرَجُ الْقَرِيبُ .
الْفَصْلُ
الثَّالِثُ فِي الْمَشُورَةِ اعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْحَزْمِ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ أَنْ
لَا يُبْرِمَ أَمْرًا وَلَا يُمْضِيَ عَزْمًا إلَّا بِمَشُورَةِ ذِي الرَّأْيِ
النَّاصِحِ ، وَمُطَالَعَةِ ذِي الْعَقْلِ الرَّاجِحِ .
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمَشُورَةِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا تَكَفَّلَ بِهِ مِنْ إرْشَادِهِ ، وَوَعَدَ بِهِ مِنْ
تَأْيِيدِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } .
قَالَ قَتَادَةُ : أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ تَأَلُّفًا لَهُمْ وَتَطْيِيبًا
لِأَنْفُسِهِمْ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : أَمَرَهُ بِمُشَاوِرَتِهِمْ لِمَا عَلِمَ فِيهَا مِنْ
الْفَضْلِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَمَرَهُ
بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيَسْتَنَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَتْبَعَهُ فِيهَا
الْمُؤْمِنُونَ وَإِنْ كَانَ عَنْ مَشُورَتِهِمْ غَنِيًّا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
الْمَشُورَةُ حِصْنٌ مِنْ النَّدَامَةِ ، وَأَمَانٌ مِنْ الْمَلَامَةِ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : نِعْمَ
الْمُؤَازَرَةُ الْمُشَاوَرَةُ وَبِئْسَ الِاسْتِعْدَادُ الِاسْتِبْدَادُ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ :
رَجُلٌ تَرِدُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَيُسَدِّدُهَا بِرَأْيِهِ ، وَرَجُلٌ
يُشَاوِرُ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ حَيْثُ يَأْمُرُهُ أَهْلُ
الرَّأْيِ ، وَرَجُلٌ حَائِرٌ بِأَمْرِهِ لَا يَأْتَمِرُ رُشْدًا وَلَا يُطِيعُ
مُرْشِدًا .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : إنَّ الْمَشُورَةَ وَالْمُنَاظَرَةَ
بَابَا رَحْمَةٍ وَمِفْتَاحَا بَرَكَةٍ لَا يَضِلُّ مَعَهُمَا رَأْيٌ وَلَا
يُفْقَدُ مَعَهُمَا حَزْمٌ .
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ : مَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ لَمْ يُشَاوِرْ ، وَمَنْ
اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ كَانَ مِنْ الصَّوَابِ بَعِيدًا .
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ : الْمُشَاوِرُ فِي رَأْيِهِ نَاظِرٌ مِنْ وَرَائِهِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمُشَاوَرَةُ رَاحَةٌ لَك وَتَعَبٌ عَلَى
غَيْرِك .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ
خَاطَرَ مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَا خَابَ مَنْ اسْتَخَارَ ، وَلَا نَدِمَ مَنْ اسْتَشَارَ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ حَقِّ الْعَاقِلِ أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْيِهِ
آرَاءَ الْعُقَلَاءِ ، وَيَجْمَعَ إلَى عَقْلِهِ عُقُولَ الْحُكَمَاءِ ،
فَالرَّأْيُ الْفَذُّ رُبَّمَا زَلَّ وَالْعَقْلُ الْفَرْدُ رُبَّمَا ضَلَّ .
وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ : إذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ
بِرَأْيِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ وَلَا تَجْعَلْ الشُّورَى عَلَيْك
غَضَاضَةً فَإِنَّ الْخَوَافِيَ قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ
فَإِذَا
عَزَمَ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ ارْتَادَ لَهَا مِنْ أَهْلِهَا مَنْ قَدْ
اسْتَكْمَلَتْ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ : إحْدَاهُنَّ : عَقْلٌ كَامِلٌ مَعَ
تَجْرِبَةٍ سَالِفَةٍ فَإِنَّ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ تَصِحُّ الرَّوِيَّةُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اسْتَرْشِدُوا
الْعَاقِلَ تَرْشُدُوا وَلَا تَعْصُوهُ فَتَنْدَمُوا } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ لِابْنِهِ مُحَمَّدٍ : احْذَرْ مَشُورَةَ
الْجَاهِلِ وَإِنْ كَانَ نَاصِحًا كَمَا تَحْذَرُ عَدَاوَةَ الْعَاقِلِ إذَا كَانَ
عَدُوًّا فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُوَرِّطَك بِمَشُورَتِهِ فَيَسْبِقَ إلَيْك
مَكْرُ الْعَاقِلِ وَتَوْرِيطُ الْجَاهِلِ .
وَقِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَبْسٍ : مَا أَكْثَرُ صَوَابِكُمْ ؟ قَالَ : نَحْنُ أَلْفُ
رَجُلٍ وَفِينَا حَازِمٌ وَنَحْنُ نُطِيعُهُ فَكَأَنَّا أَلْفُ حَازِمٍ .
وَكَانَ يُقَالُ : إيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ رَجُلَيْنِ : شَابٌّ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ
قَلِيلُ التَّجَارِبِ فِي غَيْرِهِ ، أَوْ كَبِيرٌ قَدْ أَخَذَ الدَّهْرُ مِنْ
عَقْلِهِ كَمَا أَخَذَ مِنْ جِسْمِهِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : كُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ ،
وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلَى التَّجَارِبِ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْأَيَّامُ تَهْتِكُ لَك عَنْ الْأَسْتَارِ الْكَامِنَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : التَّجَارِبُ لَيْسَ لَهَا غَايَةٌ ، وَالْعَاقِلُ
مِنْهَا فِي زِيَادَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ اسْتَعَانَ بِذَوِي الْعُقُولِ فَازَ بِدَرَكِ
الْمَأْمُولِ .
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ : وَمَا كُلُّ ذِي نُصْحٍ بِمُؤْتِيك
نُصْحَهُ وَلَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ وَلَكِنْ إذَا مَا اسْتَجْمَعَا
عِنْدَ صَاحِبٍ فَحُقَّ لَهُ مِنْ طَاعَةٍ بِنَصِيبِ وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ :
أَنْ يَكُونَ ذَا دِينٍ وَتُقًى ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِمَادُ كُلِّ صَلَاحٍ وَبَابُ
كُلِّ نَجَاحٍ .
وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الدِّينُ فَهُوَ مَأْمُونُ السَّرِيرَةِ مُوَفَّقُ
الْعَزِيمَةِ .
رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَرَادَ
أَمْرًا
فَشَاوَرَ فِيهِ امْرَأً مُسْلِمًا وَفَّقَهُ اللَّهُ لِأَرْشَدَ أُمُورِهِ } .
وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا وَدُودًا ، فَإِنَّ النُّصْحَ
وَالْمَوَدَّةَ يُصَدِّقَانِ الْفِكْرَةَ وَيُمَحِّضَانِ الرَّأْيَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا تُشَاوِرْ إلَّا الْحَازِمَ غَيْرَ الْحَسُودِ
، وَاللَّبِيبَ غَيْرَ الْحَقُودِ ، وَإِيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّ
رَأْيَهُنَّ إلَى الْأَفْنِ ، وَعَزْمَهُنَّ إلَى الْوَهْنِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَشُورَةُ الْمُشْفِقِ الْحَازِمِ ظَفَرٌ ،
وَمَشُورَةُ غَيْرِ الْحَازِمِ خَطَرٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَصْفِ ضَمِيرًا لِمَنْ تُعَاشِرُهُ وَاسْكُنْ إلَى
نَاصِحٍ تُشَاوِرُهُ وَارْضَ مِنْ الْمَرْءِ فِي مَوَدَّتِهِ بِمَا يُؤَدِّي
إلَيْك ظَاهِرُهُ مَنْ يَكْشِفْ النَّاسَ لَا يَجِدْ أَحَدًا تَصِحُّ مِنْهُمْ
لَهُ سَرَائِرُهُ أَوْشَكَ أَنْ لَا يَدُومَ وَصْلُ أَخٍ فِي كُلِّ زَلَّاتِهِ
تُنَافِرُهُ وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الْفِكْرِ مِنْ
هَمٍّ قَاطِعٍ ، وَغَمٍّ شَاغِلٍ ، فَإِنَّ مَنْ عَارَضَتْ فِكْرَهُ شَوَائِبُ
الْهُمُومِ لَا يَسْلَمُ لَهُ رَأْيٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ خَاطِرٌ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : كُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ
وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلَى التَّجَارِبِ .
وَكَانَ كِسْرَى إذَا دَهَمَهُ أَمْرٌ بَعَثَ إلَى مَرَازِبَتِهِ فَاسْتَشَارَهُمْ
فَإِنْ قَصَّرُوا فِي الرَّأْيِ ضَرَبَ قَهَارِمَتِهِ وَقَالَ : أَبْطَأْتُمْ
بِأَرْزَاقِهِمْ فَأَخْطَئُوا فِي آرَائِهِمْ .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : وَلَا مُشِيرَ كَذِي نُصْحٍ
وَمَقْدِرَةٍ فِي مُشْكِلِ الْأَمْرِ فَاخْتَرْ ذَاكَ مُنْتَصِحًا وَالْخَصْلَةُ
الْخَامِسَةُ : أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَشَارِ غَرَضٌ
يُتَابِعُهُ ، وَلَا هَوًى يُسَاعِدُهُ ، فَإِنَّ الْأَغْرَاضَ جَاذِبَةٌ
وَالْهَوَى صَادٌّ ، وَالرَّأْيُ إذَا عَارَضَهُ الْهَوَى وَجَاذَبَتْهُ
الْأَغْرَاضُ فَسَدَ .
وَقَدْ قَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ :
وَقَدْ يَحْكُمُ الْأَيَّامَ مَنْ كَانَ جَاهِلًا وَيُرْدِي الْهَوَى ذَا
الرَّأْيِ وَهُوَ لَبِيبُ وَيُحْمَدُ فِي الْأَمْرِ الْفَتَى
وَهُوَ
مُخْطِئٌ وَيُعْذَلُ فِي الْإِحْسَانِ وَهُوَ مُصِيبُ فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ
هَذِهِ الْخِصَالُ الْخَمْسُ فِي رَجُلٍ كَانَ أَهْلًا لِلْمَشُورَةِ وَمَعْدِنًا
لِلرَّأْيِ ، فَلَا تَعْدِلْ عَنْ اسْتِشَارَتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا
تَتَوَهَّمُهُ مِنْ فَضْلِ رَأْيِك ، وَثِقَةً بِمَا تَسْتَشْعِرُهُ مِنْ صِحَّةِ
رَوِيَّتِك ، فَإِنَّ رَأْيَ غَيْرِ ذِي الْحَاجَةِ أَسْلَمُ ، وَهُوَ مِنْ
الصَّوَابِ أَقْرَبُ ، لِخُلُوصِ الْفِكْرِ وَخُلُوِّ الْخَاطِرِ مَعَ عَدَمِ
الْهَوَى وَارْتِفَاعِ الشَّهْوَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ التَّوَدُّدُ إلَى النَّاسِ ،
وَمَا اسْتَغْنَى مُسْتَبِدٌّ بِرَأْيِهِ ، وَمَا هَلَكَ أَحَدٌ عَنْ مَشُورَةٍ ،
فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ هَلَكَةً كَانَ أَوَّلُ مَا يُهْلِكُهُ رَأْيَهُ
} .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الِاسْتِشَارَةُ
عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ .
وَقَالَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ لِابْنِهِ : شَاوِرْ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ
فَإِنَّهُ يُعْطِيك مِنْ رَأْيِهِ مَا قَامَ عَلَيْهِ بِالْغَلَاءِ وَأَنْتَ
تَأْخُذُهُ مَجَّانًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : نِصْفُ رَأْيِك مَعَ أَخِيك فَشَاوِرْهُ لِيَكْمُلَ
لَك الرَّأْيُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ ضَلَّ ، وَمَنْ
اكْتَفَى بِعَقْلِهِ زَلَّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْخَطَأُ مَعَ الِاسْتِرْشَادِ أَحْمَدُ مِنْ
الصَّوَابِ مَعَ الِاسْتِبْدَادِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : خَلِيلَيَّ لَيْسَ الرَّأْيُ فِي صَدْرِ وَاحِدٍ أَشِيرَا
عَلَيَّ بِاَلَّذِي تَرَيَانِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَصَوَّرَ فِي نَفْسِهِ
أَنَّهُ إنْ شَاوَرَ فِي أَمْرِهِ ظَهَرَ لِلنَّاسِ ضَعْفُ رَأْيِهِ ، وَفَسَادُ
رَوِيَّتِهِ ، حَتَّى افْتَقَرَ إلَى رَأْيِ غَيْرِهِ .
فَإِنَّ هَذِهِ مَعَاذِيرُ النَّوْكَى وَلَيْسَ يُرَادُ الرَّأْيُ لِلْمُبَاهَاةِ
بِهِ وَإِنَّمَا يُرَادُ لِلِانْتِفَاعِ بِنَتِيجَتِهِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ
الْخَطَأِ عِنْدَ زَلَلِهِ .
وَكَيْفَ يَكُونُ عَارًا مَا أَدَّى إلَى صَوَابٍ وَصَدَّ عَنْ خَطَأٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَقِّحُوا عُقُولَكُمْ بِالْمُذَاكَرَةِ ،
وَاسْتَعِينُوا عَلَى أُمُورِكُمْ بِالْمُشَاوَرَةِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مِنْ كَمَالِ عَقْلِك اسْتِظْهَارُك عَلَى عَقْلِك
.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : إذَا أَشْكَلَتْ عَلَيْك الْأُمُورُ وَتَغَيَّرَ
لَك الْجُمْهُورُ فَارْجِعْ إلَى رَأْيِ الْعُقَلَاءِ ، وَافْزَعْ إلَى
اسْتِشَارَةِ الْعُلَمَاءِ ، وَلَا تَأْنَفْ مِنْ الِاسْتِرْشَادِ ، وَلَا
تَسْتَنْكِفْ مِنْ الِاسْتِمْدَادِ .
فَلَأَنْ تَسْأَلَ وَتَسْلَمَ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَسْتَبِدَّ وَتَنْدَمَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ تُكْثِرَ مِنْ اسْتِشَارَةِ ذَوِي الْأَلْبَابِ لَا سِيَّمَا فِي
الْأَمْرِ الْجَلِيلِ فَقَلَّمَا يَضِلُّ عَنْ الْجَمَاعَةِ رَأْيٌ ، أَوْ
يَذْهَبُ عَنْهُمْ صَوَابٌ ، لِإِرْسَالِ الْخَوَاطِرِ الثَّاقِبَةِ وَإِجَالَةِ
الْأَفْكَارِ الصَّادِقَةِ فَلَا يَعْزُبُ عَنْهَا مُمْكِنٌ وَلَا يَخْفَى
عَلَيْهَا جَائِزٌ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ أَكْثَرَ الْمَشُورَةَ لَمْ يَعْدَمْ
عِنْدَ الصَّوَابِ مَادِحًا ، وَعِنْدَ الْخَطَأِ عَاذِرًا ، وَإِنْ كَانَ
الْخَطَأُ مِنْ الْجَمَاعَةِ بَعِيدًا .
فَإِذَا اسْتَشَارَ الْجَمَاعَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الرَّأْيِ فِي
اجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِ وَانْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِهِ .
فَمَذْهَبُ الْفُرْسِ أَنَّ الْأَوْلَى اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الِارْتِيَاءِ
وَإِجَالَةِ الْفِكْرِ لِيَذْكُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا قَدَحَهُ خَاطِرُهُ
، وَأَنْتَجَهُ فِكْرُهُ حَتَّى إذَا كَانَ فِيهِ قَدْحٌ عُورِضَ ، أَوْ تَوَجَّهَ
عَلَيْهِ رَدٌّ نُوقِضَ ، كَالْجَدَلِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الْمُنَاظَرَةُ ،
وَتَقَعُ فِيهِ الْمُنَازَعَةُ وَالْمُشَاجَرَةُ ، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِيهِ
مَعَ اجْتِمَاعِ الْقَرَائِحِ عَلَيْهِ خَلَلٌ إلَّا ظَهَرَ ، وَلَا زَلَلٌ إلَّا
بَانَ .
وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْنَافِ الْأُمَمِ إلَى أَنَّ الْأَوْلَى اسْتِسْرَارُ
كُلِّ وَاحِدٍ بِالْمَشُورَةِ لَيُجِيلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِكْرَهُ فِي
الرَّأْيِ طَمَعًا فِي الْحُظْوَةِ بِالصَّوَابِ ، فَإِنَّ الْقَرَائِحَ إذَا
انْفَرَدَتْ اسْتَكَدَّهَا الْفِكْرُ وَاسْتَفْرَغَهَا الِاجْتِهَادُ ، وَإِذَا
اجْتَمَعَتْ
فَوَّضَتْ
وَكَانَ الْأَوَّلُ مِنْ بِدَائِهَا مَتْبُوعًا .
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ وَجْهٌ ، وَوَجْهُ الثَّانِي أَظْهَرُ .
وَاَلَّذِي أَرَاهُ فِي الْأَوْلَى غَيْرُ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى
الْإِطْلَاقِ ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي الشُّورَى فَإِنْ كَانَتْ فِي حَالٍ
وَاحِدَةٍ هَلْ هِيَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَيْهَا أَوْلَى
؛ لِأَنَّ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاعْتِرَاضُ
عَلَى فَسَادِهِ ، أَوْ ظُهُورُ الْحُجَّةِ فِي صَلَاحِهِ .
وَهَذَا مَعَ الِاجْتِمَاعِ أَبْلَغُ ، وَعِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ أَوْضَحُ ، وَإِنْ
كَانَتْ الشُّورَى فِي خَطْبٍ قَدْ اسْتُبْهِمَ صَوَابُهُ ، وَاسْتُعْجِمَ
جَوَابُهُ ، مِنْ أُمُورٍ خَافِيَةٍ وَأَحْوَالٍ غَامِضَةٍ لَمْ يَحْصُرْهَا
عَدَدٌ وَلَمْ يَجْمَعْهَا تَقْسِيمٌ وَلَا عُرِفَ لَهَا جَوَابٌ يَكْشِفُ عَنْ
خَطَئِهِ وَصَوَابِهِ .
فَالْأَوْلَى فِي مِثْلِهِ انْفِرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ بِفِكْرِهِ ، وَخُلُوِّهِ
بِخَاطِرِهِ ، لِيَجْتَهِدَ فِي الْجَوَابِ ثُمَّ يَقَعَ الْكَشْفُ عَنْهُ
أَخَطَأٌ هُوَ أَمْ صَوَابٌ ، فَيَكُونَ الِاجْتِهَادُ فِي الْجَوَابِ مُنْفَرِدًا
وَالْكَشْفُ عَنْ الصَّوَابِ مُجْتَمِعًا ؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ فِي
الِاجْتِهَادِ أَصَحُّ ، وَالِاجْتِمَاعَ عَلَى الْمُنَاظَرَةِ أَبْلَغُ ،
فَهَكَذَا .
هَذَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْلَمَ أَهْلُ الشُّورَى مِنْ حَسَدٍ أَوْ تَنَافُسٍ ،
فَيَمْنَعَهُمْ مِنْ تَسْلِيمِ الصَّوَابِ لِصَاحِبِهِ .
ثُمَّ يَعْرِضُ الْمُسْتَشِيرُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ فِي
الِارْتِيَاءِ وَالِاجْتِهَادِ فَإِذَا تَصَفَّحَ أَقَاوِيلَ جَمِيعِهِمْ كَشَفَ
عَنْ أُصُولِهَا وَأَسْبَابِهَا ، وَبَحَثَ عَنْ نَتَائِجِهَا وَعَوَاقِبِهَا ،
حَتَّى لَا يَكُونَ فِي الْأَمْرِ مُقَلِّدًا وَلَا فِي الرَّأْيِ مُفَوِّضًا ،
فَإِنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ مَعَ ارْتِيَاضِهِ بِالِاجْتِهَادِ ثَلَاثَ
خِصَالٍ : إحْدَاهُنَّ : مَعْرِفَةُ عَقْلِهِ وَصِحَّةِ رَوِيَّتِهِ .
وَالثَّانِيَةُ : مَعْرِفَةُ عَقْلِ صَاحِبِهِ وَصَوَابِ رَأْيِهِ .
وَالثَّالِثَةُ : وُضُوحُ مَا اسْتَعْجَمَ مِنْ الرَّأْيِ وَافْتِتَاحُ مَا
أُغْلِقَ مِنْ الصَّوَابِ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ لَهُ الرَّأْيُ أَمْضَاهُ فَلَمْ
يُؤَاخِذْهُمْ
بِعَوَاقِبِ الْإِكْدَاءِ فِيهِ ، فَإِنَّ مَا عَلَى النَّاصِحِ الِاجْتِهَادُ ،
وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّجْحِ لَا سِيَّمَا وَالْمَقَادِيرُ غَالِبَةٌ .
وَمَتَى عُرِفَ مِنْهُ تَعَقُّبُ الْمُشِيرِ وَكَلَ إلَى رَأْيِهِ ، وَأَسْلَمَ
إلَى نَفْسِهِ ، فَصَارَ فَرْدًا لَا يُعَانُ بِرَأْيٍ وَلَا يُمَدُّ بِمَشُورَةٍ
.
وَقَدْ قَالَتْ الْفُرْسُ فِي حِكَمِهَا : أَضْعَفُ الْحِيلَةِ خَيْرٌ مِنْ
أَقْوَى الشِّدَّةِ .
وَأَقَلُّ التَّأَنِّي خَيْرٌ مِنْ أَكْثَرِ الْعَجَلَةِ ، وَالدَّوْلَةُ رَسُولُ
الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ .
وَإِذَا اسْتَبَدَّ الْمَلِكُ بِرَأْيِهِ عَمِيَتْ عَلَيْهِ الْمَرَاشِدُ .
وَإِذَا ظَفِرَ بِرَأْيٍ مِنْ خَامِلٍ لَا يَرَاهُ لِلرَّأْيِ أَهْلًا وَلَا
لِلْمَشُورَةِ مُسْتَوْجِبًا اغْتَنَمَهُ عَفْوًا فَإِنَّ الرَّأْيَ كَالضَّالَّةِ
تُؤْخَذُ أَيْنَ وُجِدَتْ ، وَلَا يَهُونُ لِمَهَانَةِ صَاحِبِهِ فَيُطْرَحُ ،
فَإِنَّ الدُّرَّةَ لَا يَضَعُهَا مُهَانَةً غَائِصُهَا ، وَالضَّالَّةَ لَا
تُتْرَكُ لِذِلَّةِ وَاجِدِهَا .
وَلَيْسَ يُرَادُ الرَّأْيُ لِمَكَانِ الْمُشِيرِ بِهِ فَيُرَاعَى قَدْرُهُ
وَإِنَّمَا يُرَادُ لِانْتِفَاعِ الْمُسْتَشِيرِ .
وَأَنْشَدَ أَبُو الْعَيْنَاءِ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ : النُّصْحُ أَرْخَصُ مَا
بَاعَ الرِّجَالُ فَلَا تَرْدُدْ عَلَى نَاصِحٍ نُصْحًا وَلَا تَلُمْ إنَّ
النَّصَائِحَ لَا تَخْفَى مَنَاهِجُهَا عَلَى الرِّجَالِ ذَوِي الْأَلْبَابِ
وَالْفَهْمِ ثُمَّ لَا وَجْهَ لِمَنْ تَقَرَّرَ لَهُ رَأْيٌ أَنْ يَنِيَ فِي
إمْضَائِهِ ، فَإِنَّ الزَّمَانَ غَادِرٌ وَالْفُرَصُ مُنْتَهَزَةٌ وَالثِّقَةُ
عَجْزٌ .
وَقِيلَ لِمَلِكٍ زَالَ عَنْهُ مِلْكُهُ : مَا الَّذِي سَلَبَك مِلْكَك ؟ قَالَ :
تَأْخِيرِي عَمَلَ الْيَوْمِ لِغَدٍ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا كُنْت ذَا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمَةٍ وَلَا تَكُ
بِالتَّرْدَادِ لِلرَّأْيِ مُفْسِدَا فَإِنِّي رَأَيْت الرَّيْبَ فِي الْعَزْمِ
هُجْنَةً وَإِنْفَاذُ ذِي الرَّأْيِ الْعَزِيمَةَ أَرْشَدَا
وَيَنْبَغِي
لِمَنْ أُنْزِلَ مَنْزِلَةَ الْمُسْتَشَارِ وَأُحِلَّ مَحَلَّ النَّاصِحِ
الْمَوَادِّ حَتَّى صَارَ مَأْمُولَ النُّجْحِ ، مَرْجُوَّ الصَّوَابِ ، أَنْ
يُؤَدِّيَ حَقَّ هَذِهِ النِّعْمَةِ بِإِخْلَاصِ السَّرِيرَةِ ، وَيُكَافِئَ عَلَى
الِاسْتِسْلَامِ بِبَذْلِ النُّصْحِ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ إنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا اسْتَنْصَحَهُ أَنْ
يَنْصَحَهُ } .
وَرُبَّمَا أَبْطَرَتْهُ الْمُشَاوَرَةُ فَأُعْجِبَ بِرَأْيِهِ فَاحْذَرْهُ فِي
الْمُشَاوَرَةِ فَلَيْسَ لِلْمُعْجَبِ رَأْيٌ صَحِيحٌ وَلَا رَوِيَّةٌ سَلِيمَةٌ ،
وَرُبَّمَا شَحَّ فِي الرَّأْيِ لِعَدَاوَةٍ أَوْ حَسَدٍ فَوَرَّى أَوْ مَكَرَ
فَاحْذَرْ الْعَدُوَّ وَلَا تَثِقْ بِحَسُودٍ .
وَلَا عُذْرَ لِمَنْ اسْتَشَارَهُ عَدُوٌّ أَوْ صَدِيقٌ أَنْ يَكْتُمَ رَأْيًا
وَقَدْ اُسْتُرْشِدَ وَلَا أَنْ يَخُونَ وَقَدْ اُؤْتُمِنَ .
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُسْتَشِيرُ
وَالْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ } .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دُرَيْدٍ : وَأَجِبْ أَخَاكَ إذَا اسْتَشَارَكَ نَاصِحًا
وَعَلَى أَخِيكَ نَصِيحَةً لَا تَرْدُدْ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشِيرَ قَبْلَ أَنْ
يُسْتَشَارَ إلَّا فِيمَا مَسَّ ، وَلَا أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالرَّأْيِ إلَّا
فِيمَا لَزِمَ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَأْيُهُ مُتَّهَمًا
أَوْ مُطْرَحًا ، وَفِي أَيِّ هَذَيْنِ كَانَ وَصْمَةً .
وَإِنَّمَا يَكُونُ الرَّأْيُ مَقْبُولًا إذَا كَانَ عَنْ رَغْبَةٍ وَطَلَبٍ ،
أَوْ كَانَ لِبَاعِثٍ وَسَبَبٍ .
رَوَى أَبُو بِلَالٍ الْعِجْلِيُّ ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ، عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَالَ لُقْمَانُ
لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ إذَا اُسْتُشْهِدْتَ فَاشْهَدْ ، وَإِذَا اُسْتُعِنْتَ
فَأَعِنْ ، وَإِذَا اُسْتُشِرْتَ فَلَا تُعَجِّلْ حَتَّى تَنْظُرَ } .
وَقَالَ بَيْهَسٌ الْكِلَابِيُّ : مِنْ النَّاسِ مَنْ إنْ يَسْتَشِرْكَ
فَتَجْتَهِدْ لَهُ الرَّأْيَ يَسْتَغْشِشْك مَا لَا تُبَايِعُهْ فَلَا تَمْنَحَنَّ
الرَّأْيَ مَنْ لَيْسَ أَهْلَهُ فَلَا
أَنْتَ مَحْمُودٌ وَلَا الرَّأْيُ نَافِعُهْ
كِتْمَانُ
السِّرِّ الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي كِتْمَانِ السِّرِّ : اعْلَمْ أَنَّ كِتْمَانَ
الْأَسْرَارِ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ النَّجَاحِ ، وَأَدْوَمِ لِأَحْوَالِ
الصَّلَاحِ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
اسْتَعِينُوا عَلَى الْحَاجَاتِ بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ
مَحْسُودٌ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : سِرُّك أَسِيرُك
فَإِنْ تَكَلَّمْت بِهِ صِرْت أَسِيرَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ كُنْ جَوَادًا بِالْمَالِ
فِي مَوْضِعِ الْحَقِّ ، ضَنِينًا بِالْأَسْرَارِ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ .
فَإِنَّ أَحْمَدَ جُودِ الْمَرْءِ الْإِنْفَاقُ فِي وَجْهِ الْبِرِّ ، وَالْبُخْلُ
بِمَكْتُومِ السِّرِّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَ الْخِيَارُ إلَيْهِ ،
وَمَنْ أَفْشَاهُ كَانَ الْخِيَارُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَا أَسَرَّك مَا كَتَمْت سِرَّك .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ : مَا لَمْ تُغَيِّبْهُ الْأَضَالِعُ فَهُوَ
مَكْشُوفٌ ضَائِعٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ ، وَهُوَ أَنَسُ بْنُ أُسَيْدٍ : وَلَا تُفْشِ سِرَّك
إلَّا إلَيْك فَإِنَّ لِكُلِّ نَصِيحٍ نَصِيحَا فَإِنِّي رَأَيْتُ وُشَاةَ
الرِّجَالِ لَا يَتْرُكُونَ أَدِيمًا صَحِيحَا وَكَمْ مِنْ إظْهَارِ سِرٍّ أَرَاقَ
دَمَ صَاحِبِهِ ، وَمَنَعَ مِنْ نَيْلِ مَطَالِبِهِ ، وَلَوْ كَتَمَهُ كَانَ مِنْ
سَطْوَتِهِ آمِنًا ، وَفِي عَوَاقِبِهِ سَالِمًا ، وَلِنَجَاحِ حَوَائِجِهِ
رَاجِيًا .
وَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ : مَنْ حَصَّنَ سِرَّهُ فَلَهُ بِتَحْصِينِهِ خَصْلَتَانِ
: الظَّفَرُ بِحَاجَتِهِ ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ السَّطَوَاتِ .
وَإِظْهَارُ الرَّجُلِ سِرَّ غَيْرِهِ أَقْبَحُ مِنْ إظْهَارِهِ سِرَّ نَفْسِهِ ؛
لِأَنَّهُ يَبُوءُ بِإِحْدَى وَصْمَتَيْنِ : الْخِيَانَةُ إنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا ،
أَوْ النَّمِيمَةُ إنْ كَانَ مُسْتَوْدَعًا .
فَأَمَّا الضَّرَرُ فَرُبَّمَا اسْتَوَيَا فِيهِ وَتَفَاضَلَا .
وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ ، وَهُوَ فِيهِمَا مَلُومٌ .
وَفِي الِاسْتِرْسَالِ بِإِبْدَاءِ السِّرِّ دَلَائِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ
مَذْمُومَةٍ : إحْدَاهَا : ضِيقُ الصَّدْرِ ، وَقِلَّةُ الصَّبْرِ ، حَتَّى
أَنَّهُ
لَمْ
يَتَّسِعْ لِسِرٍّ ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَبْرٍ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : إذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ وَلَامَ
عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهُوَ أَحْمَقُ إذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ
نَفْسِهِ فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرَّ أَضْيَقُ وَالثَّانِيَةُ :
الْغَفْلَةُ عَنْ تَحَذُّرِ الْعُقَلَاءِ ، وَالسَّهْوُ عَنْ يَقِظَةِ
الْأَذْكِيَاءِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : انْفَرِدْ بِسِرِّك وَلَا تُودِعْهُ حَازِمًا
فَيَزِلَّ ، وَلَا جَاهِلًا فَيَخُونَ .
وَالثَّالِثَةُ : مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ الْغَدْرِ ، وَاسْتَعْمَلَهُ مِنْ
الْخَطَرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : سِرُّك مِنْ دَمِك فَإِذَا تَكَلَّمْت بِهِ فَقَدْ
أَرَقْتَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْأَسْرَارِ مَا لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ مُطَالَعَةِ
صَدِيقٍ مُسَاهِمٍ ، وَاسْتِشَارَةِ نَاصِحٍ مُسَالِمٍ .
فَلْيَخْتَرْ الْعَاقِلُ لِسِرِّهِ أَمِينًا إنْ لَمْ يَجِدْ إلَى كَتْمِهِ
سَبِيلًا ، وَلْيَتَحَرَّ فِي اخْتِيَارِ مَنْ يَأْتَمِنُهُ عَلَيْهِ
وَيَسْتَوْدِعُهُ إيَّاهُ .
فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى الْأَمْوَالِ أَمِينًا كَانَ عَلَى الْأَسْرَارِ
مُؤْتَمَنًا .
وَالْعِفَّةُ عَنْ الْأَمْوَالِ أَيْسَرُ مِنْ الْعِفَّةِ عَنْ إذَاعَةِ
الْأَسْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُذِيعَ سِرَّ نَفْسِهِ بِبَادِرَةِ
لِسَانِهِ ، وَسَقَطِ كَلَامِهِ ، وَيَشُحُّ بِالْيَسِيرِ مِنْ مَالِهِ ، حِفْظًا
لَهُ وَضَنًّا بِهِ ، وَلَا يَرَى مَا أَذَاعَ مِنْ سِرِّهِ كَبِيرًا فِي جَنْبِ
مَا حَفِظَهُ مِنْ يَسِيرِ مَالِهِ مَعَ عِظَمِ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ .
فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ أُمَنَاءُ الْأَسْرَارِ أَشَدَّ تَعَذُّرًا وَأَقَلَّ
وُجُودًا مِنْ أُمَنَاءِ الْأَمْوَالِ .
وَكَانَ حِفْظُ الْمَالِ أَيْسَرَ مِنْ كَتْمِ الْأَسْرَارِ ؛ لِأَنَّ إحْرَازَ
الْأَمْوَالِ مَنِيعَةٌ وَإِحْرَازَ الْأَسْرَارِ بَارِزَةٌ يُذِيعُهَا لِسَانٌ
نَاطِقٌ ، وَيُشِيعُهَا كَلَامٌ سَابِقٌ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْقُلُوبُ
أَوْعِيَةُ الْأَسْرَارِ ، وَالشِّفَاءُ أَقْفَالُهَا وَالْأَلْسُنُ مَفَاتِيحُهَا
، فَلْيَحْفَظْ كُلُّ امْرِئٍ مِفْتَاحَ سِرِّهِ .
وَمِنْ صِفَاتِ أَمِينِ السِّرِّ أَنْ يَكُونَ ذَا عَقْلٍ
صَادٍّ
، وَدِينٍ حَاجِزٍ ، وَنُصْحٍ مَبْذُولٍ ، وَوُدٍّ مَوْفُورٍ ، وَكَتُومًا
بِالطَّبْعِ .
فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَمْنَعُ مِنْ الْإِذَاعَةِ ، وَتُوجِبُ حِفْظَ
الْأَمَانَةِ ، فَمَنْ كَمُلَتْ فِيهِ فَهُوَ عَنْقَاءُ مُغْرِبٍ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : قُلُوبُ الْعُقَلَاءِ حُصُونُ الْأَسْرَارِ .
وَلْيَحْذَرْ صَاحِبُ السِّرِّ أَنْ يُودِعَ سِرَّهُ مَنْ يَتَطَلَّعُ إلَيْهِ ،
وَيُؤْثِرُ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ طَالِبَ الْوَدِيعَةِ خَائِنٌ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا تُنْكِحْ خَاطِبَ سِرِّك .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : لَا تَدَعْ سِرًّا إلَى طَالِبِهِ
مِنْك فَالطَّالِبُ لِلسِّرِّ مُذِيعُ وَلْيَحْذَرْ كَثْرَةَ الْمُسْتَوْدَعِينَ
لِسِرِّهِ فَإِنَّ كَثْرَتَهُمْ سَبَبُ الْإِذَاعَةِ ، وَطَرِيقٌ إلَى
الْإِشَاعَةِ ؛ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الشُّرُوطِ
فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مُعْوِزٌ ، وَلَا بُدَّ إذَا كَثُرُوا مِنْ أَنْ يَكُونَ
فِيهِمْ مَنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجِدُ سَبِيلًا إلَى نَفْيِ
الْإِذَاعَةِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ ، فَلَا يُضَافُ
إلَيْهِ ذَنْبٌ ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ عَتْبٌ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كُلَّمَا كَثُرَتْ خِزَانُ الْأَسْرَارِ
ازْدَادَتْ ضَيَاعًا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَسِرُّك مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ وَسِرُّ
الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِي وَقَالَ آخَرُ : فَلَا تَنْطِقْ بِسِرِّك كُلُّ
سِرٍّ إذَا مَا جَاوَزَ الِاثْنَيْنِ فَاشِي ثُمَّ لَوْ سَلِمَ مِنْ إذَاعَتِهِمْ
لَمْ يَسْلَمْ مِنْ إدْلَالِهِمْ وَاسْتِطَالَتِهِمْ ، فَإِنَّ لِمَنْ ظَفِرَ
بِسِرٍّ مِنْ فَرْطِ الْإِدْلَالِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِطَالَةِ ، مَا إنْ لَمْ
يَحْجِزْهُ عَنْهُ عَقْلٌ وَلَمْ يَكُفَّهُ عَنْهُ فَضْلٌ ، كَانَ أَشَدَّ مِنْ
ذُلِّ الرِّقِّ وَخُضُوعِ الْعَبْدِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَفْشَى سِرَّهُ كَثُرَ عَلَيْهِ
الْمُتَأَمِّرُونَ .
فَإِذَا اخْتَارَ وَأَرْجُو أَنْ يُوَفَّقَ لِلِاخْتِيَارِ ، وَاضْطَرَّ إلَى
اسْتِيدَاعِ سِرِّهِ وَلَيْتَهُ كُفِيَ الِاضْطِرَارُ ، وَجَبَ عَلَى
الْمُسْتَوْدَعِ لَهُ أَدَاءُ
الْأَمَانَةِ
فِيهِ بِالتَّحَفُّظِ وَالتَّنَاسِي لَهُ حَتَّى لَا يَخْطِرَ لَهُ بِبَالٍ وَلَا
يَدُورَ لَهُ فِي خَلَدٍ .
ثُمَّ يَرَى ذَلِكَ حُرْمَةً يَرْعَاهَا وَلَا يُدِلُّ إدْلَالَ اللِّئَامِ .
وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا أَسَرَّ إلَى صَدِيقٍ لَهُ حَدِيثًا ثُمَّ قَالَ :
أَفَهِمْت ؟ قَالَ : بَلْ جَهِلْتُ .
قَالَ : أَحَفِظْت ؟ قَالَ : بَلْ نَسِيتُ .
وَقِيلَ لِرَجُلٍ : كَيْفَ كِتْمَانُك لِلسِّرِّ ؟ قَالَ : أَجْحَدُ الْخَبَرَ
وَأَحْلِفُ لِلْمُسْتَخْبِرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَلَوْ قَدَرْتُ عَلَى نِسْيَانِ مَا اشْتَمَلَتْ
مِنِّي الضُّلُوعُ عَلَى الْأَسْرَارِ وَالْخَبَرِ لَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ يَنْسَى
سَرَائِرَهُ إذَا كُنْتُ مِنْ نَشْرِهَا يَوْمًا عَلَى خَطَرِ وَحُكِيَ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ تَذَاكَرَ النَّاسُ فِي مَجْلِسِهِ حِفْظَ السِّرِّ
فَقَالَ ابْنُهُ : وَمُسْتَوْدَعِي سِرًّا تَضَمَّنْتُ سِرَّهُ فَأَوْدَعْتُهُ
مِنْ مُسْتَقَرِّ الْحَشَى قَبْرَا وَلَكِنَّنِي أُخْفِيهِ عَنِّي كَأَنَّنِي مِنْ
الدَّهْرِ يَوْمًا مَا أَحَطْتُ بِهِ خُبْرَا وَمَا السِّرُّ فِي قَلْبِي كَمَيْتٍ
بِحُفْرَةٍ لِأَنِّي أَرَى الْمَدْفُونَ يَنْتَظِرُ النَّشْرَا
الْمِزَاحُ
وَالضَّحِكُ الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي الْمِزَاحِ وَالضَّحِكِ : اعْلَمْ أَنَّ
لِلْمِزَاحِ إزَاحَةً عَنْ الْحُقُوقِ ، وَمَخْرَجًا إلَى الْقَطِيعَةِ
وَالْعُقُوقِ ، يَصِمُ الْمَازِحَ وَيُؤْذِي الْمُمَازَحَ .
فَوَصْمَةُ الْمَازِحِ أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُ الْهَيْبَةَ وَالْبَهَاءَ ،
وَيُجْرِيَ عَلَيْهِ الْغَوْغَاءَ وَالسُّفَهَاءَ .
وَأَمَّا أَذِيَّةُ الْمُمَازِحِ فَلِأَنَّهُ مَعْقُوقٌ بِقَوْلٍ كَرِيهٍ وَفِعْلٍ
مُمْضٍ إنْ أَمْسَكَ عَنْهُ أَحْزَنَ قَلْبَهُ ، وَإِنْ قَابَلَ عَلَيْهِ جَانَبَ
أَدَبَهُ .
فَحُقَّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَّقِيَهُ وَيُنَزِّهَ نَفْسَهُ عَنْ وَصْمَةِ
مَسَاوِئِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ الْمِزَاحُ اسْتِدْرَاجٌ مِنْ الشَّيْطَانِ وَاخْتِدَاعٌ مِنْ الْهَوَى } .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : اتَّقُوا الْمِزَاحَ فَإِنَّهَا حِمْقَةٌ
تُورِثُ ضَغِينَةً .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنَّمَا الْمِزَاحُ سِبَابٌ إلَّا أَنَّ صَاحِبَهُ
يُضْحِكُ .
وَقِيلَ : إنَّمَا سُمِّيَ الْمِزَاحُ مِزَاحًا لِأَنَّهُ يُزِيحُ عَنْ الْحَقِّ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : الْمِزَاحُ مِنْ سُخْفٍ أَوْ بَطَرٍ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمِزَاحُ يَأْكُلُ الْهَيْبَةَ كَمَا
تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ كَثُرَ مِزَاحُهُ زَالَتْ هَيْبَتُهُ ، وَمَنْ
ذَكَرَ خِلَافَهُ طَابَتْ غَيْبَتُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ قَلَّ عَقْلُهُ كَثُرَ هَزْلُهُ .
وَذَكَرَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ الْمِزَاحَ فَقَالَ : يَصُكُّ أَحَدُكُمْ
صَاحِبَهُ بِأَشَدَّ مِنْ الْجَنْدَلِ ، وَيُنْشِقُهُ أَحْرَقَ مِنْ الْخَرْدَلِ ،
وَيُفْرِغُ عَلَيْهِ أَحَرَّ مِنْ الْمِرْجَلِ ، ثُمَّ يَقُولُ : إنَّمَا كُنْتُ
أُمَازِحُك .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : خَيْرُ الْمِزَاحِ لَا يُنَالُ ، وَشَرُّهُ لَا
يُقَالُ .
فَنَظَمَهُ النَّيْسَابُورِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ الْجَامِعَةِ لِلْآدَابِ فَقَالَ
وَزَادَ : شَرُّ مِزَاحِ الْمَرْءِ لَا يُقَالُ وَخَيْرُهُ يَا صَاحِ لَا يُنَالُ
وَقَدْ يُقَالُ كَثْرَةُ الْمِزَاحِ مِنْ الْفَتَى تَدْعُو إلَى التَّلَاحِ إنَّ
الْمِزَاحَ بَدْؤُهُ حَلَاوَهْ لَكِنَّمَا آخِرُهُ
عَدَاوَهْ
يَحْتَدُّ مِنْهُ الرَّجُلُ الشَّرِيفُ وَيَجْتَرِي بِسُخْفِهِ السَّخِيفُ وَقَالَ
أَبُو نُوَاسٍ : خَلِّ جَنْبَيْك لِرَامٍ وَامْضِ عَنْهُ بِسَلَامِ مُتْ بِدَاءِ
الصَّمْتِ خَيْرٌ لَك مِنْ دَاءِ الْكَلَامِ إنَّمَا السَّالِمُ مَنْ أَلْجَمَ فَاهُ
بِلِجَامِ رُبَّمَا اسْتَفْتَحَ بِالْمَزْحِ مَغَالِيقَ الْحِمَامِ وَالْمَنَايَا
آكِلَاتٌ شَارِبَاتٌ لِلْأَنَامِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلَّمَا يَعْرَى مِنْ
الْمِزَاحِ مَنْ كَانَ سَهْلًا فَالْعَاقِلُ يَتَوَخَّى بِمِزَاحِهِ إحْدَى
حَالَتَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا : إحْدَاهُمَا : إينَاسُ الْمُصَاحِبِينَ
وَالتَّوَدُّدُ إلَى الْمُخَالِطِينَ .
وَهَذَا يَكُونُ بِمَا أَنِسَ مِنْ جَمِيلِ الْقَوْلِ ، وَبُسِطَ مِنْ
مُسْتَحْسَنِ الْفِعْلِ .
وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ : اقْتَصِدْ فِي مِزَاحِك فَإِنَّ الْإِفْرَاطَ
فِيهِ يُذْهِبُ الْبَهَاءَ ، وَيُجَرِّئُ عَلَيْك السُّفَهَاءَ ، وَإِنَّ
التَّقْصِيرَ فِيهِ يَفُضُّ عَنْك الْمُؤَانِسِينَ ، وَيُوحِشُ مِنْك
الْمُصَاحِبِينَ .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَنْفِيَ بِالْمِزَاحِ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ
سَأَمٍ ، وَأَحْدَثَ بِهِ مِنْ هَمٍّ .
فَقَدْ قِيلَ : لَا بُدَّ لِلْمَصْدُورِ أَنْ يَنْفُثَ .
وَأَنْشَدْت لِأَبِي الْفَتْحِ الْبُسْتِيِّ : أَفْدِ طَبْعَك الْمَكْدُودَ
بِالْجِدِّ رَاحَةً يُجَمُّ وَعَلِّلْهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَزْحِ وَلَكِنْ إذَا
أَعْطَيْتَهُ الْمَزْحَ فَلْيَكُنْ بِمِقْدَارِ مَا تُعْطِي الطَّعَامَ مِنْ
الْمِلْحِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْزَحُ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ .
رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي
لَأَمْزَحُ وَلَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا } .
فَمِنْ مِزَاحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رُوِيَ { أَنَّ عَجُوزًا
مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَتْهُ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدْعُ لِي
بِالْمَغْفِرَةِ .
فَقَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا الْعَجَائِزُ ، فَصَرَخَتْ
.
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : أَمَا
قَرَأْت قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاءً
فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا } } .
{
وَأَتَتْهُ
أُخْرَى فِي حَاجَةٍ لِزَوْجِهَا فَقَالَ لَهَا : وَمَنْ زَوْجُك ؟ فَقَالَتْ :
فُلَانٌ .
فَقَالَ لَهَا : الَّذِي فِي عَيْنِهِ بَيَاضٌ ؟ فَقَالَتْ : لَا .
فَقَالَ : بَلَى .
فَانْصَرَفَتْ عَجْلَى إلَى زَوْجِهَا وَجَعَلَتْ تَتَأَمَّلُ عَيْنَيْهِ فَقَالَ
لَهَا : مَا شَأْنُك ؟ فَقَالَتْ : أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِي عَيْنَيْك بَيَاضًا .
فَقَالَ : أَمَّا تَرَيْنَ بَيَاضَ عَيْنَيَّ أَكْثَرَ مِنْ سَوَادِهَا ، } .
وَأَتَى رَجُلٌ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : إنِّي
احْتَلَمْتُ عَلَى أُمِّي .
فَقَالَ : أَقِيمُوهُ فِي الشَّمْسِ وَاضْرِبُوا ظِلَّهُ الْحَدَّ .
وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الشَّيْطَانِ فَقَالَ : نَحْنُ نَرْضَى
مِنْهُ بِالْكَفَافِ .
وَقِيلَ لَهُ : مَا اسْمُ امْرَأَةِ إبْلِيسَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - ؟ فَقَالَ :
ذَاكَ نِكَاحٌ مَا شَهِدْنَاهُ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِغُلَامٍ : بِكَمْ تَعْمَلُ مَعِي ؟ قَالَ : بِطَعَامِي .
فَقَالَ لَهُ : أَحْسِنْ قَلِيلًا .
قَالَ : فَأَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي صَالِحِ بْنِ حَسَّانَ ، وَكَانَ مُحَدِّثًا ، أَنَّهُ قَالَ
يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ : أَفْقَهُ النَّاسِ وَضَّاحُ الْيَمَنِ فِي قَوْلِهِ :
إذَا قُلْت هَاتِي نَوِّلِينِي تَبَرَّمَتْ وَقَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ فِعْلِ
مَا حَرُمْ فَمَا نَوَّلَتْ حَتَّى تَضَرَّعْتُ عِنْدَهَا وَأَنْبَأْتُهَا مَا
رَخَّصَ اللَّهُ فِي اللَّمَمْ فَأَمَّا الْخُرُوجُ إلَى حَدِّ الْخَلَاعَةِ
فَهُجْنَةٌ وَمَذَمَّةٌ ، كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ ،
وَكَانَ مُحَدِّثًا ، أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ يَقُولُ :
وَإِذَا الْمَعِدَةُ جَاشَتْ فَارْمِهَا بِالْمَنْجَنِيقِ بِثَلَاثٍ مِنْ نَبِيذٍ
لَيْسَ بِالْحُلْوِ الرَّقِيقِ أَمَا تَرَى كَيْفَ طَرَقَ بِخَلَاعَتِهِ
التُّهْمَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَا الْمَزْحِ فِيمَا لَعَلَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُ ،
وَبَعِيدٌ عَنْهُ .
وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُسْتَرْسِلًا فِي مِزَاحِهِ
.
رَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ أَنَّ مَرْوَانَ رُبَّمَا كَانَ
يَسْتَخْلِفُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فَيَرْكَبُ حِمَارًا قَدْ
شَدَّ
عَلَيْهِ بَرْذَعَةً فَيَسِيرُ فَيَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ : الطَّرِيقُ قَدْ
جَاءَ الْأَمِيرُ .
وَرُبَّمَا أَتَى الصِّبْيَانَ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لُعْبَةَ الْأَعْرَابِ فَلَا
يَشْعُرُونَ حَتَّى يُلْقِيَ نَفْسَهُ بَيْنَهُمْ وَيَضْرِبَ بِرِجْلِهِ
فَيَفْزَعُ الصِّبْيَانُ فَيَنْفِرُونَ ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْقَدْرِ
الْمُسْتَسْمَحِ بِهِ وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْفِعْلِ مِنْهُ تَأْوِيلٌ
سَائِغٌ .
وَقَدْ { كَانَ صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ مَزَّاحًا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَأْكُلُ تَمْرًا وَبِك رَمَدٌ ؟ فَقَالَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا أَمْضُغُ عَلَى النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى } .
وَإِنَّمَا اسْتَجَازَ صُهَيْبٌ أَنْ يُعَرِّضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَزْحِ فِي جَوَابِهِ ؛ لِأَنَّ اسْتِخْبَارَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَتَضَمَّنُ الْمَزْحَ ، فَأَجَابَهُ عَنْ
اسْتِخْبَارِهِ بِمَا يُوَافِقُهُ مُسَاعِدَةً لِغَرَضِهِ ، وَتَقَرُّبًا مِنْ
قَلْبِهِ ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ جَوَابَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَزْحًا ؛ لِأَنَّ الْمَزْحَ هَزْلٌ ، وَمَنْ
جَعَلَ جَوَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَيِّنِ
عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحْكَامَهُ ، الْمُؤَدِّي إلَى خَلْقِهِ أَوَامِرَهُ
، هَزْلًا وَمَزْحًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَصُهَيْبٌ كَانَ
أَطَوْعَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ
الْمَنْزِلَةِ .
فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَا سَابِقُ الْعَرَبِ ،
وَصُهَيْبٌ سَابِقُ الرُّومَ ، وَسَلْمَانُ سَابِقُ الْفُرْسَ ، وَبِلَالٌ سَابِقُ
الْحَبَشِ } .
وَمِنْ مُسْتَحْسَنِ الْمَزْحِ وَمُسْتَسْمَحِ الدُّعَابَةِ مَا حَكَى الزُّبَيْرُ
بْنُ بَكَّارٍ عَنْ الْكِنْدِيِّ أَنَّ الْقُشَيْرِيَّ وَقَفَ عَلَى شَيْخٍ مِنْ
الْأَعْرَابِ فَقَالَ : يَا أَعْرَابِيُّ مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ : مِنْ عَقِيلٍ
.
قَالَ : مِنْ أَيِّ عَقِيلٍ ؟ قَالَ : مِنْ بَنِي خَفَاجَةَ .
فَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ : رَأَيْت شَيْخًا مِنْ بَنِي خَفَاجَةَ .
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : مَا شَأْنُهُ ؟ قَالَ : لَهُ
إذَا
جَنَّ الظَّلَامُ حَاجَةٌ .
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : مَا هِيَ ؟ قَالَ : كَحَاجَةِ الدِّيكِ إلَى
الدَّجَاجَةِ .
فَاسْتَعْبَرَ الْأَعْرَابِيُّ ضَاحِكًا ، وَقَالَ : - قَاتَلَك اللَّهُ - مَا
أَعْرَفَك بِسَرَائِرِ الْقَوْمِ .
فَانْظُرْ كَيْفَ بَلَغَ بِهَذَا الْمَزْحَ غَايَتَهُ ، وَلِسَانُهُ نَزِهٌ ،
وَعِرْضُهُ مَصُونٌ .
وَهَذَا غَايَةُ مَا يَتَسَامَحُ بِهِ الْفُضَلَاءُ مِنْ الْخَلَاعَةِ وَإِنْ كَانَ
مُسْتَكْرَهَ الْفَحْوَى وَالنَّزَاهَةُ عَنْ مِثْلِهِ أَوْلَى .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَسْتَرْسِلَ فِي مُمَازَحَةِ عَدُوٍّ فَيَجْعَلَ لَهُ طَرِيقًا
إلَى إعْلَانِ الْمَسَاوِئِ وَهُوَ مُجِدٌّ ، وَيُفْسِحَ لَهُ فِي التَّشَفِّي
مَزْحًا وَهُوَ مُحِقٌّ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إذَا مَازَحْت عَدُوَّك ظَهَرَتْ لَهُ
عُيُوبُك .
وَأَمَّا الضَّحِكُ فَإِنَّ اعْتِيَادَهُ شَاغِلٌ عَنْ النَّظَرِ فِي الْأُمُورِ
الْمُهِمَّةِ ، مُذْهِلٌ عَنْ الْفِكْرِ فِي النَّوَائِبِ الْمُلِمَّةِ .
وَلَيْسَ لِمَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ هَيْبَةٌ وَلَا وَقَارٌ ، وَلَا لِمَنْ وُصِمَ
بِهِ خَطَرٌ وَلَا مِقْدَارٌ .
رَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إيَّاكَ وَكَثْرَةَ
الضَّحِكِ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيُذْهِبُ بِنُورِ الْوَجْهِ } .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا
يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلَّا أَحْصَاهَا } إنَّ الصَّغِيرَةَ
الضَّحِكُ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ كَثُرَ ضَحِكُهُ
قَلَّتْ هَيْبَتُهُ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : إذَا ضَحِكَ
الْعَالِمُ ضِحْكَةً مَجَّ مِنْ الْعِلْمِ مَجَّةً .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : ضِحْكَةُ الْمُؤْمِنِ غَفْلَةٌ مِنْ قَلْبِهِ .
وَالْقَوْلُ فِي الضَّحِكِ كَالْقَوْلِ فِي الْمِزَاحِ إنْ تَجَافَاهُ
الْإِنْسَانُ نَفَرَ عَنْهُ وَأَوْحَشَ مِنْهُ ، وَإِنْ أَلِفَهُ كَانَتْ حَالُهُ
مَا وَصَفْنَا .
فَلْيَكُنْ بَدَلُ الضَّحِكِ عِنْدَ الْإِينَاسِ تَبَسُّمًا .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : التَّبَسُّمُ دُعَابَةٌ
.
وَهَذَا
أَبْلَغُ
فِي الْإِينَاسِ مِنْ الضَّحِكِ الَّذِي هُوَ قَدْ يَكُونُ اسْتِهْزَاءً
وَتَعَجُّبًا .
وَلَيْسَ يُنْكَرُ مِنْهُ الْمَرَّةَ النَّادِرَةَ لِطَارِئٍ اسْتَغْفَلَ
النَّفْسَ عَنْ دَفْعِهِ .
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَمْلَكُ
الْخَلْقِ لِنَفْسِهِ ، قَدْ تَبَسَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ .
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
الْفَصْلُ
السَّادِسُ فِي الطِّيَرَةِ وَالْفَأْلِ : اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَضَرَّ
بِالرَّأْيِ وَلَا أَفْسَدَ لِلتَّدْبِيرِ مِنْ اعْتِقَادِ الطِّيَرَةِ ، وَمَنْ
ظَنَّ أَنَّ خُوَارَ بَقَرَةٍ أَوْ نَعِيبَ غُرَابٍ يَرُدُّ قَضَاءً أَوْ يَدْفَعُ
مَقْدُورًا فَقَدْ جَهِلَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ } .
فَالْعَدْوَى مَا يَظُنُّهُ النَّاسُ مِنْ تَعَدِّي الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ
فَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تُعْدِي ، فَقِيلَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَرَى
النُّقْطَةَ مِنْ الْجَرَبِ فِي مِشْفَرِ الْبَعِيرِ فَتَتَعَدَّى إلَى جَمِيعِهِ
.
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَا أَعْدَى الْأَوَّلَ ؟ }
وَأَمَّا الْهَامَةُ فَهُوَ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
تَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّ الْقَتِيلَ إذَا طَلَّ دَمُهُ فَلَمْ يُدْرَك بِثَأْرِهِ
صَاحَتْ هَامَتُهُ فِي الْقَبْرِ : اسْقُونِي .
قَالَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ يَعْنِيهَا : يَا عَمْرُو إلَّا تَدَعْ شَتْمِي
وَمَنْقَصَتِي أَضْرِبْكَ حَتَّى تَقُولَ الْهَامَةُ اسْقُونِي وَقَالَ
إبْرَاهِيمُ بْنُ هَرْمَةَ : وَكَيْفَ وَقَدْ صَارُوا عِظَامًا وَأَقْبُرًا
يَصِيحُ صَدَاهَا بِالْعَشِيِّ وَهَامُهَا تَفَانَوْا وَلَمْ يَبْقَوْا وَكُلُّ
قَبِيلَةٍ سَرِيعٌ إلَى وِرْدِ الْفِنَاءِ كِرَامُهَا وَأَمَّا الصَّفَرُ فَهُوَ
كَالْحَيَّةِ يَكُونُ فِي الْجَوْفِ يُصِيبُ الْمَاشِيَةَ وَالنَّاسَ ، وَهُوَ
أَعْدَى عِنْدَهُمْ مِنْ الْجَرَبِ .
وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ : لَا يُمْسِكُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلَا وَصَبٍ
وَلَا يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا
ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا ، وَإِذَا حَسَدْتُمْ فَلَا تَبْغُوا ، وَإِذَا
تَطَيَّرْتُمْ فَامْضُوا وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : طِيَرَةُ النَّاسِ لَا تَرُدُّ قَضَاءً فَاعْذُرْ الدَّهْرَ
لَا تُشَبِّهْ بِلَوْمِ أَيُّ يَوْمٍ تَخُصُّهُ بِسُعُودٍ وَالْمَنَايَا
يَنْزِلْنَ فِي كُلِّ يَوْمِ لَيْسَ يَوْمٌ إلَّا وَفِيهِ سُعُودٌ وَنُحُوسٌ
تَجْرِي
لِقَوْمٍ وَقَوْمِ وَقَدْ كَانَتْ الْفُرْسُ أَكْثَرَ النَّاسِ طِيَرَةً .
وَكَانَتْ الْعَرَبُ إذَا أَرَادَتْ سَفَرًا نَفَّرَتْ أَوَّلَ طَائِرٍ تَلْقَاهُ
فَإِنْ طَارَ يَمْنَةً سَارَتْ وَتَيَمَّنَتْ ، وَإِذَا طَارَ يَسْرَةً رَجَعَتْ
وَتَشَاءَمَتْ ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
ذَلِكَ وَقَالَ : { أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى وُكُنَاتِهَا } .
وَحَكَى عِكْرِمَةُ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا ، فَمَرَّ طَائِرٌ يَصِيحُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : خَيْرٌ .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا خَيْرَ وَلَا شَرَّ .
وَقَالَ لَبِيدٌ : لَعَمْرُك مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى وَلَا
زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو
مِنْ الطِّيَرَةِ أَحَدٌ لَا سِيَّمَا مَنْ عَارَضَتْهُ الْمَقَادِيرُ فِي
إرَادَتِهِ ، وَصَدَّهُ الْقَضَاءُ عَنْ طَلِبَتِهِ ، فَهُوَ يَرْجُو وَالْيَأْسُ
عَلَيْهِ أَغْلَبُ ، وَيَأْمُلُ وَالْخَوْفُ إلَيْهِ أَقْرَبُ .
فَإِذَا عَاقَهُ الْقَضَاءُ ، وَخَانَهُ الرَّجَاءُ ، جَعَلَ الطِّيَرَةَ عُذْرَ
خَيْبَتِهِ ، وَغَفَلَ عَنْ قَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَشِيئَتِهِ ،
فَإِذَا تَطَيَّرَ أَحْجَمَ عَنْ الْإِقْدَامِ وَيَئِسَ مِنْ الظَّفَرِ وَظَنَّ
أَنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ مُطَّرِدٌ وَأَنَّ الْعِبْرَةَ فِيهِ مُسْتَمِرَّةٌ .
ثُمَّ يَصِيرُ ذَلِكَ لَهُ عَادَةً فَلَا يَنْجَحُ لَهُ سَعْيٌ ، وَلَا يَتِمُّ
لَهُ قَصْدٌ .
فَأَمَّا مَنْ سَاعَدَتْهُ الْمَقَادِيرُ وَوَافَقَهُ الْقَضَاءُ فَهُوَ قَلِيلُ
الطِّيَرَةِ لِإِقْدَامِهِ ثِقَةً بِإِقْبَالِهِ وَتَعْوِيلًا عَلَى سَعَادَتِهِ ،
فَلَا يَصُدُّهُ خَوْفٌ وَلَا يَكُفُّهُ حُزْنٌ وَلَا يَئُوبُ ، إلَّا ظَافِرًا ،
وَلَا يَعُودُ إلَّا مُنْجِحًا ؛ لِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْإِقْدَامِ ،
وَالْخَيْبَةَ مَعَ الْإِحْجَامِ ، فَصَارَتْ الطِّيَرَةُ مِنْ سِمَاتِ
الْإِدْبَارِ وَاطِّرَاحُهَا مِنْ إمَارَاتِ الْإِقْبَالِ .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ مُنِيَ بِهَا وَبُلِيَ أَنْ يَصْرِفَ عَنْ نَفْسِهِ وَسَاوِسَ
النَّوْكَى وَدَوَاعِيَ الْخَيْبَةِ وَذَرَائِعَ الْحِرْمَانِ ، وَلَا يَجْعَلَ
لِلشَّيْطَانِ سُلْطَانًا فِي نَقْضِ عَزَائِمِهِ وَمُعَارَضَةِ خَالِقِهِ .
وَيَعْلَمَ
أَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ غَالِبٌ ، وَأَنَّ رِزْقَهُ لَهُ طَالِبٌ
، إلَّا أَنَّ الْحَرَكَةَ سَبَبٌ فَلَا يُثْنِيهِ عَنْهَا مَا لَا يَضُرُّ
مَخْلُوقًا وَلَا يَدْفَعُ مَقْدُورًا .
وَلْيَمْضِ فِي عَزَائِمِهِ وَاثِقًا بِاَللَّهِ تَعَالَى إنْ أُعْطِيَ وَرَاضِيًا
بِهِ إنْ مُنِعَ .
فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةً : الطِّيَرَةُ وَالظَّنُّ
وَالْحَسَدُ فَمَخْرَجُهُ مِنْ الطِّيَرَةِ أَنْ لَا يَرْجِعَ وَمَخْرَجُهُ مِنْ
الظَّنِّ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ وَمَخْرَجُهُ مِنْ الْحَسَدِ أَنْ لَا يَبْغِيَ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَفَّارَةُ
الطِّيَرَةِ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى } .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْخَيْرُ فِي تَرْكِ الطِّيَرَةِ .
وَلْيَقُلْ إنْ عَارَضَهُ فِي الطِّيَرَةِ رَيْبٌ ، أَوْ خَامَرَهُ فِيهَا وَهْمٌ
، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ مَنْ تَطَيَّرَ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْخَيْرَاتِ إلَّا
أَنْتَ وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إلَّا أَنْتَ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إلَّا بِاَللَّهِ } .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَزَلْنَا دَارًا فَكَثُرَ
فِيهَا عَدَدُنَا ، وَكَثُرَتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا ، ثُمَّ تَحَوَّلْنَا عَنْهَا
إلَى أُخْرَى فَقَلَّتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا ، وَقَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَرُوهَا فَهِيَ
ذَمِيمَةٌ } .
وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ
الطِّيَرَةِ وَلَكِنْ عَلَى طَرِيقِ التَّبَرُّكِ بِمَا فَارَقَ وَتَرْكِ مَا
اسْتَوْحَشَ مِنْهُ إلَى مَا أَنِسَ بِهِ .
وَأَمَّا الْفَأْلُ فَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْعَزْمِ وَبَاعِثٌ عَلَى الْجِدِّ
وَمَعُونَةٌ عَلَى الظَّفَرِ .
فَقَدْ تَفَاءَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
غَزَوَاتِهِ وَحُرُوبِهِ .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
سَمِعَ كَلِمَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَقَالَ : أَخَذْنَا فَأْلَكَ مِنْ فِيكَ } .
فَيَنْبَغِي لِمَنْ تَفَاءَلَ أَنْ يَتَأَوَّلَ الْفَأْلَ بِأَحْسَنِ
تَأْوِيلَاتِهِ وَلَا يَجْعَلَ لِسُوءِ الظَّنِّ عَلَى نَفْسِهِ سَبِيلًا .
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْبَلَاءَ
مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ } .
رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَكَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى طُولَ
الْحَبْسِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ يَا يُوسُفُ أَنْتَ حَبَسْت نَفْسَك
حَيْثُ قُلْت رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ وَلَوْ قُلْت الْعَافِيَةُ أَحَبُّ
إلَيَّ لَعُوفِيت .
وَحُكِيَ أَنَّ الْمُؤَمَّلَ بْنَ أُمَيْلٍ الشَّاعِرَ لَمَّا قَالَ يَوْمَ
الْحِيرَةِ : شَفَّ الْمُؤَمَّلَ يَوْمَ الْحِيرَةِ النَّظَرُ لَيْتَ الْمُؤَمَّلَ
لَمْ يُخْلَقْ لَهُ بَصَرُ عَمِيَ فَأَتَاهُ آتٍ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ :
هَذَا مَا طَلَبْت .
وَحُكِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ تَفَاءَلَ يَوْمًا
فِي الْمُصْحَفِ فَخَرَجَ لَهُ قَوْله تَعَالَى : { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ
جَبَّارٍ عَنِيدٍ } فَمَزَّقَ الْمُصْحَفَ وَأَنْشَأَ يَقُولُ : أَتُوعِدُ كُلَّ
جَبَّارٍ عَنِيدٍ فَهَا أَنَا ذَاكَ جَبَّارٌ عَنِيدُ إذَا مَا جِئْت رَبَّك
يَوْمَ حَشْرٍ فَقُلْ يَا رَبِّ مَزَّقَنِي الْوَلِيدُ فَلَمْ يَلْبَثْ إلَّا
أَيَّامًا حَتَّى قُتِلَ شَرَّ قِتْلَةٍ ، وَصُلِبَ رَأْسُهُ عَلَى قَصْرِهِ ،
ثُمَّ عَلَى سُورِ بَلَدِهِ .
فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَغْيِ وَمَصَارِعِهِ ، وَالشَّيْطَانِ
وَمَكَائِدِهِ ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَعَلَيْهِ تَوَكُّلُنَا .
الْفَصْلُ
السَّابِعُ فِي الْمُرُوءَةِ اعْلَمْ أَنَّ مِنْ شَوَاهِدِ الْفَضْلِ وَدَلَائِلِ
الْكَرَمِ الْمُرُوءَةَ الَّتِي هِيَ حِلْيَةُ النُّفُوسِ وَزِينَةُ الْهِمَمِ .
فَالْمُرُوءَةُ مُرَاعَاةُ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى أَفْضَلِهَا حَتَّى
لَا يَظْهَرَ مِنْهَا قَبِيحٌ عَنْ قَصْدٍ وَلَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا ذَمٌّ
بِاسْتِحْقَاقٍ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ
عَامَلَ النَّاسَ فَلَمْ يَظْلِمْهُمْ ، وَحَدَّثَهُمْ فَلَمْ يَكْذِبْهُمْ ،
وَوَعَدَهُمْ فَلَمْ يُخْلِفْهُمْ ، فَهُوَ مِمَّنْ كَمُلَتْ مُرُوءَتُهُ
وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ وَوَجَبَتْ أُخُوَّتُهُ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ شَرَائِطِ الْمُرُوءَةِ أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنْ
الْحَرَامِ ، وَيَتَصَلَّفَ عَنْ الْآثَامِ ، وَيُنْصِفَ فِي الْحِكَمِ ،
وَيَكُفَّ عَنْ الظُّلْمِ ، وَلَا يَطْمَعَ فِيمَا لَا يَسْتَحِقُّ ، وَلَا
يَسْتَطِيلَ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَرِقُّ ، وَلَا يُعِينَ قَوِيًّا عَلَى ضَعِيفٍ ،
وَلَا يُؤْثِرَ دَنِيًّا عَلَى شَرِيفٍ ، وَلَا يُسِرَّ مَا يَعْقُبُهُ الْوِزْرُ
وَالْإِثْمُ ، وَلَا يَفْعَلَ مَا يُقَبِّحُ الذِّكْرَ وَالِاسْمَ .
وَسُئِلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالْمُرُوءَةِ
فَقَالَ : الْعَقْلُ يَأْمُرُك بِالْأَنْفَعِ ، وَالْمُرُوءَةُ تَأْمُرُك
بِالْأَجْمَلِ .
وَلَنْ تَجِدَ الْأَخْلَاقَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ حَدِّ الْمُرُوءَةِ
مُنْطَبِعَةً ، وَلَا عَنْ الْمُرَاعَاةِ مُسْتَغْنِيَةً ، وَإِنَّمَا
الْمُرَاعَاةُ هِيَ الْمُرُوءَةُ لَا مَا انْطَبَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ فَضَائِلِ
الْأَخْلَاقِ ؛ لِأَنَّ غُرُورَ الْهَوَى وَنَازِعَ الشَّهْوَةِ يَصْرِفَانِ
النَّفْسَ أَنْ تَرْكَبَ الْأَفْضَلَ مِنْ خَلَائِقِهَا ، وَالْأَجْمَلَ مِنْ
طَرَائِقِهَا ، وَإِنْ سَلِمَتْ مِنْهَا ، وَبَعِيدٌ أَنْ تَسْلَمَ إلَّا لِمَنْ
اسْتَكْمَلَ شَرَفَ الْأَخْلَاقِ طَبْعًا ، وَاسْتَغْنَى عَنْ تَهْذِيبِهَا
تَكَلُّفًا وَتَطَبُّعًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : مَنْ لَك بِالْمَحْضِ وَلَيْسَ مَحْضٌ يَخْبُثُ بَعْضٌ
وَيَطِيبُ بَعْضُ ثُمَّ لَوْ اسْتَكْمَلَ الْفَضْلَ طَبْعًا ، وَفِي الْمُعْوِزِ
أَنْ يَكُونَ مُسْتَكْمِلًا ، لَكَانَ فِي الْمُسْتَحْسَنِ مِنْ عَادَاتِ دَهْرِهِ
،
وَالْمَوْضُوعِ مِنْ اصْطِلَاحِ عَصْرِهِ ، مِنْ حُقُوقِ الْمُرُوءَةِ
وَشُرُوطِهَا مَا لَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْمُعَانَاةِ وَلَا يُوقَفُ
عَلَيْهِ إلَّا بِالتَّفَقُّدِ وَالْمُرَاعَاةِ .
فَثَبُتَ أَنَّ مُرَاعَاةَ النَّفْسِ عَلَى أَفْضَلِ أَحْوَالِهَا هِيَ
الْمُرُوءَةُ .
وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَنْقَادُ لَهَا مَعَ ثِقَلِ كُلَفِهَا إلَّا
مَنْ تَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْمَشَاقُّ رَغْبَةً فِي الْحَمْدِ ، وَهَانَتْ
عَلَيْهِ الْمَلَاذُ حَذَرًا مِنْ الذَّمِّ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : سَيِّدُ الْقَوْمِ أَشْقَاهُمْ .
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : وَالْحَمْدُ شَهْدٌ لَا يُرَى مُشْتَارَهُ
يَجْنِيهِ إلَّا مِنْ نَقِيعِ الْحَنْظَلِ غُلٌّ لِحَامِلِهِ وَيَحْسَبُهُ الَّذِي
لَمْ يُوهِ عَاتِقَهُ خَفِيفَ الْمَحْمَلِ وَقَدْ لَحَظَ الْمُتَنَبِّي ذَلِكَ فِي
قَوْلِهِ : لَوْلَا الْمَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمْ الْجُودُ يُفْقِرُ
وَالْإِقْدَامُ قَتَّالُ وَلَهُ أَيْضًا : وَإِذَا كَانَتْ النُّفُوسُ كِبَارًا
تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَامُ وَالدَّاعِي إلَى اسْتِسْهَالِ ذَلِكَ
شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : عُلُوُّ الْهِمَّةِ .
وَالثَّانِي شَرَفُ النَّفْسِ .
أَمَّا عُلُوُّ الْهِمَّةِ فَلِأَنَّهُ بَاعِثٌ عَلَى التَّقَدُّمِ وَدَاعٍ إلَى
التَّخْصِيصِ أَنَفَةً مِنْ خُمُولِ الضَّعَةِ ، وَاسْتِنْكَارًا لِمَهَانَةِ
النَّقْصِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَأَشْرَافَهَا ، وَيَكْرَهُ دَنِيَّهَا
وَسَفْسَافَهَا } .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا
تُصَغِّرَنَّ هِمَّتَكُمْ فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَقْعَدَ عَنْ الْمَكْرُمَاتِ مِنْ
صِغَرِ الْهِمَمِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْهِمَّةُ رَايَةُ الْجِدِّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : عُلُوِّ الْهِمَمِ بَذْرُ النِّعَمِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إذَا طَلَبَ رَجُلَانِ أَمْرًا ظَفِرَ بِهِ
أَعْظَمُهُمَا مُرُوءَةً .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ تَرَكَ الْتِمَاسَ الْمَعَالِي بِسُوءِ
الرَّجَاءِ لَمْ يَنَلْ جَسِيمًا .
وَأَمَّا شَرَفُ النَّفْسِ : فَإِنَّ بِهِ يَكُونُ قَبُولُ التَّأْدِيبِ ،
وَاسْتِقْرَارُ
التَّقْوِيمِ
وَالتَّهْذِيبِ ، لِأَنَّ النَّفْسَ رُبَّمَا جَمَحَتْ عَنْ الْأَفْضَلِ وَهِيَ
بِهِ عَارِفَةٌ ، وَنَفَرَتْ عَنْ التَّأْدِيبِ وَهِيَ لَهُ مُسْتَحْسِنَةٌ ؛
لِأَنَّهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مَطْبُوعَةٍ ، وَلَهُ غَيْرُ مُلَائِمَةٍ ، فَتَصِيرُ
مِنْهُ أَنْفَرَ ، وَلِضِدِّهِ الْمُلَائِمِ آثَرَ .
وَقَدْ قِيلَ : مَا أَكْثَرُ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَلَا يُطِيعُهُ .
وَإِذَا شَرُفَتْ النَّفْسُ كَانَتْ لِلْآدَابِ طَالِبَةً ، وَفِي الْفَضَائِل
رَاغِبَةً ، فَإِذَا مَازَحَهَا صَارَتْ طَبْعًا مُلَائِمًا فَنَمَا وَاسْتَقَرَّ
.
فَأَمَّا مَنْ مُنِيَ بِعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَسُلِبَ شَرَفُ النَّفْسِ فَقَدْ
صَارَ عُرْضَةً لِأَمْرٍ أَعْوَزَتْهُ آلَتُهُ ، وَأَفْسَدَتْهُ جَهَالَتُهُ ،
فَصَارَ كَضَرِيرٍ يَرُومُ تَعَلُّمَ الْكِتَابَةِ ، وَأَخْرَسَ يُرِيدُ
الْخُطْبَةَ ، فَلَا يَزِيدُهُ الِاجْتِهَادُ إلَّا عَجْزًا وَالطَّلَبُ إلَّا
عَوَزًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا هَلَكَ
امْرُؤٌ عَرَفَ قَدْرَهُ } .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَسْوَأُ النَّاسِ حَالًا ؟ قَالَ : مَنْ
بَعُدَتْ هِمَّتُهُ ، وَاتَّسَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ ، وَقَصُرَتْ آلَتُهُ ،
وَقَلَّتْ مَقْدِرَتُهُ .
وَقَالَ أُفْنُونُ التَّغْلِبِيُّ : وَلَا خَيْرَ فِيمَا يَكْذِبُ الْمَرْءُ
نَفْسَهُ وَتِقْوَالِهِ لِلشَّيْءِ يَا لَيْتَ ذَا لِيَا لَعَمْرُك مَا يَدْرِي
امْرُؤٌ كَيْفَ يَتَّقِي إذَا هُوَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ اللَّهُ وَاقِيَا وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : تَجَنَّبُوا الْمُنَى فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِبَهْجَةِ مَا
خُوِّلْتُمْ ، وَتَسْتَصْغِرُونَ بِهَا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْمُنَى مِنْ بَضَائِعِ النَّوْكَى .
فَإِنْ صَادَفَ بِهِمَّتِهِ حَظًّا نَالَ بِهِ أَمَلًا كَانَ فِيمَا نَالَهُ
كَالْمُغْتَصِبِ ، وَفِيمَا وَصَلَ إلَيْهِ كَالْمُتَغَلِّبِ ، إذْ لَيْسَ فِي
الْحُظُوظِ تَقْدِيرٌ لِحَقٍّ ، وَلَا تَمْيِيزٌ لِمُسْتَحِقٍّ ، وَإِنَّمَا هِيَ
كَالسَّحَابِ الَّذِي يَمْسِكُ عَنْ مَنَابِتِ الْأَشْجَارِ إلَى مَغَايِصِ
الْبِحَارِ وَيَتْرُكُ حَيْثُ صَادَفَ مِنْ خَبِيثٍ وَطَيِّبٍ ، فَإِنْ صَادَفَ
أَرْضًا طَيِّبَةً نَفَعَ وَإِنْ صَادَفَ أَرْضًا خَبِيثَةً ضَرَّ .
كَذَلِكَ
الْحَظُّ إنْ صَادَفَ نَفْسًا شَرِيفَةً نَفَعَ ، وَكَانَ نِعْمَةً عَامَّةً ،
وَإِنْ صَادَفَ نَفْسًا دَنِيَّةً ضَرَّ وَكَانَ نِقْمَةً طَامَّةً .
وَحُكِيَ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا عَلَى قَوْمٍ
بِالْعَذَابِ فَأُوحِيَ إلَيْهِ قَدْ مَلَكْت سُفْلَهَا عَلَى أَعْلَاهَا فَقَالَ
: يَا رَبِّ كُنْتُ أُحِبُّ لَهُمْ عَذَابًا عَاجِلًا ، فَأَوْحَى اللَّهُ
تَعَالَى إلَيْهِ أَوَلَيْسَ هَذَا كُلَّ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ الْأَلِيمِ ؟
فَأَمَّا شَرَفُ النَّفْسِ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ فَإِنَّ
الْفَضْلَ بِهِ عَاطِلٌ ، وَالْقَدْرَ بِهِ خَامِلٌ ، وَهُوَ كَالْقُوَّةِ فِي
الْجِلْدِ الْكَسِلِ ، وَالْجَبَانِ الْفَشِلِ ، تَضِيعُ قُوَّتُهُ بِكَسَلِهِ ،
وَجَلَدُهُ بِفَشَلِهِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ دَامَ كَسَلُهُ خَابَ أَمَلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : نَكَحَ الْعَجْزُ التَّوَانِي فَخَرَجَ مِنْهُمَا
النَّدَامَةُ ، وَنَكَحَ الشُّؤْمُ الْكَسَلَ فَخَرَجَ مِنْهُمَا الْحِرْمَانُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْرِفْ لِنَفْسِكَ حَقَّهَا
هَوَانًا بِهَا كَانَتْ عَلَى النَّاسِ أَهْوَنَا فَنَفْسَكَ أَكْرِمْهَا وَإِنْ
ضَاقَ مَسْكَنٌ عَلَيْك لَهَا فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ مَسْكَنَا وَإِيَّاكَ
وَالسُّكْنَى بِمَنْزِلِ ذِلَّةٍ يُعَدُّ مُسِيئًا فِيهِ مَنْ كَانَ مُحْسِنَا
وَشَرَفُ النَّفْسِ مَعَ صِغَرِ الْهِمَّةِ أَوْلَى مِنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ مَعَ
دَنَاءَةِ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَتْ هِمَّتُهُ مَعَ دَنَاءَةِ نَفْسِهِ
كَانَ مُتَعَدِّيًا إلَى طَلَبِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَمُتَخَطِّيًا إلَى
الْتِمَاسِ مَا لَا يَسْتَوْجِبُهُ .
وَمَنْ شَرُفَتْ نَفْسُهُ مَعَ صِغَرِ هِمَّتِهِ فَهُوَ تَارِكٌ لِمَا يَسْتَحِقُّ
وَمُقَصِّرٌ عَمَّا يَجِبُ لَهُ .
وَفَضْلُ مَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِنْ الذَّمِّ نَصِيبٌ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَا أَصْعَبُ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ ؟
قَالَ : أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ وَيَكْتُمَ الْأَسْرَارَ .
فَإِذَا اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ وَاقْتَرَنَ بِشَرَفِ النَّفْسِ عُلُوُّ
الْهِمَّةِ كَانَ الْفَضْلُ بِهِمَا ظَاهِرًا ، وَالْأَدَبُ بِهِمَا
وَافِرًا
، وَمَشَاقُّ الْحَمْدِ بَيْنَهُمَا مُسَهَّلَةً ، وَشُرُوطُ الْمُرُوءَةِ
بَيْنَهُمَا مُتَبَيَّنَةً .
وَقَدْ قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ الرَّقَاشِيُّ : إنَّ الْمُرُوءَةَ
لَيْسَ يُدْرِكُهَا امْرُؤٌ وَرِثَ الْمَكَارِمَ عَنْ أَبٍ فَأَضَاعَهَا
أَمَرَتْهُ نَفْسٌ بِالدَّنَاءَةِ وَالْخَنَا وَنَهَتْهُ عَنْ سُبُلِ الْعُلَا
فَأَطَاعَهَا فَإِذَا أَصَابَ مِنْ الْمَكَارِمِ خَلَّةً يَبْنِي الْكَرِيمُ بِهَا
الْمَكَارِمَ بَاعَهَا وَاعْلَمْ أَنَّ حُقُوقَ الْمُرُوءَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ
تُحْصَى ، وَأَخْفَى مِنْ أَنْ تَظْهَرَ ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَقُومُ فِي
الْوَهْمِ حِسًّا ، وَمِنْهَا مَا يَقْتَضِيهِ شَاهِدُ الْحَالِ حَدْسًا ،
وَمِنْهَا مَا يَظْهَرُ بِالْفِعْلِ وَيَخْفَى بِالتَّغَافُلِ .
فَلِذَلِكَ أَعْوَزَ اسْتِيفَاءُ شُرُوطِهَا إلَى جُمَلٍ يَتَنَبَّهُ الْفَاضِلُ
عَلَيْهَا بِيَقِظَتِهِ ، وَيَسْتَدِلُّ الْعَاقِلُ عَلَيْهَا بِفِطْرَتِهِ ،
وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُنَا هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمُرُوءَةِ
وَشُرُوطِهَا .
وَإِنَّمَا
نَذْكُرُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْأَشْهَرَ مِنْ قَوَاعِدِهَا وَأُصُولِهَا ،
وَالْأَظْهَرَ مِنْ شُرُوطِهَا وَحُقُوقِهَا ، مَحْصُورًا فِي تَقْسِيمٍ جَامِعٍ
وَهُوَ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : شُرُوطُ الْمُرُوءَةِ فِي نَفْسِهِ
.
وَالثَّانِي : شُرُوطُهَا فِي غَيْرِهِ .
فَأَمَّا شُرُوطُهَا فِي نَفْسِهِ بَعْدَ الْتِزَامِ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ
مِنْ أَحْكَامِهِ فَيَكُونُ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ وَهِيَ : الْعِفَّةُ
وَالنَّزَاهَةُ وَالصِّيَانَةُ .
فَأَمَّا الْعِفَّةُ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا الْعِفَّةُ عَنْ الْمَحَارِمِ
وَالثَّانِي الْعِفَّةُ عَنْ الْمَآثِمِ .
فَأَمَّا الْعِفَّةُ عَنْ الْمَحَارِمِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا ضَبْطُ
الْفَرْجِ عَنْ الْحَرَامِ ، وَالثَّانِي كَفُّ اللِّسَانِ عَنْ الْأَعْرَاضِ .
فَأَمَّا ضَبْطُ الْفَرْجِ عَنْ الْحَرَامِ فَلِأَنَّهُ مَعَ وَعِيدِ الشَّرْعِ
وَزَاجِرِ الْعَقْلِ مَعَرَّةٌ فَاضِحَةٌ ، وَهَتْكَةٌ وَاضِحَةٌ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ وُقِيَ
شَرَّ ذَبْذَبِهِ وَلَقْلَقِهِ وَقَبْقَبِهِ فَقَدْ وُقِيَ } .
يُرِيدُ بِذَبْذَبِهِ الْفَرْجَ ، وَبِلَقْلَقِهِ اللِّسَانَ ، وَبِقَبْقَبِهِ
الْبَطْنَ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
أَحَبُّ الْعَفَافِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَفَافُ الْفَرْجِ وَالْبَطْنِ .
} وَحُكِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمُرُوءَةِ
فَقَالَ : تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَصِلَةُ الرَّحِمِ .
وَسَأَلَ الْمُغِيرَةَ فَقَالَ : هِيَ الْعِفَّةُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالْحِرْفَةُ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى .
وَسَأَلَ يَزِيدَ : فَقَالَ هِيَ الصَّبْرُ عَلَى الْبَلْوَى ، وَالشُّكْرُ عَلَى
النُّعْمَى ، وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : أَنْتَ
مِنِّي حَقًّا .
وَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ لِابْنِهِ هُرْمُزَ : مَنْ الْكَامِلُ الْمُرُوءَةِ ؟
فَقَالَ : مَنْ حَصَّنَ دِينَهُ وَوَصَلَ رَحِمَهُ وَأَكْرَمَ إخْوَانَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَحَبَّ الْمَكَارِمَ اجْتَنَبَ الْمَحَارِمَ
.
وَقِيلَ : عَارُ الْفَضِيحَةِ يُكَدِّرُ لَذَّتَهَا .
وَقَدْ أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْأَدَبِ
لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : الْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ
رُكُوبِ الْعَارِ وَالْعَارُ خَيْرٌ مِنْ دُخُولِ النَّارِ وَاَللَّهُ مِنْ هَذَا
وَهَذَا جَارِي وَالدَّاعِي إلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : إرْسَالُ
الطَّرْفِ .
وَالثَّانِي : اتِّبَاعُ الشَّهْوَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : { يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ
النَّظْرَةَ فَإِنَّ الْأُولَى لَك وَالثَّانِيَةَ عَلَيْك } .
وَفِي قَوْلِهِ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا
لَا تُتْبِعْ نَظَرَ عَيْنَيْك نَظَرَ قَلْبِك ، وَالثَّانِي لَا تُتْبِعْ
الْأُولَى الَّتِي وَقَعَتْ سَهْوًا بِالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي
تُوقِعُهَا عَمْدًا .
وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إيَّاكُمْ وَالنَّظْرَةَ
بَعْدَ النَّظْرَةِ فَإِنَّهَا تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ ، وَكَفَى
بِهَا لِصَاحِبِهَا فِتْنَةً .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : الْعُيُونُ
مَصَائِدُ الشَّيْطَانِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَرْسَلَ طَرْفَهُ اسْتَدْعَى حَتْفَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَك رَائِدًا
لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِرُ رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلَّهُ أَنْتَ
قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ وَأَمَّا الشَّهْوَةُ فَهِيَ
خَادِعَةُ الْعُقُولِ وَغَادِرَةُ الْأَلْبَابِ ، وَمُحَسِّنَةُ الْقَبَائِحِ ،
وَمُسَوِّلَةُ الْفَضَائِحِ .
وَلَيْسَ عَطَبٌ إلَّا وَهِيَ لَهُ سَبَبٌ ، وَعَلَيْهِ أَلَبُّ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ
وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَحُفِظَ مِنْ الشَّيْطَانِ : مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ
حِينَ يَرْغَبُ ، وَحِينَ يَرْهَبُ ، وَحِينَ يَشْتَهِي ، وَحِينَ يَغْضَبُ } .
وَقَهْرُهَا عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا
غَضُّ الطَّرْفِ عَنْ إثَارَتِهَا ، وَكَفُّهُ عَنْ مُسَاعَدَتِهَا .
فَإِنَّهُ الرَّائِدُ الْمُحَرِّكُ ، وَالْقَائِدُ الْمُهْلِكُ .
رَوَى سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ
، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
تَقَبَّلُوا إلَيَّ بِسِتٍّ أَتَقَبَّلُ إلَيْكُمْ بِالْجَنَّةِ .
قَالُوا وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : إذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا
يَكْذِبُ ، وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفُ ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ فَلَا يَخُونُ ،
غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ } .
وَالثَّانِي : تَرْغِيبُهَا فِي الْحَلَالِ عِوَضًا ، وَإِقْنَاعُهَا بِالْمُبَاحِ
بَدَلًا ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا حَرَّمَ شَيْئًا إلَّا وَأَغْنَى عَنْهُ بِمُبَاحٍ
مِنْ جِنْسِهِ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ نَوَازِعِ الشَّهْوَةِ ، وَتَرْكِيبِ
الْفِطْرَةِ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْنًا عَلَى طَاعَتِهِ ، وَحَاجِزًا عَنْ
مُخَالَفَتِهِ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى بِشَيْءٍ إلَّا وَأَعَانَ عَلَيْهِ ، وَلَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ إلَّا
وَأَغْنَى عَنْهُ .
وَالثَّالِثُ : إشْعَارُ النَّفْسِ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَامِرِهِ ،
وَاتِّقَاءَهُ فِي زَوَاجِره ، وَإِلْزَامُهَا مَا أَلْزَمَ مِنْ طَاعَتِهِ ،
وَتَحْذِيرُهَا مَا حَذَّرَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَإِعْلَامُهَا أَنَّهُ لَا
يَخْفَى عَلَيْهِ ضَمِيرٌ ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ قِطْمِيرٌ .
وَأَنَّهُ يُجَازِي الْمُحْسِنَ وَيُكَافِئُ الْمُسِيءَ ، وَبِذَلِكَ نَزَلَتْ
كُتُبُهُ وَبَلَّغَتْ رُسُلُهُ .
رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ آخِرَ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ : { وَاتَّقُوا
يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } .
وَآخِرَ مَا نَزَلَ مِنْ التَّوْرَاةِ : إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت .
وَآخِرَ مَا نَزَلَ مِنْ الْإِنْجِيلِ : شَرُّ النَّاسِ مَنْ لَا يُبَالِي أَنْ
يَرَاهُ النَّاسُ مُسِيئًا .
وَآخِرَ مَا نَزَلَ مِنْ الزَّبُورِ : مَنْ يَزْرَعْ خَيْرًا حَصَدَ زَرْعَهُ
غِبْطَةً .
فَإِذَا أَشْعَرهَا مَا وَصَفْتُ انْقَادَتْ إلَى الْكَفِّ وَأَذْعَنَتْ
بِالِاتِّقَاءِ فَسَلِمَ دِينُهُ وَظَهَرَتْ مُرُوءَتُهُ .
فَهَذَا شَرْطٌ وَأَمَّا كَفُّ اللِّسَانِ عَنْ الْأَعْرَاضِ فَلِأَنَّهُ مَلَاذُ
السُّفَهَاءِ ، وَانْتِقَامُ أَهْلِ الْغَوْغَاءِ ، وَهُوَ مُسْتَسْهَلُ الْكَلَفِ
إذَا
لَمْ يَقْهَرْ نَفْسَهُ عَنْهُ بِرَادِعٍ كَافٍ وَزَاجِرٍ صَادٍّ تَلَبَّطَ
بِمَعَارِّهِ ، وَتَخَبَّطَ بِمَضَارِّهِ ، وَظَنَّ أَنَّهُ لِتَجَافِي النَّاسِ
عَنْهُ حِمًى يُتَّقَى ، وَرُتْبَةً تُرْتَقَى ، فَهَلَكَ وَأَهْلَكَ .
فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَا إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ
عَلَيْكُمْ } .
فَجَمَعَ بَيْنَ الدَّمِ وَالْعِرْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ إيغَارِ الصُّدُورِ ،
وَإِبْدَاءِ الشُّرُورِ ، وَإِظْهَارِ الْبَذَاءِ ، وَاكْتِسَابِ الْأَعْدَاءِ ،
وَلَا يَبْقَى مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَزْنٌ لِمَوْمُوقٍ وَلَا مُرُوءَةٌ
لِمَلْحُوظٍ ثُمَّ هُوَ بِهَا مَوْتُورٌ مَوْزُورٌ ؛ وَلِأَجْلِهَا مَهْجُورٌ
مَزْجُورٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ شَرُّ النَّاسِ مَنْ أَكْرَمَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ لِسَانِهِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ بِفُضُولِ الْكَلَامِ
وَفُضُولِ الْمَالِ .
وَمَا قَدَحَ فِي الْأَعْرَاضِ مِنْ الْكَلَامِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا
قَدَحَ فِي عِرْضِ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ
شَيْئَانِ : الْكَذِبُ وَفُحْشُ الْقَوْلِ .
وَالثَّانِي : مَا تَجَاوَزَهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ :
الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالسِّعَايَةُ وَالسَّبُّ بِقَذْفٍ أَوْ شَتْمٍ .
وَرُبَّمَا كَانَ السَّبُّ أَنْكَاهَا لِلْقُلُوبِ وَأَبْلَغَهَا أَثَرًا فِي
النُّفُوسِ .
وَلِذَلِكَ زَجَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْحَدِّ تَغْلِيظًا وَبِالتَّفْسِيقِ
تَشْدِيدًا وَتَصْعِيبًا .
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : إمَّا انْتِقَامٌ يَصْدُرُ عَنْ
سَفَهٍ أَوْ بَذَاءٌ يَحْدُثُ عَنْ لُؤْمٍ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ
خِبٌّ لَئِيمٌ } .
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : الِاسْتِطَالَةُ لِسَانُ الْجُهَّالِ .
وَكَفُّ النَّفْسِ عَنْ هَذِهِ الْحَالِ بِمَا يَصُدُّهَا مِنْ الزَّوَاجِرِ
أَسْلَمُ وَهُوَ بِذَوِي الْمُرُوءَةِ أَجْمَلُ .
فَهَذَا شَرْطٌ وَأَمَّا الْعِفَّةُ عَنْ الْمَآثِمِ
فَنَوْعَانِ
: أَحَدُهُمَا : الْكَفُّ عَنْ الْمُجَاهَرَةِ بِالظُّلْمِ ، وَالثَّانِي : زَجْرُ
النَّفْسِ عَنْ الْإِسْرَارِ بِخِيَانَةٍ .
فَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِالظُّلْمِ فَعُتُوٌّ مُهْلِكٌ وَطُغْيَانٌ مُتْلِفٌ ،
وَهُوَ يَئُولُ إنْ اسْتَمَرَّ إلَى فِتْنَةٍ أَوْ جَلَاءٍ .
فَأَمَّا الْفِتْنَةُ فِي الْأَغْلَبِ فَتُحِيطُ بِصَاحِبِهَا ، وَتَنْعَكِسُ عَنْ
الْبَادِئِ بِهَا ، فَلَا تَنْكَشِفُ إلَّا وَهُوَ بِهَا مَصْرُوعٌ كَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئِ إلَّا بِأَهْلِهِ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ فَمَنْ أَيْقَظَهَا صَارَ طَعَامًا لَهَا } .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : الْفِتْنَةُ حَصَادٌ لِلظَّالِمَيْنِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : صَاحِبُ الْفِتْنَةِ أَقْرَبُ شَيْءٍ أَجَلًا
وَأَسْوَأُ شَيْءٍ عَمَلًا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَكُنْتَ كَعَنْزِ السُّوءِ قَامَتْ لِحَتْفِهَا
إلَى مُدْيَةٍ تَحْتَ الثَّرَى تَسْتَثِيرُهَا وَأَمَّا الْجَلَاءُ فَقَدْ يَكُونُ
مِنْ قُوَّةِ الظَّالِمِ وَتَطَاوُلِ مُدَّتِهِ فَيَصِيرُ ظُلْمُهُ مَعَ
الْمُكْنَةِ جَلَاءً وَفَنَاءٍ ، كَالنَّارِ إذَا وَقَعَتْ فِي يَابِسِ الشَّجَرِ
فَلَا تُبْقِي مَعَهَا مَعَ تَمَكُّنِهَا شَيْئًا حَتَّى إذَا أَفْنَتْ مَا
وَجَدَتْ اضْمَحَلَّتْ وَخَمَدَتْ .
فَكَذَا حَالُ الظَّالِمِ مُهْلِكٌ ثُمَّ هَالِكٌ .
وَالْبَاعِثُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ : الْجَرَاءَةُ وَالْقَسْوَةُ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { اُطْلُبُوا الْفَضْلَ
وَالْمَعْرُوفَ عِنْدَ الرُّحَمَاءِ مِنْ أُمَّتِي تَعِيشُوا فِي أَكْنَافِهِمْ }
.
وَالصَّادُّ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَرَى آثَارَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّالِمِينَ
فَإِنَّ لَهُ فِيهِمْ عِبَرًا ، وَيَتَصَوَّرَ عَوَاقِبَ ظُلْمِهِمْ فَإِنَّ
فِيهَا مُزْدَجَرًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ مَنْ أَصْبَحَ وَلَمْ يَنْوِ ظُلْمَ أَحَدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا اجْتَرَمَ }
.
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا عَلِيُّ اتَّقِ
دَعْوَةَ
الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْأَلُ اللَّهَ حَقَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا
يَمْنَعُ ذَا حَقٍّ حَقَّهُ } .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : وَيْلٌ لِلظَّالِمِ مِنْ يَوْمِ الْمَظَالِمِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ جَارَ حُكْمُهُ أَهْلَكَهُ ظُلْمُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَمَا مِنْ يَدٍ إلَّا يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا
وَلَا ظَالِمٍ إلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمِ وَأَمَّا الِاسْتِسْرَارُ بِالْخِيَانَةِ
فَضِعَةٌ لِأَنَّهُ بِذُلِّ الْخِيَانَةِ مَهِينٌ ، وَلِقِلَّةِ الثِّقَةِ بِهِ
مُسْتَكِينٌ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ يَخُنْ يَهُنْ .
وَقَالَ خَالِدٌ الرَّبَعِيُّ : قَرَأْت فِي بَعْضِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ أَنَّ
مِمَّا تُعَجِّلُ عُقُوبَةً وَلَا تُؤَخِّرُ الْأَمَانَةُ تُخَانُ وَالْإِحْسَانُ
يُكْفَرُ وَالرَّحِمُ تُقْطَعُ وَالْبَغْيُ عَلَى النَّاسِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَمِّ الْخِيَانَةِ إلَّا مَا يَجِدُهُ الْخَائِنُ فِي
نَفْسِهِ مِنْ الْمَذَلَّةِ لَكَفَاهُ زَاجِرًا ، وَلَوْ تَصَوَّرَ عُقْبَى
أَمَانَتِهِ وَجَدْوَى ثِقَتِهِ لَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَحِ بَضَائِعِ
جَاهِهِ وَأَقْوَى شُفَعَاءِ تَقَدُّمِهِ مَعَ مَا يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ
الْعِزِّ وَيُقَابَلُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِعْظَامِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } .
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : {
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْك
وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْك إلَّا مَا دُمْتَ
عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي
الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } .
يَعْنُونَ أَنَّ أَمْوَالَ الْعَرَبِ حَلَالٌ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ
أَهْلِ الْكِتَابِ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَذَبَ أَعْدَاءُ
اللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمِي
إلَّا الْأَمَانَةَ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَلَا
يَجْعَلُ مَا يَتَظَاهَرُ بِهِ مِنْ الْأَمَانَةِ زُورًا
وَلَا
مَا يُبْدِيهِ مِنْ الْعِفَّةِ غُرُورًا فَيَنْهَتِكَ الزُّورُ وَيَنْكَشِفُ
الْغُرُورُ فَيَكُونُ مَعَ هَتْكِهِ لِلتَّدْلِيسِ أَقْبَحَ وَلِمَعَرَّةِ
الرِّيَاءِ أَفْضَحَ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ تَرَ الْأَمَانَةَ مَغْنَمًا
وَالصَّدَقَةَ مَغْرَمًا } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ الْتَمَسَ أَرْبَعًا بِأَرْبَعٍ الْتَمَسَ مَا
لَا يَكُونُ ، وَمَنْ الْتَمَسَ الْجَزَاءَ بِالرِّيَاءِ الْتَمَسَ مَا لَا
يَكُونُ ، وَمَنْ الْتَمَسَ مَوَدَّةَ النَّاسِ بِالْغِلْظَةِ الْتَمَسَ مَا لَا
يَكُونُ ، وَمَنْ الْتَمَسَ وَفَاءَ الْإِخْوَانِ بِغَيْرِ وَفَاءٍ الْتَمَسَ مَا
لَا يَكُونُ ، وَمَنْ الْتَمَسَ الْعِلْمَ بِرَاحَةِ الْجَسَدِ الْتَمَسَ مَا لَا
يَكُونُ .
وَالدَّاعِي إلَى الْخِيَانَةِ شَيْئَانِ : الْمَهَانَةُ وَقِلَّةُ الْأَمَانَةِ ،
فَإِذَا حَسَمَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ بِمَا وَصَفْتُ ظَهَرَتْ مُرُوءَتُهُ ، فَهَذَا
شَرْطٌ قَدْ اسْتَوْفَيْنَا فِيهِ أَقْسَامَ الْعِفَّةِ .
وَأَمَّا
النَّزَاهَةُ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : النَّزَاهَةُ عَنْ الْمَطَامِعِ
الدَّنِيَّةِ .
وَالثَّانِي النَّزَاهَةُ عَنْ مَوَاقِفِ الرِّيبَةِ .
فَأَمَّا الْمَطَامِعُ الدَّنِيَّةُ ؛ فَلِأَنَّ الطَّمَعَ ذُلٌّ وَالدَّنَاءَةَ
لُؤْمٌ ، وَهُمَا أَدْفَعُ شَيْءٍ لِلْمُرُوءَةِ .
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ
: { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ طَمَعٍ يَهْدِي إلَى طَبْعٍ } .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : لَا تَخْضَعَنَّ لِمَخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ فَإِنَّ
ذَلِكَ نَقْصٌ مِنْك فِي الدِّينِ وَاسْتَرْزِقْ اللَّهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ
فَإِنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ وَالْبَاعِثُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ
: الشَّرَهُ وَقِلَّةُ الْأَنَفَةِ فَلَا يَقْنَعُ بِمَا أُوتِيَ ، وَإِنْ كَانَ
كَثِيرًا ؛ لِأَجْلِ شَرَهِهِ ، وَلَا يَسْتَنْكِفُ مِمَّا مُنِعَ ، وَإِنْ كَانَ
حَقِيرًا لِقِلَّةِ أَنَفَتِهِ .
وَهَذِهِ حَالُ مَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ قَدْرًا ، وَيَرَى الْمَالَ أَعْظَمَ
خَطَرًا ، فَيَرَى بَذْلَ أَهْوَنِ الْأَمْرَيْنِ لِأَجَلِّهِمَا مَغْنَمًا ،
وَلَيْسَ لِمَنْ كَانَ الْمَالُ عِنْدَهُ أَجَلَّ وَنَفْسُهُ عَلَيْهِ أَقَلَّ
إصْغَاءٌ لِتَأْنِيبٍ ، وَلَا قَبُولٌ لِتَأْدِيبٍ .
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي .
قَالَ : عَلَيْك بِالْيَأْسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ، وَإِيَّاكَ
وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ فَقْرٌ حَاضِرٌ ، وَإِذَا صَلَّيْت صَلَاةً فَصَلِّ صَلَاةَ
مُوَدِّعٍ ، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا مُنَاهُ وَهَمُّهُ
سَبَتْهُ الْمُنَى وَاسْتَعْبَدَتْهُ الْمَطَامِعُ وَحَسْمُ هَذِهِ الْمَطَامِعِ
شَيْئَانِ : الْيَأْسُ وَالْقَنَاعَةُ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي
أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ إبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى
أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا
يُدْرَكُ مَا عِنْدَهُ إلَّا
بِطَاعَتِهِ
} .
فَهَذَا شَرْطٌ .
وَأَمَّا مَوَاقِفُ الرِّيبَةِ فَهِيَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْ حَمْدٍ
وَذَمٍّ ، وَالْوُقُوفُ بَيْنَ حَالَتَيْ سَلَامَةٍ وَسَقَمٍ ، فَتَتَوَجَّهُ
إلَيْهِ لَائِمَةُ الْمُتَوَهِّمِينَ ، وَيَنَالُهُ ذِلَّةُ الْمُرِيبِينَ ،
وَكَفَى بِصَاحِبِهَا مَوْقِفًا إنْ صَحَّ افْتَضَحَ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ
اُمْتُهِنَ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { دَعْ مَا يَرِيبُك
إلَى مَا لَا يَرِيبُك } .
وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ : أَنْ لَا تَعْمَلَ
فِي السِّرِّ عَمَلًا تَسْتَحِي مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ .
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ : مَا وَجَدْت شَيْئًا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ
الْوَرَعِ .
قِيلَ لَهُ : وَكَيْفَ ؟ قَالَ : إذَا ارْتَبْتَ بِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ .
وَالدَّاعِي إلَى هَذِهِ الْحَالِ شَيْئَانِ : الِاسْتِرْسَالُ ، وَحُسْنُ
الظَّنِّ .
وَالْمَانِعُ مِنْهُمَا شَيْئَانِ : الْحَيَاءُ ، وَالْحَذَرُ .
وَرُبَّمَا انْتَفَتْ الرِّيبَةُ بِحُسْنِ الثِّقَةِ وَارْتَفَعَتْ التُّهْمَةُ
بِطُولِ الْخِبْرَةِ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ رَآهُ
بَعْضُ الْحَوَارِيِّينَ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِ امْرَأَةٍ ذَاتِ فُجُورٍ
فَقَالَ : يَا رُوحَ اللَّهِ مَا تَصْنَعُ هُنَا ؟ فَقَالَ : الطَّبِيبُ إنَّمَا
يُدَاوِي الْمَرْضَى .
وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ طَرِيقًا إلَى الِاسْتِرْسَالِ
وَلْيَكُنْ الْحَذَرُ عَلَيْهِ أَغْلَبَ ، وَإِلَى الْخَوْفِ مِنْ تَصْدِيقِ
التُّهَمِ أَقْرَبَ ، فَمَا كُلُّ رِيبَةٍ يَنْفِيهَا حُسْنُ الثِّقَةِ .
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَبْعَدُ خَلْقِ
اللَّهِ مِنْ الرِّيَبِ وَأَصْوَنُهُمْ مِنْ التُّهَمِ ، { وَقَفَ مَعَ زَوْجَتِهِ
صَفِيَّةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى بَابِ مَسْجِدٍ يُحَادِثُهَا وَكَانَ مُعْتَكِفًا
فَمَرَّ بِهِ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَاهُ أَسْرَعَا فَقَالَ
لَهُمَا : عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ .
فَقَالَا : سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَفِيكَ شَكٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ :
مَهْ إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ أَحَدِكُمْ مَجْرَى لَحْمِهِ وَدَمِهِ
فَخَشِيتُ
أَنْ
يَقْذِفَ فِي قَلْبَيْكُمَا سُوءًا } .
فَكَيْفَ مَنْ تَخَالَجَتْ فِيهِ الشُّكُوكُ وَتَقَابَلَتْ فِيهِ الظُّنُونُ
فَهَلْ يَعْرَى مَنْ فِي مَوَاقِفِ الرِّيَبِ مِنْ قَادِحٍ مُحَقَّقٍ ، وَلَائِمٍ
مُصَدَّقٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ إذَا لَمْ يَشْقَ الْمَرْءُ إلَّا بِمَا عَمِلَ فَقَدْ سَعِدَ } .
وَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْحَزْمَ وَغَلَّبَ الْحَذَرَ وَتَرَكَ مَوَاقِفَ الرِّيَبِ
وَمَظَانَّ التُّهَمِ ، وَلَمْ يَقِفْ مَوْقِفَ الِاعْتِذَارِ وَلَا عُذْرَ
لِمُخْتَارٍ لَمْ يَخْتَلِجْ فِي نَزَاهَتِهِ شَكٌّ وَلَمْ يَقْدَحْ فِي عِرْضِهِ
إفْكٌ .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : أَصُونُك أَنْ أُدِلَّ عَلَيْك ظَنًّا لِأَنَّ الظَّنَّ
مِفْتَاحُ الْيَقِينِ وَقَالَ سَهْلُ بْنُ هَارُونَ : مُؤْنَةُ الْمُتَوَقِّفِ
أَيْسَرُ مِنْ تَكَلُّفِ الْمُعَسَّفِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ بِمَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ
تَعَالَى فَهُوَ مَخْدُوعٌ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ ، لِأَبِي بَكْرٍ الصُّولِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ قَوْلَهُ : أَحْسَنْتُ ظَنِّي بِأَهْلِ دَهْرِي فَحُسْنُ ظَنِّي بِهِمْ
دَهَانِي لَا آمَنُ النَّاسَ بَعْدَ هَذَا مَا الْخَوْفُ إلَّا مِنْ الْأَمَانِ
فَهَذَا شَرْطٌ اسْتَوْفَيْنَا فِيهِ نَوْعَيْ النَّزَاهَةِ .
وَأَمَّا
الصِّيَانَةُ وَهِيَ الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ فَنَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : صِيَانَةُ النَّفْسِ بِالْتِمَاسِ كِفَايَتِهَا وَتَقْدِيرِ
مَادَّتِهَا .
وَالثَّانِي : صِيَانَتُهَا عَنْ تَحَمُّلِ الْمِنَنِ مِنْ النَّاسِ
وَالِاسْتِرْسَالِ فِي الِاسْتِعَانَةِ .
وَأَمَّا الْتِمَاسُ الْكِفَايَةِ وَتَقْدِيرُ الْمَادَّةِ ؛ فَلِأَنَّ
الْمُحْتَاجَ إلَى النَّاسِ كُلُّ مُهْتَضَمٍ وَذَلِيلٍ مُسْتَثْقَلٍ .
وَهُوَ لِمَا فُطِرَ عَلَيْهِ ، مُحْتَاجٌ إلَى مَا يَسْتَمِدُّهُ لِيُقِيمَ
أَوَدَ نَفْسِهِ ، وَيَدْفَعَ ضَرُورَةَ وَقْتِهِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهَا : كَلْبٌ جَوَّالٌ خَيْرٌ مِنْ أَسَدٍ
رَابِضٍ .
وَمَا يَسْتَمِدُّهُ نَوْعَانِ : لَازِمٌ وَنَدْبٌ .
فَأَمَّا اللَّازِمُ فَمَا أَقَامَ بِالْكِفَايَةِ وَأَفْضَى إلَى سَدِّ
الْخَلَّةِ .
وَعَلَيْهِ فِي طَلَبِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ : وَاحِدُهَا : اسْتِطَابَتُهُ مِنْ
الْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ وَتَوَقِّي الْمَحْظُورَةِ فَإِنَّ الْمَوَادَّ
الْمُحَرَّمَةَ مُسْتَخْبَثَةُ الْأُصُولِ ، مَمْحُوقَةُ الْمَحْصُولِ ، إنْ
صَرَفَهَا فِي بِرٍّ لَمْ يُؤْجَرْ ، وَإِنْ صَرَفَهَا فِي مَدْحٍ لَمْ يُشْكَرْ ،
ثُمَّ هُوَ لِأَوْزَارِهَا مُحْتَقِبٌ ، وَعَلَيْهَا مُعَاقَبٌ .
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا
يُعْجِبُك رَجُلٌ كَسَبَ مَالًا مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ فَإِنْ أَنْفَقَهُ لَمْ
يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَإِنْ أَمْسَكَهُ فَهُوَ زَادُهُ إلَى النَّارِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : شَرُّ الْمَالِ مَا لَزِمَك إثْمُ مَكْسَبِهِ
وَحُرِمْتَ أَجْرَ إنْفَاقِهِ .
وَنَظَرَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ
يَتَصَدَّقُ عَلَى مِسْكِينٍ ، فَقَالَ : اُنْظُرْ إلَيْهِمْ حَسَنَاتُهُمْ مِنْ
سَيِّئَاتِهِمْ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ : سُرَّ مَنْ عَاشَ مَالُهُ فَإِذَا حَاسَبَهُ
اللَّهُ سَرَّهُ الْإِعْدَامُ وَالثَّانِي : طَلَبُهُ مِنْ أَحْسَنِ جِهَاتِهِ
الَّتِي لَا يَلْحَقُهُ فِيهَا غَضٌّ ، وَلَا يَتَدَنَّسُ لَهُ بِهَا عِرْضٌ ،
فَإِنَّ الْمَالَ يُرَادُ لِصِيَانَةِ الْأَعْرَاضِ لَا لِابْتِذَالِهَا ،
وَلِعِزِّ النُّفُوسِ لَا لِإِذْلَالِهَا .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ
: يَا حَبَّذَا الْمَالُ أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَأُرْضِي بِهِ رَبِّي .
وَقَالَ أَبُو بِشْرٍ الضَّرِيرُ : كَفَى حُزْنًا أَنِّي أَرُوحُ وَأَغْتَدِي وَمَا
لِي مِنْ مَالٍ أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَأَكْثَرُ مَا أَلْقَى الصَّدِيقَ
بِمَرْحَبًا وَذَلِكَ لَا يَكْفِي الصَّدِيقَ وَلَا يُرْضِي وَسُئِلَ ابْنُ
عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
اُطْلُبُوا الْحَوَائِجَ مِنْ حِسَانِ الْوُجُوهِ } .
فَقَالَ : مَعْنَاهُ مِنْ أَحْسَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَحِلُّ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَتَأَنَّى فِي تَقْدِيرِ مَادَّتِهِ وَتَدْبِيرِ كِفَايَتِهِ
بِمَا لَا يَلْحَقُهُ خَلَلٌ وَلَا يَنَالُهُ زَلَلٌ ، فَإِنَّ يَسِيرَ الْمَالِ
مَعَ حُسْنِ التَّقْدِيرِ ، وَإِصَابَةِ التَّدْبِيرِ ، أَجْدَى نَفْعًا
وَأَحْسَنُ مَوْقِعًا مِنْ كَثِيرِهِ مَعَ سُوءِ التَّدْبِيرِ ، وَفَسَادِ
التَّقْدِيرِ ، كَالْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ إذَا رُوعِيَ يَسِيرُهُ زَكَا ، وَإِنْ
أُهْمِلَ كَثِيرُهُ اضْمَحَلَّ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْكَمَالُ فِي ثَلَاثَةٍ
: الْعِفَّةُ فِي الدِّينِ ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّوَائِبِ ، وَحُسْنُ
التَّدْبِيرِ فِي الْمَعِيشَةِ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : فُلَانٌ غَنِيٌّ .
فَقَالَ : لَا أَعْرِفُ ذَلِكَ مَا لَمْ أَعْرِفْ تَدْبِيرَهُ فِي مَالِهِ .
فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ فِيمَا يَسْتَمِدُّهُ مِنْ قَدْرِ
الْكِفَايَةِ فَقَدْ أَدَّى حَقَّ الْمُرُوءَةِ فِي نَفْسِهِ .
وَسُئِلَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ : الْعِفَّةُ
وَالْحِرْفَةُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ لَا تَكُنْ عَلَى أَحَدٍ
كَلًّا فَإِنَّك تَزْدَادُ ذُلًّا ، وَاضْرِبْ فِي الْأَرْضِ عَوْدًا وَبَدْءًا ،
وَلَا تَأْسَفْ لِمَالٍ كَانَ فَذَهَبَ ، وَلَا تَعْجَزْ عَنْ الطَّلَبِ لِوَصَبٍ
وَلَا نَصَبٍ .
فَهَذَا حَالُ اللَّازِمِ وَقَدْ كَانَ ذَوُو الْهِمَمِ الْعَلِيَّةِ وَالنُّفُوسِ
الْأَبِيَّةِ يَرَوْنَ مَا وَصَلَ إلَى الْإِنْسَانِ كَسْبًا أَفْضَلَ مِمَّا
وَصَلَ إلَيْهِ إرْثًا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِرْثِ فِي جَدْوَى غَيْرِهِ
وَبِالْكَسْبِ مُجْدٍ إلَى غَيْرِهِ ، وَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْفَضْلِ
ظَاهِرٌ .
وَقَالَ
كُشَاجِمُ
: لَا أَسْتَلِذُّ الْعَيْشَ لَمْ أَدْأَبْ لَهُ طَلَبًا وَسَعْيًا فِي
الْهَوَاجِرِ وَالْغَلَسْ وَأَرَى حَرَامًا أَنْ يُؤَاتِيَنِي الْغِنَى حَتَّى
يُحَاوَلَ بِالْعَنَاءِ وَيُلْتَمَسْ فَاصْرِفْ نَوَالَكَ عَنْ أَخِيكَ مُوَفِّرًا
فَاللَّيْثُ لَيْسَ يُسِيغُ إلَّا مَا افْتَرَسْ وَأَمَّا النَّدْبُ فَهُوَ مَا
فَضَلَ عَنْ الْكِفَايَةِ ، وَزَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ ، فَإِنَّ الْأَمْرَ
فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ طَالِبِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تَقَاعَدَ عَلَى مَرَاتِبِ
الرُّؤَسَاءِ ، وَتَقَاصَرَ عَنْ مُطَاوَلَةِ النُّظَرَاءِ ، وَانْقَبَضَ عَنْ
مُنَافَسَةِ الْأَكْفَاءِ ، فَحَسْبُهُ مَا كَفَاهُ فَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ
إلَّا شَرَهٌ وَلَا فِي الْفُضُولِ إلَّا نَهَمٌ ، وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَيْرُ الرِّزْقِ
مَا يَكْفِي وَخَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ } .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : الدُّنْيَا كَلٌّ
عَلَى الْعَاقِلِ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : الْمُسْتَغْنِي عَنْ الدُّنْيَا
بِالدُّنْيَا كَمُطْفِئِ النَّارِ بِالتِّبْنِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : اشْتَرِ مَاءَ وَجْهِك بِالْقَنَاعَةِ وَتَسَلَّ
عَنْ الدُّنْيَا لِتَجَافِيهَا عَنْ الْكِرَامِ .
فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ مُنِيَ بِعُلُوِّ الْهِمَمِ وَتَحَرَّكَتْ فِيهِ أَرْيَحِيَّةُ
الْكَرَمِ وَآثَرَ أَنْ يَكُونَ رَأْسًا وَمُقَدَّمًا ، وَأَنْ يُرَى فِي
النُّفُوسِ مُعَظَّمًا وَمُفَخَّمًا فَالْكِفَايَةُ لَا تُقِلُّهُ حَتَّى يَكُونَ
مَالُهُ فَاضِلًا ، وَنَائِلُهُ فَائِضًا .
فَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ الْعَرَبِ : مَا الْمُرُوءَةُ فِيكُمْ ؟ قَالَ : طَعَامٌ
مَأْكُولٌ ، وَنَائِلٌ مَبْذُولٌ ، وَبِشْرٌ مَقْبُولٌ .
وَقَدْ قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : فَلَوْ مُدَّ سَرْوِي بِمَالٍ كَثِيرٍ
لَجُدْتُ وَكُنْتُ لَهُ بَاذِلَا فَإِنَّ الْمُرُوءَةَ لَا تُسْتَطَاعُ إذَا لَمْ
يَكُنْ مَالُهَا فَاضِلَا وَأَمَّا صِيَانَتُهَا عَنْ تَحَمُّلِ الْمِنَنِ
وَالِاسْتِرْسَالِ فِي الِاسْتِعَانَةِ ؛ فَلِأَنَّ الْمِنَّةَ اسْتِرْقَاقُ
الْأَحْرَارِ تُحْدِثُ ذِلَّةً فِي الْمَمْنُونِ عَلَيْهِ وَسَطْوَةً فِي
الْمَانِّ بِهِ .
وَالِاسْتِرْسَالُ فِي الِاسْتِعَانَةِ
تَثْقِيلٌ
وَمَنْ ثَقَّلَ عَلَى النَّاسِ هَانَ ، وَلَا قَدْرَ عِنْدَهُمْ لِمُهَانٍ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : خَدَمَك بَنُوك .
فَقَالَ : أَغْنَانِي اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِابْنِهِ الْحَسَنِ
فِي وَصِيَّتِهِ لَهُ : يَا بُنَيَّ إنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَك
وَبَيْنَ اللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِك وَقَدْ
جَعَلَك اللَّهُ حُرًّا ، فَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَكْرَمُ
وَأَعْظَمُ مِنْ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ كَثِيرًا .
وَقَالَ زِيَادٌ لِبَعْضِ الدَّهَاقِينِ : مَا الْمُرُوءَةُ فِيكُمْ ؟ قَالَ :
اجْتِنَابُ الرِّيَبِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبُلُ مُرِيبٌ ، وَإِصْلَاحُ الرَّجُلِ
مَالَهُ فَإِنَّهُ مِنْ مُرُوءَتِهِ وَقِيَامِهِ بِحَوَائِجِهِ وَحَوَائِجِ
أَهْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبُلُ مَنْ احْتَاجَ إلَى أَهْلِهِ وَلَا مَنْ احْتَاجَ
أَهْلُهُ إلَى غَيْرِهِ .
وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ : مَنْ عَفَّ خَفَّ عَلَى الصَّدِيقِ لِقَاؤُهُ وَأَخُو
الْحَوَائِجِ وَجْهُهُ مَمْلُولُ وَأَخُوك مَنْ وَفَّرْتَ مَا فِي كِيسِهِ فَإِذَا
عَبَثْتَ بِهِ فَأَنْتَ ثَقِيلُ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ لُحْمَةً لَا يَسْتَغْنُونَ
عَنْ التَّعَاوُنِ وَلَا يَسْتَقِلُّونَ عَنْ الْمُسَاعِدِ وَالْمُظَافِرِ ،
فَإِنَّمَا ذَلِكَ تَعَاوُنُ ائْتِلَافٍ يَتَكَافَئُونَ فِيهِ وَلَا يَتَفَاضَلُونَ
وَرُبَّمَا كَانَ الْمُسْتَعِينُ فِيهِ مُفَضَّلًا ، وَالْمُعِينُ مُسْتَفْضِلًا
كَاسْتِعَانَةِ السُّلْطَانِ بِجُنْدِهِ وَالْمُزَارِعِ بِأَكَرَتِهِ فَلَيْسَ
مِنْ هَذَا بُدٌّ وَلَا لِأَحَدٍ عَنْهُ غِنًى ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَصَوَّنُ
عَنْهُ الْكِرَامُ تَعَاوُنُ التَّفْضِيلِ فَيَنْقَبِضُونَ عَنْ أَنْ
يَسْتَعِينُوا لِئَلَّا يَكُونَ عَلَيْهِمْ يَدٌ ، وَيُسَارِعُونَ أَنْ يُعِينُوا
لَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ يَدٌ .
وَمَنْ أَقْدَمَ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِجَاهٍ أَوْ
بِمَالٍ فَقَدْ أَوْهَى مُرُوءَتَهُ ، وَاسْتَبْذَلَ صِيَانَتَهُ ، وَمَنْ دَعَاهُ
الِاضْطِرَارُ لِنَائِبٍ أَلَمَّ أَوْ حَادِثٍ هَجَمَ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ
يَتَنَفَّسُ بِهِ مِنْ خِنَاقِ كَرْبِهِ ، وَيَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ
وِثَاقِ
نَوَائِبِهِ ، فَلَا لَوْمَ عَلَى مُضْطَرٍّ .
فَإِنْ أَغْنَتْهُ الِاسْتِعَانَةُ بِالْجَاهِ عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالْمَالِ ،
فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي التَّعَرُّضِ لِلْمَالِ ، وَيَعْدِلُ إلَى وُلَاةِ
الْأُمُورِ فَإِنَّ الْحَوَائِجَ عِنْدَهُمْ أَنْجَحُ وَهِيَ عَلَيْهِمْ أَسْهَلُ
، وَهُمْ لِذَلِكَ مَنْدُوبُونَ ، فَهُمْ لَا يَجِدُونَ لَهُمْ مُسَاوِيًا
وَلِيَصْبِرَنَّ عَلَى إبْطَائِهِمْ فَإِنَّ تَرَاكُمَ الْأُمُورِ عَلَيْهِمْ
يَشْغَلُهُمْ إلَّا عَنْ الْمُلِحِّ الصَّبُورِ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : قَدِّمْ لِحَاجَتِك بَعْضَ لَجَاجَتِك .
وَقَالَ أَبُو سَارَةَ سُحَيْمُ بْنُ الْأَعْرَفِ : تُعِدُّ قَرَابَةً وَتُعِدُّ
صِهْرًا وَيَسْعَدُ بِالْقَرَابَةِ مَنْ رَعَاهَا وَمَا زُرْنَاك مِنْ عَدَمٍ
وَلَكِنْ يَهَشُّ إلَى الْإِمَارَةِ مَنْ رَجَاهَا وَأَيًّا مَا فَعَلْتَ فَإِنَّ
نَفْسِي تَعُدُّ صَلَاحَ نَفْسِك مِنْ غِنَاهَا فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ صَلَاحُ
حَالِهِ إلَّا بِمَالٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى نَوَائِبِهِ كَانَ لَهُ مَعَ
الضَّرُورَةِ فُسْحَةٌ .
لَكِنْ إنْ وَجَدَهُ قَرْضًا مَرْدُودًا لَمْ يَأْخُذْهُ صِلَةً وَجُودًا ،
فَإِنَّ الْقَرْضَ مُسْتَسْمَحٌ بِهِ فِي الْمُرُوآت .
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا أَعْلَى
اللَّهُ مِنْ قَدْرِهِ وَفَضَّلَهُ عَلَى خَلْقِهِ ، قَدْ اقْتَرَضَ ثُمَّ قَضَى
فَأَحْسَنَ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَعْيَاهُ
رِزْقُ اللَّهِ تَعَالَى حَلَالًا فَلْيَسْتَدِنْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ
} .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمُسْتَدِينُ تَاجِرُ اللَّهِ
فِي أَرْضِهِ } .
وَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ : إنْ لَمْ يَكُنْ كُثْرٌ فَقُلْ عَطِيَّةٌ يَبْلُغْ بِهَا
بَاغِي الرِّضَا بَعْضَ الرِّضَا أَوْ لَمْ يَكُنْ هِبَةٌ فَقَرْضٌ يُسِّرَتْ
أَسْبَابُهُ وَكَوَاهِبٍ مَنْ أَقْرَضَا وَلَئِنْ كَانَ الدَّيْنُ رِقًّا فَهُوَ
أَسْهَلُ مِنْ رِقِّ الْإِفْضَالِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ : مَنْ أَرَادَ الْبَقَاءَ وَلَا بَقَاءَ فَلْيُبَاكِرْ الْغَدَاءَ
وَلْيُخَفِّفْ الرِّدَاءَ .
قِيلَ : وَمَا فِي خِفَّةِ الرِّدَاءِ مِنْ الْبَقَاءِ ؟ قَالَ : قِلَّةُ
الدَّيْنِ .
فَإِنْ
أَعْوَزَهُ ذَلِكَ إلَّا اسْتِسْمَاحًا فَهُوَ الرِّقُّ الْمُذِلُّ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : لَا مُرُوءَةَ لِمُقِلٍّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ قَبِلَ صِلَتَك فَقَدْ بَاعَك مُرُوءَتَهُ
وَأَذَلَّ لِقَدْرِك عِزَّهُ وَجَلَالَتَهُ .
وَاَلَّذِي يَتَمَاسَكُ بِهِ الْبَاقِي مِنْ مُرُوءَةِ الرَّاغِبِينَ ،
وَالْيَسِيرِ التَّافِهِ مِنْ صِيَانَةِ السَّائِلِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لِذِي
رَغْبَةٍ مُرُوءَةٌ وَلَا لِسَائِلٍ تَصَوُّنٌ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ هِيَ جَهْدُ
الْمُضْطَرِّ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَجَافَى ضَرَعَ السَّائِلِينَ ، وَأُبَّهَةَ
الْمُسْتَقِلِّينَ .
فَيَذِلَّ بِالضَّرَعِ وَيُحْرَمَ بِالْأُبَّهَةِ ، وَلْيَكُنْ مِنْ التَّجَمُّلِ
عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ مِثْلِهِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ .
وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ يُفْحِشُ زَوَالَ النِّعَمِ ؟ قَالَ :
إذَا زَالَ مَعَهَا التَّجَمُّلُ .
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِعَلِيِّ بْنِ الْجَهْمِ : هِيَ النَّفْسُ
مَا حَمَّلْتهَا تَتَحَمَّلُ وَلِلدَّهْرِ أَيَّامٌ تَجُورُ وَتَعْدِلُ
وَعَاقِبَةُ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ جَمِيلَةٌ وَأَحْسَنُ أَخْلَاقِ الرِّجَالِ
التَّفَضُّلُ وَلَا عَارَ إنْ زَالَتْ عَنْ الْحُرِّ نِعْمَةٌ وَلَكِنَّ عَارًا
أَنْ يَزُولَ التَّجَمُّلُ وَالثَّانِي : أَنْ يَقْتَصِرَ فِي السُّؤَالِ عَلَى
مَا دَعَتْهُ إلَيْهِ الضَّرُورَةُ ، وَقَادَتْهُ إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، وَلَا
يَجْعَلَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الِاغْتِنَامِ فَيَحْرُمُ بِاغْتِنَامِهِ ، وَلَا
يُعْذَرُ فِي ضَرُورَتِهِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَلِفَ الْمَسْأَلَةَ أَلِفَهُ الْمَنْعُ
.
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَعْذُرَ فِي الْمَنْعِ وَيَشْكُرَ عَلَى الْإِجَابَةِ
فَإِنَّهُ إنْ مُنِعَ فَعَمَّا لَا يَمْلِكُ ، وَإِنْ أُجِيبَ فَإِلَى مَا لَا
يَسْتَحِقُّ .
فَقَدْ قَالَ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ : لَا تَغْضَبَنَّ عَلَى امْرِئٍ فِي
مَالِهِ وَعَلَى كَرَائِمِ صُلْبِ مَالِكَ فَاغْضَبْ وَالرَّابِعُ : أَنْ
يَعْتَمِدَ عَلَى سُؤَالِ مَنْ كَانَ لِلْمَسْأَلَةِ أَهْلًا ، وَكَانَ النُّجْحُ
عِنْدَهُ مَأْمُولًا ، فَإِنَّ ذَوِي الْمُكْنَةِ كَثِيرٌ وَالْمُعِينُ مِنْهُمْ
قَلِيلٌ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْخَيْرُ
كَثِيرٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ } .
وَالْمَرْجُوُّ لِلْإِجَابَةِ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ خِصَالُهَا وَهِيَ ثَلَاثٌ :
إحْدَاهُنَّ : كَرَمُ الطَّبْعِ فَإِنَّ الْكَرِيمَ مُسَاعِدٌ ، وَاللَّئِيمَ
مُعَانِدٌ .
وَقَدْ قِيلَ : الْمَخْذُولُ مَنْ كَانَتْ لَهُ إلَى اللِّئَامِ حَاجَةٌ .
وَالثَّانِيَةُ : سَلَامَةُ الصَّدْرِ فَإِنَّ الْعَدُوَّ إلْبٌ عَلَى نَكْبَتِك ،
وَحَرْبٌ فِي نَائِبَتِك .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ أَوْغَرْت صَدْرَهُ اسْتَدْعَيْت شَرَّهُ ، فَإِنْ رَقَّ لَك
بِكَرَمِ طَبْعِهِ ، وَرَحِمَك بِحُسْنِ ظَفَرِهِ ، فَأَعْظِمْ بِهَا مِنْحَةً
أَنْ يَصِيرَ عَدُوُّك لَك رَاحِمًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَحَسْبُك مِنْ حَادِثٍ بِامْرِئٍ تَرَى حَاسِدِيهِ
لَهُ رَاحِمَيْنَا وَالْخَامِسُ : ظُهُورُ الْمُكْنَةِ فَإِنَّ مَنْ سَأَلَ مَا
لَا يُمْكِنُ فَقَدْ أَحَالَ ، وَكَانَ كَمُسْتَنْهِضِ الْمَسْجُونِ ،
وَمُسْتَسْعِفِ الْمَدْيُونِ ، وَكَانَ بِالرَّدِّ خَلِيقًا ، وَبِالْحِرْمَانِ
حَقِيقًا .
وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : مَنْ لَا يَعْرِفُ لَا حَتَّى
يُقَالَ لَهُ لَا فَهُوَ أَحْمَقُ .
وَوَصَّى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَهْتَمِ ابْنَهُ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ لَا
تَطْلُبْ الْحَوَائِجَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ، وَلَا تَطْلُبْهَا فِي غَيْرِ
حِينِهَا ، وَلَا تَطْلُبْ مَا لَسْتَ لَهُ مُسْتَحِقًّا فَإِنَّك إنْ فَعَلْتَ
ذَلِكَ كُنْتَ حَقِيقًا بِالْحِرْمَانِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَلَا تَسْأَلَنَّ امْرَأً حَاجَةً يُحَاوِلُ مِنْ رَبِّهِ
مِثْلَهَا فَيَتْرُكَ مَا كُنْتَ حَمَّلْتَهُ وَيَبْدَأُ بِحَاجَتِهِ قَبْلَهَا
فَهَذَا مَا يَخْتَصُّ بِشُرُوطِ الْمُرُوءَةِ فِي نَفْسِهِ .
وَأَمَّا
شُرُوطُ الْمُرُوءَةِ فِي غَيْرِهِ فَثَلَاثَةٌ : الْمُؤَازَرَةُ وَالْمُيَاسَرَةُ
وَالْإِفْضَالُ .
أَمَّا الْمُؤَازَرَةُ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : الْإِسْعَافُ بِالْجَاهِ ،
وَالثَّانِي الْإِسْعَافُ فِي النَّوَائِبِ .
فَأَمَّا الْإِسْعَافُ بِالْجَاهِ فَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْأَعْلَى قَدْرًا ،
وَالْأَنْفَذِ أَمْرًا ، وَهُوَ أَرْخَصُ الْمَكَارِمِ ثَمَنًا وَأَلْطَفُ
الصَّنَائِعِ مَوْقِعًا ، وَرُبَّمَا كَانَ أَعْظَمَ مِنْ الْمَالِ نَفْعًا .
وَهُوَ الظِّلُّ الَّذِي يَلْجَأُ إلَيْهِ الْمُضْطَرُّونَ ، وَالْحِمَى الَّذِي
يَأْوِي إلَيْهِ الْخَائِفُونَ .
فَإِنْ أَوَطْأَهُ اتَّسَعَ بِكَثْرَةِ الْأَنْصَارِ وَالشِّيَعِ ، وَإِنْ
قَبَضَهُ انْقَطَعَ بِنُفُورِ الْغَاشِيَةِ وَالتَّبَعِ ، فَهُوَ بِالْبَذْلِ
يُنَمَّى وَيَزِيدُ ، وَبِالْكَفِّ يَنْقُصُ وَيَبِيدُ ، فَلَا عُذْرَ لِمَنْ
مُنِحَ جَاهًا أَنْ يَبْخَلَ بِهِ فَيَكُونَ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ الْبَخِيلِ
بِمَالِهِ الَّذِي قَدْ يُعِدُّهُ لِنَوَائِبِهِ ، وَيَسْتَبْقِيهِ لِلَذَّتِهِ ،
وَيَكْنِزُهُ لِذُرِّيَّتِهِ .
وَبِضِدِّ ذَلِكَ مَنْ بَخِلَ بِجَاهِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَضَاعَهُ بِالشُّحِّ
وَبَدَّدَهُ بِالْبُخْلِ وَحَرَمَ نَفْسَهُ غَنِيمَةَ مُكْنَتِهِ ، وَفُرْصَةَ
قُدْرَتِهِ ، فَلَمْ يُعْقِبْهُ إلَّا نَدَمًا عَلَى فَائِتٍ وَأَسَفًا عَلَى
ضَائِعٍ وَمَقْتًا يَسْتَحْكِمُ فِي النُّفُوسِ وَذَمًّا قَدْ يَنْتَشِرُ فِي
النَّاسِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ وَأَحَبُّ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْهِ
أَحْسَنُهُمْ صَنِيعًا إلَى عِيَالِهِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : اصْنَعْ الْخَيْرَ عِنْدَ إمْكَانِهِ يَبْقَى لَك
حَمْدُهُ عِنْدَ زَوَالِهِ ، وَأَحْسِنْ وَالدَّوْلَةُ لَك يُحْسَنُ لَك ،
وَالدَّوْلَةُ عَلَيْك ، وَاجْعَلْ زَمَانَ رَخَائِك عُدَّةً لِزَمَانِ بَلَائِك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مِنْ عَلَامَةِ الْإِقْبَالِ اصْطِنَاعُ الرِّجَالِ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : بَذْلُ الْجَاهِ أَحَدُ الْحِبَاءَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ : الْعَرَبُ تَقُولُ : مَنْ أَمَّلَ شَيْئًا
هَابَهُ وَمِنْ جَهِلَ شَيْئًا عَابَهُ .
وَبَذْلُ الْجَاهِ قَدْ
يَكُونُ
مِنْ كَرَمِ النَّفْسِ وَشُكْرِ النِّعْمَةِ وَضِدُّهُ مِنْ ضِدِّهِ وَلَيْسَ
بَذْلُ الْجَاهِ لِالْتِمَاسِ الْجَزَاءِ بَذْلًا مَشْكُورًا ، وَإِنَّمَا هُوَ
بَائِعُ جَاهِهِ وَمُعَاوِضُ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَآلَائِهِ فَكَانَ
بِالذَّمِّ أَحَقَّ .
وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ لِعَلِيِّ بْنِ عَبَّاسٍ الرُّومِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ : لَا يَبْذُلُ الْعُرْفَ حِينَ يَبْذُلُهُ كَمُشْتَرِي الْحَمْدِ أَوْ
كَمُعْتَاضِهِ بَلْ يَفْعَلُ الْعُرْفَ حِينَ يَفْعَلُهُ لِجَوْهَرِ الْعُرْفِ لَا
لِأَعْرَاضِهِ وَعَلَى مَنْ أُسْعِدَ بِجَاهِهِ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ يَسْتَكْثِرُ
بِهَا الشُّكْرَ وَيَسْتَمِدُّ بِهَا الْمَزِيدَ مِنْ الْأَجْرِ : أَحَدُهَا :
أَنْ يَسْتَسْهِلَ الْمَعُونَةَ مَسْرُورًا ، وَلَا يَسْتَثْقِلَهَا كَارِهًا ،
فَيَكُونَ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَبَرِّمًا وَلِإِحْسَانِهِ مُسْخِطًا .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ مَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عَظُمَتْ مَئُونَةُ النَّاسِ
عَلَيْهِ } .
فَمَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ تِلْكَ الْمَئُونَةَ عَرَضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ
لِلزَّوَالِ .
وَالثَّانِي : مُجَانَبَةُ الِاسْتِطَالَةِ وَتَرْكُ الِامْتِنَانِ فَإِنَّهُمَا
مِنْ لُؤْمِ الطَّبْعِ وَضِيقِ الصَّدْرِ وَفِيهِمَا هَدْمُ الصَّنِيعِ ،
وَإِحْبَاطُ الشُّكْرِ .
وَقَدْ قِيلَ لِلْحَكِيمِ الْيُونَانِيِّ : مَنْ أَضْيَقُ النَّاسِ طَرِيقًا
وَأَقَلُّهُمْ صَدِيقًا ؟ قَالَ : مَنْ عَاشَرَ النَّاسَ بِعُبُوسِ وَجْهِهِ
وَاسْتَطَالَ عَلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَقْرِنَ بِمَشْكُورِ سَعْيِهِ تَقْرِيعًا بِذَنْبٍ وَلَا
تَوْبِيخًا عَلَى هَفْوَةٍ فَلَا يَفِي مَضَضُ التَّوْبِيخِ بِإِدْرَاكِ النُّجْحِ
وَيَصِيرُ الشُّكْرُ وَجْدًا وَالْحَمْدُ عَيْبًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَقِيلُوا
ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ } .
وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ : أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّ الْمَلَامَةَ
نَفْعُهَا قَلِيلٌ إذَا مَا الشَّيْءُ وَلَّى فَأَدْبَرَا وَأَمَّا الْإِسْعَافُ
فِي النَّوَائِبِ فَلِأَنَّ الْأَيَّامَ غَادِرَةٌ ، وَالنَّوَازِلَ غَائِرَةٌ ،
وَالْحَوَادِثَ عَارِضَةٌ ،
وَالنَّوَائِبَ
رَاكِضَةٌ ، فَلَا يَعْذُرُ فِيهَا إلَّا عَلِيمٌ ، وَلَا يَسْتَنْقِذُهُ مِنْهَا
إلَّا سَلِيمٌ .
وَقَدْ قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ : كَفَى زَاجِرًا لِلْمَرْءِ أَيَّامُ دَهْرِهِ
تَرُوحُ لَهُ بِالْوَاعِظَاتِ وَتَغْتَدِي فَإِذَا وُجِدَ الْكَرِيمُ مُصَابًا
بِحَوَادِث دَهْرِهِ حَثَّهُ الْكَرْمُ وَشُكْرُ النِّعَمِ عَلَى الْإِسْعَافِ
فِيهَا بِمَا اسْتَطَاعَ سَبِيلًا إلَيْهِ وَوَجَدَ قُدْرَةً عَلَيْهِ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : خَيْرٌ
مِنْ الْخَيْرُ مُعْطِيهِ وَشَرٌّ مِنْ الشَّرِّ فَاعِلُهُ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : هَلْ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
؟ قَالَ : مُعْطِيهِمَا .
وَالْإِسْعَافُ فِي النَّوَائِبِ نَوْعَانِ : وَاجِبٌ وَتَبَرُّعٌ .
فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَمَا اخْتَصَّ بِثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ وَهُمْ : الْأَهْلُ
وَالْإِخْوَانُ وَالْجِيرَانُ .
أَمَّا الْأَهْلُ فَلِمُمَاسَّةِ الرَّحِمِ وَتَعَاطُفِ النَّسَبِ .
وَقَدْ قِيلَ : لَمْ يَسُدْ مَنْ احْتَاجَ أَهْلُهُ إلَى غَيْرِهِ .
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ : وَإِنَّ امْرَأً نَالَ الْمُنَى ثُمَّ لَمْ
يَنَلْ قَرِيبًا وَلَا ذَا حَاجَةٍ لَزَهِيدُ وَإِنَّ امْرَأً عَادَى الرِّجَالَ
عَلَى الْغِنَى وَلَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ الْغِنَى لَحَسُودُ وَأَمَّا الْإِخْوَانُ
فَلِمُسْتَحْكَمِ الْوُدُّ وَمُتَأَكِّدُ الْعَهْدِ .
سُئِلَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ : صِدْقُ اللِّسَانِ
وَمُؤَاسَاةُ الْإِخْوَانِ وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَان .
وَقَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْفُرْسِ : صِفَةُ الصَّدِيقِ أَنْ يَبْذُلَ لَك
مَالَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَنَفْسَهُ عِنْدَ النَّكْبَةِ ، وَيَحْفَظَك عِنْدَ
الْمَغِيبِ .
وَرَأَى بَعْضُ الْحُكَمَاءِ رَجُلَيْنِ يَصْطَحِبَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ فَسَأَلَ
عَنْهُمَا فَقِيلَ : هُمَا صَدِيقَانِ .
فَقَالَ : مَا بَالُ أَحَدِهِمَا فَقِيرٌ وَالْآخَرِ غَنِيٌّ .
وَأَمَّا الْجَارُ فَلِدُنُوِّ دَارِهِ وَاتِّصَالِ مَزَارِهِ .
قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : لَيْسَ حُسْنُ الْجُوَارِ كَفَّ
الْأَذَى بَلْ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَجَارَ جَارَهُ أَعَانَهُ اللَّهُ
وَأَجَارَهُ .
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ أَحْسَنَ إلَى جَارِهِ فَقَدْ دَلَّ عَلَى حُسْنِ
نِجَارِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَلِلْجَارِ حَقٌّ فَاحْتَرِزْ مِنْ إذَائِهِ وَمَا
خَيْرُ جَارٍ لَا يَزَالُ مُؤَاذِيًا فَيَجِبُ فِي حُقُوقِ الْمُرُوءَةِ وَشُرُوطِ
الْكَرَمِ فِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ تَحَمُّلُ أَثْقَالِهِمْ ، وَإِسْعَافُهُمْ
فِي نَوَائِبِهِمْ وَلَا فُسْحَةَ لِذِي مُرُوءَةٍ مَعَ ظُهُورِ الْمُكْنَةِ أَنْ
يَكِلَهُمْ إلَى غَيْرِهِ ، أَوْ يُلْجِئَهُمْ إلَى سُؤَالِهِ ، وَلْيَكُنْ
سَائِلَ كَرَمِ نَفْسِهِ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِيَالُ كَرَمِهِ وَأَضْيَافُ
مُرُوءَتِهِ ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُلْجِئَ عِيَالَهُ وَأَضْيَافَهُ
إلَى الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ فَهَكَذَا مَنْ عَالَهُ كَرَمُهُ وَأَضَافَتْهُ
مُرُوءَتُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : حَقٌّ عَلَى السَّيِّدِ الْمَرْجُوِّ نَائِلُهُ
وَالْمُسْتَجَارِ بِهِ فِي الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَنْ لَا يُنِيلَ الْأَقَاصِيَ
صَوْبَ رَاحَتِهِ حَتَّى يَخُصَّ بِهِ الْأَدْنَى مِنْ الْخَدَمِ إنَّ الْفُرَاتَ
إذَا جَاشَتْ غَوَارِبُهُ رَوَّى السَّوَاحِلَ ثُمَّ امْتَدَّ فِي الْأُمَمِ
وَأَمَّا التَّبَرُّعُ فِيمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْبُعَدَاءِ
الَّذِينَ لَا يُدْلُونَ بِنَسَبٍ ، وَلَا يَتَعَلَّقُونَ بِسَبَبٍ ، فَإِنْ
تَبَرَّعَ بِفَضْلِ الْكَرَمِ وَفَائِضِ الْمُرُوءَةِ فَنَهَضَ فِي حَوَادِثِهِمْ
، وَتَكَفَّلَ بِنَوَائِبِهِمْ ، فَقَدْ زَادَ عَلَى شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ
وَتَجَاوَزَهَا إلَى شُرُوطِ الرِّئَاسَةِ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : أَيُّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ النَّاسِ يُشْبِهُ
أَفْعَالَ الْإِلَهِ ؟ قَالَ : الْإِحْسَانُ إلَى النَّاسِ ، وَإِنْ كَفَّ
تَشَاغُلًا بِمَا لَزِمَ فَلَا لَوْمَ مَا لَمْ يَلْجَأْ إلَيْهِ مُضْطَرٌّ ؛
لِأَنَّ الْقِيَامَ بِالْكُلِّ مُعْوِزٌ وَالتَّكَفُّلَ بِالْجَمِيعِ مُتَعَذِّرٌ
.
فَهَذَا حُكْمُ الْمُؤَازَرَةِ .
وَأَمَّا
الْمُيَاسَرَةِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : الْعَفْوُ عَنْ الْهَفَوَاتِ ،
وَالثَّانِي الْمُسَامَحَةُ فِي الْحُقُوقِ .
فَأَمَّا الْعَفْوُ عَنْ الْهَفَوَاتِ : فَلِأَنَّهُ لَا مُبَرَّأَ مِنْ سَهْوٍ
وَزَلَلٍ ، وَلَا سَلِيمَ مِنْ نَقْصٍ أَوْ خَلَلٍ ، وَمَنْ رَامَ سَلِيمًا مِنْ
هَفْوَةٍ ، وَالْتَمَسَ بَرِيئًا مِنْ نَبْوَةٍ ، فَقَدْ تَعَدَّى عَلَى الدَّهْرِ
بِشَطَطِهِ ، وَخَادَعَ نَفْسَهُ بِغَلَطِهِ ، وَكَانَ مِنْ وُجُودِ بُغْيَتِهِ
بَعِيدًا وَصَارَ بِاقْتِرَاحِهِ فَرْدًا وَحِيدًا .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : لَا صَدِيقَ لِمَنْ أَرَادَ صَدِيقًا لَا عَيْبَ
فِيهِ .
وَقِيلَ لِأَنُوشِرْوَانَ : هَلْ مِنْ أَحَدٍ لَا عَيْبَ فِيهِ ؟ قَالَ : مَنْ لَا
مَوْتَ لَهُ ، وَإِذَا كَانَ الدَّهْرِ لَا يُوجِدُهُ مَا طَلَبَ ، وَلَا
يُنِيلُهُ مَا أَحَبَّ ، وَكَانَ الْوَحِيدُ فِي النَّاسِ مَرْفُوضًا قَصِيًّا ،
وَالْمُنْقَطِعُ عَنْهُمْ وَحْشِيًّا ، لَزِمَهُ مُسَاعِدَةُ زَمَانِهِ فِي
الْقَضَاءِ ، وَمُيَاسَرَةُ إخْوَانِهِ فِي الصَّفْحِ وَالْإِغْضَاءِ .
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِأَدَاءِ
الْفَرَائِضِ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا تَجْتَمِعُ إلَّا فِي كَرِيمٍ
: حُسْنُ الْمَحْضَرِ وَاحْتِمَالُ الزَّلَّةِ وَقِلَّةُ الْمَلَالِ .
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ : فَعُذْرُك مَبْسُوطٌ لِذَنْبٍ مُقَدَّمٍ وَوُدُّك
مَقْبُولٌ بِأَهْلٍ وَمَرْحَبِ وَلَوْ بَلَّغَتْنِي عَنْكَ أُذْنِي أَقَمْتُهَا
لَدَيَّ مَقَامَ الْكَاشِحِ الْمُتَكَذِّبِ فَلَسْتُ بِتَقْلِيبِ اللِّسَانِ
مُصَارِمًا خَلِيلًا إذَا مَا الْقَلْبُ لَمْ يَتَقَلَّبْ وَإِذَا كَانَ
الْإِغْضَاءُ حَتْمًا وَالصَّفْحُ كَرَمًا تَرَتَّبَ بِحَسَبِ الْهَفْوَةِ
وَتَنَزَّلُ بِقَدْرِ الذَّنْبِ .
وَالْهَفَوَاتُ نَوْعَانِ : صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ .
فَالصَّغَائِرُ مَغْفُورَةٌ ، وَالنُّفُوسُ بِهَا مَعْذُورَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ
مَعَ أَطْوَارِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَأَخْلَاقِهِمْ الْمُتَفَاضِلَةِ ، لَا
يَسْلَمُونَ مِنْهَا .
فَكَانَ الْوَجْدُ فِيهَا مُطَّرَحًا ، وَالْعَتْبُ مُسْتَقْبَحًا .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ :
مَنْ
هَجَرَ أَخَاهُ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ كَانَ كَمَنْ زَرَعَ زَرْعًا ثُمَّ حَصَدَهُ
فِي غَيْرِ أَوَانِهِ .
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : وَشَرُّ الْأَخِلَّاءِ مَنْ لَمْ يَزَلْ يُعَاتِبُ
طَوْرًا وَطَوْرًا يَذُمْ يُرِيك النَّصِيحَةَ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَيَبْرِيك فِي
السِّرِّ بَرْيَ الْقَلَمْ وَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَنَوْعَانِ : أَنْ يَهْفُوَ
بِهَا خَاطِئًا ، وَيَزِلَّ بِهَا سَاهِيًا ، فَالْحَرَجُ فِيهَا مَرْفُوعٌ ،
وَالْعَتْبُ عَنْهَا مَوْضُوعٌ ؛ لِأَنَّ هَفْوَةَ الْخَاطِرِ هَدَرٌ وَلَوْمَهُ هَذْرٌ
.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا تَقْطَعْ أَخَاك إلَّا بَعْدَ عَجْزِ
الْحِيلَةِ عَنْ اسْتِصْلَاحِهِ .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ : حَقُّ الصَّدِيقِ أَنْ تَحْتَمِلَ لَهُ
ثَلَاثًا : ظُلْمَ الْغَضَبِ ، وَظُلْمَ الدَّالَّةِ ، وَظُلْمَ الْهَفْوَةِ .
وَحَكَى ابْنُ عَوْنٍ أَنَّ غُلَامًا هَاشِمِيًّا عَرْبَدَ عَلَى قَوْمٍ فَأَرَادَ
عَمُّهُ أَنْ يُسِيءَ بِهِ فَقَالَ : يَا عَمِّ إنِّي قَدْ أَسَأْت وَلَيْسَ مَعِي
عَقْلِي فَلَا تُسِئْ بِي وَمَعَك عَقْلُك .
وَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ : لَمْ أُؤَاخِذْكَ إذْ جَنَيْتَ لِأَنِّي وَاثِقٌ مِنْك
بِالْإِخَاءِ الصَّحِيحِ فَجَمِيلُ الْعَدُوِّ غَيْرُ جَمِيلٍ وَقَبِيحُ
الصَّدِيقِ غَيْرُ قَبِيحِ فَإِنْ تَشَبَّهَ خَطَؤُهُ بِالْعَمْدِ ، وَسَهْوُهُ
بِالْقَصْدِ ، تَثَبَّتَ وَلَمْ يَلُمْ بِالتَّوَهُّمِ فَيَكُونَ مَلُومًا ،
وَلِذَلِكَ قِيلَ : التَّثَبُّتُ نِصْفُ الْعَفْوِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَا يُفْسِدُك الظَّنُّ عَلَى صَدِيقٍ أَصْلَحَك
الْيَقِينُ لَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ هُذَيْلٍ : فَبَعْضُ الْأَمْرِ تُصْلِحُهُ بِبَعْضٍ
فَإِنَّ الْغَثَّ يَحْمِلُهُ السَّمِينُ وَلَا تَعْجَلْ بِظَنِّك قَبْلَ خُبْرٍ
فَعِنْدَ الْخُبْرِ تَنْقَطِعُ الظُّنُونُ تَرَى بَيْنَ الرِّجَالِ الْعَيْنُ
فَضْلًا وَفِيمَا أَضْمَرُوا الْفَضْلُ الْمُبِينُ كَلَوْنِ الْمَاءِ مُشْتَبَهًا
وَلَيْسَتْ تُخْبِرُ عَنْ مَذَاقَتِهِ الْعُيُونُ وَالثَّانِي : أَنْ يَعْتَمِدَ
مَا اجْتَرَمَ مِنْ كَبَائِرِهِ ، وَيَقْصِدَ مَا اجْتَرَحَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ .
وَلَا يَخْلُو فِيمَا أَتَاهُ مِنْ أَرْبَعِ أَحْوَالٍ : فَالْحَالُ الْأُولَى :
أَنْ يَكُونَ مَوْتُورًا قَدْ قَابَلَ عَلَى وَتْرَتِهِ
وَكَافَأَ
عَلَى مُسَاءَتِهِ فَاللَّائِمَةُ عَلَى مَنْ وَتَرَهُ عَائِدَةٌ ، وَإِلَى
الْبَادِئِ بِهَا رَاجِعَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُكَافِئَ أَعَذْرُ ، وَإِنْ كَانَ
الصَّفْحُ أَجْمَلَ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إيَّاكُمْ
وَالْمُشَارَّةَ فَإِنَّهَا تُمِيتُ الْغَيْرَةَ وَتُحْيِي الْغُرَّةَ } .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ فَعَلَ مَا شَاءَ لَقِيَ مَا لَمْ يَشَأْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ نَالَتْهُ إسَاءَتُك هَمَّهُ مُسَاءَتُك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ أُولِعَ بِقُبْحِ الْمُعَامَلَةِ أُوجِعَ
بِقُبْحِ الْمُقَابَلَةِ .
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ : إذَا وَتَرْت امْرَأً فَاحْذَرْ
عَدَاوَتَهُ مَنْ يَزْرَعْ الشَّوْكَ لَا يَحْصُدْ بِهِ عِنَبَا إنَّ الْعَدُوَّ
وَإِنْ أَبْدَى مُسَالَمَةً إذَا رَأَى مِنْك يَوْمًا فُرْصَةً وَثَبَا وَالْإِغْضَاءُ
عَنْ هَذَا أَوْجَبُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمُكَافَأَةُ ذَنْبًا لِأَنَّهُ قَدْ
رَأَى عُقْبَى إسَاءَتِهِ ، فَإِنْ وَاصَلَ الشَّرَّ وَاصَلْته الْمُكَافَأَةُ .
وَقَدْ قِيلَ : بِاعْتِزَالِك الشَّرَّ يَعْتَزِلُك وَبِحُسْنِ النَّصَفَةِ
يَكُونُ الْمُوَاصِلُونَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ كُنْت سَبَبًا لِبَلَائِهِ وَجَبَ عَلَيْك
التَّلَطُّفُ لَهُ فِي عِلَاجِهِ مِنْ دَائِهِ .
وَقَدْ قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ : إذَا كُنْت لَمْ تُعْرِضْ عَنْ الْجَهْلِ
وَالْخَنَا أَصَبْت حَلِيمًا أَوْ أَصَابَك جَاهِلُ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ :
أَنْ يَكُونَ عَدُوًّا قَدْ اسْتَحْكَمَتْ شَحْنَاؤُهُ ، وَاسْتَوْعَرَتْ
سَرَّاؤُهُ ، وَاسْتَخْشَنَتْ ضَرَّاؤُهُ ، فَهُوَ يَتَرَبَّصُ بِدَوَائِرِ
السَّوْءِ انْتِهَازَ فُرَصِهِ ، وَيَتَجَرَّعُ بِمَهَانَةِ الْعَجْزِ مَرَارَةَ
غُصَصِهِ ، فَإِذَا ظَفِرَ بِنَائِبَةٍ سَاعَدَهَا ، وَإِذَا شَاهَدَ نِعْمَةً
عَانَدَهَا ، فَالْبُعْدُ مِنْهُ حَذَرًا أَسْلَمُ ، وَالْكَفُّ عَنْهُ
مُتَارَكَةً أَغْنَمُ ، فَإِنَّهُ لَا يُسْلَمُ مِنْ عَوَاقِبِ شَرِّهِ ، وَلَا
يُفْلَتُ مِنْ غَوَائِلِ مَكْرِهِ .
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : لَا تَعْرِضَنَّ لِعَدُوِّك فِي دَوْلَتِهِ فَإِذَا
زَالَتْ كُفِيَتْ شَرَّهُ .
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ كَذَبَ مَنْ قَالَ إنَّ
الشَّرَّ
بِالشَّرِّ يُطْفَأُ ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيُوقِدْ نَارَيْنِ وَلْيَنْظُرْ
هَلْ تُطْفِئُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ، وَإِنَّمَا يُطْفِئُ الْخَيْرُ الشَّرَّ
كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : كَفَاك مِنْ اللَّهِ نَصْرًا أَنْ تَرَى
عَدُوَّك يَعْصِي اللَّهَ فِيك .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : بِالسِّيرَةِ الْعَادِلَةِ يُقْهَرُ الْمُعَادِي .
وَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ : وَأُقْسِمُ لَا أَجْزِيكَ بِالشَّرِّ مِثْلَهُ كَفَى
بِاَلَّذِي جَازَيْتنِي لَك جَازِيَا وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ
لَئِيمَ الطَّبْعِ خَبِيثَ الْأَصْلِ قَدْ أَغْرَاهُ لُؤْمُ الطَّبْعِ عَلَى سُوءِ
الِاعْتِقَادِ ، وَبَعَثَهُ خُبْثُ الْأَصْلِ عَلَى إتْيَانِ الْفَسَادِ ، فَهُوَ
لَا يَسْتَقْبِحُ الشَّرَّ وَلَا يَكُفَّ عَنْ الْمَكْرُوهِ .
فَهَذِهِ الْحَالَةُ أَطَمُّ ؛ لِأَنَّ الْأَضْرَارَ بِهَا أَعَمُّ ، وَلَا
سَلَامَةَ مِنْ مِثْلِهِ إلَّا بِالْبُعْدِ وَالِانْقِبَاضِ ، وَلَا خَلَاصَ
مِنْهُ إلَّا بِالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ ، فَإِنَّهُ كَالسَّبُعِ الضَّارِي فِي
سَوَارِحِ الْغَنَمِ وَكَالنَّارِ الْمُتَأَجِّجَةِ فِي يَابِسِ الْحَطَبِ لَا
يَقْرَبُهَا إلَّا تَالِفٌ وَلَا يَدْنُو مِنْهَا إلَّا هَالِكٌ .
رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { النَّاسُ كَشَجَرَةٍ ذَاتِ
جَنًى وَيُوشِكُ أَنْ يَعُودُوا كَشَجَرَةٍ ذَاتِ شَوْكٍ إنْ نَاقَدْتَهُمْ
نَاقَدُوكَ ، وَإِنْ هَرَبْتَ مِنْهُمْ طَلَبُوكَ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُمْ لَمْ
يَتْرُكُوكَ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ الْمَخْرَجُ ؟ قَالَ :
أَقْرِضْهُمْ مِنْ عَرْضِك لِيَوْمِ فَاقَتِك } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ : الْعَاقِلُ الْكَرِيمُ صَدِيقُ كُلِّ
أَحَدٍ إلَّا مَنْ ضَرَّهُ ، وَالْجَاهِلُ اللَّئِيمُ عَدُوُّ كُلِّ أَحَدٍ إلَّا
مَنْ نَفَعَهُ .
وَقَالَ : شَرُّ مَا فِي الْكَرِيمِ أَنْ يَمْنَعَك خَيْرَهُ ، وَخَيْرُ مَا فِي
اللَّئِيمِ أَنْ يَكُفَّ عَنْك شَرَّهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : أَعْدَاؤُك دَاؤُك وَفِي الْبُعْدِ عَنْهُمْ
شِفَاؤُك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : شَرَفُ الْكَرِيمِ تَغَافُلُهُ عَنْ اللَّئِيمِ .
وَوَصَّى
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ ابْنَهُ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ إذَا سَلِمَ النَّاسُ مِنْك
فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا تَسْلَمَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ قَلَّ مَا اجْتَمَعَتْ
هَاتَانِ النِّعْمَتَانِ .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَسِيحِ بْنُ نُفَيْلَةَ : الْخَيْرُ وَالشَّرُّ مَقْرُونَانِ
فِي قَرْنٍ فَالْخَيْرُ مُسْتَتْبَعٌ وَالشَّرُّ مَحْذُورُ وَالْحَالُ
الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ صَدِيقًا قَدْ اسْتَحْدَثَ نَبْوَةً وَتَغَيُّرًا ،
أَوْ أَخًا قَدْ اسْتَجَدَّ جَفْوَةً وَتَنَكُّرًا ، فَأَبْدَى صَفْحَةَ عُقُوقِهِ
، وَاطَّرَحَ لَازِمَ حُقُوقِهِ ، وَعَدَلَ عَنْ بِرِّ الْإِخَاءِ إلَى جَفْوَةِ
الْأَعْدَاءِ .
فَهَذَا قَدْ يَعْرِضُ فِي الْمَوَدَّاتِ الْمُسْتَقِيمَةِ كَمَا تَعْرِضُ الْأَمْرَاضُ
فِي الْأَجْسَامِ السَّلِيمَةِ فَإِنْ عُولِجَتْ أَقْلَعَتْ ، وَإِنْ أُهْمِلَتْ
أَسْقَمَتْ ثُمَّ أَتْلَفَتْ .
وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : دَوَاءُ الْمَوَدَّةِ كَثْرَةُ التَّعَاهُدِ .
وَقَالَ كُشَاجِمُ : أَقِلْ ذَا الْوُدِّ عَثَرْتَهُ وَقِفْهُ عَلَى سُنَنِ
الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَهْ وَلَا تُسْرِعْ بِمَعْتَبَةٍ إلَيْهِ فَقَدْ يَهْفُو
وَنِيَّتُهُ سَلِيمَهْ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ مُتَارَكَةَ الْإِخْوَانِ
إذَا نَفَرُوا أَصْلَحُ ، وَاطِّرَاحَهُمْ إذَا فَسَدُوا أَوْلَى ، كَأَعْضَاءِ
الْجَسَدِ إذَا فَسَدَتْ كَانَ قَطْعُهَا أَسْلَمَ فَإِنْ شَحَّ بِهَا سَرَتْ إلَى
نَفْسِهِ ، وَكَالثَّوْبِ إذَا خَلِقَ كَانَ اطِّرَاحُهُ بِالْجَدِيدِ لَهُ
أَجْمَلَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : رَغْبَتُك فِيمَنْ يَزْهَدُ فِيك ذُلُّ نَفْسٍ
، وَزُهْدُك فِيمَنْ يَرْغَبُ فِيك صِغَرُ هِمَّةٍ .
وَقَدْ قَالَ بَزَرْجَمْهَرُ : مَنْ تَغَيَّرَ عَلَيْك فِي مَوَدَّتِهِ فَدَعْهُ
حَيْثُ كَانَ قَبْلَ مَعْرِفَتِهِ .
وَقَالَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ الْخُبْزُ أَرُزِّيٍّ : صِلْ مَنْ دَنَا وَتَنَاسَ
مَنْ بَعُدَا لَا تُكْرِهَنَّ عَلَى الْهَوَى أَحَدَا قَدْ أَكْثَرَتْ حَوَّاءُ
إذْ وَلَدَتْ فَإِذَا جَفَا وَلَدٌ فَخُذْ وَلَدَا فَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ قَلَّ
وَفَاؤُهُ ، وَضَعُفَ إخَاؤُهُ ، وَسَاءَتْ طَرَائِقُهُ ، وَضَاقَتْ خَلَائِقُهُ ،
وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلُ الِاحْتِمَالِ ، وَلَا صَبْرٌ عَلَى الْإِدْلَالِ ،
فَقَابَلَ عَلَى الْجَفْوَةِ ،
وَعَاقَبَ
عَلَى الْهَفْوَةِ ، وَاطَّرَحَ سَالِفَ الْحُقُوقِ ، وَقَابَلَ الْعُقُوقَ
بِالْعُقُوقِ ، فَلَا بِالْفَضْلِ أَخَذَ وَلَا إلَى الْعَفْوِ أَخْلَدَ .
وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ نَفْسَهُ قَدْ تَطْغَى عَلَيْهِ فَتُرْدِيهِ ، وَأَنَّ
جِسْمَهُ قَدْ يَسْقَمُ عَلَيْهِ فَيُؤْلِمُهُ وَيُؤْذِيهِ ، وَهُمَا أَخَصُّ بِهِ
وَأَحْنَى عَلَيْهِ مِنْ صَدِيقٍ قَدْ تَمَيَّزَ بِذَاتِهِ ، وَانْفَصَلَ
بِأَدَوَاتِهِ فَيُرِيدُ مِنْ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ مَا لَا يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ
لِنَفْسِهِ .
هَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ وَمَحْضُ الْجَهْلِ مَعَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ
بَقِيَ فَرْدًا وَانْقَلَبَ الصَّدِيقُ فَصَارَ عَدُوًّا .
وَعَدَاوَةُ مَنْ كَانَ صَدِيقًا أَعْظَمُ مِنْ عَدَاوَةِ مَنْ لَمْ يَزَلْ
عَدُوًّا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَوْصَانِي
رَبِّي بِسَبْعٍ : الْإِخْلَاصُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَأَنْ أَعْفُوَ
عَمَّنْ ظَلَمَنِي وَأُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنِي وَأَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي وَأَنْ
يَكُونَ صَمْتِي فِكْرًا ، وَنُطْقِي ذِكْرًا وَنَظَرِي عِبْرَةً } .
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ لَا تَتْرُكْ صَدِيقَك الْأَوَّلَ
فَلَا يَطْمَئِنَّ إلَيْك الثَّانِي ، يَا بُنَيَّ اتَّخَذَ أَلْفَ صَدِيقٍ
وَالْأَلْفُ قَلِيلٌ وَلَا تَتَّخِذْ عَدُوًّا وَاحِدًا وَالْوَاحِدُ كَثِيرٌ .
وَقِيلَ لِلْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ : مَا تَقُولُ فِي الْعَفْوِ
وَالْعُقُوبَةِ ؟ قَالَ : هُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجُودِ وَالْبُخْلِ فَتَمَسَّكْ
بِأَيِّهِمَا شِئْتَ .
وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ : إذَا أَنْتَ لَمْ تَسْتَقْبِلْ الْأَمْرَ لَمْ تَجِدْ
بِكَفَّيْكَ فِي إدْبَارِهِ مُتَعَلِّقَا إذَا أَنْتَ لَمْ تَتْرُكْ أَخَاكَ
وَزَلَّةً إذَا زَلَّهَا أَوْشَكْتُمَا أَنْ تَفَرَّقَا فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ
عَلَى مَا وَصَفْتُ فَمِنْ حُقُوقِ الصَّفْحِ الْكَشْفُ عَنْ سَبَبِ الْهَفْوَةِ
لِيَعْرِفَ الدَّاءَ فَيُعَالِجَهُ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الدَّاءَ لَمْ يَقِفْ
عَلَى الدَّوَاءِ كَمَا قَدْ قَالَ الْمُتَنَبِّي : فَإِنَّ الْجُرْحَ يَنْفِرُ
بَعْدَ حِينٍ إذَا كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى فَسَادِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّبَبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِمِلَلٍ أَوْ زَلَلٍ .
فَإِنْ كَانَ
لِمِلَلٍ
فَمَوَدَّاتُ الْمَلُولِ ظِلُّ الْغَمَامِ وَحُلْمُ النِّيَامِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : لَا تَأْمَنَنَّ لِمَلُولٍ ، وَإِنْ
تَحَلَّى بِالصِّلَةِ وَعِلَاجُهُ أَنْ يُتْرَكَ عَلَى مَلَلِهِ فَيَمَلَّ
الْجَفَاءَ كَمَا مَلَّ الْإِخَاءَ .
وَإِنْ كَانَ لِزَلَلٍ لُوحِظَتْ أَسْبَابُهُ فَإِنْ كَانَ لَهَا مَدْخَلٌ فِي
التَّأْوِيلِ وَشُبْهَةٌ تَئُولُ إلَى جَمِيلٍ حَمَلَهُ عَلَى أَجْمَلِ
تَأْوِيلِهِ وَصَرَفَهُ إلَى أَحْسَنِ جِهَةٍ ، كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ خَالِدِ
بْنِ صَفْوَانَ أَنَّهُ مَرَّ بِهِ صَدِيقَانِ لَهُ فَعَرَجَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا
وَطَوَاهُ الْآخَرُ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : نَعَمْ عَرَجَ عَلَيْنَا
هَذَا بِفَضْلِهِ ، وَطَوَانَا ذَاكَ بِثِقَتِهِ بِنَا .
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِمُحَمَّدِ بْنِ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ :
وَتَزْعُمُ لِلْوَاشِينَ أَنِّي فَاسِدٌ عَلَيْكَ وَأَنِّي لَسْتُ فِيمَا
عَهِدْتَنِي وَمَا فَسَدَتْ لِي يَعْلَمُ اللَّهُ نِيَّةٌ عَلَيْكَ وَلَكِنْ
خُنْتَنِي فَاتَّهَمْتَنِي غَدَرْتَ بِعَهْدِي عَامِدًا وَأَخَفْتَنِي فَخِفْتُ
وَلَوْ آمَنْتَنِي لَأَمِنْتَنِي .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِزَلَلِهِ فِي التَّأْوِيلِ مَدْخَلٌ نَظَرَ بَعْدَ زَلَلِهِ
فَإِنْ ظَهَرَ نَدَمُهُ وَبَانَ خَجَلُهُ فَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ وَالْخَجَلُ
إنَابَةٌ ، وَلَا ذَنْبَ لِتَائِبٍ وَلَا لَوْمَ عَلَى مُنِيبٍ ، وَلَا يُكَلَّفُ
عُذْرًا عَمَّا سَلَفَ ، فَيُلْجَأَ إلَى ذُلِّ التَّحْرِيفِ ، أَوْ خَجَلِ
التَّعْنِيفِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إيَّاكُمْ
وَالْمَعَاذِرَ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مَفَاجِرُ } .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَفَى بِمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ تُهْمَةً
.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ لِرَجُلٍ اعْتَذَرَ إلَيْهِ : لَا يَدْعُوَنَّكَ
أَمْرٌ قَدْ تَخَلَّصْت مِنْهُ إلَى الدُّخُولِ فِي أَمْرٍ لَعَلَّك لَا تَخْلُصُ
مِنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : شَفِيعُ الْمُذْنِبِ إقْرَارُهُ ، وَتَوْبَتُهُ
اعْتِذَارُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ لَمْ يَقْبَلْ التَّوْبَةَ عَظُمَتْ
خَطِيئَتُهُ ، وَمَنْ لَمْ يُحْسِنْ إلَى التَّائِبِ قَبُحَتْ إسَاءَتُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْكَرِيمُ مَنْ
أَوْسَعَ
الْمَغْفِرَةَ إذَا ضَاقَتْ بِالْمُذْنِبِ الْمَعْذِرَةُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : الْعُذْرُ يَلْحَقُهُ التَّحْرِيفُ وَالْكَذِبُ
وَلَيْسَ فِي غَيْرِ مَا يُرْضِيك لِي أَرَبُ وَقَدْ أَسَأْتُ فَبِالنُّعْمَى
الَّتِي سَلَفَتْ إلَّا مَنَنْتَ بِعَفْوٍ مَا لَهُ سَبَبُ وَإِنْ عَجَّلَ
الْعُذْرَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ وَقَدَّمَ التَّنَصُّلَ قَبْلَ إنَابَتِهِ
فَالْعُذْرُ تَوْبَةٌ وَالتَّنَصُّلُ إنَابَةٌ فَلَا يَكْشِفُ عَنْ بَاطِنِ
عُذْرِهِ ، وَلَا يُعَنَّفُ بِظَاهِرِ غَدْرِهِ ، فَيَكُونَ لَئِيمَ الظَّفَرِ
سِيءَ الْمُكَافَأَةِ .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ غَلَبَتْهُ الْحِدَةُ فَلَا تَغْتَرَّ بِمَوَدَّتِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : شَافِعُ الْمُذْنِبِ خُضُوعُهُ إلَى عُذْرِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : اقْبَلْ مَعَاذِيرَ مَنْ يَأْتِيكَ مُعْتَذِرًا إنْ
بَرَّ عِنْدَك فِيمَا قَالَ أَوْ فَجَرَا فَقَدْ أَطَاعَكَ مَنْ يُرْضِيكَ
ظَاهِرُهُ وَقَدْ أَجَلَّكَ مَنْ يَعْصِيكَ مُسْتَتِرَا وَإِنْ تَرَكَ نَفْسَهُ
فِي زَلَلِهِ ، وَلَمْ يَتَدَارَكْ بِعُذْرِهِ وَتَنَصُّلِهِ ، وَلَا مَحَاهُ
بِتَوْبَتِهِ ، وَإِنَابَتِهِ ، رَاعَيْت فِي الْمُتَارَكَةِ فَسَتَجِدُهُ لَا
يَنْفَكُّ فِيهَا مِنْ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ كَفَّ
عَنْ سَيِّئِ عَمَلِهِ ، وَأَقْلَعَ عَنْ سَالِفِ زَلَلِهِ ، فَالْكَفُّ إحْدَى
التَّوْبَتَيْنِ ، وَالْإِقْلَاعُ أَحَدُ الْعُذْرَيْنِ .
فَكُنْ أَنْتَ الْمُعْتَذِرُ عَنْهُ بِصَفْحِك وَالْمُتَنَصِّلُ لَهُ بِفَضْلِك .
فَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْمُحْسِنُ عَلَى
الْمُسِيءِ أَمِيرٌ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَفَ عَلَى مَا أَسْلَفَ مِنْ زَلَلِهِ غَيْرَ
تَارِكٍ وَلَا مُتَجَاوِزٍ فَوُقُوفُ الْمَرَضِ أَحَدُ البرأين ، وَكَفُّهُ عَنْ
الزِّيَادَةِ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ، وَقَدْ اسْتَبْقَى بِالْوُقُوفِ عَنْ
الْمُتَجَاوِزِ أَحَدَ شَطْرَيْهِ فَعَوَّلَ بِهِ عَلَى صَلَاحِ شَطْرِهِ الْآخَرِ
.
وَإِيَّاكَ وَإِرْجَاءَهُ فَإِنَّ الْإِرْجَاءَ يُفْسِدُ شَطْرَ صَلَاحِهِ ، وَالتَّلَافِيَ
يُصْلِحُ شَطْرَ فَسَادِهِ ، فَإِنَّ مَنْ سَقِمَ مِنْ جِسْمِهِ مَا لَمْ
يُعَالِجْهُ سَرَى السَّقَمُ إلَى صِحَّتِهِ ، وَإِنْ عَالَجَهُ سَرَتْ
الصِّحَّةُ
إلَى سَقَمِهِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَتَجَاوَزَ مَعَ الْأَوْقَاتِ فَيَزِيدَ فِيهِ عَلَى مُرُورِ
الْأَيَّامِ ، فَهَذَا هُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِدْرَاكُهُ
وَتَأَتَّى اسْتِصْلَاحُهُ ، وَذَلِكَ بِاسْتِنْزَالِهِ عَنْهُ إنْ عَلَا ،
وَبِإِرْغَابِهِ إنْ دَنَا ، وَبِعِتَابِهِ إنْ سَاوَى ، وَإِلَّا فَآخِرُ
الدَّاءِ الْعَيَاءِ الْكَيُّ .
وَمَنْ بَلَغَتْ بِهِ الْأَعْذَارُ إلَى غَايَتِهَا فَلَا لَائِمَةَ عَلَيْهِ
وَالْمُقِيمُ عَلَى شِقَاقِهِ بَاغٍ مَصْرُوعٌ .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْيِ أَغْمَدَهُ فِي رَأْسِهِ فَهَذَا
شَرْطٌ .
وَأَمَّا الْمُسَامَحَةُ فِي الْحُقُوقِ ؛ فَلِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مُوحِشٌ
وَالِاسْتِقْصَاءَ مُنَفِّرٌ وَمَنْ أَرَادَ كُلَّ حَقِّهِ مِنْ النُّفُوسِ
الْمُسْتَصْعَبَةِ بِشُحٍّ أَوْ طَمَعٍ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ إلَّا
بِالْمُنَافَرَةِ وَالْمُشَاقَّةِ ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ إلَّا
بِالْمُخَاشَنَةِ وَالْمُشَاحَّةِ ؛ لِمَا اسْتَقَرَّ فِي الطِّبَاعِ مِنْ مَقْتِ
مَنْ شَاقَّهَا وَنَافَرَهَا ، وَبُغْضِ مَنْ شَاحَّهَا وَنَازَعَهَا ، كَمَا
اسْتَقَرَّ حُبُّ مَنْ يَاسَرَهَا وَسَامَحَهَا فَكَانَ أَلْيَقُ لِأُمُورِ
الْمُرُوءَةِ اسْتِلْطَافَ النُّفُوسِ بِالْمُيَاسَرَةِ وَالْمُسَامَحَةِ ،
وَتَأَلُّفَهَا بِالْمُقَارَبَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ عَاشَرَ إخْوَانَهُ بِالْمُسَامَحَةِ دَامَتْ
لَهُ مَوَدَّاتُهُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : إذَا أَخَذْت عَفْوَ الْقُلُوبِ زَكَا رِيعُك ،
وَإِنْ اسْتَقْصَيْت أَكْدَيْتَ .
وَالْمُسَامَحَةُ نَوْعَانِ فِي عُقُودٍ وَحُقُوقٍ .
فَأَمَّا الْعُقُودُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا سَهْلَ الْمُنَاجَزَةِ ، قَلِيلَ
الْمُحَاجَزَةِ مَأْمُونَ الْغَيْبَةِ بَعِيدًا مِنْ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ .
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
أَجْمِلُوا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَإِنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا كُتِبَ لَهُ
مِنْهَا } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ
يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : التَّغَابُنُ لِلضَّعِيفِ } .
وَحَكَى ابْنُ عَوْنٍ أَنَّ
عُمَرَ
بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ اشْتَرَى لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إزَارًا بِسِتَّةِ
دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ فَأَعْطَى التَّاجِرَ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ ، فَقَالَ : ثَمَنُهُ
سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ .
فَقَالَ : إنِّي اشْتَرَيْته لِرَجُلٍ لَا يُقَاسِمُ أَخَاهُ دِرْهَمًا .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمُسَاهَلَةَ فِي الْعُقُودِ عَجْزٌ ، وَأَنَّ
الِاسْتِقْصَاءَ فِيهَا حَزْمٌ ، حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَافِسُ فِي الْحَقِيرِ ،
وَإِنْ جَادَ بِالْجَلِيلِ الْكَثِيرِ كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ وَقَدْ مَاكَسَ فِي دِرْهَمٍ ، وَهُوَ يَجُودُ بِمَا يَجُودُ بِهِ ،
فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : ذَلِكَ مَالِي أَجْوَدُ بِهِ وَهَذَا عَقْلِي
بَخِلْت بِهِ .
وَهَذَا إنَّمَا يَنْسَاعُ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ فِي دَفْعِ مَا يُخَادِعُهُمْ
بِهِ الْأَدْنِيَاءُ ، وَيُغَابِنُهُمْ بِهِ الْأَشِحَّاءُ ، وَهَكَذَا كَانَتْ
حَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ .
فَأَمَّا مُمَاكَسَةُ الِاسْتِنْزَالِ وَالِاسْتِسْمَاحِ فَكَلَّا ؛ لِأَنَّهُ
مُنَافٍ لِلْكَرْمِ وَمُبَايِنٌ لِلْمُرُوءَةِ .
وَأَمَّا الْحُقُوقُ فَتَتَنَوَّعُ الْمُسَامَحَةُ فِيهَا نَوْعَيْنِ :
أَحَدُهُمَا فِي الْأَحْوَالِ ، وَالثَّانِي فِي الْأَمْوَالِ .
فَأَمَّا الْمُسَامَحَةُ فِي الْأَحْوَالِ فَهُوَ إطْرَاحُ الْمُنَازَعَةِ فِي
الرُّتَبِ وَتَرْكُ الْمُنَافَسَةِ فِي التَّقَدُّمِ .
فَإِنَّ مُشَاحَّةَ النُّفُوسِ فِيهَا أَعْظَمُ وَالْعِنَادَ عَلَيْهَا أَكْثَرُ ،
فَإِنْ سَامَحَ فِيهَا وَلَمْ يُنَافِسْ كَانَ مَعَ أَخْذِهِ بِأَفْضَلِ
الْأَخْلَاقِ وَاسْتِعْمَالِهِ لِأَحْسَنِ الْآدَابِ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ مِنْ
إفْضَالِهِ بِرَغَائِبِ الْأَمْوَالِ ، ثُمَّ هُوَ أَزْيَدُ فِي رُتْبَتِهِ
وَأَبْلَغُ فِي تَقَدُّمِهِ .
وَإِنْ شَاحَّ فِيهَا وَنَازَعَ كَانَ مَعَ ارْتِكَابِهِ لِأَخْشَنِ الْأَخْلَاقِ
وَاسْتِعْمَالِهِ لِأَهْجَنِ الْآدَابِ أَنْكَى فِي النُّفُوسِ مِنْ حَدِّ
السَّيْفِ وَطَعْنِ السِّنَانِ ، ثُمَّ هُوَ أَخْفَضُ لِلْمَرْتَبَةِ وَأَمْنَعُ
مِنْ التَّقَدُّمِ .
حُكِيَ أَنَّ فَتًى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ عِنْدَ ابْنِ
أَبِي دُؤَادٍ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ إنَّ الْآدَابَ مِيرَاثُ الْأَشْرَافِ
وَلَسْتُ أَرَى عِنْدَك
مَنْ
سَلَفِك إرْثًا .
وَأَمَّا الْمُسَامَحَةُ فِي الْأَمْوَالِ فَتَتَنَوَّعُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ :
مُسَامَحَةُ إسْقَاطٍ لِعُدْمٍ ، وَمُسَامَحَةُ تَخْفِيفٍ لِعَجْزٍ ،
وَمُسَامَحَةُ إنْكَارٍ لِعُسْرَةٍ .
وَهِيَ مَعَ اخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا تَفَضُّلٌ مَأْثُورٌ وَتَآلُفٌ مَشْكُورٌ .
وَإِذَا كَانَ الْكَرِيمُ قَدْ يَجُودُ بِمَا تَحْوِيهِ يَدُهُ ، وَيَنْفُذُ فِيهِ
تَصَرُّفُهُ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَجُودَ بِمَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ فَطَابَ
نَفْسًا بِفِرَاقِهِ .
وَقَدْ تَصِلُ الْمُسَامَحَةُ فِي الْحُقُوقِ إلَى مَنْ لَا يَقْبَلُ الْبِرَّ
وَيَأْبَى الصِّلَةَ فَيَكُونُ أَحْسَنَ مَوْقِعًا وَأَزْكَى مَحَلًّا .
وَرُبَّمَا كَانَتْ الْمُسَامَحَةُ فِيهَا آمَنُ مِنْ رَدِّ السَّائِلِ وَمَنْعِ
الْمُجْتَدِي ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ كَمَا اجْتَرَأَ عَلَى سُؤَالِك فَسَيَجْتَرِئُ
عَلَى سُؤَالِ غَيْرِك إنْ رَدَدْته .
وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ صَارَ أَسِيرَ حَقِّك ، وَرَهِينَ دَيْنِك يَجِدُ بُدًّا مِنْ
مُسَامَحَتِك وَمُيَاسَرَتِك ، ثُمَّ لَك مَعَ ذَلِكَ حُسْنُ الثَّنَاءِ وَجَزِيلُ
الْأَجْرِ .
وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمَرْءُ بَعْدَ الْمَوْتِ
أُحْدُوثَةٌ يَفْنَى وَتَبْقَى مِنْهُ آثَارُهْ فَأَحْسَنُ الْحَالَاتِ حَالُ
امْرِئٍ تَطِيبُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَخْبَارُهْ فَهَذِهِ حَالُ الْمُيَاسَرَةِ .
وَأَمَّا
الْإِفْضَالُ فَنَوْعَانِ : إفْضَالُ اصْطِنَاعٍ ، وَإِفْضَالُ اسْتِكْفَافٍ
وَدِفَاعٍ .
فَأَمَّا إفْضَالُ الِاصْطِنَاعِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا أَسَدَاهُ
جُودًا فِي شَكُورٍ .
وَالثَّانِي : مَا تَأَلَّفَ بِهِ نَبْوَةَ نُفُورٍ .
وَكِلَاهُمَا مِنْ شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ ظُهُورِ
الِاصْطِنَاعِ ، وَتَكَاثُرِ الْأَشْيَاعِ وَالْأَتْبَاعِ .
وَمَنْ قَلَّتْ صَنَائِعُهُ فِي الشَّاكِرِينَ ، وَأَعْرَضَ عَنْ تَأَلُّفِ
النَّافِرِينَ ، كَانَ فَرْدًا مَهْجُورًا ، وَتَابِعًا مَحْقُورًا .
وَلَا مُرُوءَةَ لِمَتْرُوكٍ مُطَّرَحٍ ، وَلَا قَدْرَ لِمَحْقُورٍ مُهْتَضَمٍ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : مَا طَاوَعَنِي النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ
أَرَدْتُهُ مِنْ الْحَقِّ حَتَّى بَسَطْتُ لَهُمْ طَرَفًا مِنْ الدُّنْيَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَقَلُّ مَا يَجِبُ لِلْمُنْعِمِ بِحَقِّ
نِعْمَتِهِ أَنْ لَا يَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى مَعْصِيَتِهِ .
وَأَنْشَدْت لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ : مَنْ جَمَعَ الْمَالَ وَلَمْ يَجُدْ بِهِ
وَتَرَكَ الْمَالَ لِعَامِ جَدْبِهِ هَانَ عَلَى النَّاسِ هَوَانَ كَلْبِهِ
يَبْقَى الثَّنَاءُ وَتَذْهَبُ الْأَمْوَالُ وَلِكُلِّ دَهْرٍ دَوْلَةٌ وَرِجَالُ
مَا نَالَ مَحْمَدَةَ الرِّجَالِ وَشُكْرَهُمْ إلَّا الْجَوَادُ بِمَالِهِ
الْمِفْضَالُ لَا تَرْضَ مِنْ رَجُلٍ حَلَاوَةَ قَوْلِهِ حَتَّى يُصَدِّقَ مَا
يَقُولُ فِعَالُ فَإِنْ ضَاقَتْ بِهِ الْحَالُ عَنْ الِاصْطِنَاعِ بِمَالِهِ فَقَدْ
عَدِمَ مِنْ آلَةِ الْمَكَارِمِ عِمَادَهَا ، وَفَقَدَ مِنْ شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ
سِنَادَهَا ، فَلْيُوَاسِ بِنَفْسِهِ مُوَاسَاةَ الْمُسَاعِفِ وَلْيَسْعَدْ بِهَا
إسْعَادَ الْمُتَأَلِّفِ .
قَالَ الْمُتَنَبِّي : فَلْيُسْعِدْ النُّطْقُ إنْ لَمْ تُسْعَدْ الْحَالُ وَإِنْ
كَانَ لَا يَرَاهَا ، وَإِنْ أَجْهَدَهَا إلَّا تَبَعًا لِلْمُفْضِلِينَ قَلِيلَةً
بَيْنَ الْمُكْثِرِينَ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُسَاوَوْنَ بَيْنَ الْمُعْطِي
وَالْمَانِعِ ، وَلَا يُقْنِعُهُمْ الْقَوْلُ دُونَ الْفِعْلِ ، وَلَا يُغْنِيهِمْ
الْكَلَامُ عَنْ الْمَالِ ، وَيَرَوْنَهُ كَالصَّدَى إنْ رَدَّ صَوْتًا لَمْ
يَجِدْ نَفْعًا ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : يَجُودُ بِالْوَعْدِ وَلَكِنَّهُ
يَدْهُنُ مِنْ قَارُورَةٍ فَارِغَهْ
فَكُلُّ
مَا خَرَجَ عِنْدَهُمْ عَنْ الْمَالِ كَانَ فَارِغًا ، وَكُلُّ مَا عَدَا الْإِفْضَالَ
بِهِ كَانَ هَيِّنًا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ الْقَوْلِ فِي شُرُوطِ الْإِفْضَالِ
مَا أَقْنَعَ .
وَأَمَّا إفْضَالُ الِاسْتِكْفَافِ ؛ فَلِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ لَا يَعْدَمُ
حَاسِدَ نِعْمَةٍ وَمُعَانِدَ فَضِيلَةٍ يَعْتَرِيهِ الْجَهْلُ بِإِظْهَارِ
عِنَادِهِ ، وَيَبْعَثُهُ اللُّؤْمُ عَلَى الْبَذَاءِ بِسَفَهِهِ فَإِنْ غَفَلَ
عَنْ اسْتِكْفَافِ السُّفَهَاءِ ، وَأَعْرَضَ عَنْ اسْتِدْفَاعِ أَهْلِ الْبَذَاءِ
، صَارَ عِرْضُهُ هَدَفًا لِلْمَثَالِبِ ، وَحَالُهُ عُرْضَةً لِلنَّوَائِبِ ،
وَإِذَا اسْتَكْفَى السَّفِيهَ وَاسْتَدْفَعَ الْبَذِيءَ صَانَ عَرْضَهُ وَحَمَى
نِعْمَتَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ } .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : ذُبُّوا بِأَمْوَالِكُمْ عَنْ
أَحْسَابِكُمْ .
وَامْتَدَحَ رَجُلٌ الزُّهْرِيَّ فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ :
أَتُعْطِي عَلَى كَلَامِ الشَّيْطَانِ ؟ فَقَالَ : مَنْ ابْتَغَى الْخَيْرَ
اتَّقَى الشَّرَّ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَرَادَ
بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَلْيُعْطِ الشُّعَرَاءَ } .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ سَاتِرٌ يَسْتُرُ بِهِ مَا ضَمِنَ مِنْ
مَدْحٍ أَوْ هِجَاءٍ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ : لَا تُؤَاخِ شَاعِرًا فَإِنَّهُ
يَمْدَحُك بِثَمَنٍ وَيَهْجُوك مَجَّانًا ، وَلِاسْتِكْفَافِ السُّفَهَاءِ
بِالْإِفْضَالِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُخْفِيَهُ حَتَّى لَا يَنْتَشِرَ
فِيهِ مَطَامِعُ السُّفَهَاءِ فَيَتَوَصَّلُونَ إلَى اجْتِذَابِهِ بِسَبِّهِ ،
وَإِلَى مَالِهِ بِثَلْبِهِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَتَطَلَّبَ لَهُ فِي الْمُجَامَلَةِ وَجْهًا وَيَجْعَلَهُ فِي
الْإِفْضَالِ عَلَيْهِ سَبَبًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى أَنَّهُ عَلَى السَّفَهِ
وَاسْتِدَامَةِ الْبَذَاءِ .
وَاعْلَمْ أَنَّك مَا حَيِيتَ مَلْحُوظُ الْمَحَاسِنِ مَحْفُوظُ الْمَسَاوِئِ .
ثُمَّ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ حَدِيثٌ مُنْتَشِرٌ لَا يُرَاقِبُك صَدِيقٌ ، وَلَا
يُحَامِي عَنْك شَقِيقٌ ، فَكُنْ أَحْسَنَ حَدِيثٍ يُنْشَرُ يَكُنْ
سَعْيُك
فِي النَّاسِ مَشْكُورًا ، وَأَجْرُك عِنْدَ اللَّهِ مَذْخُورًا .
فَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ الْجَرَّاحِ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مَيْمُونٍ ، أَنَّهُ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اغْتَنِمْ
خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ
وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ وَحَيَاتَكَ قَبْلَ
مَوْتِكَ } .
فَهَذَا مَا اقْتَضَاهُ هَذَا الْفَصْلُ مِنْ شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ ، وَإِنْ كَانَ
كُلُّ كِتَابِنَا هَذَا مِنْ شُرُوطِهَا وَمَا اتَّصَلَ بِحُقُوقِهَا ، وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
آدَابٌ
مَنْثُورَةٌ الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي آدَابٍ مَنْثُورَةٍ : اعْلَمْ أَنَّ
الْآدَابَ مَعَ اخْتِلَافِهَا بِتَنَقُّلِ الْأَحْوَالِ وَتَغَيُّرِ الْعَادَاتِ
لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهَا ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَى حَصْرِهَا ، وَإِنَّمَا
يَذْكُرُ كُلُّ إنْسَانٍ مَا بَلَغَهُ الْوُسْعُ مِنْ آدَابِ زَمَانِهِ ،
وَاسْتَحْسَنَ بِالْعُرْفِ مِنْ عَادَاتِ دَهْرِهِ ، وَلَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ
لَكَانَ الْأَوَّلُ قَدْ أَغْنَى الثَّانِيَ عَنْهَا ، وَالْمُتَقَدِّمُ قَدْ
كَفَى الْمُتَأَخِّرَ تَكَلُّفَهَا ، وَإِنَّمَا حَظُّ الْأَخِيرِ أَنْ يَتَعَانَى
حِفْظَ الشَّارِدِ وَجَمْعَ الْمُفْتَرِقِ .
ثُمَّ يَعْرِضَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى حُكْمِ زَمَانِهِ ، وَعَادَاتِ وَقْتِهِ ،
فَيُثْبِتَ مَا كَانَ مُوَافِقًا ، وَيَنْفِيَ مَا كَانَ مُخَالِفًا ، ثُمَّ
يَسْتَمِدَّ خَاطِرَهُ فِي اسْتِنْبَاطِ زِيَادَةٍ وَاسْتِخْرَاجِ فَائِدَةٍ
فَإِنْ أَسْعَفَ بِشَيْءٍ فَازَ بِدَرَكِهِ ، وَحَظِيَ بِفَضِيلَتِهِ ، ثُمَّ
يُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا كَانَ مَأْلُوفًا مِنْ كَلَامِ الْوَقْتِ
وَعُرْفِ أَهْلِهِ فَإِنَّ لِأَهْلِ كُلِّ وَقْتٍ فِي الْكَلَامِ عَادَةً تُؤْلَفُ
، وَعِبَارَةً تُعْرَفُ ؛ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ وَأَسْبَقَ إلَى
الْأَفْهَامِ .
ثُمَّ يُرَتِّبُ ذَلِكَ عَلَى أَوَائِلِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ ، وَيُثْبِتُهُ عَلَى
أُصُولِهِ وَقَوَاعِدِهِ حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ الْجِنْسُ فَإِنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ
مِنْ الْعُلُومِ طَرِيقَةً هِيَ أَوْضَحُ مَسْلَكًا وَأَسْهَلُ مَأْخَذًا .
فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ هِيَ حَظُّ الْأَخِيرِ فِيمَا يُعَانِيهِ .
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كُلِّ تَصْنِيفٍ مُسْتَحْدَثٍ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ
تَعَاطِي مَا تَقَدَّمَ بِهِ الْأَوَّلُ عَنَاءً ضَائِعًا وَتَكَلُّفًا
مُسْتَهْجَنًا .
وَنَرْجُو اللَّهَ أَنْ يُمِدَّنَا بِالتَّوْفِيقِ لِتَأْدِيَةِ هَذِهِ الشُّرُوطِ
، وَتُنْهِضَنَا الْمَعُونَةُ بِتَوْفِيَةِ هَذِهِ الْحُقُوقِ ، حَتَّى نَسْلَمَ
مِنْ ذَمِّ التَّكَلُّفِ وَنَبْرَأَ مِنْ عُيُوبِ التَّقْصِيرِ ، وَإِنْ كَانَ
الْيَسِيرُ مَغْفُورًا وَالْخَاطِئُ مَعْذُورًا .
فَقَدْ قِيلَ : مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فَقَدْ اسْتَهْدَفَ فَإِنْ أَحْسَنَ فَقَدْ
اسْتَعْطَفَ ، وَإِنْ أَسَاءَ فَقَدْ اسْتَقْذَفَ .
وَقَدْ
مَضَتْ
أَبْوَابٌ تَضَمَّنَتْ فُصُولًا رَأَيْتُ إتْبَاعَهَا بِمَا لَمْ أُحِبَّ
الْإِخْلَالَ بِهِ .
فَمِنْ ذَلِكَ حَالُ الْإِنْسَانِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ فَإِنَّ الدَّاعِيَ
إلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ : حَاجَةٌ مَاسَّةٌ وَشَهْوَةٌ بَاعِثَةٌ .
فَأَمَّا الْحَاجَةُ فَتَدْعُو إلَى مَا سَدَّ الْجُوعَ وَسَكَّنَ الظَّمَأَ .
وَهَذَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عَقْلًا وَشَرْعًا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ النَّفْسِ
وَحِرَاسَةِ الْجَسَدِ .
وَلِذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْوِصَالِ بَيْنَ صَوْمِ
الْيَوْمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الْجَسَدَ وَيُمِيتُ النَّفْسَ وَيُعْجِزُ
عَنْ الْعِبَادَةِ .
وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْعَقْلُ ، وَلَيْسَ
لِمَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ حَظٌّ مِنْ بِرٍّ ، وَلَا نَصِيبٌ مِنْ
زُهْدٍ ؛ لِأَنَّ مَا حَرَمَهَا مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ بِالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ
أَكْثَرُ ثَوَابًا وَأَعْظَمُ أَجْرًا ، إذْ لَيْسَ فِي تَرْكِ الْمُبَاحِ ثَوَابٌ
يُقَابِلُ فِعْلَ الطَّاعَاتِ ، وَإِتْيَانَ الْقُرَبِ ، وَمَنْ أَخْسَرَ نَفْسَهُ
رِبْحًا مَوْفُورًا ، أَوْ أَحْرَمَهَا أَجْرًا مَذْخُورًا ، كَانَ زُهْدُهُ فِي
الْخَيْرِ أَقْوَى مِنْ رَغْبَتِهِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا التَّكْلِيفِ
إلَّا الشَّهْوَةُ بِرِيَائِهِ وَسُمْعَتِهِ .
وَأَمَّا الشَّهْوَةُ فَتَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ : شَهْوَةٌ فِي الْإِكْثَارِ
وَالزِّيَادَةِ وَشَهْوَةٌ فِي تَنَاوُلِ الْأَلْوَانِ الْمُلِذَّةِ .
فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَهُوَ شَهْوَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ
الْحَاجَةِ ، وَالْإِكْثَارِ عَلَى مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ
مِنْهُ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَ مَا زَادَ عَلَى
الْكِفَايَةِ نَهَمٌ مُعَرٍّ وَشَرَهٌ مُضِرٌّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ إيَّاكُمْ وَالْبِطْنَةَ فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ مُورِثَةٌ لِلسَّقَمِ
مُكْسِلَةٌ عَنْ الْعِبَادَةِ } .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنْ كُنْتَ بَطِنًا فَعُدَّ نَفْسَك
زَمِنًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : أَقْلِلْ طَعَامًا تُحْمَدْ مَنَامًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : الرُّعْبُ لُؤْمٌ
وَالنَّهَمُ
شُؤْمٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَكْبَرُ الدَّوَاءِ تَقْدِيرُ الْغِذَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : فَكَمْ مِنْ لُقْمَةٍ مَنَعَتْ أَخَاهَا بِلَذَّةِ
سَاعَةٍ أَكَلَاتِ دَهْرِ وَكَمْ مِنْ طَالِبٍ يَسْعَى لِأَمْرٍ وَفِيهِ هَلَاكُهُ
لَوْ كَانَ يَدْرِي وَقَالَ آخَرُ : كَمْ دَخَلَتْ أَكْلَةٌ حَشَا شَرِهٍ
فَأَخْرَجَتْ رُوحَهُ مِنْ الْجَسَدِ لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الطَّعَامِ إذَا
كَانَ هَلَاكُ النُّفُوسِ فِي الْمَعِدِ وَرُبَّ أَكْلَةٍ هَاضَتْ آكِلًا
وَحَرَمَتْهُ مَآكِلَ .
رَوَى أَبُو يَزِيدَ الْمَدَنِيُّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُرَقَّعِ ،
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ
اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ وِعَاءً مَلِيئًا شَرًّا مِنْ بَطْنٍ فَإِنْ كَانَ لَا
بُدَّ فَاعِلًا فَاجْعَلُوا ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا
لِلرِّيحِ } .
وَأَمَّا
النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ شَهْوَةُ الْأَشْيَاءِ الْمَلَذَّةِ وَمُنَازَعَةُ
النُّفُوسِ إلَى طَلَبِ الْأَنْوَاعِ الشَّهِيَّةِ فَمَذَاهِبُ النَّاسِ فِي
تَمْكِينِ النَّفْسِ فِيهَا مُخْتَلِفَةٌ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ صَرْفَ النَّفْسِ عَنْهَا أَوْلَى ، وَقَهْرَهَا عَنْ
اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهَا أَحْرَى ، لِيَذِلَّ لَهُ قِيَادُهَا .
وَيَهُونَ عَلَيْهِ عِنَادُهَا ؛ لِأَنَّ تَمْكِينَهَا وَمَا تَهْوَى بَطَرٌ
يُطْغِي وَأَشَرٌ يُرْدِي ؛ لِأَنَّ شَهَوَاتِهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَإِذَا
أَعْطَاهَا الْمُرَادَ مِنْ شَهَوَاتِ وَقْتِهَا تَعَدَّتْهَا إلَى شَهَوَاتٍ قَدْ
اسْتَحْدَثَتْهَا ، فَيَصِيرُ الْإِنْسَانُ أَسِيرَ شَهَوَاتٍ لَا تَنْقَضِي ،
وَعَبْدَ هَوًى لَا يَنْتَهِي .
وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ يُرْجَ لَهُ صَلَاحٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ
فَضْلٌ .
وَأَنْشَدْت لِأَبِي الْفَتْحِ الْبُسْتِيِّ : يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَشْقَى
بِخِدْمَتِهِ لِتَطْلُبَ الرِّبْحَ مِمَّا فِيهِ خُسْرَانُ أَقْبِلْ عَلَى
النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ
إنْسَانُ وَلِلْحَذَرِ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ مَا حُكِيَ أَنَّ أَبَا حَزْمٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَمُرُّ عَلَى الْفَاكِهَةِ فَيَشْتَهِيهَا فَيَقُولُ :
مَوْعِدُك الْجَنَّةُ .
وَقَالَ آخَرُ : تَمْكِينُ النَّفْسِ مِنْ لَذَّاتِهَا أَوْلَى ، وَإِعْطَاؤُهَا
مَا اشْتَهَتْ مِنْ الْمُبَاحَاتِ أَحْرَى ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ارْتِيَاحِ
النَّفْسِ بِنَيْلِ شَهَوَاتِهَا ، وَنَشَاطِهَا بِإِدْرَاكِ لَذَّاتِهَا ،
فَتَنْحَسِرُ عَنْهَا ذِلَّةُ الْمَقْهُورِ ، وَبَلَادَةُ الْمَجْبُورِ ، وَلَا
تَقْصُرُ عَنْ دَرَكٍ وَلَا تَعْصِي فِي نَهْضَةٍ وَلَا تَكِلُّ عَنْ اسْتِعَانَةٍ
.
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ تَوَسُّطُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِي
إعْطَائِهَا كُلَّ شَهَوَاتِهَا بَلَادَةٌ وَالنَّفْسُ الْبَلِيدَةُ عَاجِزَةٌ ،
وَفِي مَنْعِهَا عَنْ الْبَعْضِ كَفٌّ لَهَا عَنْ السَّلَاطَةِ ، وَفِي
تَمْكِينِهَا مِنْ الْبَعْضِ حَسْمٌ لَهَا عَنْ الْبَلَادَةِ .
وَهَذَا لَعَمْرِي أَشْبَهُ الْمَوَاهِبِ بِالسَّلَامِ ؛ لِأَنَّ التَّوَسُّطَ فِي
الْأُمُورِ أَحْمَدُ .
وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فَيَنْبَغِي
أَنْ يُتْبَعَ بِذِكْرِ الْمَلْبُوسِ .
اعْلَمْ
أَنَّ الْحَاجَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ أَدْعَى
فَهِيَ إلَى الْمَلْبُوسِ مَاسَّةٌ وَبِهَا إلَيْهِ فَاقَةٌ ؛ لِمَا فِي
الْمَلْبُوسِ مِنْ حِفْظِ الْجَسَدِ وَدَفْعِ الْأَذَى وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ
وَحُصُولِ الزِّينَةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا
يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } .
فَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا ) ، أَيْ خَلَقْنَا
لَكُمْ مَا تَلْبَسُونَ مِنْ الثِّيَابِ .
يُوَارِي سَوْآتِكُمْ أَيْ يَسْتُرُ عَوْرَاتِكُمْ وَسُمِّيَتْ الْعَوْرَةُ
سَوْأَة ؛ لِأَنَّهُ يَسُوءُ صَاحِبَهَا انْكِشَافُهَا مِنْ جَسَدِهِ .
وَقَوْلُهُ : وَرِيشًا ، فِيهِ أَرْبَعَةِ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُ
الْمَالُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ اللِّبَاسُ وَالْعَيْشُ
وَالنِّعَمُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالثَّالِثُ
أَنَّهُ الْمَعَاشُ وَهُوَ قَوْلُ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ ، وَالرَّابِعُ أَنَّهُ
الْجَمَالُ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ .
وَقَوْلُهُ : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } ، فِيهِ سِتَّةُ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا
: أَنَّ لِبَاسَ التَّقْوَى هُوَ الْإِيمَانُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ
وَالسُّدِّيِّ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ السَّمْتُ الْحَسَنُ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالرَّابِعُ : هُوَ خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ .
وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ الْحَيَاءُ وَهَذَا قَوْلُ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ .
وَالسَّادِسُ : هُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
زَيْدٍ .
وَقَوْلُهُ : ذَلِكَ خَيْرٌ فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ
رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ : قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ
لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ، ثُمَّ قَالَ :
ذَلِكَ خَيْرٌ ، أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ خَيْرٌ كُلُّهُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى لِبَاسِ التَّقْوَى وَمَعْنَى
الْكَلَامِ
، وَإِنَّ لِبَاسَ التَّقْوَى خَيْرٌ مِنْ الرِّيَاشِ وَاللِّبَاسِ وَهَذَا قَوْلُ
قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ .
فَلَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ اللِّبَاسِ وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ
الِامْتِنَانِ عُلِمَ أَنَّهُ مَعُونَةٌ مِنْهُ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِي اللِّبَاسِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا دَفْعُ
الْأَذَى .
وَالثَّانِي : سَتْرُ الْعَوْرَةِ .
وَالثَّالِثُ : الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ .
فَأَمَّا دَفْعُ الْأَذَى بِهِ فَوَاجِبٌ بِالْعَقْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ
دَفْعَ الْمَضَارِّ وَاجْتِلَابَ الْمَنَافِعِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ
ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ
تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } .
فَأَخْبَرَ بِحَالِهَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا اكْتِفَاءً بِمَا يَقْتَضِيهِ
الْعَقْلُ ، وَاسْتِغْنَاءً بِمَا يَبْعَثُ عَلَيْهِ الطَّبْعُ .
وَيَعْنِي بِالظِّلَالِ الشَّجَرَ وَبِالْأَكْنَانِ جَمْعِ كِنٍّ وَهُوَ
الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْتَكَنُ فِيهِ ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ سَرَابِيلَ
تَقِيكُمْ الْحَرَّ ثِيَابَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ ، وَبِقَوْلِهِ
وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ الدُّرُوعَ الَّتِي تَقِي الْبَأْسَ وَهُوَ
الْحَرْبُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ قَالَ : تَقِيهِمْ الْحَرَّ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَرْدَ ،
وَقَالَ : جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَلَمْ يَذْكُرْ السَّهْلَ ،
فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا أَصْحَابَ
جِبَالٍ وَخِيَامٍ فَذَكَرَ لَهُمْ الْجِبَالَ وَكَانُوا أَصْحَابَ حَرٍّ دُونَ
بَرْدٍ فَذَكَرَ لَهُمْ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ فِيمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ .
وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ اكْتِفَاءٌ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ ذِكْرِ
الْآخَرِ إذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ السَّرَابِيلَ الَّتِي تَقِي الْحَرَّ
أَيْضًا تَقِي الْبَرْدَ وَمَنْ اتَّخَذَ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا اتَّخَذَ
مِنْ السَّهْلِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
وَأَمَّا
سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ هَلْ وَجَبَ بِالْعَقْلِ أَوْ
بِالشَّرْعِ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : وَجَبَ سَتْرُهَا بِالْعَقْلِ لِمَا فِي
ظُهُورِهَا مِنْ الْقُبْحِ ، وَمَا كَانَ قَبِيحًا فَالْعَقْلُ مَانِعٌ مِنْهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ لَمَّا أَكَلَا مِنْ الشَّجَرَةِ الَّتِي
نُهِيَا عَنْهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا
مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ تَنْبِيهًا لِعُقُولِهِمَا فِي سَتْرِ مَا رَأَيَاهُ
مُسْتَقْبَحًا مِنْ سَوْآتِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا قَدْ كُلِّفَا
سَتْرَ مَا لَمْ يَبْدُ لَهُمَا .
وَلَا كُلِّفَاهُ بَعْدَ أَنْ بَدَتْ لَهُمَا وَقَبْلَ سَتْرِهَا .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : بَلْ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ ؛
لِأَنَّهُ بَعْضُ الْجَسَدِ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْعَقْلُ سَتْرَ بَاقِيهِ ،
وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْعَوْرَةُ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا
يَلْزَمُ مِنْ سَتْرِهَا حُكْمًا شَرْعِيًّا .
وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ
وُفُورِ الْعَقْلِ وَصِحَّةِ الْأَلْبَابِ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً
وَيُحَرِّمُونَ عَلَى نُفُوسِهِمْ اللَّحْمَ وَالْوَدَكَ .
وَيَرَوْنَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْقُرْبَةِ ، وَإِنَّمَا الْقُرَبُ مَا
اُسْتُحْسِنَتْ فِي الْعَقْلِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا بَنِي
آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا
تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } .
يَعْنِي بِقَوْلِهِ : خُذُوا زِينَتَكُمْ ، الثِّيَابَ الَّتِي تَسْتُرُ
عَوْرَاتِكُمْ ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مَا حَرَّمْتُمُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْ
اللَّحْمِ وَالْوَدَكِ .
وَفِي قَوْله تَعَالَى : وَلَا تُسْرِفُوا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا
تُسْرِفُوا فِي التَّحْرِيمِ وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ .
وَالثَّانِي : لَا تَأْكُلُوا حَرَامًا فَإِنَّهُ إسْرَافٌ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ
زَيْدٍ .
فَأَوْجَبَ بِهَذِهِ الْآيَةِ سَتْرَ الْعَوْرَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ
الْعَقْلُ مُوجِبًا لَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَتْرَهَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ
دُونَ الْعَقْلِ .
وَأَمَّا
الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ فَهُوَ مُسْتَحْسَنٌ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يُوجِبَهُ عَقْلٌ أَوْ شَرْعٌ .
وَفِي هَذَا النَّوْعِ قَدْ يَقَعُ التَّجَاوُزُ وَالتَّقْصِيرُ وَالتَّوَسُّطُ
الْمَطْلُوبُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي صِفَةِ
الْمَلْبُوسِ وَكَيْفِيَّتِهِ .
وَالثَّانِي : فِي جِنْسِهِ وَقِيمَتِهِ .
فَأَمَّا صِفَتُهُ فَمُعْتَبَرَةٌ بِالْعُرْفِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا
عُرْفُ الْبِلَادِ فَإِنَّ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ زِيًّا مَأْلُوفًا ، وَلِأَهْلِ
الْمَغْرِبِ زِيًّا مَأْلُوفًا ، وَكَذَلِكَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْبِلَادِ
الْمُخْتَلِفَةِ عَادَاتٌ فِي اللِّبَاسِ مُخْتَلِفَةٌ .
وَالثَّانِي : عُرْفُ الْأَجْنَاسِ فَإِنَّ لِلْأَجْنَادِ زِيًّا مَأْلُوفًا ،
وَلِلتُّجَّارِ زِيًّا مَأْلُوفًا ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ سِوَاهُمَا مِنْ
الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ عَادَاتٌ فِي اللِّبَاسِ .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ عَادَاتُ النَّاسِ فِي اللِّبَاسِ مِنْ هَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ ؛ لِيَكُونَ اخْتِلَافُهُمْ سِمَةً يَتَمَيَّزُونَ بِهَا ،
وَعَلَامَةً لَا يَخْفُونَ مَعَهَا ، فَإِنْ عَدَلَ أَحَدٌ عَنْ عُرْفِ بَلَدِهِ
وَجِنْسِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ خَرَقًا وَحُمْقًا .
وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْعُرْيُ الْفَادِحُ خَيْرٌ مِنْ الزِّيِّ الْفَاضِحِ .
وَأَمَّا جِنْسُ الْمَلْبُوسِ وَقِيمَتُهُ فَمُعْتَبَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : بِالْمُكْنَةِ مِنْ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَإِنَّ لِلْمُوسِرِ
فِي الزِّيِّ قَدْرًا ، وَلِلْمُعْسِرِ دُونَهُ .
وَالثَّانِي : بِالْمَنْزِلَةِ وَالْحَالِ فَإِنَّ لِذِي الْمَنْزِلَةِ
الرَّفِيعَةِ فِي الزِّيِّ قَدْرًا ، وَلِلْمُنْخَفِضِ عَنْهُ دُونَهُ
لِيَتَفَاضَلَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ تَفَاضُلِ أَحْوَالِهِمْ فَيَصِيرُوا بِهِ
مُتَمَيِّزِينَ .
فَإِنْ عَدَلَ الْمُوسِرُ إلَى زِيِّ الْمُعْسِرِ كَانَ شُحًّا وَبُخْلًا ، وَإِنْ
عَدَلَ الرَّفِيعُ إلَى زِيِّ الدَّنِيءِ كَانَ مَهَانَةً وَذُلًّا ، وَإِنْ
عَدَلَ الْمُعْسِرُ إلَى زِيِّ الْمُوسِرِ كَانَ تَبْذِيرًا وَسَرَفًا ، وَإِنْ
عَدَلَ الدَّنِيءُ إلَى زِيِّ الرَّفِيعِ كَانَ جَهْلًا وَتَخَلُّفًا .
وَلُزُومُ الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ ، وَاعْتِبَارُ الْحَدِّ الْمَقْصُودِ ، أَدَلُّ
عَلَى الْعَقْلِ
وَأَمْنَعُ
مِنْ الذَّمِّ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكُمْ
لُبْسَتَيْنِ : لُبْسَةٌ مَشْهُورَةٌ وَلُبْسَةٌ مَحْقُورَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا لَا يَزْدَرِيك فِيهِ
الْعُظَمَاءُ ، وَلَا يَعِيبُهُ عَلَيْك الْحُكَمَاءُ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : إنَّ الْعُيُونَ رَمَتْك إذْ فَاجَأَتْهَا
وَعَلَيْك مِنْ شَهْرِ الثِّيَابِ لِبَاسُ أَمَّا الطَّعَامُ فَكُلْ لِنَفْسِك مَا
تَشَا وَاجْعَلْ لِبَاسَك مَا اشْتَهَاهُ النَّاسُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرُوءَةَ
أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُعْتَدِلَ الْحَالِ فِي مُرَاعَاةِ لِبَاسِهِ مِنْ
غَيْرِ إكْثَارٍ وَلَا اطِّرَاحٍ ، فَإِنَّ اطِّرَاحَ مُرَاعَاتِهَا وَتَرْكَ
تَفَقُّدِهَا مَهَانَةٌ وَذُلٌّ ، وَكَثْرَةَ مُرَاعَاتِهَا وَصَرْفَ الْهِمَّةِ
إلَى الْعِنَايَةِ لَهَا دَنَاءَةٌ وَنَقْصٌ .
وَرُبَّمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ خَلَا مِنْ فَضْلٍ ، وَعَرِيَ عَنْ تَمْيِيزٍ
أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرُوءَةُ الْكَامِلَةُ ، وَالسِّيرَةُ الْفَاضِلَةُ ؛ لِمَا
يَرَى مِنْ تَمَيُّزِهِ بِذَلِكَ عَنْ الْأَكْثَرِينَ ، وَخُرُوجِهِ عَنْ جُمْلَةِ
الْعَوَامّ الْمُسْتَرْذَلِينَ .
وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا تَعَدَّى طَوْرَهُ ، وَتَجَاوَزَ قَدْرَهُ ، كَانَ
أَقْبَحَ لِذِكْرِهِ ، وَأَبْعَثَ عَلَى ذَمِّهِ .
فَكَانَ كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي : لَا يُعْجِبَنَّ مُضِيمًا حُسْنُ بِزَّتِهِ
وَهَلْ يَرُوقُ دَفِينًا جَوْدَةُ الْكَفَنِ وَحَكَى الْمُبَرِّدُ أَنَّ رَجُلًا
مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ إذَا اتَّسَعَ لَبِسَ أَرَثَّ ثِيَابِهِ ، وَإِذَا ضَاقَ
لَبِسَ أَحْسَنَهَا ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : إذَا اتَّسَعْتُ
تَزَيَّنَتْ بِالْجُودِ ، وَإِذَا ضِقْتُ فَبِالْهَيْئَةِ .
وَقَدْ أَتَى ابْنُ الرُّومِيِّ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي شَعْرِهِ
فَقَالَ : وَمَا الْحُلِيُّ إلَّا زِينَةٌ لِنَقِيصَةٍ يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إذَا
الْحُسْنُ قَصَّرَا فَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفِّرًا لِحُسْنِكَ لَمْ
يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُزَوَّرَا وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ : لَيْسَتْ
الْعِزَّةُ حُسْنَ الْبِزَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : وَتَرَى سَفِيهَ الْقَوْمِ يُدَنِّسُ عِرْضَهُ
سَفَهًا وَيَمْسَحُ
نَعْلَهُ
وَشِرَاكَهَا وَإِذَا اشْتَدَّ كَلَفُهُ بِمُرَاعَاةِ لِبَاسِهِ قَطَعَهُ ذَلِكَ
عَنْ مُرَاعَاةِ نَفْسِهِ وَصَارَ الْمَلْبُوسُ عِنْدَهُ أَنْفَسَ ، وَهُوَ عَلَى
مُرَاعَاتِهِ أَحْرَصُ .
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : الْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَخْدُمُك
وَلَا يَسْتَخْدِمُك .
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ : أَرَاك لَا تُبَالِي
مَا لَبِسْت ؟ فَقَالَ : أَلْبَسُ ثَوْبًا أَقِي بِهِ نَفْسِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
ثَوْبٍ أَقِيهِ بِنَفْسِي .
فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ شَدِيدَ الْكَلَفِ بِهَا فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ
شَدِيدَ الِاطِّرَاحِ لَهَا .
فَقَدْ حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَائِشَةَ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إلَيْهِ رَثَّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ : مَا
مَالُك ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ الْمَالِ قَدْ آتَانِي اللَّهُ .
فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ إذَا أَنْعَمَ عَلَى امْرِئٍ نِعْمَةً
أَنْ يَنْظُرَ إلَى أَثَرِهَا عَلَيْهِ } .
وَقَدْ قِيلَ : الْمُرُوءَةُ الظَّاهِرَةُ فِي الثِّيَابِ الطَّاهِرَةِ .
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي غِلْمَانِهِ وَحَشَمِهِ إنْ اشْتَدَّ كَلَفُهُ بِهِمْ
صَارَ عَلَيْهِمْ قَيِّمًا وَلَهُمْ خَادِمًا ، وَإِنْ اطَّرَحَهُمْ قَلَّ
رَشَادُهُمْ وَظَهَرَ فَسَادُهُمْ فَصَارُوا سَبَبًا لِمَقْتِهِ ، وَطَرِيقًا إلَى
ذَمِّهِ ، لَكِنْ يَكُفُّهُمْ عَنْ سَيِّئِ الْأَخْلَاقِ وَيَأْخُذُهُمْ
بِأَحْسَنِ الْآدَابِ لِيَكُونُوا كَمَا قَالَ فِيهِمْ الشَّاعِرُ : سَهْلُ
الْفِنَاءِ إذَا مَرَرْتَ بِبَابِهِ طَلْقُ الْيَدَيْنِ مُؤَدَّبُ الْخُدَّامِ
وَلْيَكُنْ فِي تَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى مَا يَحْفَظُ تَجَمُّلَهُ وَيَصُونُ
مُبْتَذَلَهُ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ ادَّهِنُوا يَذْهَبْ الْبُؤْسُ عَنْكُمْ ، وَالْبَسُوا تَظْهَرْ نِعْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، وَأَحْسِنُوا إلَى مَمَالِيكِكُمْ فَإِنَّهُ أَكْبَتُ
لِعَدُوِّكُمْ } .
وَلْيَتَوَسَّطْ فِيهِمْ مَا بَيْنَ حَالَتَيْ اللِّينِ وَالْخُشُونَةِ فَإِنَّهُ
إنْ لَانَ هَانَ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ خَشُنَ مَقَتُوهُ وَكَانَ عَلَى خَطَرٍ
مِنْهُمْ .
حُكِيَ أَنَّ الْمُؤَبَّذُ سَمِعَ ضَحِكَ الْخَدَّامِ فِي
مَجْلِسِ
أَنُوشِرْوَانَ فَقَالَ : أَمَا تَمْنَعُ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ ؟ فَقَالَ
أَنُوشِرْوَانَ : إنَّمَا بِهِمْ يَهَابُنَا أَعْدَاؤُنَا .
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ : حَشَمُ الصَّدِيقِ عُيُونُهُمْ بَحَّاثَةٌ
لِصَدِيقِهِ عَنْ صِدْقِهِ وَنِفَاقِهِ فَلْيَنْظُرَنَّ الْمَرْءُ مِنْ
غِلْمَانِهِ فَهُمْ خَلَائِفُهُ عَلَى أَخْلَاقِهِ
وَاعْلَمْ
أَنَّ لِلنَّفْسِ حَالَتَيْنِ : حَالَةُ اسْتِرَاحَةٍ إنْ حَرَّمْتُهَا إيَّاهَا
كَلَّتْ ، وَحَالَةُ تَصَرُّفٍ إنْ أَرَحْتهَا فِيهَا تَخَلَّتْ .
فَالْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ تَقْدِيرُ حَالَيْهِ : حَالُ نَوْمِهِ وَدَعَتِهِ ،
وَحَالُ تَصَرُّفِهِ وَيَقِظَتِهِ ، فَإِنَّ لَهُمَا قَدْرًا مَحْدُودًا
وَزَمَانًا مَخْصُوصًا يَضُرُّ بِالنَّفْسِ مُجَاوَزَةُ أَحَدِهِمَا ، وَتَغَيُّرُ
زَمَانِهِمَا .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ نَوْمَةُ الصُّبْحَةِ مَعْجَزَةٌ مَنْفَخَةٌ مَكْسَلَةٌ مَوْرَمَةٌ مَفْشَلَةٌ
مَنْسَأَةٌ لِلْحَاجَةِ } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : النَّوْمُ
ثَلَاثَةٌ : نَوْمُ خَرَقٍ وَهِيَ الصُّبْحَةُ ، وَنَوْمُ خَلَقٍ وَهِيَ
الْقَائِلَةُ ، وَنَوْمُ حُمْقٍ وَهُوَ الْعَشِيُّ .
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَانَ ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ ، عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { نَوْمُ الضُّحَى خَرَقٌ ، وَالْقَيْلُولَةِ خَلَقٌ ، وَنَوْمُ الْعَشِيِّ
حُمْقٌ } .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ لَزِمَ الرُّقَادَ عَدِمَ الْمُرَادَ .
فَإِذَا أَعْطَى النَّفْسَ حَقَّهَا مِنْ النَّوْمِ وَالدَّعَةِ ، وَاسْتَوْفَى
حَقَّهُ بِالتَّصَرُّفِ وَالْيَقِظَةِ ، خَلَصَ بِالِاسْتِرَاحَةِ مِنْ عَجْزِهَا
وَكَلَالِهَا ، وَسَلِمَ بِالرِّيَاضَةِ مِنْ بَلَادَتِهَا وَفَسَادِهَا .
وَحُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ دَخَلَ عَلَى
أَبِيهِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ : يَا أَبَتِ أَتَنَامُ وَالنَّاسُ
بِالْبَابِ ؟ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ نَفْسِي مَطِيَّتِي وَأَكْرَهُ أَنْ أُتْعِبَهَا
فَلَا تَقُومَ بِي .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَسِّمَ حَالَةَ تَصَرُّفِهِ وَيَقِظَتِهِ عَلَى الْمُهِمِّ
مِنْ حَاجَاتِهِ فَإِنَّ حَاجَةَ الْإِنْسَانِ لَازِمَةٌ وَالزَّمَانُ يَقْصُرُ
عَنْ اسْتِيعَابِ الْمُهِمِّ ، فَكَيْفَ بِهِ إنْ تَجَاوَزَ إلَى مَا لَيْسَ بِمُهِمٍّ
هَلْ يَكُونُ إلَّا : كَتَارِكَةٍ بَيْضَهَا بِالْعَرَاءِ وَمُلْبِسَةٍ بَيْضَ
أُخْرَى جَنَاحَا ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَفَّحَ فِي لَيْلِهِ مَا صَدَرَ مِنْ
أَفْعَالِ نَهَارِهِ ، فَإِنَّ
اللَّيْلَ
أَخْطَرُ لِلْخَاطِرِ وَأَجْمَعُ لِلْفِكْرِ .
فَإِنْ كَانَ مَحْمُودًا أَمْضَاهُ وَأَتْبَعَهُ بِمَا شَاكَلَهُ وَضَاهَاهُ ،
وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا اسْتَدْرَكَهُ إنْ أَمْكَنَ وَانْتَهَى عَنْ مِثْلِهِ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ .
فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَجَدَ أَفْعَالَهُ لَا تَنْفَكُّ مِنْ أَرْبَعَةِ
أَحْوَالٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ فِيهَا الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ بِهَا
، أَوْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ فِيهَا فَوَضَعَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ، أَوْ
يَكُونَ قَصَّرَ فِيهَا فَنَقَصَتْ عَنْ حُدُودِهَا ، أَوْ يَكُونَ قَدْ زَادَ
فِيهَا حَتَّى تَجَاوَزَتْ مَحْدُودَهَا .
وَهَذَا التَّصَفُّحُ إنَّمَا هُوَ اسْتِظْهَارٌ بَعْدَ تَقْدِيمِ الْفِكْرِ
قَبْلَ الْفِعْلِ لِيَعْلَمَ بِهِ مَوَاقِعَ الْإِصَابَةِ وَيَنْتَهِزَ بِهِ
اسْتِدْرَاكَ الْخَطَأِ .
وَقَدْ قِيلَ : مَنْ كَثُرَ اعْتِبَارُهُ قَلَّ عِثَارُهُ .
وَكَمَا يَتَصَفَّحُ أَحْوَالَ نَفْسِهِ فَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَصَفَّحَ
أَحْوَالَ غَيْرِهِ ، فَرُبَّمَا كَانَ اسْتِدْرَاكُهُ الصَّوَابَ مِنْهَا
أَسْهَلَ بِسَلَامَةِ النَّفْسِ مِنْ شُبْهَةِ الْهَوَى ، وَخُلُوِّ الْخَاطِرِ
مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ ، فَإِنْ ظَفِرَ بِصَوَابٍ وَجَدَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، أَوْ
أَعْجَبَهُ جَمِيلٌ مِنْ فِعْلِهِ زَيَّنَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ بِهِ .
فَإِنَّ السَّعِيدَ مَنْ تَصَفَّحَ أَفْعَالَ غَيْرِهِ فَاقْتَدَى بِأَحْسَنِهَا
وَانْتَهَى عَنْ سَيِّئِهَا .
وَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { السَّعِيد مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ }
.
وَقَالَ ` الشَّاعِرُ : إنَّ السَّعِيدَ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ عِظَةٌ وَفِي
التَّجَارِبِ تَحْكِيمٌ وَمُعْتَبَرُ وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ
لِطَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ : إذَا أَعْجَبَتْك خِصَالُ امْرِئٍ فَكُنْهُ يَكُنْ
مِنْك مَا يُعْجِبُكْ فَلَيْسَ عَلَى الْمَجْدِ وَالْمَكْرُمَاتِ إذَا جِئْتَهَا
حَاجِبٌ يَحْجُبُكْ فَأَمَّا مَا يَرُومُهُ مِنْ أَعْمَالِهِ ، وَيُؤْثِرُ
الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ مِنْ مَطَالِبِهِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ الْفِكْرَ
فِيهِ قَبْلَ دُخُولِهِ فَإِنْ كَانَ الرَّجَاءُ فِيهِ أَغْلَبَ مِنْ الْإِيَاسِ
مِنْهُ وَحُمِدَتْ الْعَافِيَةُ
فِيهِ
سَلَكَهُ مِنْ أَسْهَلِ مَطَالِبِهِ وَأَلْطَفِ جِهَاتِهِ .
وَبِقَدْرِ شَرَفِهِ يَكُونُ الْإِقْدَامُ ، وَإِنْ كَانَ الْإِيَاسُ أَغْلَبَ
عَلَيْهِ مِنْ الرَّجَاءِ مَعَ شِدَّةِ التَّغْرِيرِ وَدَنَاءَةِ الْأَمْرِ
الْمَطْلُوبِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُتَعَرِّضًا .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ إذَا هَمَمْت بِأَمْرٍ فَفَكِّرْ فِي عَاقِبَتِهِ فَإِنْ كَانَ رُشْدًا
فَأَمْضِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيًّا فَانْتَهِ عَنْهُ } .
وَقَالَتْ الْحُكَمَاءُ : طَلَبُ مَا لَا يُدْرَكُ عَجْزٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : فَإِيَّاكَ وَالْأَمْرَ الَّذِي إنْ تَوَسَّعَتْ
مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلَيْك الْمَصَادِرُ فَمَا حَسَنٌ أَنْ يَعْذُرَ الْمَرْءُ
نَفْسَهُ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ عَاذِرُ
وَلْيَعْلَمْ
أَنَّ لِكُلِّ حِينٍ مِنْ أَيَّامِ عُمُرِهِ خُلُقًا ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ
أَوْقَاتِ دَهْرِهِ عَمَلًا فَإِنْ تَخَلَّقَ فِي كِبَرِهِ بِأَخْلَاقِ الصِّغَرِ
، وَتَعَاطَى أَفْعَالَ الْفُكَاهَةِ وَالْبَطَرِ ، اسْتَصْغَرَهُ مَنْ هُوَ
أَصْغَرُ وَحَقَّرَهُ مَنْ هُوَ أَقَلُّ وَأَحْقَرُ ، وَكَانَ كَالْمَثَلِ
الْمَضْرُوبِ بِقَوْلِ الشَّاعِر : وَكُلُّ بَازٍ يَمَسُّهُ هَرَمٌ تَخَرَّا عَلَى
رَأْسِهِ الْعَصَافِيرُ فَكُنْ أَيُّهَا الْعَاقِلُ مُقْبِلًا عَلَى شَانِكَ ،
رَاضِيًا عَنْ زَمَانِك ، سِلْمًا لِأَهْلِ دَهْرِك ، جَارِيًا عَلَى عَادَةِ
عَصْرِك ، مُنْقَادًا لِمَنْ قَدَّمَهُ النَّاسُ عَلَيْك ، مُتَحَنِّنًا عَلَى
مَنْ قَدَّمَك النَّاسُ عَلَيْهِ ، وَلَا تُبَايِنْهُمْ بِالْعُزْلَةِ عَنْهُمْ
فَيَمْقُتُوك ، وَلَا تُجَاهِرْهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ لَهُمْ فَيُعَادُوك ،
فَإِنَّهُ لَا عَيْشَ لِمَمْقُوتٍ وَلَا رَاحَةَ لِمُعَادِي .
وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِبَعْضِهِمْ : إذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي
وَاحِدٍ وَخَالَفَهُمْ فِي الرِّضَا وَاحِدُ فَقَدْ دَلَّ إجْمَاعُهُمْ دُونَهُ
عَلَى عَقْلِهِ أَنَّهُ فَاسِدُ
وَاجْعَلْ
نُصْحَ نَفْسِك غَنِيمَةَ عَقْلِك ، وَلَا تُدَاهِنْهَا بِإِخْفَاءِ عَيْبِك
وَإِظْهَارِ عُذْرِك ، فَيَصِرْ عَدُوُّك أَحْظَى مِنْك فِي زَجْرِ نَفْسِهِ
بِإِنْكَارِك وَمُجَاهَرَتِك مِنْ نَفْسِك الَّتِي هِيَ أَخَصُّ بِك لِإِغْرَائِك
لَهَا بِأَعْذَارِك وَمُسَاءَتِك .
فَحَسْبُك سُوءًا رَجُلٌ يَنْفَعُ عَدُوَّهُ وَيَضُرُّ نَفْسَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَصْلِحْ نَفْسَك لِنَفْسِك يَكُنْ النَّاسُ
تَبَعًا لَك .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ أَصْلَحَ نَفْسَهُ أَرْغَمَ أَنْفَ أَعَادِيهِ
، وَمَنْ أَعْمَلَ جِدَّهُ بَلَغَ كُنْهَ أَمَانِيهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ عَرَفَ مَعَابَهُ فَلَا يَلُمْ مَنْ عَابَهُ .
وَأَنْشَدَنِي أَبُو ثَابِتٍ النَّحْوِيُّ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ : وَمَصْرُوفَةٌ
عَيْنَاهُ عَنْ عَيْبِ نَفْسِهِ وَلَوْ بَانَ عَيْبٌ مِنْ أَخِيهِ لَأَبْصَرَا
وَلَوْ كَانَ ذَا الْإِنْسَانُ يُنْصِفُ نَفْسَهُ لَأَمْسَكَ عَنْ عَيْبِ
الصَّدِيقِ وَقَصَّرَا فَهَذِّبْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ نَفْسَك بِأَفْكَارِ
عُيُوبِك وَانْفَعْهَا كَنَفْعِك لِعَدُوِّك فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ
نَفْسِهِ وَاعِظٌ لَمْ تَنْفَعْهُ الْمَوَاعِظُ .
أَعَانَنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ وَعَلَى النُّصْحِ
بِالْقَبُولِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَكَفَى .قلت المدون
تم بحمد الله اللهم تقبل منا وفرج كروبنا واكفنا همومنا وأصلح بالنا وأحوالنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق